تفسير قوله تعالى ( واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان … ) سورة البقرة (102 ـ 103 )

تفسير قوله تعالى ( واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان … ) سورة البقرة (102 ـ 103 )

مشاهدات: 536

تفسير قوله تعالى :

 { وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ }

فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
أيها الأحبة في الله – تلونا من ضمن ما تلونا هذه الليلة تلونا قول الله سبحانه الله وتعالى  {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ } الآيات .
هذه الآيات ، اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن مَنْ انشغل عن طاعته اشتغل بطاعة الشيطان ، ومن أعرض عن ذكره سبحانه وتعالى ذهب إلى ذكر غيره ، ومَنْ لم يحب الله سبحانه وتعالى أحب غيره ، هذه الآية أتت قبل آية
وهذه في ذكر اليهود قال تعالى قبلها { وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ }
ماذا صنعوا ؟
{ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } البقرة101 ، لما نبذوا { وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } من تعليم السحر
ولذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله تحت حديث النبي صلى الله عليه وسلم ( أصدق الأسماء حارث وهمام )
لم كان هذان الاسمان أصدق الأسماء ؟
 يقول شيخ الإسلام رحمه الله  : لأن العبد لا يمكن أن ينفك من أن يكون حارثا ومهتما ، يهتم بقلبه ثم يعمل بجوارحه ، ولذا أصبح هذان الاسمان أصدق الأسماء ( حارث وهمام ) ولذلك عبارة السلف ( النفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية )
ويقول ابن القيم رحمه الله : إن نفس ابن آدم كالرحى الدائرة التي لا تفتر ، هذه نفسك يا ابن آدم التي تتحرك ولا تقف ، يقول رحمه الله : [ فإن بعض الناس يضع في هذه الرحى دقيقا وبعض الناس يضع حصى ورملا ]
  ثم قال رحمه الله : [ وعند العجن والخبز يتبين لكل طاحن ما طحنه ]  إن طحنت خيرا في نفسك ظهر على جوارحك، إن طحنت شرا في نفسك ظهر على جوارحك ، وحينها إذا جاء يوم القيامة يحاسب كل عبد على ما كان منه .
هؤلاء لما نبذوا كتاب الله ماذا صنعوا ؟
{ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } يعني على عهد سليمان ، بنو إسرائيل لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية وفيها ذكر لسليمان  قال اليهود [ إن محمدا يذكر سليمان في ضمن الأنبياء وما كان إلا ساحرا ] فأنزل الله عز وجل هذه الآية {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ }
 لأن السحر وتعلمه كفرٌ بالله سبحانه وتعالى ، فإنه هؤلاء الشياطين لما مات سليمان أخذوا كتبا من السحر وبدءوا يعلمون الناس إياها وقالوا : إن سليمان ما حكمكم إلا بهذه الكتب
فماذا قال جل وعلا ؟
 { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ }
 لماذا كفروا ؟
 { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } يعني ويعلمون { مَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ } مكان في العراق ،
من هما هذان الملكان ؟
 ما اسمهما ؟
 { هَارُوتَ وَمَارُوتَ } فهؤلاء الشياطين يعلمون الناس السحر ويعلمون الناس السحر الذي أنزل على هذين الملكين – سبحان الله – ملائكة تعلم الناس السحر وهم عباد مخلصون لله سبحانه وتعالى { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ! .
إنما فعلوا ذلك بأمر الله سبحانه وتعالى امتحانا وابتلاء للناس { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ } يعني إذا جاءهم أحد لتعلم السحر ينصحانه ويقولان له إنما نحن فتنة وامتحان واختبار فلا تتعلم ، فإن أبى علَّماه ابتلاء واختبارا من الله جل وعلا لعباده
{ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ }
وهذا يدل على ماذا ؟
 يدل على أن تعلم السحر وأن تعاطيه كفر بالله سبحانه وتعالى ، هذا في حق مَنْ ؟ في حق المتعلم ، الساحر
كذلك ورد الترهيب في حق من ذهب إلى هؤلاء السحرة ، ومن هنا ندرك ونعلم خطأ الفتوى التي قيل فيها إن من كان مريضا ووصل به المرض إلى حد الموت له أن يذهب إلى السحرة ليتعافى عندهم – سبحان الله – أين هذه الفتوى من شرع الله سبحانه وتعالى !
 أين هذه الفتوى من قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم ( مَنْ أتى عرَّافا فسأله ) مجرد سؤال فقط لم يصدقه ( فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يوما ، فإن صدَّقه ) لأن المريض إذا ذهب إلى هذا الساحر وقال له افعل كذا ، أو دع كذا صدَّقه وفعل
 ماذا قال عليه الصلاة والسلام ؟
 قال كما في السنن ( مَنْ أتى كاهنا أو عرَّافا فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ) صلى الله عليه وسلم
ماذا الذي أنزل على محمد عليه الصلاة والسلام ؟
 القرآن ، فإذا ذهبت إلى هؤلاء وهم يدعون الغيب فإذا صدَّقتهم صدّقت أنهم يعلمون الغيب وإذا صدقتهم في ذلك كفرت بالله سبحانه وتعالى وكفرت بآية من كلام الله سبحانه وتعالى { قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ }النمل65 وإذا كذَّبت بمضمون هذه الآية كأنك كذَّبت بالقرآن كله .
إذاً لو جاز لإنسان أن يذهب لهؤلاء السحرة ليتعافى عندهم صَادَمتْ هذه الفتوى أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، وصادمت هذه الفتوى فائدة القرآن { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا } الإسراء 82، هذا القرآن شفاء من كل الأدواء ، من كل الأمراض ، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما سحرته اليهود ، لأن اليهود سحرت النبي عليه الصلاة والسلام .
ولو قال قائل :
كيف يُسْحر عليه الصلاة والسلام وكان يذكر الله عز وجل على كل أحيانه ؟ ومعلوم أن الذاكر لله سبحانه وتعالى يكون السحر وتكون العين أبعد منه ، لم هذا ؟
الجواب / لفوائد من بينها :
أولا :
أن يبين للناس أن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بَشر يصيبه ما يصيب البشر .
ثانيا :
 ليرفع الله عز وجل درجة النبي صلى الله عليه وسلم فيصيبه هذا السحر كما يصيبه المرض ، ولذا لما دخل عليه ابن مسعود رضي الله عنه كما في الصحيحين ( قال يا رسول الله : إنك توعك ) يعني بك حرارة قوية ( قال عليه الصلاة والسلام : إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم ) فكان يُضَّعف عليه الألم والمرض من أجل أن ترتفع منزلته ودرجته عليه الصلاة والسلام .
ثالثا :
 أن الأمة إذا أصيبت بسحر بيَّن لها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله لما أصيب بالسحر كيف يرفع هذا السحر لا أن يذهب إلى السحرة وإلى الكهنة ، ولذلك لما أصيب عليه الصلاة والسلام ( قرأ المعوذتين على هذه العقد ) وهي إحدى عشرة عقدة ، وجميع آيات سورتي الفلق والناس مجموعها إحدى عشرة آية (  فكلما قرأ آية انحلت عقدة ) هكذا يكون العلاج ، لا أن يذهب أناس إلى هؤلاء السحرة ، إنما التداوي بشرع الله ومن شرع الله ، ثم إن هذه الفتوى تصادم ما حكم الشرع على الساحر ، بم حكم الشرع على الساحر ؟ أنه يُقْتل ، ومن ثم إذا احتجنا إلى هؤلاء السحرة ضمنا ولزاما علينا أن نبقي بعضهم للاستفادة منهم ، وإذا أبقينا بعضهم ألا يكون هناك مخالفة لأمر الشرع بقتل السحرة ؟ بلى والله .
ثم قال جل وعلا في السحر وفي أثره ، لأن له أثرا ، ولذلك أنصح كل مسلم ومسلمة أصيب أو أصيب أحد من أحبابه بالسحر أن يهرع إلى الله سبحانه وتعالى
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه زاد المعاد ، ذكر علاجا للمسحورين الذين أصيبوا بالسحر ، ماذا قال رحمه الله ؟ قال [ وقد جُرِّب كثيرا ] ولا سيما الرجل الذي ينحبس عن زوجته فلا يجامعها لا سيما هذا النوع من أنواع السحر [ جُرِّب كثيرا فأفاد في علاج المسحورين ]
قال رحمه الله [ يأتي الإنسان بسبع ورقات من السدر ثم يطحنها ثم يجعلها في ماء ويقرأ فيها الآيات التي جاءت في سورة الأعراف وفي غيرها من المحاورة التي جرت بين موسى عليه السلام وبين السحرة أتباع فرعون ]
في سورة  الأعراف – طه – يونس وغيرها [ ويقرأ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } والمعوذتين و{ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وآية الكرسي ويشرب من هذا الماء المخلوط بالسدر والممزوج بقراءة القرآن يشرب منه ويغتسل منه عدة مرات ] قال رحمه الله  [ قد جُرِّب كثيرا فنفع الله به ] .
إذاً السحر له أثر ، ولذلك قال تعالى { سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ }الأعراف116
 فالسحر له أثر يؤثر على المسحور
 لكن هل يؤثر على الشيء الثابت ؟
 لا يمكن للساحر أن يجعل هذا العمود يتحرك ، قد يرى المسحور أنه يتحرك لأن السحر وقع على عينيه لكن في حقيقة الأمر لا يمكن أن يقلب أحد عينا إلى عين أخرى إلا الله سبحانه وتعالى
ولذلك :
ما ترون من بعض الأعمال التي تعرض في الشاشات وللأسف قد تعرض على شاشاتنا من الألعاب التي يقال إنها سحرية ، هذه لا يجوز مشاهدتها ، كأن يخرج من رأسه حمامة ، أو يخرج من فمه نارا ، أو أنه يطعن نفسه بالسيف ثم يخرج السيف من الجهة الأخرى أو ما شابه ذلك فلا يجوز ( جندب رضي الله عنه لما رأى رجلا أتى من المشرق وقد وضع حبلا في المسجد وإذا به يُرْكِض حمارا على الحَبْل فيدخل هذا الحمار في فم فيل ، ويقوم هذا الرجل الذي أتى من المشرق ويأتي إلى الرجل فيضرب عنقه فيرديه قتيلا ثم يقول أحي فيحيى ، فلما رآه رضي الله عنه قال : { أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ } ثم ضربه وقال : ( حد الساحر ضربة بالسيف ) هذا سحر ولا تجوز مشاهدته ولا النظر إليه ، فالسحر له تأثير .
فماذا قال جل وعلا ؟
{ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } – سبحان الله – له أثر كبير ، ليست هناك علاقة ولا صلة أعظم من علاقة وصلة الزوج مع زوجته
ولذلك ماذا قال عز وجل ؟
{ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } الأعراف189
وقال جل وعلا { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً }الروم21
– سبحان الله – يأتي فيفرق به بين المرء وزوجه ، لأن هذا مما يُحبه الشيطان ، يعني أول ما يبدأ السحرة يبدءون بالتفريق بين الزوجين ، لم ؟ لأن هذا محبوب الشيطان ، لأن الشيطان كما ثبت في صحيح مسلم ( يضع عرشه على الماء ويرسل جنوده فيأتي أحدهم فقول : فعلت ، فيقول : لم تفعل شيئا ، فيأتي الآخر ويقول : ما تركته حتى فرقت بينه وبين زوجته ، فيقول : أنت أنت فيلزمه ويقبله ويدنيه )
ثم ماذا قال عز وجل ليبين أنه لا يمكن لأي سبب ، والله مهما عظم السبب ومهما كان تأثيره لا يمكن أن يؤثر إلا بإذن الله جل وعلا
فماذا قال عز وجل ؟
{ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ } ما يمكن لأي سبب ، النار سبب للإحراق ألقي فيها إبراهيم عليه الصلاة والسلام { قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ }الأنبياء69، لو كان السبب يؤثر بنفسه لأحرقت النار إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، لكن الله عز وجل أبطل السبب ، فلا يخف مسلم من هؤلاء السحرة ولا من هؤلاء الكهنة وليعتمد على الله سبحانه وتعالى .
{ ويَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } يمكن لو قال { ويَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ } يمكن أن يضر بك الشيء ولكن تنتفع منه ، أليس كذلك ؟ بلى
 لكن بيَّن جل وعلا أن السحر شرٌ محض ، شر خالص
{ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } ليس له في الآخرة من نصيب ولا حظ { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ } باعوا أنفسهم من أجل هذا السحر وتركوا كلام الله سبحانه وتعالى { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } لو كان عندهم علم لما آثروا هذا السحر على كلام الله سبحانه وتعالى ولما أقدموا عليه ، ثم أتت الآية التي بعدها { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ } يعني لهم ثواب { لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } البقرة103.
وفَّق الله الجميع لما يحب ويرضى ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .