التفسير المختصر الشامل تفسير سورة الأعراف من الآية (143) إلى (151) الدرس(110)

التفسير المختصر الشامل تفسير سورة الأعراف من الآية (143) إلى (151) الدرس(110)

مشاهدات: 503

تفسير سورة الأعراف

الآيات ( 143 ـ 151 )

الدرس ( 110 )

فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .

                                       أما بعد؛

فكنا قد توقفنا عند قول الله عز وجل { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } ذكر الله عز وجل هذه الآية بعد الآية السابقة قال تعالى { وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ۚ وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} ، فلما جاء موسى عليه السلام لميقات ربه وكلمه ربه كلمه عز وجل دون واسطة ، وقد تحدثنا عن ذلك مفصلا في قوله تعالى { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا }  ،وفي قوله تعالى { مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ } { وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ } لمَّا كلمه عز وجل دعا ربه وسأل ربه أن ينظر إليه { قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَانِي } ، ولن هنا عند بعض أهل اللغة لنفي التأبيد ، ومن ثمَّ استدل بهذا المعتزلة إذ قالوا إن الله عز وجل لا يُرى في الآخرة ، ومن ثمَّ فإن الرد عليهم مرَّ معنا في قوله تعالى { لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } ، وأما قول إن لن تفيد التأبيد للنفي فهذا ليس محل إجماع ، بل إن بعض العلماء يرى أنها لتأكيد النفي وليس لتأبيد النفي بدليل قوله تعالى في سورة البقرة قال { وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } مع أنهم سيتمنون ذلك { وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } ، حتى لو قيل إنها لتأبيد النفي فإن هذا التأبيد يخرج عن مقتضاه لدليل ، وقد دلّت النصوص الشرعية كما وضحنا ذلك عند قوله تعالى { لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ }  من أن المؤمنين يرون الله عز وجل في عرصات القيامة ، ويرونه في الجنة.

{ قَالَ لَن تَرَانِي } أي لن تراني في هذه الدنيا ، ورؤية الله عز وجل ممكنة في الدنيا ، لكن الله عز وجل قال لموسى { لَن تَرَانِي } باعتبار ماذا ؟ باعتبار أن جسمك وقواك لا تتحمل ذلك.

{ قَالَ لَن تَرَانِي } أي في الدنيا ، ولا ينفي أن يراه في الآخرة.

{ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ }أي ثبت { مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي }، { فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } والجبل مع عظمته حصل له ما حصل من هذا الدك ، فكيف ببني آدم ؟!

{ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا } أي جعله مدكوكا مدقوقا ، { وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا } ، وقد جاء الحديث كما ثبت عنه – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – من أنه أشار إلى خنصره ، دل هذا كما قال بعض العلماء من أنه لم يتجلى عز وجل للجبل إلا مقدار الإصبع ، فمع ذلك أصبح هذا الجبل دكا أي فتاتا.

{ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا } وما ورد من أن كل ملائكة في كل سماء نزلت لعظم ما طلبه موسى عليه السلام ، فإنه لا يُعلم له دليل صحيح من حيث السنة ، وما ورد من أن هذا الجبل دخل في قعر الأرض ولا يزال ذلك حتى يوم القيامة ، فلا نعلم دليلا صحيحا عليه ، وما ورد من أنه لما تجلى للجبل طارت ستة جبتل ثلاثة منها في المدينة وثلاثة منها في مكة ، فأيضا هذا لا يصح.

إذًا قوله عز وجل { فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا } أي سقط صعقا أي مغشيا عليه ، { وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا } بدليل أنه قال { فَلَمَّا أَفَاقَ } ، وهذا يدل على أنه أصابته غشية ، خلافا للقول الآخر الذي يقولون من أنه مات عليه السلام ، فكلمة { فَلَمَّا أَفَاقَ } تدل على أنه أصابته غشية.

{ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ } نزَّه الله عز وجل عما لا يليق به ، ، { سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ } تبت إليك موسى -عليه السلام – تاب إلى الله عز وجل مما طلبه ، { وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } وأنا أول المؤمنين باعتبار أنه أول المؤمنين من قومه ، لأن هناك أمما ولأن هناك أشخاصا سبقوه إلى الإيمان ، أو كما قيل ويدخل في ذلك أيضا { وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } أول المؤمنين من أنك لا تُرى في الدنيا بدليل أن رؤية الله عز وجل ممكنة أن موسى – عليه السلام – سألها فلو كانت مستحيلة لما سألها – عليه السلام – .

{ قَالَ يَا مُوسَىٰ } قال الله يا موسى { إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ } أي اخترتك { عَلَى النَّاسِ } أي على الناس الذين في زمنه وليس للعموم ، { بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي } قال { بِرِسَالَاتِي } لأن الرسالة تتضمن أحكاما ومواعظ ، وقد مر معنا بيان ذلك في جمع الرسالة في قصة نوح – عليه السلام – في أول هذه السورة .

{ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي } ومعلوم أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – كلمه الله عز وجل ومن ثمَّ فلعل قوله تعالى { إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي } باعتبار ماذا ؟ باعتبار أنه سابق للنبي – صلى الله عليه وآله وسلم – بهذه القضية من حيث الزمن .

قال { بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي } وهذا أيضا من باب بيان نعمة الله عز وجل على موسى ، وأيضا من باب تأنيسه ، فإنه لما مُنعت منه الرؤية ، ذكّره عز وجل بأنه أعطاه واصطفاه مما لم يعط غيره.

قال { إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ } أي من هذه الرسالة ، ومن هذه النعم ، { فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ } أي كن ممن يشكر الله عز وجل ، ولا شك أن النعم الدينية من أعظم النعم التي تستوجب شكر الله عز وجل ، قال { وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ }.

{ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا } من كل شيء موعظة وتفصيلا فالموعظة والتفصيل تبين هذا الشئ .

{ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا } ففي هذه الألواح الموعظة وفيها التفصيل لما يُحتاج إليه من الأحكام ، { مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ } فكل شيء يحتاج إليه فهو موجود في هذه الألواح ، وهل هذه الألواح سابقة للتوراة بمعنى أنه أُعطيها موسى قبل التوراة ثم بعد ذلك التوراة ، أم أن الألواح هي التوراة ؟ قولان لأهل العلم والله أعلم بالصواب ، فعلى كل حال سواء كانت هذه الألواح قبل التوراة أو كانت هي التوراة ، فهذه من أعظم النعم على موسى وعلى قومه .

{ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } فخذها أي خذ هذه الألواح بقوة أي بجد واجتهاد وبعزم ، دل هذا على أن الدين يؤخذ بقوة بمعنى أنه يأخذه الإنسان ويتمسك به حسب ما جاء به الشرع ، وليس معنى ذلك أنه يتعب نفسه ويشق على نفسه ، ولذلك النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – كما ثبت عنه قال إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ، وقال – صلى الله عليه وآله وسلم – كما ثبت عنه ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ، فالمقصود من ذلك أن الإنسان يأخذ هذه الأحكام بقوة حسب ماجاء به الشرع.

{ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } وهذا أيضا يتضمن ماذا ؟ يتضمن أن الإنسان فيما يتعلق بالعلم الشرعي يأخذه بقوة ، وليحرص عليه ، وليغتنم الوقت ، وليبحث عن كل ما يُشكل عليه من مسائل .

قال { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ۚ } لما أمره بذلك دل هذا على ماذا ؟ دل هذا على أن من يأمر بالمعروف أو يعلم العلم الشرعي ، فإنه يتعين عليه هذا الأمر ، ولا ينحصرفي من هو مدعوا ولذلك حتى الأنبياء لما قال عز وجل { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } أمره بأن يأمر قومه بأن يأخذوها بقوة .

{ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ۚ } أحسن هنا ليس على باب التفضيل كما قال بعض العلماء ، وإنما لحسنها لأن كل ما فيها من أحكام إنما هو حسن ، وقال بعض العلماء بأحسنها بمعنى أن يأخذ ما هو أكثر ثوابا ، كأن يقتص مثلا ممن ظلمه فإن العفو أفضل له من الاقتصاص ، وهكذا في سائر ما يكون مما فيه التفاوت بين هذا الأمر وهذا الأمر من حيث الثواب فيأخذوا بالأفضل .

{ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ۚ سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } سأريكم دار الفاسقين أي سأريكم دار من فسق وعاقبة من فسق ، وهذا يدخل فيه ما قاله العلماء { سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } ممن سبق كديار عاد وثمود ، أو ديار أهل فرعون في مصر ، أو { سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } أي النار وذلك دار الفاسقين يوم القيامة { سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } .

{ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } من تكبر في الأرض ، وقال { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } لأن التكبر قد يكون بحق قد يكون بحق ، هنا يمكن أن يقال بغير الحق باعتبار ماذا ؟ باعتبار أن التكبر لا يمكن أن يكون إلا بغير حق ، ويمكن أن يقال أن التقييد هنا كما جاءت به شريعتنا من أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – كما ثبت عنه قال ( إن من الخيلاء ما يحبه الله ويبغضه ، وإن مما يحبه الله من الخيلاء اختيال الرجل عند الصدقة ، واختياله عند الحرب ) ، بمعنى أنه إذا اختال عند الصدقة ليس تكبرا على الفقير ، وإنما ينفق نفقة من حاله كحال من حيث الصورة حال من يكون متصدقا من أجل الخيلاء ، ولكن في صدقته يريد وجه الله ، واختياله عند الحرب حتى يعلم الكفار من أنه غير مبال به .

{ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ } دل هذا على أن التكبر عن آيات الله وعن شرع الله سبيل إلى أن يصرف الله عز وجل الهداية عمن تكبر .

{ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا } لو أتتهم الآيات المتنوعة من الوعيد أو من الترغيب ، فإنهم لا يؤمنون بها ، { وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا } حتى لو رأوا المعجزات ، فإنهم لا يؤمنون بها .

{ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا } إن يروا طريق الهدى وطريق الخير ، فإنهم لا يتخذونه طريقا لهم ، { وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ } أي الضلال { يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا } سبب ذلك ، ذلك سبب الصرف صرف هؤلاء .

{ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ } فدل هذا على ماذا ؟ على أن من الكبر؛ التكذيب بآيات الله ، وأيضا الغفلة وهي الإعراض عن دين الحق قال عز وجل هنا { ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ } .

{ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ } لما ذكر ما يتعلق بهؤلاء مما ذكره عز وجل  من سبب انصراف هؤلاء ، بيَّن هنا عاقبة هؤلاء في الدنيا وفي الآخرة .

{ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } أي بطلت أعمالهم .

{ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ۚ هَلْ يُجْزَوْنَ } حبطت أعمالهم بطلت في الدنيا وفي الآخرة .

{ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } ومر معنا في سورة البقرة بيان حبوط العمل الذي يكون في الدنيا ويكون في الآخرة في قوله تعالى { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } .

قال { هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } هل هنا الاستفهام للنفي أي ما يجزون إلا ما كانوا يعملون فلا ظلم عليهم .

{ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ } أي من بعد ذهاب موسى عليه السلام لأنه لما تجاوز البحر وعده الله عز وجل أن يعطيه التوراة ، فبلغ من ؟ بلغ موسى عليه السلام بني إسرائيل ، فذهب لميقات ربه عز وجل ، فهنا ماذا صنعت بنو إسرائيل ؟ عبدت من بعده العجل .

{ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ } من حليهم وهذه الحلي هي زينة القوم ، ولذا قال بعض العلماء قالوا إنهم استعاروها من نساء آل فرعون ، فهي ليست ملكهم ، وإنما أضيفت لهم باعتبار أن الإضافة تصح لأدنى ملابسة ، فبما أن هؤلاء تمكنوا منها فكأنهم ملكوها من حيث الصورة وإن لم يكونوا مالكين لها ، مع العلم أن حال هؤلاء بني إسرائيل أنهم ملكوها ما ذكره عز وجل { وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} يعني تلك النعم التي في مصر كلها أُورثها من ؟ بنو إسرائيل ومن ذلك هذه الحلي ، ولذا عائشة رضي الله عنها استعارت قلادة من أسماء ومع ذلك في بعض الأحاديث نُسبت إليها كأنها مالكة لها ، فقال هنا { مِنْ حُلِيِّهِمْ } ، ولعل قول العلماء من أنها عارية من نساء بني إسرائيل لما في قوله عز وجل من حيث الظاهر في سورة طه قال عز وجل { وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَىٰ (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَىٰ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)} ، قال هنا { وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ } مع أنه في هذه الآية التي معنا هم جميعا اتخذوا العجل مع أن السامري هو الذي فعل ذلك لكنه أُضيف إليهم باعتبار أنهم طاوعوه قال { وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا ۚ أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا } هنا قال { وَلَٰكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا } قالوا { مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَٰلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ } .

{ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ } قال هنا جسد ، وقال هنا خوار يعني له صوت ، ومن ثَمَّ قال بعض العلماء أنه لما جمعوا هذه الحلي وصنع ما صنع السامري لما ألقى ما ألقى مما معه كما سيأتي في سورة طه قال هنا { وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ }  هذا العجل هل صار جسدا حقيقيا له لحم ودم كما في ظاهر هذه الآية أو أنه بقي على ما كان عليه من حيث الأصل وعي الزينة من الذهب ولكنه أجوف إذا أتت الريح أصدر صونتا كصوت البقر ؟ ولذا مر معنا في قوله تعالى { وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ } ، وهنا { وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ } أي جعلوه إلها لهم ، وقال بعض العلماء إنما هو بقي على حالته ، ومن ثَمَّ فالعلم عند الله ، ويمكن أن يقال من أنه من حيث الأصل بقي على حاله الأساسي ، ولذا قال عز وجل في شأن ذلكم الرجل السامري { وَانظُرْ إِلَىٰ إِلَٰهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا ۖ لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا } التحريق يكون لمن ؟ يكون لمن له لحم وعظم قال { لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا } ، فربما أن يكون هذا أيضا يكون دليلا لمن قالوا بأنه تحول إلى لحم وعظم ، ويمكن أن يقال بأن دليل أولئك من أن الأصل هو بقاء ذلك على هذا الأمر ، المهم أنها محنة حلت ببني إسرائيل .

{ لَّهُ خُوَارٌ ۚ أَلَمْ يَرَوْا } هذا استفهام إنكاري وتوبيخ لهؤلاء { أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ } كيف يكون إلها وهو لا يكلمهم ، { أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا } ، { أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ } دل هذا على أن الإله يتكلم خلافا امن نفى صفة الكلام عن الله عز وجل { أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ } دل هذا على أن الخرص صفة نقص والكلام صفة كمال ، ولذا قال إبراهيم عليه السلام كما قال عز وجل { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا (٤٢) } ، وهنا ماذا فال عز وجل ؟ { أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا } ولذا قال عز وجل فقال هنا {  اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ } بسبب ما أتوا به من هذا الظلم فهم ظلمة لأن أعظم الظلم هو الشرك بالله كما قال عز وجل عن لقمان { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } .

{ اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ } أي ندموا لأن هذه الكلمة تدل على الندم { وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ } لأنه يُقال سقط في يديه ساقط أي من علو إلى نزول ولذلك قال هنا { وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ } لأن الإنسان إذا ندم فإن الشئ يظهر في يده ولذا قال عز وجل { يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا } .

{ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا } أي هذا الضلال { قَالُوا لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا } قدموا الرحمة باعتبار ماذا ؟ باعتبار أنهم يتوسلون إلى الله عز وجل برحمته أن لا يعاقبهم { قَالُوا لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا } أي ما صدر منا { لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وهذا يدل على ماذا ؟ يدل على أن من لم يغفر الله ومن لم يرحمه فإنه من الخاسرين .

وتأمل سبحان الله في هذه السورة في أولها في قصة آدم مع حواء { قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } ، نوح عليه السلام { قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ۖ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ } فقال هنا عن هؤلاء { وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } .

{ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ } دل هذا من حيث الظاهر من أنهم ندموا قبل أن يأتي من ؟ قبل أن يأتي وأن يرجع إليهم موسى ، وليس هذا المقصود ، وإنما ندموا بعد مجئ موسى عليه السلام بدليل ماذا ؟ بدليل أن هارون لما نصحهم كما في سورة طه { قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّىٰ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىٰ } لكن والعلم عند الله لماذا قُدمت هنا ؟ والعلم عند الله لعلها قُدمت من باب ماذا ؟ من باب أن الإنسان لا يكون عجلا ولا يأتيه الشيطان فيصرفه عن الحق الذي هو عليه إلى طريق الباطل فإنه على الحق ، ومن كان على الحق فإنه يثبت ثباتا قويا ويستعين بالله عز وجل ويفعل السبب ، ولذا قال هنا مبينا أنهم ندموا باعتبار أن من تحول عن الحق إلى الضلال ، فإن مآله إلى الندم .

ولذا قال هنا بعدها { وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا } أي غضب موسى عليه السلام لما أخبره عزوجل ، لأنه في سورة طه قال  { وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَىٰ (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَىٰ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا } .

قال هنا { وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا } الأسف هنا هو شدة الغضب كما قال تعالى { فَلَمَّا آسَفُونَا } أي أغضبونا { انتَقَمْنَا مِنْهُمْ } ، وقال بعض العلماء هو الحزن كما جاء في الحديث إن أبا بكر رجل أسيف يعني أنه صاحب دمعة وحزين ، كما جاء في الحديث من أن أبا بكر رضي الله عنه قيل أنه رجل أسيف من أنه رجل بكاء أي حزين ، ومن ثَمَّ فإن هذا القول لا يتعارض مع القول الآخر لأنه غضب بسبب الحزن فهو حزين ومن غضب فهو حزين .

{ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي } في سورة طه { قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا } وهو المجئ بالتوراة { أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ } أي طال عليكم الزمن في غيابي { أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي } فذكروا السبب { قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَٰكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَٰلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَٰذَا إِلَٰهُكُمْ وَإِلَٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ }.

فقال هنا { بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي } بئس هنا تدل على الذم بل هي أداة ذم أي بئس خلافة خلفتموها من بعدي .

{ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي ۖ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ } أي أسبقتم أمر ربكم الذي وعدكم بهذه التوراة حتى سولت لكم أنفسكم بأن تتخذوا هذا العجل إلها .

{ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ۖ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ } وإلقاؤه عليه السلام للألواح من شدة الغضب ، وما ورد من حديث طويل من أنه رأى في الألواح من أن أمة تكون أناجيلها في صدورهم فقال من هؤلاء يا رب ؟ فقال هم أمة محمد ، ورأى فيها أن هناك أمة تقاتل المسيح الدجال فقال من هؤلاء ؟ قال أمة محمد … حديث طويل حتى في نهاية الأمر ألقى عليه السلام بالألواح  ، وقال اللهم اجعلني من أمة محمد ، لكن هذا أثر لا يصح .

وإنما إلقاؤه للألواح من شدة الغضب ، ولم يكن من باب التهاون أو من باب التحقير لهذه الألواح ، حاشا موسى عليه السلام أن يفعل ذلك ، وإنما من شدة الغضب .

{ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ } ومن ثَمَّ أخذت الصوفية أو أخذ بعضهم من أنهم إذا رقصوا من أنهم ياقون ثيابهم إذا اشتد بهم ما يشتد من الطرب ، أو أنهم يلقونها بعد ما يخرقونها ، فهذا ولا شك من الضلال ، لأنهم يستدلون بصنيعهم بصنيع موسى عليه السلام ، ثم إن ما يقدمون عليه من حيث الأصل وهو الغناء والرقص محرم ، فكيف يأتي الإنسان إلى عمل أو إلى شيء مع أنه محرم يغيب به عقله ؟ ومن ثَمَّ فإنه لا دليل لهؤلاء على هذا الأمر كما نبه على ذلك القرطبي رحمه الله في التفسير .

{ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ } وهنا هل ذكر أن هذه الألواح ذكر أصلها من أنها من زبرجد أو من شيء معين ؟ ذكر بعض المفسرين هذه الأشياء ولا أعلم دليلا صحيحا على ماهية هذه الألواح .

وأما ما يتعلق بعدد هذه الألواح فإن بعض المفسرين قال إنه لا دليل على ذلك ، ولكن جاء في السنن من أن الألواح كما أخبر صلى الله عليه وآله وسلم كما ثبت عنه من أن الألواح كانت ستا، فلما ألقى موسى الألواح رُفعت اثنتان وبقي أربع، فدل هذا على أن عددها ستة ألواح .

وهل تكسرت هذه الألواح لما ألقاها أم لا ؟ قال بعض العلماء لم يحصل منها تكسير ، ومن ثَمَّ فإن الآية ليس بها ما يدل على أنها تكسرت ، لكن مما يُقوي قول هؤلاء من أنه قال عز وجل {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ } لما أخذها { وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ } دل على أنها لم تتكسر ، ولكن جاء في مسند الإمام أحمد كما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال ليس الخبر كالمعاينة – بعض الناس يطنه مثلا هذا حديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم – ليس الخبر كالمعاينة إن موسى عليه السلام لما أخبره الله بأن قومه عبدوا العجل لم يلقي الألواح ، فلما رآهم ألقى الألواح ، قال فلما ألقاها تكسرت ، فدل هذا على أن الحديث ورد من أنها تكسرت ، وكونه أخذها عليه السلام لا يعني أن هذا التكسر يكون تكسرا لجميعها بحيث لا يبقى منها شئ مما ذكره عز وجل من أن في نسختها أي فيما كُتب فيها هدى ورحمة.

قال { وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ } من شدة الغضب، { وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ } ، وفي سورة طه { قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي } .

{ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ } يظن أنه قد تهاون معهم .

{ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ۚ قَالَ } أي هارون { قَالَ ابْنَ أُمَّ } يستلطفه { قَالَ ابْنَ أُمَّ }.

{ قَالَ ابْنَ أُمَّ } أي يعني ابن أمي هذه لغة في كلمة أم فيما يحصل في مثل هذا اللفظ ، ومن ثَمَّ فإن أصلها كما قال بعض العلماء أماه فحُذفت الهاء وحُذف الألف ومن ثَمَّ عُوِّض عن الألف بماذا ؟ بالفتحة ، وبعضهم قال إنما هي ألف وعُوِّض عن الألف بفتحة .

{ قَالَ ابْنَ أُمَّ } ومعلوم كما قال كثير من المفسرين من أن موسى هو أخ لهارون من حيث الأم ومن حيث الأب ، مع أن بعض المفسرين قال هو أخوه من أمه فقط باعتبار ما ذكر هنا ، لكن الأكثر يقولون هو أخوه لأمه وأبيه ، وإنما ذكر الأم من باب الاستعطاف والترقق معه لأنه يجتمع مع أمه .

{ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي } أي من أنهم استهانوا بي واستضعفوني ، { وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي } فدل هذا على أن بني إسرائيل كادوا أن يقتلوا من ؟ هارون عليه السلام .

{ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ } { فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ } أي لا تجعلني شماتة عند الأعداء ، فإن الأعداء يفرحون بهذه الأمور ، { فَلَا تُشْمِتْ بِيَ } ولذلك قدم بي على الأعداء ، فلم يقل فلا تشمت الأعداء بي .

{ فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ } من باب التلطف والترقق معه.

{ فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } الذين صنعوا هذا الصنيع ، وهذا يدل على ماذا ؟ يدل على أن هارون عليه السلام كما زعم من زعم من أنه هو الذي صنع لهم العجل فهذا ضلال مبين ، وينفيه ما جاء في سورة طه من أن السامري فعل ذلك ، ولا يدل أيضا على أن هارون رضي بذلك وأنه جلس معهم مع أنهم أشركوا بالله عز وجل ، لكن هو حفظ وصية من ؟ وصية أخيه لما قال { اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} ، في سورة طه { مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ ۖ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي ۖ إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } ، { وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } ، قال هنا { فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } .

{ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي } قال موسى داعيا الله عز وجل { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي } ، ونص على أخيه حتى يرد شماتة الأعداء ، وحتى يبين لهم من أن هارون عليه السلام ليس كحال هؤلاء .

وهذا أيضا من السنن النبوية المحمدية كما أنها سنة كما دل عليها هذا الدليل من أن موسى عليه السلام قدم نفسه في الدعاء على الغير ، كما كان يصنع صلى الله عليه وآله وسلم يبدأ بنفسه ثم للآخرين بالدعاء ، وكما صنع نوح عليه السلام { رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ } .

فقال هنا { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ ۖ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } أي لنكن ممن رحمتهم .

{ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } وذلك لأن المخلوق يرحم لكن رحمته نسبية نسبية ومؤقتة ليست رحمة كمال ، ولذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما ثبت عنه قال ( الراحمون يرحمهم الرحمن ) ، وقال كما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم ( من لا يرحم لا يُرحم ) إلى غير ذلك من الأحاديث { وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } .