﷽
[ تفسير سورة الكهف ]
من الآية(83) إلى آخر السورة
الدرس (167)
لفضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين أما بعد..
فكنا قد توقفنا عند قول الله –عز وجل-: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ}[83] النبي ﷺ سئل عن ذي القرنين، وسمي بذي القرنين على الصحيح لأنه: بلغ قرني الشمس من حيث المشرق ومن حيث المغرب، هذا أرجح ما قيل في تسميته.
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا﴾ (83)
وذو القرنين: رجلٌ صالح على الصحيح من أقوال العلماء وليس بنبي،
وأما ما يُذكَرُ عمن كان تلميذا لأرسطو الفلسفي من أنه كان يلقب بذي القرنين فليس هذا هو المقصود، بل إن المذكور هنا هو عبدٌ من عباد الله –عز وجل-الصالحين.
{قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} أمر الله –عز وجل-ﷺ أن يقول لهم: { سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} أي بعضَ ما ذكره الله –عز وجل- لي مما فيه التذكرة والموعظة.
﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا(85)﴾
فمكن الله –عز وجل- له في الأرض {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} أعطاه الله –عز وجل-من الأسباب التي لا يعلم بها إلا الله –عز وجل- ولم يرد حديث صحيح فيما نعلم في تحديد تلك الأسباب، لكنَّ تلك الأسباب أسباب عظيمة تمكن بها بفضل من الله –عز وجل- تمكن بها ذو القرنين من أن يتمكن في الأرض، ومن أن يصل إلى مغرب الشمس ومشرق الشمس وما شابه ذلك مما ذكره الله –عز وجل-عنه.
{وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} فهو السبب الذي يتوصل به إلى ما يريده {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} بمعنى أنه بتلك الأسباب سار طريقًا إلى مغرب الشمس.
﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا﴾ (86)
﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ}: يعني من أقصى الأرض من جهة الغرب، {وَجَدَهَا} يعني: الشمس من حيث النظر، فالشمس لا تغرب في تلك العين، ولكن كما يرى الناظر إذا غربت فإنها تغرب إما في ماء، أو في البحر، أو فيما شابه ذلك من حيثُ نظر الرائي.
{تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} أي في عين ذات طين أسود {ووجدَ عِنْدَهَا قَوْمًا} يعني عند مغرب الشمس.
{قلنا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} إما أن تعذب من تشاء أن تعذبه، وإما أن تُحسن إليه ومن عدله قال الله –عز وجل-عنه فيما قال عنه، قال: {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا} فإنه يعذب في هذه الدنيا وسوف يرد إلى الله إذ يصل إلى العذاب العظيم المنكر الفظيع وهو النار قال: ﴿قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (86 وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى (87)}
أي سنجازيه بأحسن الجزاء، {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)﴾ فسنيسر عليه الأمور ولا نضيق عليه.
﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا﴾(89) أي سار طريقًا متجهًا إلى أقصى الأرض من حيث جهة المشرق.
﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا﴾ (90)
بمعنى أنه ليس لهم ساترٌ من بيوت أو ما شابه ذلك تسترهم عن هذه الشمس فقال –عز وجل-: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا}
﴿كَذَلِكَ}: أي الأمر كذلك كما بلغ مغرب الشمس بلغ مشرق الشمس، وكما حَكَم فيما يتعلق بمن هم عند مغرب الشمس كذلك الشأن فيما يتعلق بهؤلاء عند مشرق الشمس.
﴿كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92)﴾
{كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} مع ذلك كله مع ما أعطي من تلك الأسباب إلا والله –عز وجل- قد أحاط به علمًا واطلاعًا، فهو –عز وجل- لا يخفى عليه شيء من أمر هذا الرجل.
{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92)﴾: أي صار طريقًا بين المشرق والمغرب.
﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا﴾ (93)
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} بلغ بين السدين أي: بين الجبلين وسمي الجبل سدًا لأنه يسد الطريق الذي يسير فيه الناس، {وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا} يعني من ورائهما.
{قوما لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} أي لا يفهمون ذلك القول، ومن ثَم فإنه كلمهم وأخبرهم بما ذكره –عز وجل-كما قال بعض العلماء: من باب الترجمة، وذلك بأن فهموا حديثه وفهِمَ حديثهم فقال هنا:
﴿قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا﴾ (94)
{قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} ويأجوج ومأجوج قبيلتان، وهما من بني آدم وكما بين النبي ﷺ في أحاديثَ كثيرة: أن خروجهما من علامات الساعة من العلامات الكبرى للساعة،
فقال –عز وجل-هنا: {مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} فهؤلاء يشكون من فساد يأجوج ومأجوج،
{فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} يعني خراجًا ومالًا وعطية،
{عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} أي: ما يكون حاجزًا بيننا وبينهم، وذلك لما رأوه من تلك الأسباب التي أعطاها الله –عز وجل-لذي القرنين فعرضوا عليه المال.
﴿قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا﴾ (95)
{قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} أي خير مما تعطونني من هذا الخَراج والله –عز وجل- أنعم علي وسأقوم بهذا الأمر من غير مال، وهذا يدل على أن من أعطاه الله –عز وجل- خيرًا ولاسيما فيما يتعلق بالعلم عليه أن يبذل هذا العلم وعليه ألا يبخل به ولا يأخذ على هذا العلم شيئًا
{قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} أي هو خير مما تعطونني من هذا المال.
{فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} يعني أريد منكم الإعانة بقوة وبجد وبعزم على أن نجعل سدًا بيننا وبينكم {رَدْمًا} أي سدًا والشيء الردم الذي يكون بعضُه فوق بعض.
﴿آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا﴾ (96)
{آتُونِي} يعني أعطوني {زُبَرَ الْحَدِيدِ} يعني قطع الحديد.
{حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} يعني بين الجبلين، وسمي بالصدفين لأن: كل منهما يصادف الآخر.
فقال: {قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا} بمعنى أن تلك القطع من الحديد أصبحت من شدة إيقاد النار عليها كأنها نار { قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} وهو النحاس أو الرصاص المذاب وذلك حتى يتماسك.
﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾ (97)
{فَمَا اسْطَاعُوا} يعني يأجوج ومأجوج {أَنْ يَظْهَرُوهُ} بمعنى أن يصعدوا عليه وذلك لارتفاعه ولشدة نعومته {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} يعني ما استطاعوا من قوته أن ينقبوا حتى يخرجوا واختلف الكلام هنا:
{فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} لأن نقبَه أشد من الصعود ولذلك أتي بالتاء هنا فيما يتعلق بالنقب، {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} وهذا كما مر معنا
{ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا } [الكهف:82]
وليُعلم أنه -عز وجل- ذكر قصة ذي القرنين لأن الأمر يتعلق بالجهاد في سبيل الله، ذكرها بعد رحلة موسى عليه السلام في طلب العلم ودل هذا على أن طلب العلم من الجهاد في سبيل الله، بل هو أعظم الجهادَين فلما ذكر النوع الأعظم وهو طلب العلم الذي هو نوع من أنواع الجهاد بل أعظم نوعَي الجهاد، ذكر الجهاد المتعلق باليد في قصة ذي القرنين.
﴿قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا﴾ (98)
هذا أي ما صُنِعَ من هذا الجبل ومن هذا السد أثر من آثار رحمة الله –عز وجل-إ ذ وفقني الله –عز وجل-إلى ذلك، {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ} أي جعله مدكوكًا، إذا جاء وعد الله –عز وجل-فإنه يكون مدكوكًا {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} فما وعد الله –عز وجل-به فإنه حق ولابد أن يكون.
﴿وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا﴾ (99)
{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ} الضمير يعود إلى من؟ قيل: إنه يعود إلى يأجوج ومأجوج من أنهم لما جعل ذو القرنين هذا السد ماج بعضُهم مع بعض من أجل أن يصعدوا هذا السد أو أن ينقبوه، يعني في تلك الحال في زمن ذي القرنين هذا قول لبعض العلماء ويستدلون على ذلك بقول النبي ﷺ كما في الصحيحين قال: «ويلٌ للعربِ مِن شرٍّ قدِ اقترَب، فُتِح اليومَ مِن رَدْمِ يأجوجَ ومأجوجَ مثلُ هذه، وَحَلَّق بإصبَعَيْه».
وقال بعض العلماء: بل إن السياق يدل على أن يأجوج ومأجوج من أنهم يموج بعضهم في بعض إذا جعله الله عز وجل هذا الجبل عند قرب قيام الساعة، إذا جعله دكًا، فخرجوا من ذلك المكان وإذا بهم يأتون إلى الأرض فيفسدون فيها ويشربون المياه كما بين –عز وجل-هنا في هذه الآية لما ذكر ما يتعلق بجعل هذا السد مدكوكًا.
كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ}[96] هذا يدل كدلالة على أن ذلك يكون قبل قيام الساعة، قلت: وما يؤيد ذلك ما جاء في صحيح مسلم من أن الله –عز وجل-يقول لعيسى إذا نزل من السماء قال: ” حرّز عبادي إلى الطور يعني إلى الجبل فإني أخرجت قومًا لا قوة للناس بهم وهم يأجوج ومأجوج” فدل هذا على ماذا؟ على أن خروجهم يكون قبل قيام الساعة.
أما حديثُ النبي ﷺ «فُتِح اليومَ مِن رَدْمِ يأجوجَ ومأجوجَ مثلُ هذه» لا يدل على وقوع ذلك في مثل هذا الزمن، ولذا النبي ﷺ ماذا قال؟ «بُعِثْتُ أنا والسَّاعةُ كهاتَيْنِ» ومع ذلك كانت هناك مهلة فدل هذا على أنهم يخرجون فيعيثون في الأرض الفساد،
وقال بعض العلماء إن قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ}[الكهف:99] بمعنى أن الخلق كلهم في قيام الساعة إذا قامت الساعة يموج يعني يدخل بعضهم في بعض كموج البحار إذا تداخل بعضُها مع بعض، فيُحشر الناس كلهم من الجن ومن الإنس.
فدل هذا على: أنه لا مانع من أن يكون سياق الآية من أنه عائد إلى يأجوج ومأجوج عند قرب قيام الساعة إذا خرجوا فعاثوا في الأرض الفساد،
وأيضًا لا مانع من أن يدخل القول الآخر: من أن الناس في يوم القيامة يموج بعضهم في بعض ﴿وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} وإذا كان الضمير على ذلك يعود إلى يأجوج ومأجوج دل هذا على كثرتهم، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بأن عددهم كثير.
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} وهي النفخة الثانية {فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} جمع اللهُ –عز وجل-الأولين والآخرين كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ }[الواقعة: 49-50]
وكما قال تعالى: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ}[المرسلات: 38] إلى غير ذلك من هذه الآيات.
﴿وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)﴾
{وَعَر َضْنَا} يعني أظهرنا وأبرزنا {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} فهي تبرُزُ وتظهر لهم من باب تخويفهم ولذا قال ﷺ كما ثبت عند مسلم: «يُجاءُ بجهنَّمَ تُقادُ بسبعينَ ألفَ زمامٍ مع كلِّ زمامٍ سبعونَ ألفَ مَلَكٍ يجرُّونَها».
{الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي} يعني في سترٍ وفي حائل {عَنْ ذِكْرِي} من القرآن ومن شرع الله –عز وجل- في هذه الدنيا كانوا غافلين
{وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} وذلك لبعدهم عن سماع الحق ولكرههم لسماع الحق.
﴿أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا﴾ (102)
أفحسب هؤلاء الكفار أن يجعلوا عبادي {عبادي} الإضافة هنا إضافة تشريف من أن يجعلوا الأنبياء والأولياء الصالحين يجعلونهم أندادًا لي، فيظنون إنني لا أعذبهم بهذا!؟ الجواب: لا، سيعذبهم الله –عز وجل-
وأيضًا يتضمن ما قاله بعض العلماء: أن هؤلاء الأولياء الصالحين لا يمكن أن يشفعوا لهؤلاء كما زعموا إلا إذا أذِنَ الله –عز وجل-بالشفاعة ورضي عن المشفوع له.
{إِنَّا أَعْتَدْنَا } أي هيأنا {جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا} والنزل هو الذي يعد للضيف أول ما يعد في قدومه وهذا من باب التهكم بهؤلاء، وأيضًا يصدق على النزل المنزل وهو المكان فجهنم لهم نُزُل وهي منزلهم ومأواهم.
﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)﴾
{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} من هم أخسر الناس من حيث الأعمال.
{الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}أي غاب سعيهم وذلك لأنهم سعوا سعيًا لا يرضي الله –عز وجل-ولذا قال –عز وجل-: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}[الإسراء: 19] بخلاف هؤلاء.
{وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} يظنون بأنهم بهذه الأعمال القبيحة في الدنيا أنهم يحسنون صنعًا وهذا كما يكون للكفار أيضًا يشمل كما أدخل ذلك بعض العلماء أدخلوا أهل البدع كالخوارج الذين يظنون في هذه الدنيا أنهم يحسنون صنعًا.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا(106)﴾
{كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ}: بالآيات التي أتى بها الله –عز وجل-وأرسل بها الرسل وتشمل الآيات الشرعية وتشمل المعجزات. {وَلِقَائِهِ} يعني في يوم القيامة.
{فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} {فَحَبِطَتْ} أي: هلَكَت وضاعت أعمالهم فأصبحت هباء منثورًا إذا كانوا عملوا أعمالًا في صورتها كأنها حسنات {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]،
{ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} وذلك في يوم القيامة توزن الأعمال ويوزن الناس وتوزن الصحائف، لكن هؤلاء لا توزن لهم الأعمال لأنه لا أعمالَ صالحة لهم
{ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ}أي ما مضى {جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا}يعني بسبب أنهم كفروا بآيات الله واستهزأوا برسل الله –عز وجل-وبآيات الله –عز وجل-كان هذا العقابُ عقابَهم {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا} هذا هو الأول.
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا(108)﴾
لما ذكر –عز وجل-هذا الصنف الخبيث ذكر الصنف الطيب وهم أهل الإيمان
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا}
{ نُزُلًا} والنزل هو الشيء الذي يعد للإنسان أول قدومه، وأيضًا هي منزلهم ومأواهم ولذلك النبي ﷺ كما ثبت في الصحيح قال عليه الصلاة والسلام: ” فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ ؛ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ – وفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ”.
{خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا(108)﴾
فقال –عز وجل-{لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} لا يطلبون التحول عنها من مكان إلى آخر، وذلك لأن الإنسان في الدنيا قد يكون في منزل ولكنه بعد حين من الزمن يرغب أن ينتقل منه إلى غيره، لكن هذه لما بها من النعيم العظيم فإنهم لا يبغون عنها حولاً، لا يطلبون التحول منها إلى مكان آخر.
﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾ (109)
كلمات الله عز وجل وكلماته صفة من صفاته عز وجل وهي غير مخلوقة، فكلمات الله عز وجل عظيمة لا مُنتهى لها، فلو أن البحر بمعنى أن ماء البحر صار مدادًا بمعنى كالحبر الذي يكون للأقلام على أن تكتب تلك الأقلام بذلك الماء ماء البحر كما يُكتب في القِدَم من الحبر من أن هذا الماء سيزول وسينتهي والأقلام كلُّها تتكسر.
ولذا قال عز وجل هنا: {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ} أي ببحر آخر وليس ببحر آخر فقط أي ببحر آخر وآخَر وآخَر فإن تلك المياه تزول والأشجار تزول، ولذا نظير هذه الآية:
{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ}[لقمان: 27] لأن كلمات الله عز وجل صفة من صفاته بينما مياه البحار، بينما الأقلام والأشجار هي مخلوقة.
فقال –عز وجل-هنا: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} ومن كلمات الله –عز وجل- هذا القرآن فالقرآن كلام الله –عز وجل- منزل غير مخلوق ومن ثَم فإن الإنسان لو تمعن وتأمل وتدبر هذا القرآن طيلةَ حياته وكان عنده من الفَهْم ما عنده فإنه لا يستطيع أن يحوي ما جاء في هذا القرآن من المعاني العظيمة فسبحان الله العظيم.
﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾(110)
يعني يا محمد قل لهؤلاء الذين عارضوه: إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون وآكل كما تأكلون، ولكن خصصني الله عز وجل بخصيصة وهي: الوحي {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِد} فإلهكم إله واحد ولا يجوز أن تشركوا مع الله عز وجل أحدًا.
{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} فمن كان يرجو ويؤمل أن يلقى الله عز وجل اللقاء الحسن الطيب لأن لقاء الله –عز وجل-على نوعين:
لقيا عامة لجميع الخلق المؤمن والكافر كما قال –عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق: 6]
وهناك لقيا خاصة بالتشريف وهي لأهل الإيمان كما ذكر هنا {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} ولذا في الآيات السابقات ماذا قال –عز وجل-عن أهل النار؟
{أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}[105]
﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾(110)
أما هنا فماذا قال –عز وجل-؟ {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} والعمل الصالح لا يكون صالحاً إلا إن كان مخلصًا لله عز وجل في هذا العمل وأن يكون هذا العمل على وفق سنة النبي ﷺ وختم الآية بقوله: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} لا ملكًا مقربًا، ولا نبيًا مرسلًا، وسبحان الله قال هنا: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا}
والعمل الصالح يتضمن الإخلاص والمتابعة للنبي ﷺ، لكن: لماذا أتى هنا بالنهي عن الشرك بالله عز وجل؟
لأن الإنسان في مثل هذا الزمن وفي أزمان أخرى سابقة من أنه قد يعمل العمل الصالح ابتغاء وجه الله ويكون على سنة رسول الله ﷺ، فعباداته مخلصًا بها لله وأيضًا هو في تلك العبادة كالصلاة مثلا يكون متابعًا للنبي ﷺ لكن لو ذهب إلى أهل القبور فدعاهم واستغاث بهم وما شابه ذلك، فإن هذا شرك لا ينفع معه ذلك العمل الذي تضمن الإخلاص وتضمن المتابعة.
{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾(110)
ومن ثَم انتهى التفسير لهذه السورة الكريمة وهي سورة الكهف.