تفسير سورة المائدة
آية 72 إلى آية 88
الدرس 85
فضيلة الشيخ زيد البحري حفظه الله
قال تعالى ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ﴾ سبحان الله لما ذكر مايتعلق باليهود وبأفعالهم وبأقوالهم الشنيعة، هنا ذكر عزوجل حال أهل الكتاب الصنف الآخر من هم؟ النصارى، ﴿ لَقَدْ كَفَرَ﴾ وقد للتحقيق واللام موطئة للقسم،﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ﴾ وهؤلاء كما يقال هم اليعقوبية وهؤلاء يدل على أن التنازع والإختلاف في النصارى كثير ﴿ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ﴾ قالوا إن مريم ولدت عيسى وهو الإله أو اتحد عيسى بذات الله عزوجل، تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا، ﴿ لَقَدْ كَفَرَ﴾ حكم عليهم بالكفر﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ ﴾ يرد عليهم ﴿ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ﴾ إنما أمر المسيح بأن يُعبد الله ولذا ماذا قال ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ﴾ قدَّم نفسه فيما يتعلق بالربوبية باعتبار أنه عبد لله عزوجل ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ.﴾ لما بيَّن لهم أن العبادة لاتكون إلا لله وأنه – يعني عيسى عليه الصلاة والسلام – وأنه عبد لله يعبد الله عزوجل حذرهم من مغبة هذا الكفر ﴿ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ﴾ حرم عليه الجنة تحريماً مؤبدا بمعنى أنه لايدخل الجنة، ﴿ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ﴾ يعني لما حرم عليه الجنة لايظن أنه في مأمن بل إن مصيره إلى النار ﴿ وَمَأْوَاهُ ﴾ أي مثواه ﴿ النَّارُ ﴾ كما قال عزوجل مبيناً حال أهل الإيمان ﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ﴾ هؤلاء من أشرك له النار ويُحرم من الجنة. ﴿ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ﴾ وهنا قال من يشرك بالله دل هذا على ماذا؟ على أن هذا عام في كل من أشرك بالله سواء كان النصارى أو كان غيرهم، ولما قال هنا ﴿ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ﴾ وذكر في صدرالآية الكفر دل على أن الكفر والشرك قرينان ولذا جمع بينهما النبي ﷺ كما عند مسلم “بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة”. قال ﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ وأكد ذلك بمن ﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ للتأكيد على أن هؤلاء لا أنصار لهم ينصرونهم من عذاب الله عزوجل وقال ﴿ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ دل على أنه لو كان نصيراً واحداً فمن باب أولى فكيف إذا كانوا أنصاراً فإنهم لا يستطيعون إذاً لو كان واحداً من باب أولى وذلك لأن عذاب الله لايرده أحد، ولذا ماذا قال عزوجل ﴿ أَزِفَتِ الْآزِفَةُ* لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ﴾ إذا أراد الله عزوجل أمراً فلا راد لأمره.
قال ﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ* لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ﴾ هذه طائفة أخرى قالت: ﴿ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ﴾ كيف هذا؟ قالوا مريم وعيسى والله،ولذا يدل على هذا القول قوله عزوجل في آخر السورة ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ ولذا قال عزوجل ناهياً عنهم كما مر معنا ﴿ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾ وبعضهم قال هو جوهر واحد ذو أقانيم ثلاثة وهذا يدل على سفه عند هؤلاء، فكيف يكون الواحد ثلاثة، وكيف تكون الثلاثة واحداً. ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ﴾ ليس معنى ثالث ثلاثة من أنه زائد على الثلاثة، لا المقصود بهذه الكلمة إذا جاءت في اللغة من أنواع أساليبها ثالث ثلاثة أي واحد من ثلاثة إذا قلت رابع أربعة أي واحد من أربعة وهكذا. قال عزوجل ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ﴾ هنا أعظم صيغ الحصر صيغة النفي مع الإستثناء، ولذا لا إله إلا الله نفي وصيغة إستثناء هذه أعظم أنواع الحصر قال ﴿ وَمَا ﴾ نافية وأكَّد ذلك بمن ﴿ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ﴾ كالشأن في قوله تعالى ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ فقط خلقهم للعبادة. قال هنا ﴿ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ ﴾ مما سبق من تلك الأقوال الكفرية ﴿ لَيَمَسَّنَّ ﴾ هنا المس يدل على أنهم يذوقون ألم هذا العذاب لأنه أشد ما يكون. قال ﴿ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ ﴾ قال منهم لأن من آمن لا يدخل في ذلك ﴿ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أي مؤلم وذكر الكفر هنا باعتبار هذا العذاب لمن كفر بالله عزوجل ولأن سبب هذا العذاب الكفر، ﴿ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ ۚ ﴾ سبحان الله ما أعظم الله وما أعظم كرم الله عزوجل بعد أن قالوا تلك الأقوال حبب إليهم التوبة والرجوع كما مر في ما يتعلق باليهود لما ذكر أفعالهم الشنيعة ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ﴾ في الآية التي بعدها ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ﴾ فقال هنا ﴿ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ ۚ ﴾ ﴿ أَفَلَا ﴾ الإستفهام تقدم على حرف العطف الفاء فدل هذا على أن هناك جملة أبعد ما سمعوا هذا الكلام فلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه؟ هذا إن دل يدل على أن الكفر قد ترسب و رسخ في قلوبهم، ﴿ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ ۚ ﴾ وذكر التوبة والإستغفار هنا، الله عزوجل لما ذكر حال قوم عاد ﴿ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ﴾ الإستغفار إذا ورد تدخل التوبة والتوبة إذا وردت يدخل الإستغفار، لكن إذا جُمعا ﴿ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ﴾ الإستغفار التوبة من الذنوب لما مضى أما التوبة فهي التوبة لما يُستقبل، وهنا قال ﴿ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ ۚ ﴾ هنا أُمروا بأن يستغفروا الله عزوجل مما فعلوه فيما مضى وعليهم أن يبقوا على هذه التوبة في حاضرهم وفي مستقبلهم ﴿ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ يعني مع هذا كله أيضاً من الأسباب التي تدعوكم إلى الإستغفار والتوبة من أن الله غفور رحيم ﴿ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾. ﴿ ما المَسيحُ ابْنَ مَرْيَمَ ﴾ لما ذكر أمره عزوجل لهم بالتوبة بيَّن لهم حال المسيح مع أن المسيح ماذا قال؟ ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ﴾ مع ذلك بيَّن عزوجل حال المسيح. ﴿ ما المَسيحُ ابْنَ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ ﴾ إلا رسول ﴿ قَدْ خَلَتْ ﴾ أي مضت ﴿ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ﴾ يعني ليس ببدعٍ من الرُسل، شأنه كشأن الرسل السابقين لايمتاز بشئ آخر، ولذا هنا ﴿ ما المَسيحُ ابْنَ مَرْيَمَ ﴾ يسميه أهل البلاغة قصر موصوفٍ على صفة الموصوف عيسى عليه الصلاة والسلام والصفة الرسول يعني عيسى عليه الصلاة والسلام مقصور فقط على أنه رسول وهو قصر إضافي ليس قصراً حقيقياً لأن هناك رسلاً غير عيسى عليه الصلاة والسلام لكن القصر الحقيقي لا إله إلا الله والقصر الحقيقي مر في الآية ﴿ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ﴾ فجمع بين القصر الحقيقي في هذه السورة من أنه لايمكن أن يكون هناك إله مع الله، أما عيسىى عليه الصلاة والسلام فمعه وغيره رسول لكن هنا من باب الرد على هؤلاء ﴿ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ﴾ فكيف تُعبد؟! كيف تُتخذ إلهاً من دون الله؟! ﴿ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ﴾ اي بلغت في الصدق مبلغاً عظيماً وهو كثير الصدق حتى قال بعض العلماء الصدِّيق هو الذي لم يؤثر عنه الكذب ولو مرةً واحدة، ولذا قال عزوجل ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ ﴾ وهذه الآية تدل على أن مريم ليست بنبية ومر الحديث عن ذلك مفصلاً في سورة آل عمران ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ ﴾ الآية.
﴿ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ﴾ ومن يأكل الطعام فليس بإله ومن أكل الطعام فهو محتاج ومن أكل الطعام يحتاج إلى ما يحتاجه البشر مما يحتاجونه من الصفات التي تتعلق بهم كبشر، ولذا ليس بإله ولذلك ماذا قال عزوجل﴿ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ ﴾ ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ ﴾ الذي تصمُد إليه الخلائق في قضاء حوائجها وعيسى عليه السلام وأمه محتاجان إلى الطعام ﴿ يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ﴾ ونص على الأكل باعتبار أنه شئ مُشاهد وظاهر، ﴿ يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ﴾ مع أنهما يشربان أيضاً الشراب، ﴿ انْظُرْ﴾ أمر للتعجب من حال هؤلاء ﴿ انْظُرْكَيْفَ نُبَيِّنُ ﴾ أي نوضح ﴿ لَهُمُ الْآيَاتِ ﴾ الدالة على أن عيسى عليه الصلاة والسلام ليس بإله وإنما هونبي ﴿ ثُمَّ انْظُرْ﴾ تأكيد للنظر مرة أخرى ﴿ ثُمَّ انْظُرْأنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ﴾ كيف يُصرفون عن الحق بعد مجيئ تلك الآيات. ﴿ قُلْ أَتَعْبُدُونَ ﴾ أمر الله عزوجل نبيه ﷺ أن يقول لهؤلاء ولغيرهم من الكفار وهذا هو الأظهر والأصوب حتى يدخل النصارى فيه، ﴿ قُلْ أَتَعْبُدُونَ ﴾ إستفهام إنكاري ويراد منها التعجب أيضاً، ﴿ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا ﴾ أي لايملك لكم أن يأتيكم بأي ضرر سواء أكان عيسى أو كانت أمه أو أي بشر، ﴿ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا ﴾ فلا يأتيكم بضر ولا يصرف عنكم الضر، ﴿ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ۚ ﴾ ولا يأتيكم بنفع بل قال عزوجل في نفس السورة ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ﴾ ﴿ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ۚ وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ السميع لكل قول العليم بكل شئ ومن ذلك من أنه يسمع أقوالكم ويعلم أحوالكم من حيث ما تحتاجون إليه مما يُدفع عنكم من ضر أو ما تحتاجون إليه من جلب نفع فهو العليم وهو السميع لكم إذا دعوتم الله عزوجل.
﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ ﴾ ذكرهنا آمراً النبي ﷺ يأمر أهل الكتاب من اليهود والنصارى ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ ﴾ هنا غير صفة لموصوف محذوف وهو مصدر، قل يأهل الكتاب لاتغلو في دينكم غلواً غير الحق أي لاتغلو الغلو الباطل وذلك لأن اليهود غلت في عيسى فماذا غلت به؟ قدحاً والنصارى مدحاً ومر ذلك مفصلاً عند قوله تعالى ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ﴾ كما في سورة النساء.
﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ ﴾ أهناك غلو حق؟ قال بعض العلماء نعم وهو التعمق والنظر والغلو في النظر إلى الأدلة كما يفعله المتكلمون وهذا هو قول الزمخشري وطبعاً الزمخشري من المعتزلة وهو من أصحاب الكلام لكن الكلام هذا غير صحيح فالغلو كله مذموم ولذلك ليس به حق وإنما هو باطل، قال النبي ﷺ ” إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين” وقال ﷺ كما ثبت عنه ” هلك المتنطعون ” قالها ثلاثة. إذاً لماذا قال ﴿ غَيْرَ الْحَقِّ ﴾ لبيان حال واقعهم من أنهم غلو هذا الغلو وهو غلو باطل من باب التنفير لصنيعهم والتقبيح لفعلهم. ﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ ﴾ هذا يدل على خطورة إتباع الهوى ولذلك في الآيات التي مرت معنا في هذه السورة ﴿ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾. ﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ ﴾ أي من قبلكم ولم يكتفوا بالضلالة فيما يتعلق بأنفسهم ﴿ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وأَضَلُّوا كَثِيرًا ﴾ يعني صرفوا الناس عن الدين الصحيح وأضلوهم ﴿ وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ﴾ يعني استمروا على الضلال السابق وضلوا عن ﴿ سَوَاءِ السَّبِيلِ ﴾ عن الصراط السوي المستقيم.
﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ﴾ هنا بيَّن عزوجل من أن اليهود -لأن الأسلوب والخطاب هنا رجع إلى اليهود بعد ما ذكر مايتعلق بالغلو الحاصل من أولئك ومن أولئك- قال ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ واللعنة وقعت على الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم فاللعن واقع من داوود ومن عيسى ابن مريم عليه السلام، ومعلوم أن عيسى بعد داوود و إنما قال هنا داوود وعيسى ابن مريم لماذا نص على داوود وعلى عيسى ابن مريم؟ والعلم عند الله من أن عيسى عليه السلام هو آخر أنبياء بني إسرائيل وأتاهم لكي يُحل لهم بعض ما حُرم عليهم، وأما داوود فبفضلٍ من الله عزوجل آتاه الله النبوة والمُلك لما قتل جالوت، قال تعالى ﴿ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ﴾. ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ﴾ وقيل إن اللسان هنا بمعنى الكتاب بمعنى أنهما ملعونان في الكتب التي أُنزلت على داوود وعلى عيسى عليهما الصلاة والسلام وهذا يدل كما قال بعض العلماء كما سيأتي إن شاء الله من أن كلمة اللسان تُطلق أيضاً على الكتاب وإن كان الظاهر من أن اللسان يكون اللسان على ظاهره وإن كان لُعن في هذين الكتابين فإن داوود وعيسى لم يلعنا هؤلاء إلا بأمر من الله عزوجل وبحكم منه. ﴿ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ﴾ مالسبب؟ ﴿ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ أي يتجاوزون، ومر معنا عند قوله عزوجل في سورة البقرة ﴿ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ الفرق بين المعصية وبين الإعتداء فيما يتعلق ببني إسرائيل ﴿ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ ﴿ كانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ﴾ يعني يفعل بعضهم الفعل ومع ذلك يُبصر أحدهم الآخر ولا يُنكر هذا الأمر، سبحان الله قال هنا ﴿ كانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ﴾ عن منكر فعلوه ولذا جاء حديث من أن النبي ﷺ قال ” إن الرجل من بني إسرائيل يلقى أخاه على المنكر فينهاه فإذا به من الغد يكون أكيله وجليسه فضرب الله عزوجل قلوب بعضهم ببعض ولعنهم الله على لسان داوود وعيسى ابن مريم ” وفي رواية ” والله لتأطرنهم على الحق أطرا ” هذا الحديث به ضعف لكن يدل على معناه الآية, الآية تدل على معنى هذا الحديث، وهذا يدل على التأكيدعلى خطورة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال ﴿ كانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ إذاً مافعلوه ذميم ذمه الله عزوجل لأن ترك الأمر بالمعروف وترك النهي عن المنكر تترتب عليه مفاسد عظيمة، وهذا يدل على أن واجب هذا الأمر يكون على العلماء أعظم. ولذا مر في الآيات السابقات في هذه السورة ﴿ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ لأن العلماء واجب عليهم أن يُبلغوا شرع الله، ولذا بعدها بآيات لما ذكر ما ذكره عزوجل عن النبي ﷺ ﴿ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾ أيضاً أهل العلم إذا مابلغوا العلم الشرعي فإن الذم يكون واقعاً عليهم. فقال هنا ﴿ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ ﴿ تَرَىٰ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ سبحان الله ترى رؤية بصرية، لو تأملت هذه السورة لوجدت أن كلمة ترى كثر ذكرها في هذه السورة وهي رؤية بصرية على الصحيح بمعنى أن حال هؤلاء قد ظهر ووضح ومع ذلك فإنهم لم يرتدعوا عما عملوه. قال هنا ﴿ تَرَىٰ كَثِيرًا مِنْهُمْ ﴾ أي يامحمد ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا سبحان الله يدل على أن اليهود اتخذوا الكفار أولياء كما أن المنافقين اتخذوا اليهود أولياء كما أن اليهود اتخذت النصارى أولياء والنصارى اتخذت اليهود أولياء ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ ﴿ فَتَرَى ﴾ سبحان الله انظر فترى فيهم النفاق﴿ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ ﴾ ، قال هنا ﴿ تَرَىٰ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ أين الدليل؟ ماجاء ذكره في سورة النساء ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾ كما مر معنا تفصيلها.
