تفسير سورة النبأ من الآية ( 31 ) حتى آخر السورة
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
قوله تعالى :
{ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا(31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا(32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا(33) وَكَأْسًا دِهَاقًا(34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا(35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا(36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا(37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا(38) ذَلِكَ اليَوْمُ الحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا(39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ المَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا(40) } .
معاني الآيات
{ مَفَازًا } : مكان وزمان فوزهم ونجاتهم.
{ حَدَائِقَ } : بساتين.
{ كَوَاعِبَ } : هو ثدي المرأة إذا تكعب واستدار.
{ أَتْرَابًا } : في سنٍ واحد .
{ كَأْسًا } : خمراً.
{ دِهَاقًا } : ممتلئاً.
{ لَغْوًا } : هو الكلام الباطل.
{ كِذَّابًا } :لا يُكذِّب بعضهم بعضا.
{ عَطَاءً حِسَابًا } : كافيا.
{ خِطَابًا } : قولا.
{ الرُّوحُ } : هو جبريل عليه الصلاة و السلام.
{ صَفًّا } : صفوفا.
{ صَوَابًا } : حقا.
{ اليَوْمُ الحَقُّ} : اليوم الثابت الذي لا مرية فيه.
{ مَآَبًا } : مرجعا.
{ أَنْذَرْنَاكُمْ } : حذرناكم.
{ عَذَابًا قَرِيبًا } : هو يوم القيامة.
{ يَا لَيْتَنِي } : (يا)هنا لتنبيه على قول بعض أهل اللغة.
من فوائد هذه الآيات:
- بيان أن هذا القرآن مثاني فإنه لما ذكر ما يكون لأهل النار ذكر ما يكون لأهل الجنة وفي هذا أيضاً تنويعٌ و تشويقٌ للنفوس لقراءة هذا القرآن إذ لو تكلم في صنف واحد وترك الصنف الآخر لربما ملت النفوس.
- أن المتقين هنا مطلقة يتقون ماذا؟ يتقون الله؟ نعم قال تعالى
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ } {البقرة:278} يتقون النار؟ نعم قال تعالى { وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } يتقون يوم القيامة نعم ؟{ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ } {البقرة:281} هذه كلها بمعنى واحد إذاً من اتقى الله فقد اتقى النار ويوم القيامة ومن اتقى يوم القيامة فقد اتقى الله واتقى النار ومن اتقى النار فقد اتقى الله واتقى يوم القيامة.
- بيان فوز أهل الجنة من حيث المكان ومن حيث الزمان فإنه من حيث المكان يكونون في الجنة ومن حيث الزمان لأن يوم القيامة تكثر فيه الأهوال واقرأ كلام الله عز وجل تجد كثيرا من الآيات قال تعالى في سورة الزمر { وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ } {الزُّمر:61}.
- أن القرآن يفسر بعضه بعضاً ما مفاز؟
الجواب: (حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33)) إلى آخره.
- أن ذكر العنب مع أنه من جملة ثمر الحدائق من باب بيان مكانته والاهتمام به.
- بيان ما أعده الله عز وجل لأهل الجنة من النساء الجميلات اللواتي استوينا في السن فلا ترى احدهما على الأخرى فضلا واللواتي تكعبت واستدارت نهودهن لنضارتهن وحسن صدورهن وجمالهن.
- بيان أن خمر الجنة ليس كخمر الدنيا فخمر الدنيا يكون بعد شربه اللغو والتكذيب أما خمر الجنة فإنه لا يتكلم معه بكلامٍ باطل ولا يكذب بعضهم بعضا ولذا قال عز وجل في سورة محمد { وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ } {محمد:15} .
- بيان كمال نعيم الجنة فلا يزاد عليهم من النعيم أو من الطعام فيتأثروا ولا يقلل عليهم فيتحسروا ولذا قال (وَكَأْسًا دِهَاقًا) أي ممتلئة بحسبهم وكفايتهم ولذا قال عز وجل في سورة الإنسان { قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا } {الإنسان:16} مقدره ولذا إذا زاد طعامنا أو رأيناه كثيراً تمل النفس من حين ما تراه لكن ما ألذ الطعام حينما نأكله في هذه الدنيا إذا كان بقدر كفايتنا, فإذا كان قليلاً تعبت نفوسنا وإذا كان كثيراً تعبت نفوسنا فأكرم به من نعيم نسأل الله النعيم والفضل منه عز وجل في الدنيا والآخرة.
- من الفوائد :
- أن هذا النعيم المذكور هو من رب السموات والأرض فلا يملك أحد أن يوصل هذا النعيم إلا الله عز وجل.
- أن هناك مخلوقات ليس في السماء ولا في الأرض لقوله تعالى (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) . وصدق إذ قال { وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } {النحل:8} .
- أن اسم (الرحمن) مذكور هنا في سياق البعث والنشور وذكره كثير في هذا السياق مما يدل على أن رحمة الله عز وجل سبقت غضبه فهنا قال (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا) وقال تعالى { المُلْكُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ لِلرَّحْمَنِ } {الفرقان:26} وقال تعالى { وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ } {طه:108},فهذا يدل على ما ذكرنا ولا أدل من الحديث الوارد من أن الله عز وجل خلق مئة رحمه أنزل منه رحمه إلى الأرض فبها يتراحمون حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشي أن تصيبه فإذا جاء يوم القيامة كمل بها هذه المئة.
- أن الأرض في كتاب الله عز وجل لم تذكر إلا مفرده بينما السموات تذكر أحياناً بالإفراد وأحياناً بالجمع ولعل الفائدة من هذا أن مصلحة الخلق لها ارتباطٌ بمن في السموات السبع كلها إذ قال عز وجل عن الملائكة كما سيأتي في سورة النازعات { فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا } {النَّازعات:5} بينما الأرض ليس لنا فيها حاجة إلا هذه الأرض العليا.- والله أعلم-
- بيان عظمة لله عز وجل إذ لا يصدر خطاب من الخلق ذلك اليوم إلا بإذنه عز وجل.
- بيان قيام الخلق لله عز وجل يوم القيامة إذ قال (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالمَلَائِكَةُ) وقال عز وجل عن الناس { يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ } {المطَّففين:6} .
- بيان فضل جبريل عليه السلام إذ خص بالذكر في قوله (الروح) مع أنه داخل ضمن الملائكة وإفراده بالذكر تنبيه على رفعة مكانته ولا أدل من قوله تعالى { ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ } { مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } {التَّكوير:21} وهذا كثير في كلام الله عز وجل تذكر الملائكة ويذكر جبريل مفرداً كما في سورة القدر { تَنَزَّلُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا } {القدر:4} .
- أن خضوع الملائكة في ذلك اليوم بما فيهم جبريل مع عظمت هؤلاء الملائكة يدل على ضعف من سواهم من المخلوقين فكيف يكون حال بني آدم في ذلك اليوم.
- بيان كيفية مقام الملائكة عند الله عز وجل وأنهم صفوف ولذا قال تعالى { وَالمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } {الحاقَّة:17} وكما قال تعالى مقسمَّا بالملائكة
{ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا } {الصَّفات:1} قد يكون في الصلاة وقد يكون في هذا اليوم للإطلاق.
- بيان أن الشفاعة هي القول الصواب المذكور في هذه الآية (وَقَالَ صَوَابًا) ما الذي أدرانا؟ وجود الإذن (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ) وفي هذا دلالة على أن الشفاعة لا يمكن أن تحل لأحد إلا بأمرين:
- إذن الله للشافع أن يشفع.
- رضاه عن المشفوع له .
وقد جمعت في آية { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } {النَّجم:26} .
- بيان أن ذلك اليوم هو اليوم الحق الثبت العدل الذي تتحقق فيه الأمور وتظهر ولذا قال تعالى { الحَاقَّةُ } {الحاقَّة:1} .
- أن المرجع الحسن والمآل الطيب للإنسان لا يكون إلا باتخاذ طريقٍ إلى الله عز وجل وهو طريق الدين ولذا قال (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا) ولذا قال الله عز وجل آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا } {الفرقان:55} .
- إثبات المشيئة للعبد (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ) لكن مشيئته تابعة لمشيئة الله عز وجل.
- إقامة الحجة على الخلق فإنهم يتلون هذا القرآن العظيم ومن بين ما فيه (الإنذار من هذا اليوم) لقوله (إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا). الإنذار في هذا القرآن { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا القُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } {الأنعام:19} يعني من بلغه هذا القرآن.
- إثبات قرب هذا اليوم و ما كان قريباً فما أسرع حصوله ومجيئه قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } {الحشر:18} وقال تعالى { وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ البَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } {النحل:77} قال تعالى { وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالبَصَرِ } {القمر:50} .
- اطلاع العبد يوم القيامة على محصلة عمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر (يَوْمَ يَنْظُرُ المَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) والآيات في هذا المعنى كثيرة قال تعالى { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ(8) } . {الزَّلزلة}. قال تعالى { وَوُضِعَ الكِتَابُ فَتَرَى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } {الكهف:49} قال تعالى { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } {المجادلة:6} نسأل الله لطفه .
- تمني الكافر للموت يوم القيامة إذا رأى ما قدمت يداه { وَيَقُولُ الكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا } وذلك إذا رأى البهائم إذا اقتص بعضها من بعض فصارت ترابا تمنى أن يكون كهي أو يتمنى بأنه لم يخلق من الأصل لأن أصله من تراب أو تمنى أنه لما تحلل جسمه في الأرض في قبره تمنى أن لا يبعث في هذا اليوم .
- تنبيه القرآن لقارئه للأمور العظام ولذلك قال (يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا) (يا) هنا لتنبيه لأنها لم تدخل على اسم , فإذا جاءت (يا) وبعدها ليس اسماً فهي للتنبيه.
- بيان الوحدة الموضوعية للقرآن في السورة ما معنى هذا الكلام ؟
الجواب : معناه أنك لو تأملت السورة كلها لوجدت أن هناك ارتباطاً قوياً بين أولها وأوسطها وأخرها, في أولها ذكر لإنكار الكفار للبعث بعدها علامات على قدرة الله على البعث بعدها ما أعده الله للكفار وللمتقين في يوم البعث في آخرها الإنذار المبين من هذا البعث ولذا لو أخذنا بعض التأملات اليسيرة نجد مثلاً (الأرض) ذكرت مثلاً في أول الآيات فما هو حالها في البعث؟ لها حال آخر نجد الجبال وأنها أوتاد ما حالها في البعث؟ تكون سراباً النوم عبارة عن موته صغرى للتذكير بالموتة الكبرى السماء في هذه الدنيا كيف تكون يوم القيامة؟ مذكورٌ في هذه السورة ذكر الليل والنهار من علامة قدرة الله عز وجل يوم القيامة فهما ينعدمان فليس هناك ليلٌ ولا نهار إنزال المطر به تحيى الأرض ففيه إيذان وإشعار بأن هناك إحياء لهذه الأجساد يوم القيامة ولو تأملت لوجدت ووجدت لكن هذه إطلاله سريعة ويستفاد منها في باقي سور القرآن, فلو نظرت مثلاً إلى سورة البقرة لوجدت أن الإيمان مذكورٌ في أول السورة وفي أوساطه وفي آخره, لو رأيت إلى الإنفاق لوجدت أنه مذكور في أول السورة ومذكور في ثنايا السورة في مواضع متعددة وفي آخر السورة أيضاً. وعلى هذا فقس تجد أثناء التأمل أن هناك وحدة موضوعية لسور القرآن وهو فن من فنون التفسير لفهم كلام الله عز وجل لأن بعض العلماء يفسر القرآن إما بمفرداته و إما بوحدته الموضوعية ونحو ذلك .