تأملات في آيات الصيام ( 18 )

تأملات في آيات الصيام ( 18 )

مشاهدات: 495

محاضرات وكلمات

تأملات في آيات الصيام ( 18 )

قوله تعالى :

((أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ ……))

الآية ( 5 )

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري

ــــــــــــــــــــــــــ

فمما ذكره جل وعلا في ثنايا آخر آية من آيات الصيام قال جل وعلا

((وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ))

قوله جل وعلا : ((وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ ))

 الإذن بالأكل والشرب في ليلة الصيام يدل على أنهما في نهار الصيام من المفطرات

وقد ذكر جل وعلا ثلاثة أنواع من أنواع المفطرات في هذه الآية :

الجماع

الأكل

الشرب

ولعله والله أعلم التنصيص على هذه الأشياء الثلاثة لأن هذه الأشياء الثلاثة تشير إلى معنى هذه المفطرات

ما المعنى في هذه المفطرات في كونها بالذات دون غيرها تفسد صيام المسلم ؟

المعنى والمقصود كما قال بعض  العلماء كابن القيم :

أن ما أضعف بدن الصائم أو زاد بدنه قوة ونشاطا فإنه يكون مفطرا من مفطرات الصيام:

نأتي إلى الجماع ماذا يصنع بالبدن ؟

يفتره

نأتي إلى الأكل والشرب يزيده قوة

نأتي إلى الحجامة  :

تضعف :

لأن إخراج الدم من بدن الإنسان يضعفه

نأتي إلى القيء المتعمد

ماذا يصنع ببدن الإنسان  ؟ يضعفه بينما لو كان قيئا جرت العادة به دون تكلف فإنه يزيد أو ينفع البدن

ولذا لم يكن مفطرا من مفطرات الصيام

فقوله تعالى : ((وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ ))

إذاً :

من مفطرات الصيام : الأكل والشرب

كيف ؟

هو إيصال المأكول أو المشروب أيا كان نوع هذا المأكول والمشروب إيصال هذا المأكول والمشروب إلى الجوف عن طريق الفم أو الأنف

فما أدخل عن طريق الفم أيا كان نوع هذا المأكول أو المشروب فإن الصائم يفسد صومه

كذلك لو أدخل عن طريق الأنف

لماذا الأنف ؟

لأنه مدخل من مداخل الطعام والشراب

ما الذي أدرانا ؟

النبي عليه الصلاة والسلام :

قال – كما في حديث لقيط بن صبرة – قال: (( وبالغ في الاستنشاق  إلا أن تكون صائما ))

فدل على أن الأنف يعتبر مدخلا من مداخل الطعام والشراب

إذاً :

 قطرة العين تجوز للصائم ولو شعر بمرارتها في حلقه

كذلك قطرة الأذن

أما قطرة الأنف فتفسد الصيام

لماذا التفريق ؟

لأن الأنف مدخل من مداخل الطعام والشراب

ويجري مجرى حكم الأكل والشرب ما كان في معناه :

كأن يحقن محتاج إلى دم يحقن بالدم

هنا يفسد صومه

لأن أصل الدم ما هو ؟

 الأكل والشرب

كذلك الإبر المغذية :

فإذا أخذها الصائم فسد صومه

بينما لو أخذ أي إبرة من  الإبر فإن صيامه لا يفسد ولو أحس بمرارتها في حلقه

فقوله تعالى :

 ((  وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ))

عدي بن حاتم رضي الله عنه – كما في الصحيحين :

لما سمع بقوله جل وعلا : ((وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ))

جعل عنده عقالين يعني : حبلين أحدهما أبيض والآخر أسود

فجعل يأكل رضي الله عنه ويأكل ثم ينظر فإذا  بالحبل الأبيض لم يتبين من الحبل الأسود ، حتى طلع عليه الفجر الثاني وهو على هذه الحال

فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال عليه الصلاة والسلام – لأنه وضع هذين الحبلين تحت وسادته – فقال عليه الصلاة والسلام :

(( إن وسادك إذاً  لعريض إن وسع الخيط الأبيض والأسود  ))

يعني : هل الوسادة تسع الليل والنهار ؟

 

ولذا :

قال عليه الصلاة والسلام :

(( إن وسادك إذاً  لعريض إن وسع الخيط الأبيض والأسود ، إنما هو بياض النهار وسواد الليل  ))

 

ونأخذ من هذا حكما :

وهو أنه عليه الصلاة والسلام لم يأمره بالقضاء

فدل على أن الجهل عذر من الأعذار ومثل الجهل الإكراه أو النسيان

فالنبي عليه الصلاة والسلام قال – كما في الصحيحين :

((من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه ))

ولكن متى ما رأيت صائما يأكل أو يشرب فعليك أن تنبهه على الصحيح من قولي العلماء

لماذا ؟

لأن في هذا  تعاونا على البر والتقوى

وكذلك : الإكراه :

لو أن الإنسان مثلا استعمل المعجون مع أنه ما ينبغي أن يستعمل لكن لو استعمله لا بأس به ،فلما استعمله نقول له :

أولا تحرز

لكن لو أنه استعمله ثم نزل إلى جوفه أو تمضمض أو استنشق ثم نزل إلى جوفه أو طار إلى حلقه غبار أو أن الرجل أكره زوجته على الجماع

فهنا : الصيام صحيح

لماذا ؟

((رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ))

(( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ))

وكذلك الشأن في الجهل :

والجهل نوعان :

جهل بالحكم

وجهل بالحال

كيف ؟

جهل بالحكم :

يأتينا إنسان ويقول : والله لا أعلم أن الحجامة تفطر

فماذا  نقول ؟

صيامك صحيح

لماذا ؟

لأنه جاهل بالحكم

 

الجهل بالحال :

هو يعلم أن التبرع بالدم مفطر لكنه يقول : ما كنت أعلم أنه متى ما احتاج إنسان فتبرعت له بالدم أن صومي يفسد

فهنا :

نقول  : هذا جاهل بالحال فصيامه صحيح

والدليل :

أن عدي بن حاتم يعلم أن الأكل والشرب من مفطرات الصيام

لكنه جاهل بالحال

 

ومن ثم :

فالجهل عذر يرفع الإثم به

ويكون الصوم صحيحا

فقال جل وعلا :

((وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ))

لأن هناك فجرين :

فجر أول

وفجر ثاني

 

الفجر الأول :

لا يعتد به في الأحكام الشريعة ، إنما الذي يعتد به في الأحكام الشرعية هو الفجر الثاني إذا طلع

 

ولذا :

النبي عليه الصلاة والسلام قال :

(( كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ))

قال :

(( إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ))

يعني  :

بلال يؤذن بليل وهو الأذان الأول فلا يعتد بأذانه في الامتناع عن الأكل والشرب

والفجر الأول هو  : له نور وإضاءة

لأن معنى الفجر :

هو أن ينفجر هذا النور عن هذا الظلام الدامس

فالفجر الأول نور والفجر الثاني نور

لكن هناك فرق :

الفجر الأول ممتد من الغرب إلى الشرق

وأما بالنسبة إلى الفجر الثاني معترض

 

ولذا :

جاء في الأثر المرسل عن الفجر الأول أنه كذنب السرحان

يعني  : كذنب الذئب ذنبه ممتد

بينما الفجر الثاني معترض من الشمال إلى الجنوب

والفجر الأول بينه وبين الأفق ظلمة

بينما الفجر الثاني ليست هناك ظلمة تحول بينه وبين الأفق

وكذلك :

مما يتميز به الفجر الأول عن الفجر الثاني :

أن الفجر الأول يخرج هذا النور ولكنه يتقلص يعني  :  بذهب  ويزول

بينما الفجر الثاني : لا

كلما مر الوقت كلما ازداد  إضاءة وانتشارا في الأفق

فقال تعالى :

((وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ ))

قال : ((  حَتَّى يَتَبَيَّنَ ))

بمعنى : أن الإنسان لو كان عنده غلبة ظن أن الفجر قد طلع

عنده تسعة وتسعون في المائة أن الفجر قد طلع لكن ليس عنده يقين

نقول : لك أن تأكل وتشرب

لماذا ؟

لأن الله قال : ((وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ ))

ولذا :

لو أن الإنسان أكل بناء على غلبة الظن أن الليل مازال قائما ثم تبين له أن الناس قد أقاموا الصلاة فصيامه صحيح على الصحيح

لماذا ؟

لأن الأصل بقاء الليل ، وهذا الرجل عنده جهل ليس  جهلا بالحكم لا ، عنده جهل بالحال

فقال جل وعلا :

((وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ))

الآن :

لا يتبين لنا لأننا بالمدن وقد انتشرت الأنوار والإضاءات ويتعسر علينا معرفة ذلك

من هنا :

علينا أن نأخذ  ما يكون في هذا التقويم احتياطا لصيامنا

ومتى ما أذَّن المؤذن على المسلم أن يمتنع عن الأكل والشرب وعن سائر المفطرات إذا كان هذا المؤذن يؤذن عند طلوع الفجر الثاني

أما إذا كان قد سبق الناس فهنا لا يعتد بأذنه بل إن أذانه لا يصح

لصلاة الفجر :

لو أنه كبَّر تكبيرة واحدة بل حرف واحد خارج الوقت وبقية التكبيرات والجمل في الوقت فلا يصح ،لأن من شروط صحة الأذان :

أن يكون هذا الأذان كله بجمله في الوقت

فيمتنع إذا كان يؤذن عند طلوع الفجر

ويستثنى حالة واحدة :

رخصة من النبي عليه الصلاة والسلام :

جاء في سنن أبي داود :

أنه قال عليه الصلاة والسلام :

(( إذا سمع أحدكم النداء والإناء في يده فلا يضعه حتى يقضي منه حاجته ))

يعني :

إنسان أراد أن يشرب فلما رفع إذا بالمؤذن يؤذن هنا يشرب

لكن لو أن الإناء في الأرض ثم لما أذَّن أخذه لا يجوز

أو أنه تحايل فمسك الإناء في يده أيضا هذا لا يجوز

وإنما إذا حصل اتفاقا لا قصدا اتفقت حالته :

أنه لما رفع إذا بالمؤذن يؤذن :

هنا له أن يشرب حتى يقضي حاجته من هذا الإناء

فقال جل وعلا :

((وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ ))

 

يعني :

إذا استبان الخيط الأبيض من الخيط الأسود ماذا علينا ؟

الصوم إلى أن يأتي الليل

قال :

((ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ ))

ومتى يدخل الليل ؟

بغروب الشمس

وفي  هذا حثٌّ على أن نسارع في الفطر إذا تحقق  الغروب

ولذا :

النبي عليه الصلاة والسلام :

قال كما في الصحيحين :

 ((  لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر))

وقال عليه الصلاة والسلام كما عند أبي داود :

(( عجلوا  بالفطر فإن اليهود يؤخرون ))

ويستثنى من ذلك :

النبي عليه الصلاة والسلام فإنه كان يواصل اليوم واليومين والثلاثة

ولما أراد الصحابة أن يقتدوا به قال عليه الصلاة والسلام :

(( إني لست كهيئتكم إني يطعمني ربي  ويسقيني ))

وقد سبق التنبيه على هذا الحديث :

بعض العلماء يقول :

أنه يؤتى إليه بطعام وشراب من الجنة

ولكن ابن القيم يقول :

لا يكون صائما في  مثل هذه الحال ، وإنما المراد أنه باشتغاله بالطاعة والقرب وحصول اللذة والحلاوة من هذه العبادة أنسته الأكل والشرب كما لو أن إنسانا افتقد حبيبا له غائبا ثم إذا به في حالة جوع مفرط ، وإذا به يقبل عليه ألا ينسى جوعه وظمأه ؟

بلى

فكذلك النبي عليه الصلاة والسلام من الحلاوة واللذة التي تحصل له من عبادته لربه عز وجل تنسيه الطعام والشراب

وأجاز النبي عليه الصلاة والسلام جوازا وإلا الاستحباب أن يبادر المسلم إلى الفطر عند تحقق الغروب

أجاز النبي عليه الصلاة والسلام للصحابة – كما جاء في صحيح البخاري  – لما أرادا أن يتأسوا به أجاز لهم أن يواصلوا إلى السحر

وأما ما عداه فلا يجوز

ولذا :

النبي عليه الصلاة والسلام أراد أن ينكِّل بهم فقالوا : لنقتدي بك يا رسول الله

فواصل بهم النبي عليه الصلاة والسلام يوما ويوما

لكن شهر شوال أتى فقال : لو بقي الشهر لزدتكم

تنكيلا بهم

ولذا :

هو عليه الصلاة والسلام لا يقاس غيره عليه

فقد أعطاه الله قوة ونشاطا

فقوله جل وعلا :

((وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ ))

ثم قال جل وعلا :

((وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ))

نتحدث عن ذلك بإذن الله تعالى في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.