﴿ تَرَىٰ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾ سبحان الله لبئس ما قدمته لهم أنفسهم من تلك الأعمال الشنيعة ومن ذلك موالاة الكفار تلك الأعمال كانت سبباً أن سخط الله عليهم، وفي هذا إثبات من أن الله عزوجل يسخط على من يشاء، ﴿ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ﴾ يعني مع هذا السخط هم مخلدون في نار جهنم. ﴿ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ ﴾ والنبي قيل هو محمد ﷺ وقيل موسى عليه الصلاة والسلام، والصحيح أنه محمد ﷺ لأن السياق يتعلق بهذا النبي وهومحمد ﷺ ولو قيل بموسى لا تنافي لم؟ لأن من آمن بموسى عليه الصلاة والسلام سيؤمن بمحمد ﷺ وبكتابه وكذلك العكس. ﴿ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ ﴾ أي القرآن ﴿ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَٰكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ أكثرهم فَسَقَة لم يؤمنوا. ﴿ لتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ﴾ لتجدن اللام موطئة للقسم مع التأكيد بنون التوكيد الثقيلة والله تجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا ﴿ لتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ﴾ هنا تبين أن اليهود وأن المشركين أعظم الناس عداوة للنبي ﷺ ولأهل الإيمان ﴿ لتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً ﴾ وهذا شامل في كل زمن من أن عداوة هؤلاء اليهود والكفار في كل زمن. ﴿ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ ﴾ أي علماء ﴿ وَرُهْبَانًا ﴾ أي عُبَّادا ﴿ وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ .﴾ فيه ماذا؟ فيه النكير على اليهود لأنهم أصحاب كبر﴿ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾ وهذا يدل على أن صاحب التواضع وأن صاحب العلم إذا كان متواضعاً فإن قلبه إلى الحق يلين ويؤتى العلم النافع ﴿ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا ﴾ بمعنى أنهم أصحاب رأفة في القلوب ورحمة، كما قال تعالى ﴿ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا ﴾ فقال هنا ﴿ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ لو قال قائل لو كان كذلك فالنصارى في مثل هذا الزمن وفي أزمان سابقة بغضهم وعداوتهم وأفعاله الشنيعة على أهل الإسلام عظمى إن لم تكن مساوية لأفعال اليهود فهي أكثر، الجواب على هذا من أن هذا ليس على وجه العموم وإنما لطائفة من النصارى أتت في زمنٍ من أزمان النبي ﷺ هل هم أصحاب النجاشي؟ على قول أو أنهم طائفة أخرى؟ المهم أنها شاملة بمعنى أن من اتصف بهذه الصفات فإنه يكون إلى مودة أهل الإسلام. لو قال قائل ﴿ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ صنيع النصارى يتعلق بالكفر بحق الله جعلوا المسيح إلها، جعلوا الله ثالث ثلاثة بينما اليهود صنيعهم إنما هو في الطعن في الرسالة، فلماذا كانت أحوال هؤلاء تختلف عن حال هؤلاء؟ فالجواب عن هذا الحديث في هذه الآيات والسياق في هذه الآيات يتعلق بمن؟ يتعلق بالعداوة لا يتعلق بعظم الكفر وإنما يتعلق بشأن العداوة والقرب من المودة. المهم هذه الطائفة أتت النبي ﷺ من النصارى وصفاتهم هذه الصفات ولما سمعوا القرآن ماذا قال عزوجل ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ﴾ وهو القرآن﴿ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ﴾ مما يدل على الإمتلاء بمعنى السيلان العظيم مما يدل على خشوعهم وعلى حبهم لهذا القرآن لما سمعوه ﴿ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ﴾ بسبب ما عرفوا من الحق، لما سمعوه ﴿ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا ﴾ تضرعوا إلى الله، دعوا الله مما يدل على سلامة قلوبهم وعلى سلامة عقيدتهم ولا يمكن أن يُفال أن هذا شامل لجميع النصارى وإنما طائفة ومن حذى حذوهم فيكون له هذا الفضل. ﴿ يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ﴾ آمنَّا وتوسلوا بالإيمان بالله بأن يكتبهم مع الشاهدين من؟ أمة محمد ﷺ لم؟ لأنهم يشهدون للرسل عليهم السلام يوم القيامة، ولأنهم شهدوا لكل رسول بالرسالة بخلاف غيرهم ﴿ فاكتبنا مع الشاهدين ﴾ ﴿ وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ﴾ أي مانع يمنعنا بعد ما سمعنا هذا القرآن؟ مما يدل على صفاء قلوبهم ﴿ وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا ﴾ طمع يعني مع ما ذكروه فهم لم يثقوا بما قالوه وبما فعلوه من الأعمال بل يرجون الله عزوجل مم يدل على أن العبد يكون بين الخوف وبين الرجاء ﴿ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا ﴾ ذكروا الرب من باب التضرع ﴿ مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ. ﴾ الذين أصلح الله عزوجل عقائدهم وقلوبهم وأعمالهم وأقوالهم وجوارحهم وقاموا بحق الله وقاموا بحق المخلوقين ﴿ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ ﴾ أي جازاهم الله ﴿ بِمَا قَالُوا ﴾ مالذي قالوه؟ ﴿ فاكتبنا مع الشاهدين ﴾ ومابعدها من آيات، ﴿ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا ﴾ قالوا قول باعتقاد ليس قولاً من غير اعتقاد كحال أهل النفاق لا، ﴿ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ ﴾ بساتين ﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ﴾ وصفهم بالإحسان الذي هو أعلى الدرجات سبحان الله والإحسان أن تحسن فيما يتعلق بدينك أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك والإحسان مع الخلق أن تعطيهم حقوقهم وأن تكف عنهم شرك، سبحان الله هذا يدل على عظيم فضل الله ماذا قالوا؟ ﴿ فاكتبنا مع الشاهدين ﴾ وأن يُدخلوا مع الصالحين فكان الثواب من الله أعظم مما طلبوه ﴿ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ﴾ بل وصفهم بالإحسان ﴿ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ﴾ ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ﴾ هؤلاء آمنوا بالآيات غيرهم ممن كفر وكذب بالآيات ﴿ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ. ﴾ أي أصحاب النار والجحيم هي النار المتقدة الشديدة الحرارة.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ سبحان الله لماذا أتت هذه الآية المتعلقة بالأطعمة وبما أباح الله عزوجل فلربما يُتصور بعد ذلكم المدح لتلك الطائفة من النصارى من أن ما صنعته النصارى مما فعلوه من الرهبانية أنه يكون محمودا فبَّيَّن أن تحريم الحلال ممنوع في شرع الله. ولذا النبي ﷺ كما ثبت عنه قال ” بُعثت بالحنيفية السمحة ” فليست هناك رهبانية في الإسلام. قال هنا ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ لاتحرموا على وجه التعبد لا تمتنع فمن حرَّم شيئاً مباحاً فقد وقع في الإثم، من ترك الشئ المباح يظن أن به الثواب فقد وقع بالإثم وهذا حال المتصوفة يتركون الطيبات ويعتقدون أن تركها يكون عبادة لله عزوجل أما من تركها من أجل حمية أو لصحة أو لعدم مناسبته وملائمة هذا الأكل له فلا حرج في ذلك بشرط أن لايكون عليه ضرر. فقال هنا ﴿ لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ ولذا النبي ﷺ كان يحب الحلو البارد ويأكل من الطيبات ومع ذلك لما أتى من أتى من الصحابة وقالوا نريد أن نتفرغ للعبادة فلا نتزوج النساء ولا نأكل اللحم ونصوم النهار ونقوم الليل فقال ﷺ ” أما أنا فأتزوج النساء وآكل اللحم وأصوم فأفطر وأقوم وأرقد فمن رغب عن سنتي فليس مني ” ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ ولذا قال شيخ الإسلام رحمه الله ” من ترك شيئاَ من المباح تعبداً لله فهو مبتدع ” ابتدع في دين الله لهذه الآية. ﴿ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ ﴾ ممنوع ومحرم الإعتداء بشتى أنواعه، لكن من بين ذلك الإعتداء بأن يحرم الطيبات تعبداً لله، أو أنه يتجاوز من الطيبات إلى المحرمات، ﴿ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ المتجاوزين ﴿ وَكُلُوا ﴾ لما نهاهم عن التحريم – تحريم الطيبات – أمرهم بالأكل من الطيبات ﴿ وَكُلُوامِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا ۚ﴾ سبحان الله ﴿ وَكُلُوا ﴾ أمر إباحة وقيل بالوجوب والصحيح أنه للإباحة، لكن إن كان الأكل يترتب عليه منفعة للبدن أو دفع ضرر عن البدن أو ربما يهلك البدن إذا لم يأكل فيكون الأكل للوجوب. ﴿ وَكُلُوامِمَّا رَزَقَكُمُ ﴾ هذا رزق الله وإذا كان من عند الله فكلوا منه ولا تتورعوا عنه ﴿ وَكُلُوامِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا ۚ﴾ يعني كلوا الحلال والطيب ﴿ وَكُلُوامِمَّا ﴾ قال مما لم يقل وكلوا مارزقكم الله للعموم والعلم عند الله ﴿ وَكُلُوامِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ﴾ أي كلوا من شتى ما رزقكم الله لكن لا تغفلوا جانب إطعام الآخرين والإسداء في الخير إلى الآخرين ﴿ وَكُلُوامِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًاۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ في جميع أحوالكم ﴿ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴾ ومن مقتضيات الإيمان أن تتقي الله ومما يزيد الإيمان أن تتقي الله ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴾ ومن تقوى الله أن تأكل الطيب من الحلال وأن لا تعتدي على حدود الله عزوجل.
وللحديث تتمة إن شاء الله وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد