تفسير قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ….) سورة البقرة (178 ـ 179 )

تفسير قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ….) سورة البقرة (178 ـ 179 )

مشاهدات: 518
تفسير قوله تعالى
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى }
الآية
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
أما بعد فيا عباد الله /
مما تلوناه في هذه الليلة قول الله تعالى  :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ{178} وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
الناظر – أيها الأحبة في الله – في مطلع وصدر هذه الآية ، يدرك أن الله سبحانه وتعالى نادى عباده بوصف الإيمان ، لأن المؤمن هو الذي يأتمر بأمر الله ، ولذا قال جل وعلا { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ }
{ كُتِبَ } يعني فرض ووجب عليكم { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } وهذا يدل على أن أهل الإيمان هم المؤتمرون بأمر الله سبحانه وتعالى ، فمن كان مؤمنا تمام الإيمان عليه أن يقوم بهذا الواجب ، ما هو هذا الواجب ؟
 هو إقامة القصاص ، والقصاص من معناه يدل على التماثل والتساوي ، وإذا كان كذلك فإن تنفيذ القصاص عدل ، وإذا كان عدلا وواجباً على الأمم والدول أن تقوم به ، دل على أن قيام الدول والأمم لا يمكن أن يتم إلا بالعدل
 ولذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله ” إن الله سبحانه وتعالى لينصر الدولة الكافرة العادلة على الدولة المؤمنة الظالمة “
 { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } ومن خلال مطلع هذه الآية نأخذ منها ردا صريحا على مَنْ قال إن تنفيذ القصاص وإقامة الحدود وحشية ، أو لا تتناسب مع هذا العصر ، أو أنه فيه دلالة على الحقد والبغض في قلوب المسلمين – كلا والله – لأن العاقل لو تأمل فيما أمر الله سبحانه وتعالى من أمر القصاص أوقفه ذلك على العدل والكمال وتطهير المجتمعات من سفك الدماء وزهق الأرواح
ذلك بأن الإنسان المتحدث بهذا القول وهو أن تنفيذ القصاص وإقامة الحدود وحشية ، لو قيل لهذا الرجل لو أن هناك شخصا اعتدى عليك وأنت في الطريق ، اعتدى على عرضك وسلب مالك وقتل ولدك وزوجتك ، أيكفي في عقابه أن يسجن كما في بعض الدول ، يقومون بسجنه سجنا مؤبدا ، أو مدة مائة سنة أو ما شابه ذلك ؟ هذا لا يمكن أن يشفي ما في صدره ، فالعدل كمال العدل أن ينفذ في هذا الرجل المعتدي القصاص ، والقصاص يكون بالمساواة ، ولذلك وضَّح جل وعلا بعض الأمثلة على العدل والمساواة في هذا القصاص ، قال :
{ الْحُرُّ بِالْحُرِّ } فإذا قتل الحر حرا يقتل
{ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ } فإذا قتل العبد عبدا يقتل .
{ وَالأُنثَى بِالأُنثَى } فإذا قتلت المرأة أنثى قتلت بها ، وجاء في السنة
( أن الرجل إذا قتل امرأة فإنه يقتل بها )
ثم حثَّ جل وعلا على العفو ، وهذا يدل على ماذا ؟
 يدل على أن العفو منزلة عظيمة ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم (وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ) قال تعالى { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} الشورى40 ، يعني أجره على الله سبحانه وتعالى ، لم يبين له كمَّ هذا الأجر ، وإنما أجره يكون على الله ، وإذا كان أجره على الله الكريم سبحانه وتعالى فلا تسأل عن عظم هذا الأجر ، ولذلك قال سبحانه وتعالى مع ما في النفس من حب الانتقام إذا سُفك دم أخيه أو دم ابنه أو زوجته أو ابنته ، قال { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } فيه إشارة إلى أن المسلم ينبغي له أن يجنح إلى العفو
ولذلك ماذا قال { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ } وصف القاتل بوصف الأخ من باب التلطف والحث على العفو ، ولذلك وصف القاتل بأنه أخ للمقتول
{ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ } وفي وصف القاتل بالأخوة ، فيه رد على الخوارج ، والخوارج يقولون إن مرتكب الكبيرة كافر مخلد في نار جهنم ، ومعلوم أن القتل العمد كبيرة من كبائر الذنوب ، بل توعد الله سبحانه وتعالى عليه بوعيد شديد { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } النساء 93 ، ومع عظم جرم القتل إلا أن المسلم لو ارتكب كبيرة عظمى من كبائر الذنوب ومات ولم يتب منها فهو تحت مشيئة الله ، إن شاء الله عذبه بقدر ذنبه ثم يكون مصيره إلى الجنة ، وإن شاء عفا عنه ابتداءً ، فليس بكافر يخلد في نار جهنم ، ولذلك وصف الله سبحانه وتعالى القاتل بأنه أخٌ للمقتول .
{ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } نكَّر هنا كلمة { شَيْءٌ } وفي تنكيرها دلالة مهمة جدا ، ما هي ؟ لما نكَّر كلمة { شَيْءٌ } دل على أنه متى ما عفا بعض الورثة عن القصاص فإن القصاص يسقط ويعدل إلى الدية ، فلو اجتمع الورثة كلهم على الأمر بإقامة القصاص وخرج واحد فعفا ، فإن القصاص يسقط وتجب حينها الدية ، لكن لو أن الورثة كلهم اجتمعوا على أنه يجب أن ينفذ فيه حكم القصاص فينفذ فيه .
وهنا مسألة ترد كثيرا في القتل العمد :
 لأن القتل الخطأ فيه دية مقدرة في الشرع ، كما أن قتل العمد فيه دية مقدرة في الشرع ، لكن نسمع أن بعض الناس إذا قُتل له قتيل طلب دية حتى يسقط القصاص أكثر وأكثر بأضعاف من الدية المقدرة شرعة ، كأن يطلب مليون أو مليونين أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر ، وهذا شيء نسمعه كثيرا ، يقول ولي القتيل أنا لا أعفو عن القصاص إلا بهذا المبلغ الكبير الكثير
فهل هذا جائز في حكم الشرع ؟
الجواب / نعم يجوز له ، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما صح عنه ، لما ذكر دية العمد قال ( وما صولحوا عليه فلهم ) لو قال أنا لا أرضى بالدية المقدرة شرعا ، إذا أردتم أن أتنازل عن القصاص فعليكم أن تدفعوا لي هذا المبلغ الكبير حتى لا ينفذ في وليكم حكم القصاص ، فهنا يجوز ذلك .
{ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ }
هنا فيه شيء يجب على القاتل وشيء يجب على ولي المقتول ، لو أن ولي المقتول رضي بالدية ، فماذا على القاتل وماذا على ولي المقتول ؟ على ولي المقتول أن يطالب القاتل بالدية بالمعروف ، ولا يثقل عليه ولا يلاحقه ولا يلازمه ، ولذلك قال تعالى { فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } إذاً ماذا على القاتل ؟ { وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } فلا يماطل في حق المقتول ولا يبخس شيئا من حقه { فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ }
{ ذَلِكَ } أي ما ذُكر من إسقاط القصاص والعدول إلى الدية { تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } لمن ؟ لهذه الأمة ، لأن اليهود كان المحتم عليهم إذا قتل فيهم قتيل أن يُعدم القاتل ولا دية ، وكان الحكم في شرع النصارى أنه متى ما قتل قتيل فلا قتل وإنما تجب الدية ، وإما شرع النبي صلى الله عليه وسلم فإن فيه تخفيفا ، فإن شاء ولي المقتول أن يطالب بالقصاص فله ذلك ، وإن عفا فله ذلك .
{ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } لو أنهم استقروا على أمر الدية ثم أتى الشيطان وسوَّل لولي المقتول أن يقتل القاتل بعدما تنازلوا عن القصاص ورضوا بالدية ، هنا اعتداء ، لأن الواجب على القاتل هو دفع الدية لما تنازلوا عن القصاص ، فإذا أقدم ولي المقتول على قتل القاتل مع التنازل إلى الدية ، قال تعالى { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
ثم بين تعالى أن تنفيذ القصاص حياة { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } سبحان الله ! لو قال قائل كيف يكون في القصاص حياة ؟ لو أن شخصا قتل شخصاً ، الآن قتلت نفس ، فإذا قمنا ونفذنا حكم القصاص في هذا القاتل ، ذهبت نفس ثانية ، إذاً كيف يكون في القصاص حياة ؟ نعم فيه حياة للقاتل ، حياة لمن يريد القتل ، حياة لمن يراد قتله ، حياة للمجتمع ، وذلك لأن الإنسان إذا علم أنه إذا قتل شخصا سيقتل به أحجم عن قتله ، ومن ثم تسلم نفسه وتسلم نفس غيره من شره ، ولذلك قال تعالى { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } لكن لمن ؟ { يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ } أصحاب العقول الذين يقدرون لهذا الحكم الشرعي قدره ويعرفون مصلحته ، ولذلك قال { يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ } ثم إذا نفذ القصاص ماذا يكون حال المجتمع؟ يصل إلى التقوى { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } وإذا اتقى المجتمع ربه أيمكن أن يكون هناك شر أو فساد ؟ لا يمكن .
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد