تفسير سورة الفرقان من الآية ( 45 ) إلى ( آخر السورة ) الدرس (190)

تفسير سورة الفرقان من الآية ( 45 ) إلى ( آخر السورة ) الدرس (190)

مشاهدات: 575

[ تفسير سورة الفرقان]

من الآية: 45 إلى آخر السورة- الدرس (190)

لفضيلة الشيخ/ زيد بن مسفر البحري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)﴾

﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} انظر، تأمل إلى عظمة الله عز وجل، فيها دلائل لهؤلاء أن يؤمنوا بالله الذي هو صاحب القدرة العظيمة، وهذا من دلائل عظمته فهو الذي يستحق العبودية وحده {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} انظر إلى ربك كيف مد هذا الظل الذي يكون من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس

{وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} يعني مستمرًا باقيًا على حاله، لكن للمصلحة التي ينتفع بها العباد

  {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} فوجود الشمس بها منفعة للعباد كما أن وجود هذا الظل به منفعة للعباد، لو استمرت الشمس أو استمر الظل، فإن الناس يكونون في مشقة {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} لولا الله ثم هذه الشمس ما عُرِفَ الظل، كيف عُرِفَ الظل؟ لما طلعت الشمس.

{ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} يعني أن هذا الظل يتقلص شيئًا فشيئًا كلما طلعت الشمس وازداد طلوعها، كلما نقص الظل على تؤدة، يدل هذا على أن المدبر لهذا هو الإله العظيم الذي يستحق العبودية.

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ} أيضًا هذه آية وعبرة على عظم الله عز وجل

 {لِبَاسًا} مثل اللباس يستركم حينما تأوون إلى بيوتكم بعد أن تعِبتم في النهار

{وَالنَّوْمَ سُبَاتًا} السبات يعني القطع، يعني أن النوم به قطع لكم عن تلك المشاغل والمتاعب، فحينها إذا نمتم تستيقظون بصحة وبنشاط.

 {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} يعني تفترقون وتنتشرون فيه لمصالحكم، سبحان الله، لماذا ذكر هذه؟

ذكرها -والعلم عند الله- لأن النوم يكون بالليل وفاة صغرى ثم يحييهم الله عز وجل، فتذكروا أن من هو قادر على هذا الأمر هو قادر على أن يُحييكَم وأن يبعثكم يوم القيامة بعد وفاتكم، ولذا قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى} [الأنعام: 60]، وقال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر: 42]

فقال هنا: { وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} يعني قُدَّام رحمته، الرحمة هنا المطر {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} هو طَهور من حيث نفسه وأيضًا يُطَهِّر غيرَه، فدل هذا على أن المياه النازلة من السماء هي طهور، فيجوز شربه ويجوز الوضوء به

 فقال عز وجل هنا: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا}، {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5]، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39]

{وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا} من بهيمة الأنعام {وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} يعني الإنس، وقدَّم الأنعام هنا لأن بقاء الأنعام وإحياء الأرض فيه بقاءٌ بإذن الله للإنس

 {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} ما هو؟ المطر {لِيَذَّكَّرُوا}

ولذلك قال بعض المفسرين: ليس هناك مطر عام أكثر من مطر عام آخر هو واحد، ولكن يُصَرِّفُه عز وجل فيعطي هؤلاء ويمنع هؤلاء على حسب تقديره عز وجل

وهذا أصح من قول من يقول: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} يعني: القرآن {لِيَذَّكَّرُوا} ولا شك أن القرآن هو حياةٌ للقلوب كما أن الماء حياة للأرض.

{فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} لأنهم نسبوا نزول المطر إلى النجوم والكواكب كما قال ﷺ في الصحيحين قال: “قال الله عز وجل: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي فمن قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته فهذا مؤمن بي كافر بالكواكب، ومن قال مطرنا بنوئك يعني بنجم كذا فهذا مؤمن بالكواكب كافر بي”.

﴿وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا(52)﴾

{وَلَوْ شِئْنَا} يا محمد {لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا} يعني في وقتك لبعثنا في كل قرية نذيرا كحال الأمم السابقة، لكن بعثناك لجميع القرى لعموم الناس: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]، من أجل أن يعظم أجرك يا محمد

 {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} مما يقولونه عنك وعن القرآن {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} أي بالقرآن {جِهَادًا كَبِيرًا} ودل هذا على أن أعظم نوعَي الجهاد، الجهاد بالعلم.

﴿وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا(54)﴾

﴿وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} دلائل على عظمة الله عز وجل {مَرَجَ} يعني أرسل البحرين كما قال عز وجل {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 19-20]، لا يطغَى أحدُهما على الآخَر { هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} عذب: ذو عذوبة، فرات: يعني شديد العذوبة، بمعنى أنه يفري العطش، بمعنى أن مَن شَرِبَه يزول عنه عطشه للذته، وهذا يكون في الغالب في مياه الأنهار

 {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} شديد الملوحة، ومع ذلك يلتقي هذا بهذا فلا يتغير طعمُ هذا بطعمِ هذا ولا يختلط هذا بهذا {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} يعني حاجزًا {وَحِجْرًا مَحْجُورًا} أي مانعًا يمنع أحدَهما أن يُكَدِّرَ أوصاف الآخَر؛ أليست هذه دلائل على عِظَمِ الله عز وجل؟! بلى فأين عقولكم!

 {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ} من النطفة {بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} يعني جعله ذا نسب وذا صهر بمعنى أنه يُنَسب من فلان إلى فلان وفلان، يتزوج فيكون له الأصهار أقاربُ الزوجة وما شابه هؤلاء، سبحان الله، كلُّ ذلك من ماذا؟  كل ذلك من ماء مهين من نطفة

{وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} على كل شيء ومنه هذا الأمر

 {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} أليس هو القادر على أن يحييكم مرة أخرى؟! بلى والله.

 

﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} (55

مع تلك الدلائل العظيمة والبراهين الساطعة على توحيد الله عز وجل {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ} ما لا ينفعهم لو عبدوه وهو لا يضرهم لو تركوا عبادَتَه، إنما الذي ينفع ويضر هو الله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام: 17].

{وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} عَلَى رَبِّهِ: يدل هذا على أن الكافر لقُبح حاله وسوء مآله فإنه يكون عونًا للشيطان على عصيان ربه باقتراف الذنوب، {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} يعني: يعاون الشيطان في ذلك كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم: 83]، وكما قال تعالى: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف: 202]، وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27].

 

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا }(57)

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا} لمن أطاعك بالجنة {وَنَذِيرًا} أي محذرًا لمن عصاك بالنار

 { قُلْ} يا محمد لهؤلاء {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أنا لا أسالكم على ذلك أي أجر

 {إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} من شاء أن ينفق من ماله في سبيل الله وفي طاعة الله فهذا يدَّخِره له، وقال بعض المفسرين: – ويكون هذا الاستثناء استثناء منقطعًا – يعني: {إلا} يعني (لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلًا) وهذا يصدق على أهل الإيمان لأن من تصدق بالأجر وهو كافر فلا يُقبل عمله {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]

 ويصح أن يكون – كما قال بعض المفسرين- أن يكون الاستثناء متصلًا

{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ} يعني: أجري فقط الذي أريده منكم أن تتخذوا إلى الله طريقًا بالإيمان بي وبهذا القرآن؛ ولا شك أن هذا يعد أجرًا للنبي ﷺ أجر أخروي ليس أجرا دنيوي، لأن النبي ﷺ قال كما عند مسلم: “من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا”.

 

{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} (58)

{وَتَوَكَّلْ} يا محمد، وهذا أيضًا خطاب للجميع لكل مؤمن {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ } لكمال حياته، هو الحي القيوم وقال مؤكدًا { الَّذِي لا يَمُوتُ} أي كل حي مآله إلى الفناء إلا الله:

 {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: 26-27]،

{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]

وتأمل هنا: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} دل هذا على أن التوكل لا يجوز إلا على الله، لمَ؟ لأنه لا يموت، أما المخلوق من يتوكل على المخلوق ولو كان حيًا فمآله إلى الموت، فلا يُتَوَكَّل على حيٍّ مآله إلى الموت

 {وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} نزِّه الله عز وجل واحمد الله لما له من الصفات العظيمة والأسماء الحسنى {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} عليك أن تنزه الله وأن تحمد الله، وأما ذنوب هؤلاء فالله خبير بها وعالم بما دَقَّ منها وما خفي، وسيحاسبهم الله عز وجل، صفاتُهُ عز وجل:

{الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا(59)﴾

{الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ}، {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ}[غافر:57]

 {وَمَا بَيْنَهُمَا} من أجرام وهواء، {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ومر معنا ذلك مفصلًا في سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54]، وذكر هنا: {وَمَا بَيْنَهُمَا} دل على أن ما بينهما خُلِقَ مع السماوات والأرض في ستة أيام

 {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} استواءً يليق بجلاله وعظمته

{الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} هم ينكرون الرحمن {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ هُمْ كَافِرُونَ} [الأنبياء]

فقال عز وجل: {الرَّحْمَنُ} يعني هو الرحمن {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} فاسأل به: وعن أوصافه وعن أفعاله السابقة {خبيرا} من هو الخبير؟ الله عز وجل،

 فالله عز وجل مدح نفسَه {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا}

 

﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} (60)

{قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} أنكروه { أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} هل نسجد لهذا الرحمن الذي تأمرنا بالسجود له ونحن لا نعرفه! ونحن ننكره! أعوذ بالله من الطغيان

 حالُهم؟ {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} زادهم بُعدًا عن الحق

 

{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)﴾

{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} ذُكِرَ {تبارك} ثلاث مرات في أول السورة وفي ثناياها وفي آخرها {الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} يعني تأملوا في السماء جعل فيها بروجًا، ما هي البروج؟ هي القصور والمنازل العالية كما قال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78]، والبروج هنا هي: النجومُ التي لها منازل كالبروج، عِلمُها عند ربي، فهي تَحِل في منازل ولذلك قال تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ}[يس: 39]، {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1]، فقال هنا:

{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا}: النجوم.

{وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا} الشمس {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} [النبأ: 13]

 {وَقَمَرًا مُنِيرًا} لأن القمر يستمد نورَه من الشمس، لأن القمر ممحو ليس به نور فهو يستمد نوره من الشمس، ولذلك قال: {سِرَاجًا وَهَّاجًا} [النبأ: 13]، هنا قال: {وَقَمَرًا مُنِيرًا}.

 

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)﴾

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} تأملوا وتدبروا حتى تؤمنوا بالله يا كفار قريش

 {خِلْفَةً} يعني يخلُف أحدُهما الآخر {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} [الأعراف: 54]

 وأيضًا {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} يعني أن من ترك شيئا من عبادة مِن حِزبٍ أو ما شابه ذلك، فهنا يأتي هذا محل هذا، يستدركُ الإنسان العمل الذي فاته، فقال هنا:

{لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} لمن أراد أن يتعظ فيعلم أن الله عز وجل هو الذي يستحق العبودية

 {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} يعني يزداد عبادة، ولذلك النبي ﷺ تتفطر قدماه من طول القيام فتقول له عائشة رضي الله عنها كما في الصحيح: “يا رسول الله قد غُفِرَ لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال: {أفلا أكون عبدًا شكورًا}”؛ {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} ولذلك قال تعالى في أواخر سورة آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ -الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 190-191] الآيات التي ذكَرَت أوصاف هؤلاء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا(67)﴾

﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ}: يعني بعد ذكر أولئك السابقون الذين كفروا، هناك صِنفٌ طيِّبٌ وهم:

﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} وتأمل قال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} إضافة تقتضي التشريف وأضافهم إلى الرحمن من باب أن أولئك أنكروا الرحمن، هؤلاء أثبتوا اسم {الرحمن} لله عز وجل.

 {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} هذه صفاتُهم:

ستأتي صفات كثيرة لهم، والذي لهم -جزاؤهم- في آخر السورة: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} عباد الرحمن التي هذه صفاتُهم، في الأخير هو (الخبر) {عِبَاد}: مبتدأ، الخبر:

 {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا}

﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ}: هذه أوصاف مُعتَرِضَة بين المبتدأ وبين الخبر

 

{الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا}، هونًا: بتواضع وبمشي كمشيٍ النبي ﷺ كأنما ينحط من صبب، ليس مشي به خُيَلاء أو مشي به عجز وكسل، لا؛ وليست سرعةً عظيمة، لا؛

 وإنما هو مشي بالقَصد، ولذلك في الحديث عند ابن عساكر الحديث الحسن:

 “من رأى النبي ﷺ يمشي مِشيةَ من ليس بعاجزٍ ولا كسلان”

{الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا}: إذًا أقدامهم هذه حالُها

 ألسنتهم؟ {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} قالوا قولًا يسلمون به من جهل هؤلاء؛

 وقد قال بعض المفسرين: أنه يقول كلمة (سلامًا) مباشرة {قَالُوا سَلامًا}

 فعلى كلِّ حال يقولُ قولًا يسلمُ به من مجادلة هؤلاء الجُهَّال، فإن وقتَ العاقل يحرص عليه ولا يضيعه مع هؤلاء الجهال

 {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ} بالليل لربهم لله عز وجل لا لغيره {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9].

{سُجَّدًا وَقِيَامًا} قدم السجود على القيام، ولذلك قال بعض العلماء: السجود أفضل من القيام لأنه قدمه هنا، وقال بعض المفسرين: القيام أفضل من السجود لأن النبي ﷺ قال:

 ” أفضل الصلاة طول القنوت”، قال شيخ الإسلام رحمه الله: القيام أفضل باعتبار الذكر الذي فيه وهو القرآن، والسجود أفضل باعتبار حالته وهيأته على الذل لله عز وجل أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد كما عند مسلم.

 { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا} مع هذه الأعمال الطيبة يخشون الله ويخشون نارَه

 {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} يعني ملازمًا

 {إِنَّهَا} يعني جهنم {سَاءَتْ} هذا ذم لها ولمستقرها {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا} أي قرار

{وَمُقَامًا} يعني إقامة، فهي سيئة الاستقرار والإقامة بخلاف ما ذكره عز وجل عن أهل الإيمان في ثنايا السورة {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا}.

 

{وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} يعني لم يبخلوا {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} يعني اعتدال ولذلك قال عز وجل: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29]، ولكن لو قال قائل: أبو بكر رضي الله عنه أنفق مالَه كله؟!

 فالجواب عن هذا: أن أبا بكر رضي الله عنه كما ثبت عنه أنفق ماله كله لعظم توكله على الله، ولأنه لم يبقَ في بيته بل مباشرة ذهب واكتسب، فمن حاله كحال أبي بكر رضي الله عنه من حيث قوة التوكل ومن حيث إنه اكتسب فلا إشكال في ذلك، مع أن الأفضل أن الإنسان إذا أنفق ينفق باعتدال.

 

﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا(71)﴾

{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} يحمون أنفسهم من قتل النفس، إلا النفس التي قتْلُها بحق: كالمُفارِق للجماعة، ومن عليه قِصاص وما شابه ذلك. {وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} مما مضى من الكفر بالله ومن قتل النفس والزنا

 {يَلْقَ أَثَامًا} ما هو هذا الأثام؟ مبين بعده لأنه بدل كل من كل:

 {يَلْقَ أَثَامًا} تلك آثام ويلقاها ويلقى مصيرها، ما هو؟

{يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} يعني على هوان وذل

 {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}

{يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} قال بعض المفسرين: من أنهم يوفقون إلى أعمالًا صالحة فتمحو تلك السيئات كما قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 115]،

وقال قومٌ آخرون: – وهو الأقرب – من أن من تاب تلك السيئات مهما عظمت تتبدل إلى حسنات، كما جاءت بذلك الأحاديث عن النبي ﷺ ويقوي بعضها بعضا

{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} لمن تقرب إليه وتاب إليه.

 {وَمَنْ تَابَ} من أي ذنب {وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} بمعنى أنه مرجعه ومصيره إلى الله وسيحاسبه الله، وأيضًا لتكن توبته خالصة لله عز وجل ففيها الأمر

 {فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} يعني يتب إلى الله توبة نصوحًا، فإن مرجعه ومرده إلى الله عز وجل كما قال عز وجل: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30].

 

﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا(74)﴾

{وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} يعني لا يحضرون الزور، الزور: هو كل أمر يخالف دين الله، وأعظم الزور الشرك بالله والبدع وما شابه ذلك كما قال تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30].

{ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} قال تعالى في أول سورة المؤمنون:

 {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3]، هنا قال: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ} هم لم يقصدوا اللغو ولكن مروا عليه هكذا مصادفة {مَرُّوا كِرَامًا} بمعنى: أنهم يكرّمون أنفسهم من أن يحضروا هذا اللغو الذي لا طائلَ ولا فائدةَ من ورائه.

 {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} هؤلاء إذا ذُكِّروا بآيات ربهم وبما أنزله الله عز وجل ليس كحال أولئك الكفار {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} ليس كحال أولئك الذين يَصمُّون أسماعهم وأعينهم عن الحق؛ هؤلاء لا، من حين ما تتلى عليهم آيات القرآن ويُذَكَّرون فإنهم يُقبِلون بإقبالٍ تام بأسماعهم لينتفعوا وبأبصارهم،

ولذلك قال هنا مُبينًا أن هؤلاء مقبلون، ولذلك أتى بكلمة الخرور، والخرور من العلو إلى السجود، يدل على السهولة مما يدل على أنهم انقادوا للحق وإلى سماع الحق.

 

{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} {من} هنا ليست للتبعيض، للجنس، يعني: أي زوج من أزواجنا أو أي ذرية من ذرياتنا أجعلها قرة أعين

 {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} تقر بها الأعين، قال المفسرون: قرارُ عينِ الوالدَين أن يروا أزواجَهم وأن يروا أولادَهم أنهم صالحون متقون لله، فبهذا تقر الأعين وهذا شيءٌ مشاهد وواقع في الحس.

ولا مانع من دخول أيضًا من أن الولد أيضًا إذا كان به مع صلاحه في دينه مع صلاحٌ في دنياه من حيث ما يكون في أحواله الدنيوية أيضًا هذا خيرٌ على خير

 {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} انتبه {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} يعني: اجعلنا أئمة يقتدي بنا ليس الناس، بل المتقون يقتدون بنا، وهذا يدل على أنهم أرادوا المنزلةَ العالية، وهذا أصح من قول من يقول: واجعلنا ممن يهتدي بالأئمة فهذا من المقلوب، لكنَّ الصحيح: أن الآية على ظاهرِها، دعوا الله أن يكون المتقون يقتدون بهم فإذا اقتدى المتقون بهم إذًا هم في أنفسهم وفي ذواتهم أعظم تُقى،

 

{وعباد الرحمن} تلك الصفات جزاؤهم هو الخبر: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} المنزلة العالية في الجنة: {لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [الزمر: 20]، {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} بسبب ماذا؟ {بِمَا صَبَرُوا}، {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون: 111]، {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان: 12]،

 

{وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا} كما قال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب: 44]، التحية قال بعض المفسرين هي: السلام {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب: 44]،

فيُسَلِّمُ اللهُ عليهم، وتُسَلِّمُ عليهم الملائكة، ويُسلم بعضهم على بعض، ومر ذلك مفصلًا.

وقد قال بعض المفسرين: التحية هنا تطلق أيضًا على المُلك العظيم، يعني معهم مع السلام المُلك العظيم، يعني لهم مُلك عظيم وسَلِموا من الآفاتِ والأحزان والهموم في الآخرة، ولهم السلام من رب العالمين

 {خَالِدِينَ فِيهَا} أي في هذه الغرفة وفي الجنات {حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}، {حَسُنَتْ} ثناء على أهل الجنة وعلى استقرارهم، بخلاف أهل النار: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}

 { قُلْ} يا محمد لهؤلاء {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي} يعني ما يكترث ولا يبالي بكم

{لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} يعني أنتم أيها الناس لولا دعاؤكم، يعني لولا عبادتكم لله عز وجل ما اكترث بكم {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} فرجع الخطاب إلى الكفار فقط {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} يا أيها الكفار {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} العذاب يكون ملازمًا لكم.

{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا}

{غَرَامًا} يعني: من أنه ملازم، كما يكون الإنسان به غرام ومحبة لحبيبٍ أو ما شابه ذلك

 فقال هنا: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} يعني لازمًا لكم هذا العذاب في يوم القيامة،

 وأدخل بعض المفسرين: العذاب الذي أصابهم في غزوة بدر فقُتِلَ صناديدهم.

ويحتمل: – لأن الآية فيها أقوال كثيرة- ويحتمل أن السياق كله للكفار

{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} يعني في الضراء فلما نجاكم {كَذَّبْتُمْ} فمآلكم من العذاب {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65]

 فدل هذا على أنه لا كرامة لأحد إلا بتقوى الله وبعبادته {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]

 

 وبهذا ينتهي تفسير سورة الفرقان.