تفسير سورة الشعراء من الآية ( 1 ) إلى ( 68 ) الدرس (191 )

تفسير سورة الشعراء من الآية ( 1 ) إلى ( 68 ) الدرس (191 )

مشاهدات: 512

تفسير سورة الشعراء

من الآية (1) إلى الآية (68) الدرس (191)

لفضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورة الشعراء مكية

قال الله عز وجل: ﴿طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)

قال الله عز وجل: {طسم} هذه من الحروف المقطعة وبيناها في أول سورة البقرة.

 {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} القرآن {الْمُبِينِ} يعني الذي هو واضح في نفسه بين في نفسه وما فيه من الحق، ووضح الحق {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} مأخوذٌ من الفعل (بان) لأنه ظاهر فيه الحق؛ ومأخوذ من الفعل (أبان) يعني أظهر الحق.

{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)}

 {لَعَلَّكَ} يا محمد {بَاخِعٌ نَفْسَكَ} لعلك تُهلك نفسَك {أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} {لعل} هل هي للترجي أو للإشفاق؟ قال بعض المفسرين: للإشفاق، يعني أُشفِقَ على النبي ﷺ من أن يُهلك نفسه، لكن الأقرب أن كلمة (لعل) هنا للنهي لأن الله قال في آيات كثيرة {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8]

 {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ} يعني مهلك.

{إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)}

 {إِنْ نَشَأْ } يعني لو شئنا { نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً} مما اقترحوها من عصا موسى أو ما شابه ذلك، {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ} العنق { لَهَا خَاضِعِينَ} وقال بعض المفسرين {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ} يعني:

 أن الرؤساء مع شدة ما بهم من الكفر والطغيان لأنهم يُسَمَّون “أعناقًا” في اللغة العربية،

 وأيضًا الجماعة تسمى بـ “الأعناق” يعني: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ} هي الحقيقية وظل أيضًا رؤساؤهم وزعماؤهم، وأيضًا جماعاتُهم كلُّها بسبب هذه الآية خاضعين، لكنَّ الله عز وجل لم يشأ ذلك.

{وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5)}

{وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ} مر معنا في أول سورة الأنبياء: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ}[الأنبياء: 1-2]، سبحان الله {مُحْدَثٍ} مر معنا من أنه يتجدد نزولُه وليس معنى أنه مخلوق القرآن منزل غير مخلوق ووضحنا ذلك في اول سورة الأنبياء، لكن هنا قال: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ} في أول الأنبياء {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ}[الأنبياء: 2]، لأن السياق في سورة الأنبياء للتهديد، هنا في سورة الشعراء: بيان لوصف القرآن فالقرآن نزل من الرحمن فهو رحمة لهم لكنهم أعرضوا

{وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5)}

{فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ(6)﴾

 { فَقَدْ كَذَّبُوا} يعني أن هؤلاء كذبوا بالقرآن {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ} وهذا للتهديد {أَنْبَاءُ} يعني خبر

{مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}

 

﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)}

{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ} لما ذكر ما يتعلق بالآيات الشرعية الذي هو القرآن فكفروا به، فلم يتأملوه فقال تأملوا في الآيات الكونية انظروا إلى الأرض {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ} فيها دلائل وعبر على عظم الله عز وجل {كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} يعني نزل المطر فأنبت اللهُ فيها من كل صنف من أصناف النباتات حتى إن بعض النباتات فيها ذكر وأنثى، {كَرِيمٍ} يعني أنها ذات منظر بهيج حسن أكرمها الله عز وجل فكانت بهذه الصورة.

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(9)﴾

 {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} فيما مضى أية وعبرة لهم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} فلا تحزن عليهم يا محمد {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ – وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} العزيز الذي سينصرك وسيهلك من كفر بك، الرحيم الذي رحِمَك وأنزل عليك هذا القرآن.

 

﴿وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ(15)﴾

هنا ذكر لقصة موسى عليه السلام وفيها تسلية للنبي ﷺ {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} يعني: واذكر يا محمد وقت مناداة الله عز وجل لموسى وهذا يدل على أن الله عز وجل يتكلم بأحد نوعَي الكلام وهو النداء {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} ما هو هذا النداء؟ {أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} مَن؟

{قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ} ألا يتق فرعون ومع معه!

 {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} هي أن يكذبوني بالياء ياء المتكلم لكنها حذفت لأن سياق الآيات بالنون {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} من أجل أن يكون نبيًا، ولذلك قال تعالى {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي}[الشرح: 25-30]

{وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} لأنه لما دخل المدينة واستغاث به ذلك الإسرائيلي على القِبطي، ضربه موسى عليه السلام من باب أن يدفعه فكانت هي القاتلة له -كما سيأتي في سورة القَصص بإذن الله تعالى- {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} وهو لم يعترض عليه السلام، وإنما أراد أن يبين له حاله حتى يعينه الله عز وجل ويستجيب دعاءه.

{قَالَ كَلَّا} يعني لا تخَفْ ولا تحزن {فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} مَعَكُمْ: وهما هارون وموسى إما لتعظيم موسى وهارون فأتى بالجمع، أو مستمعون لما تقولونه وما يَرُدُّ به عليكم فرعون وملؤه.

 

﴿فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ(22)﴾

{فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أتى بالإفراد رسول لأنه يصلح للمفرد وللجمع أو

{إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فهما اثنان لكن الرسالة واحدة، فباعتبار أنهما أتيا برسالة واحدة قال عز وجل عن هؤلاء: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}

{أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} أرسلهم من هذا العذاب، حتى يتخلصوا من هذا العذاب وحتى يهاجروا معي لنخرج من مصر {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} يعني كنت من الصغر عندنا وليدًا فنشأت

 {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} لما أتت امرأة فرعون فقالت: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ}[القصص: 9]، {وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} نشأت عندنا وأصبحت شابًا {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} مِن قَتْل ذلك القبطي {وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} يعني من الكافرين لنعمتي، كيف تقتل ذلك القبطي وأيضًا تأتي بما يخالف دينَنا قال موسى {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} يعني قبل أن يُوحَى إلي قال تعالى:

 {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى}[الضحى: 7]، عن النبي ﷺ {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ}[الشورى:52]، {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} وأيضًا مع أنه لم يُبعَث إليّ أنا ما أردت قَتْلَه، فيكون معنى الضالين يعني: المخطئين، لأنني أردت أن أُنَحِّيَهُ عنه فكانت القاضية، وكان رجل طويلًا كما قال ﷺ “كأنه من أزد شنوءة” يعني: كان ذا جسم مليء عليه السلام.

 {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} لما أتى ذلك الرجل {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ}[القصص: 20]، فيقول خرجت من مصر خوفًا منكم {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا} أعطاني الله عز وجل الحكم والنبوة، فليس هذا ببعيد يا فرعون أن آتيَ إليك كرسول من رب العالمين

{فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا}: يعني الحكم، العلم مع الحكمة مع العمل {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ}

 

{وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} يقول موسى له

 وقد قال بعض المفسرين: إن الآية للتقرير، يعني يُقِر موسى يقول: هي نعمة منك عليّ لكن انظر إلى فِعلَتِكَ مع بني إسرائيل ماذا صنعت بهم؟

ولكنَّ الأظهر: أن هنا استفهام للإنكار {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} يعني: أتلك تراها نعمة علي؟! ليست نعمة، لأنك صنعت ما صنعت في بني إسرائيل من القتل ومن الاستبعاد وما شابه ذلك مما جعل أمي أن تجعلني في التابوت حتى أنجوَ من الذبح، فصرت إلى ما صرت إليه وكل هذا بسببك فليس لك نعمة عليّ أبدًا، ليست نعمة.

 

﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)}

لما أتى موسى عليه السلام إلى فرعون وبين له أنه رسول رب العالمين {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} استفهام منه للاستبعاد وللإنكار، فهو إنكار لأن الله عز وجل قال:

 {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}[النمل: 14]،

قال له موسى: {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} من هواء وأجرام

 {إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} إن كنتم أصحاب علم لتمام ويقين لا شبهة معه، فإن من تفكر وتأمل في السموات والأرض فإن ذلك يؤدي به إلى اليقين، ولذا ماذا قال تعالى؟

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]

{قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ}

فمن أراد أن يزداد يقينه، فليتأمل في مخلوقات الله عز وجل من السموات والأرض.

 

{قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)}

{قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ} قال فرعون لمن حولَه { أَلا تَسْتَمِعُونَ} لما يقوله موسى، فأتى موسى عليه السلام بحجة قوية تدحضُ ما قاله {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} وليس الرب هو فرعون، ليس ربًّا لكم وليس ربًّا لآبائكم {قَالَ} يعني فرعون {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} وأضاف الرسول إليهم يعني ليس برسول لي، وإنما هو رسول لكم حتى يحث فرعون هؤلاء على أن يعارضوه وهذا هو شأن أعداء الرسل.

 

{قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)}

{قَالَ} يعني موسى {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} فإن من نظر إلى خروج وطلوع الشمس وإلى غروبها فلا يستطيع أحدٌ أن يفعل ذلك إلا الله، هذا يدل على أن من تأمل ذلك عقَل فعلم بأن الله هو الذي يُسَيِّرُ ذلك، ولذا إبراهيم عليه السلام قال في حق ذلك الرجل:

 {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة: 258]، موضع الشاهد:

 {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258]

 

{قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)}

 {قَالَ} يعني فرعون {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} لم يقل (لأسجُنَنَّك) قال:

{مِنَ الْمَسْجُونِينَ} دل هذا على أن فرعون عُرِف بأن لديه سجنًا قد اشتُهِرَ بشدته وبعظمته حتى ذكر بعض المفسرين: – إن صح ما ذكروه- أنه يهوي بالإنسان إلى هُوَّةٍ في الأرض حتى لا يرى ولا يُبصر في تلك الحفرة.

المهم قال: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} دل على أنه عنده سجون عظيمة.

 

{قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30)} {قَالَ} يعني موسى له، {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} يعني واضح على صدقي؛ يعني ستسجنني ولو جئتك بآية؟

 

{قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)}

{قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ} وأتى بكلمة {إن} التي تدل على الشك من باب إدخال الشك فيما يقوله يعني نحن لن نصدقك، لكن على افتراض ما تقوله {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} بيِّن أنه ثعبان وليس بسحر وهو عظيم كما بيَّنَ عز وجل ذلك في سورة الشعراء قال:

 {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 30-31]

{وَنَزَعَ يَدَهُ} يعني أخرج يده من جيبه كما ذكر الله عز وجل ذلك في سورة النمل:

 {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [النمل: 12]، {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} ذات بياض مشرق مع أن موسى عليه السلام أسمر لكن هذه دلالة ولذلك قال: {بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [النمل: 12]

{مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} يعني من غير برص وآفة.

 

{قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35)

 {قَالَ} يعني فرعون {لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} يعني صاحب علم، ولذلك قال تعالى عن هؤلاء {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} [الزخرف: 49]،

 وفي سورة الأعراف: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 109]

 دل هذا على أن فرعون قال هذا الكلام ثم تبعه هؤلاء وقد فصلنا ذلك أكثر وأكثر في سورة الأعراف.

 

 فقال الله عز وجل عنه: {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ} و(الملأ) كما مر معنا هم: الحاشية الذين يملؤون أعين الناس لكثرتهم ولعظمهم {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}

 {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} أي بمَ تشيرون عليّ؟

 سبحان الله! الذي يزعم بأنه هو الرب الأعلى وأنه هو الإله إذا به يستشير قومه فأين الربوبية وأين الألوهية؟! من باب أن يستعطفَهم بحيث لا يميلون إلى موسى، فقال الله عز وجل عنه:

{قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35)

 

{قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ(37)﴾

 {قَالُوا أَرْجِه وَأَخَاهُ} يعني أخِّرهُ وأخاه ولا تعجل عليه

 {وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ} في سورة الأعراف {وأرسل} وهذا من باب تنوع الأساليب، ولله في كتابه وفي آياته أسرار عظيمة.

 {وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ} مدائن مِصر {حَاشِرِينَ} حاشر يعني من يحشر لك السحرة.

 {يَأْتُوكَ} لم يقل (يأتونك) أنه جواب الأمر مجزوم بحذف النون

 {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} (سحَّار) صيغة مبالغة وصفوه بأنه (عليم)؛ بعض أهل العلم قال:

 إن كلمة (سحَّار) ليست مبالغة وإنما كلمة عليم تدل على أنها مبالغة يعني أنهم منسوبون إلى السحر حتى يتوافق مع قوله تعالى في سورة الأعراف {سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [الأعراف: ]، لكن الذي يظهر لي:

 أنه أراد أن يجمع كل السحرة، والمبالغة في السحر يعني من يتقنهم درجات، فأرادوا أن يجمعوا له كل من له علم عظيم بالسحر ولو تفاوتت درجاتهم.

 

﴿فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40)}

{فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} ما هو؟ يوم الزينة كما مر ذكره في سورة طه ومتى ذلك الوقت؟ ضحى {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه: 59]

{وَقِيلَ لِلنَّاسِ} من باب حث الناس على أن يحضروا {هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ} من باب التأييد لهؤلاء السحرة {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} يعني هم يقولون نحن سنتبع السحرة لأن الغلبة لهم هذا بناء على أنهم قالوا: {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ} يقصدون سحرة فرعون، وقال بعض المفسرين:

 {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ} يعني هارون وموسى، من باب التهكم بموسى وهارون:

{لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ}

 

{فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ(45)﴾

{فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} يعني ألنا أجر دنيوي من مال ومن ثروة؟ {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ} وأكد ذلك {إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} مع مالكم من المال لكم المكانة والمنصب العالي والقرب من عندي.

 {قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} لم يقل موسى هذا ابتداءً لأنهم عرضوا على موسى قالوا:

 {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} [الأعراف: 115]، هنا {قَالَ لَهُمْ مُوسَى} بعد أن قالوا إما أن تلقى وإما أن نكون أول من ألقى {قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} أيُّ شيء تلقونه من سِحركم ولذلك لم يبالي بهم أي سحر تلقونه {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ} وكانوا قد وضعوا فيها الزئبق كما قال المفسرون من أجل أن تتحرك {وَقَالُوا} يعني السحرة {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ} الباء هنا للاستعانة أو للقسم يستعينون ويقسمون بعزة فرعون من أن الغلبة لهم {إِنَّا} وأكدوا ذلك: { إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ} أي تبتلع {مَا يَأْفِكُونَ} ما يأتون به من الإفك هو الكذب والافتراء، وأعظمُه السحر ولذلك ماذا قال تعالى؟ {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69].

{فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} في سورة الأعراف ماذا قال عز وجل؟ لما ألقوا:

 {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف: 116-119]، وفي سورة طه لما ألقوا: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى – قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى }

 

﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)}

فقال الله عز وجل هنا {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ}

{قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} فهو رب العالمين وليس أنت يا فرعون، ولذلك أكدوا ذلك:

 {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} ؛ { قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} { قَالَ}: يعني فرعون {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} يعني قبل أن أعطيكم الإذن.

 {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} وقد كذَب لأنهم لم يلتقوا أصلا بموسى وهارون من قبل، ولذلك قال عز وجل عنه في سورة الأعراف: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 123]، قال هنا {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} في هذه السورة أتى باللام {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} هنا أتى بالقسم يعني أقسم بأنهم سوف يعلمون مغبّةَ إيمانهم {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} ولذلك قال بعدها {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ} يعني ليس من جانب واحد وإنما اليد اليمنى والرجل اليسرى، وقد مر معنا تفصيل أكثر في قضية قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.

 {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} يعني لن أدع أحدًا {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} في الآية الأخرى:

 {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]، وهل نفَّذَ ما قاله أو لا؟ مر معنا من كلام المفسرين الخلاف والذي يظهر في قوله تعالى: {وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: 35]، من أن الله نجاهم منه -هذا الذي يظهر- وهم اتبعوا موسى وهارون فكانت الغلبة لهم، فهذا هو الذي يظهر من خلال هذه الآية.

 

{قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ(52)﴾

 {قَالُوا لا ضَيْرَ} لا ضرر علينا فإن المَرَد سنموت بفِعلِكَ أو بفعل غيرك يعني بأي سبب

 {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} يعني نحن راجعون إلى الله عز وجل، ولذلك قال عز وجل عنهم في سورة الأعراف {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: 126]، وفي سورة طه قالوا: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه: 72-73].

 

فقال هنا: {قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ(52)﴾

إنا نطمع نرجو من الله {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} هم يتوسلون إلى الله عز وجل لكونهم من أول المؤمنين أن يغفر لهم خطاياهم، تلك الخطايا مع السحر {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه: 73].

 

﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)}

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} يعني بعد ذلك كما مر معنا في سورة يونس من أنه لم يخرج موسى مباشرة، وإنما جلس وأمرهم الله عز وجل أن يتخذوا بيوتهم قبلة كما قال تعالى:

 {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [يونس: 87]، فقال عز وجل هنا بعد أن جلسوا مدة معينة في مصر، بعد أن تسلط فرعون عليهم {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} الإسراء بالليل، ولذلك في آية أخرى (ليلا) فقال عز وجل {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ} (أن) هنا تفسيرية لأنها بعد كلمة الوحي التي تدل على معنى القول وليس على حروفه.

 {إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} سيتبعكم فرعون {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ} دل هذا على أن موسى خرج فعلم به فرعون

{فِي الْمَدَائِنِ} مدائن مصر {حَاشِرِينَ} يعني يحشرون له الجنود، وأما العدد الذي ذكره بعضُ المفسرين فلا نعلم دليلًا صحيحًا في تعيين العدد الذي كان مع فرعون.

المهم {إِنَّ هَؤُلاءِ} يعني: يقول لهم {إِنَّ هَؤُلاءِ}  يعني موسى ومن معه {لَشِرْذِمَةٌ} يعني طائفة ووصفهم بالشرذمة، الشرذمة هو الشيءُ المَهين، تقول: “هذا ثوبٌ شِرذام” يعني: أنه بالٍ ومتقطع، يعني من باب تقليل شأنهم {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ}

 {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} يعني قد أتوا بما يغيظنا وجمعهم معه، لأنه هو الذي يغيظه هذا الأمر، يعني كأنه يقول اثبتوا على عقيدتكم فقد أتى موسى بما يغيظنا، {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} يعني نحن متيقظون لما أتى به موسى ومن معه.

 

{فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ(59)﴾

{فَأَخْرَجْنَاهُمْ} سبحان الله {مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} مِنْ جَنَّاتٍ: بساتين وعيون، حيث مصر الأنهار، نهر النيل والأشجار ولذلك كان يتبجح فرعون: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف: 51]

{فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ(59)﴾

{وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} {وَكُنُوزٍ} أموال طائلة {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} مقام كريم وهو حسن المقام في أرض مصر فهي أرض طيبة وأرض بها الأشجار والخيرات.

 {كَذَلِكَ} يعني كما فعل هؤلاء وأخرجناهم {وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} بعض المفسرين يقول:

 أصلا لم يُعرَف أن بني إسرائيل لما خرجوا أنهم عادوا إلى مصر، فيقولون أورثهم الله عز وجل ما يماثل ما في مصر، لكن السياق يدل على ماذا؟ على أنه لا مانع أنهم رجعوا ثم بعد أن رجعوا إلى مصر ذهبوا إلى الأرض المقدسة فلا مانع من ذلك ولا دليل على نفي ذلك بدليل قوله تعالى:

{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا}

[الأعراف: 137]، يعني: مصر والشام.

 

 

﴿فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)}

{فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} يعني فرعون اتبع موسى وقت الإشراق {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} رأى بعضُهم بعضا {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} سيدركنا لأن البحر أمامنا وهو من خلفنا، وهي مرت معنا

 {لا تدركه الأبصار} حتى لا نطيل فيها في قضية رؤية الله عز وجل.

 

{فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى} الجمعان طبعا جمع من جمع فرعون ومن معه وجمع موسى ومن معه {قَالَ كَلَّا} ليس الأمر كما تقولون، ثقةً بالله وتوكلا على الله {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} إلى الطريق الصحيح المستقيم، سيهديني إلى طريق النجاة وطريق الخير وطريق الحق

 {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي} معيّة ماذا؟ خاصة تقتضي النصر والتأييد والتوفيق، ولذلك هداه الله عز وجل يوم أن خرج من مصرَ قبل أن يوحى إليه بالنبوة خرج إلى مدين: {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص: 22]، فهداه الله فيقول هنا {قَالَ كَلَّا}

 أيضًا في مثل هذه الحالة {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}

 

{فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)}

{فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى} انظر (فـ) أتى بالفاء للتعقيب لما قال هذا الكلام {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى} ما هو الوحي؟ تفسيره لأن (أن) تفسيرية {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ} يعني البحر {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ} كل فرقة من هذا البحر {كَالطَّوْدِ} الجبل العظيم الجبال العظيمة الشاهقة

{ وَأَزْلَفْنَا} يعني قربنا {ثَمَّ الآخَرِينَ} يعني قربنا فرعون لأن فرعون لما رأى موسى قد سار في البحر، ولذلك قال عز وجل {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى} [طه: 77]، سبحان الله صارت يابسة فظن فرعون أن هذه المياه ستبقى على حالها؛ {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ} {وَأَزْلَفْنَا} يعني قربنا {ثَمَّ} يعني هناك { الآخَرِينَ} يعني فرعون ومن معه، فلما رآهم موسى أراد أن يضرب البحر بعصاه حتى يحول بين فرعون وبين اللحاق بهم، بأن يعود البحر كما كان قال الله عز وجل {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} [الدخان: 24]، اترك البحر على حاله،

 فلما دخلوا في البحر {وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ} دل على أنه لم يغرق منهم أحد

{ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ} فرعون ومن معه، ولذلك قال عز وجل في سورة يونس لما أدركه الغرق {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلآنَ} يعني الآن تؤمن {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس: 91-92]

فقال هنا: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ}

 

 

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(68)﴾

{إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي مما مضى من قصة موسى {لَآيَةً} علامة وعبرة يستفيد منها أهل العبر

{وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} وما كان أكثر من دعاهم موسى، ما كان أكثرهم مؤمنين إنما الذي آمن معه قلة، فأنت يا محمد اصبر فإنه لو كفر بك العدد الكثير من قومك وآمن بك القلة، فتسلَّ بالأنبياء السابقين، {وَإِنَّ رَبَّكَ} يا محمد {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} العزيز إذ نصر وأعز موسى ومن معه ورحمهم، وأيضًا هو العزيز القوي الذي أهلك فرعون {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} ولذا تكررت هذه الآية بعد قصص الأنبياء في هذه السورة.