بسم الله الرحمن الرحيم
[تفسير سورة لقمان كاملة]
الدرس (204)
لفضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تفسير سورة لقمان
سورة لقمان من السور المكية، {الم} وهذه من الحروف المقطعة ومر بيانها في أول سورة البقرة.
{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2)}
{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} فهو قرآن حكيم به الحِكَم وهو حاكم على ما يكون على الناس، وما يتعلق بهذا الأمر وهذه الآية مرت معنا توضيح لها أكثر في أول سورة يونس: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}.
{هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3)}
{هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} في هذا القرآن الهدى والرحمة لمن؟ لأهل الإحسان للمحسنين ما صفاتهم؟
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)}
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} بأركانها وبواجباتها وبشروطها {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} على يقين من ربهم عز وجل من أن الآخرة ستكون {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}
{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}
{أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ومر تفسيرها في أول سورة البقرة.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)}
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} أي محل استهزاء وهذه وردت في شأن بعض الكفار فإنه اشترى مغنية وقال إذا أتى شخصًا من أن أجل أن يؤمن بمحمد فغني له واصرفيه عن دينه فقال الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} ولهو الحديث: هو كل أمر يصرف الإنسان عن دين الله عز وجل، ومن ثم فإن الغناء يدخل في ذلك دخولًا أوليًا حتى أقسم ابن مسعود -رضي الله عنه- من أن لهو الحديث هو الغناء {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} كحال من؟ ذلك الرجل الكافر الذي اشترى المغنية لتصرف الناس عن دين النبي ﷺ، ولذلك لو قال قائل: كيف تفسرون ذلك بالغناء وهذه الآيات بها ما يتعلق بصفات أهل الكفر؟ فنقول: هذه الآية نزلت من أجل بيان واقع رجل كافر ولا يعني أن الغناء لا يدخل في ذلك، بل إن تحريم الغناء ورد في ذلك عشرة أدلة كما ذكرها ابن القيم رحمه الله وفصلت ذلك تفصيلًا واضحًا في غير هذا الموطن من أن الغناء محرم وكذلك الموسيقى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} يعني مع ذلك يتخذ آيات الله هزوا {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} يهينهم ويذلهم ويحقرهم {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}.
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)}
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا} يعني انصرف مستكبرًا وهذا يدل على ماذا؟ على أنه انصرف انصرافًا تامًا فقال هنا: {وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} فحاله كحال من لم يسمع بآيات الله البتة فكيف بحال هذا الرجل الذي سمعها وانصرف كأنه مثل من لم يسمعها أبدًا في حياته {كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} يعني صممًا {وكَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} فبشره بماذا؟ بعذاب أليم مؤلم يتعذب به {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8)}
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ذكر من هنا؟ ذكر صنف أهل الإيمان فقال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} أي وعدهم وعدا وحقًا ثابتًا فالله لا يخلف وعده.
{خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)}
{خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وهو العزيز القوي الغالب وهو الحكيم عز وجل، فلا يخلف وعده {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)}
{خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} يعني من أن الله عز وجل أمسك السماء من غير عمد وقد مر معنا ذلك مفصلًا في أول سورة الرعد {خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} فتأملوا فيها {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ} يعني جبال {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} أي لئلا تضطرب وتتحرك بكم قال تعالى: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا}[النبأ: 7]، {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} فتأملوا وتفكروا فيها {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} أي ونشر في هذه الأرض من كل دابة من جميع الدواب ومر معنا تفصيل لذلك {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} في سورة البقرة {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}[البقرة: 164]، {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} من كل صنف من أصناف النباتات ووصفه بأنه كريم لما جعل الله عز وجل من الجمال والحسن، ولذلك ماذا قال تعالى في سورة الشعراء؟ {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}[الشعراء: 7]، وفي سورة الحج {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}[الحج: 5]، قال هنا: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}.
{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)}
{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} يعني مخلوق الله خلقه الله عز وجل، {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} يعني إن لم تعترفوا وتعترفون بأن آلهتكم من أنها خلقت أشياء {فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي في الدنيا فهم في ضلال مبين واضح إذ صرفوا عقولهم وحواسهم عن الاعتبار، {بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)}
{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} سبحان الله لما ذكر صدود هؤلاء ذكر الله عز وجل للنبي ﷺ قصة لقمان وهو يذكر لابنه هذه الآداب وهذه الأحكام ومن أعظمها ما يتعلق بالتوحيد ولقمان أكثر أهل العلم على أنه ليس بنبي، بل هو رجل صالح وجاء في مستدرك الحاكم وحسنه ابن حجر رحمه الله من أنه أدرك زمن داود لأنه كان يرى داود يصنع الدروع فكان يعجبه ذلك {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} الحكمة وهي الفهم والإصابة في القول وإتباع القول بالعمل الصالح {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} يعني أمر بأن يشكر الله عز وجل لأن من أعظم النعم نعمة العلم والحكمة {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} فالثواب يعود إليه فالله عز وجل كما قال: {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران: 97]، {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} له الغنى التام الكامل المطلق وحميد محمود على أفعاله وعلى تصرفاته، ولذلك ماذا قال سليمان عليه السلام كما مر معنا في سورة النمل {فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}[النمل: 40]، {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ} وهنا هذا الابن هل كان كافرًا؟ قد قيل بذلك والصحيح أنه ليس بكافر لأنه لم يكن هناك دليل في بيان أنه كان كافرًا، لكنه هنا وعظ ابنه؛ لأن الوعظ بالتوحيد يحتاج إليه حتى الموحد دائمًا وباستمرار ولذلك العظة هنا عن ماذا؟ عن التوحيد وعن آداب أخرى لكنه قدم التوحيد لأنه أعظم الأمور، ولأن كل نبي إذا أتى، أتى بالدعوة إلى التوحيد {وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} نهاه عن الشرك بالله، {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} أعظم الظلم هو الشرك بالله عز وجل ومر معنا مفصلًا في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}[الأنعام: 82]، {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وبعض العلماء يقول أنه هنا يكون وقف {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ} الوقف هنا ثم حلف {بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.
{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)}
{وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ} يعني عهدنا الإنسان وأمرناه {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ} لما ذكر الوصية بالوالدين هنا خصص الأم لأن معاناة الأم أعظم، ولذلك في الأحاديث لما سئل النبي ﷺ عمن يبر أكثر فقال: الأم ثلاث مرات وفي المرة الرابعة قال: أبوك فقال هنا: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} يعني ضعفًا على ضعف لمَ؟ لأنه كلما حملت به وكبر في بطنها كلما ثقل عليها فتعبت، ولذلك ماذا قال عز وجل؟ {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا}[الأعراف: 189]، الآية فقال هنا: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} يعني بعدما وضعته أرضعته كم؟ سنتين {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}[البقرة: 233]، {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} هنا بعد العامين يكون الفصال وهو الفطام وفصاله يعني الفطام {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي} هنا يعني عليك أن تشكر لله وأن تشكر لوالديك ومن هنا يجوز أن يشكر المخلوق لكنه شكر نسبي، ولذلك قال ﷺ كما ثبت عند الترمذي «من لا يشكر الناس لا يشكر الله» لأن من شكر الناس إذا أعطوه شيئًا هو شكر نسبي لأن من الذي أمرهم بأن يعطوك؟ هو الله فيكون أيضًا له من الشكر عز وجل فقال هنا {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} فالمرجع إلي وحينها سيحاسب كل إنسان بما عمل {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}.
{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)}
{وَإِنْ جَاهَدَاكَ} المجاهدة تدل على ماذا؟ على بذل الوسع والطاقة {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي} في سورة العنكبوت لتشرك بي قال هنا على تدل على الاستعلاء يعني أنهما حرصا على أن تقع في الشرك {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} لأنه لا علم ولا حجة لمن يشرك بالله عز وجل ومر ذلك مفصلا في سورة العنكبوت {عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} من الإحسان إليهما والبر بهما، ولذلك لما أتت أم أسماء قالت أسماء كما ثبت بذلك الحديث الصحيح قالت يا رسول الله إن أمي أتت وهي راغبة لكنها كافرة قال ﷺ: “صلِي أمك”، {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ} يعني طريق {مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} يعني من رجع إلى يعني انتبَه ولو كان أقرب الناس إليك من هذين الوالدين وسبيلهما سبيل الشرك فلا تطعهما لكن عليك ماذا؟ أن تتبع طريق من؟ من أناب إلى الله من أهل الإيمان فقال الله عز وجل: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فأخبركم بما كنتم تعملون ومن ثم هذا الإنباء يدل على المجازة سيجازي كل إنسان بما عمل، {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.
{يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)}
{يَا بُنَيَّ} وقال يا بني من باب التلطف والترقق معه من أجل ماذا؟ من أجل أن يقبل النصيحة ولعلنا أن نتخذ من هذا الأسلوب أسلوب لنا مع أولادنا حتى يقبلوا، ولاسيما في مثل هذا الزمن الذي تغيرت فيه أمور كثيرة {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} يعني الحسنة أو السيئة {إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ} يعني وزن {إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} الخردل هو ثمر مثل السنبل يخرج في بعض النباتات وهي أصغر ما يكون وهذا النبات إذا مر به الإنسان بثوبه التصق به فقال الله عز وجل عن لقمان: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} يعني أنها في صخرة خفية {أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} وسيحاسب الله عز وجل على ذلك كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه}[الزلزلة: 7-8]، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}[الأنبياء: 47]، حتى لو كانت هذه الحبة من خردل في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأتي بها الله، وبعض العلماء قال: إنها يعني مثقال حبة يعني لو كان لك من الرزق مثل وزن هذه الحبة الصغيرة لأتاك رزقك قبل أن تموت ولا تعارض بين ذلك وبين ما سبق نعم لأن العبد مادام أنه حي فرزقه آتِيه {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} لطيف عز وجل فمن لطفه عز وجل أنه يوصل الخير إلى عباده الأبرار من حيث لا يشعرون ويصرف عنهم من الشر العظيم فيما لا يحتسبون وقال: خبير يعني عالم ببواطن الأمور وهذا يدل على ماذا؟ {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} وقوله هنا يأتِ بها الله يدل على ماذا؟ يدل على أن العبد يكون مراقبًا لله عز وجل في تصرفاته وفي أقواله وفي أفعاله في سره وفي علانيته.
{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)}
{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ} أمره بإقامة الصلاة لأن الصلاة هي الركن الثاني بعد الشهادتين فقال الله عز وجل عن لقمان {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ} بمعنى أنك إذا عبدت الله عز وجل عليك أن تنشر هذا الخير وإذا نشرت الخير هو أمر بالمعروف وتنهى عن الشر فهذا نهي عن المنكر ويترتب على ذلك أنك تصاب بأذى، ولذلك ماذا قال بعدها؟ {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} مما يكون من بلايا تصيبك فيما يتعلق بأقدار الله المؤلمة والصبر على طاعة الله والصبر عن معصية الله والصبر في تحمل الأذى إذا أصبت في سبيل الدعوة إلى الله {إِنَّ ذَلِكَ} أي ما مضى مما أمرت به {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} يعني من الأمور المعزوم عليها التي أكد الشرع عليها بأن تأتي بها {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}.
{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)}
{وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} التصعير هو مرض يصيب الإبل، فإذا بعنق الإبل تذهب يمينًا أو يسارًا فيقول انتبه لا تتكبر على الناس حتى إنك لتلوي بعنقك كما يصاب البعير بهذا الداء {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} يعني على وجه الكبر والخيلاء والبطر دل هذا على أنه منهي عن ماذا؟ عن أن تكون صفته كصفة المتكبر مشيتك أيضًا انتبه {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} مختال في مشيته وفخور يعني متكبر على الآخرين ومر معنا الفرق بين المختال والفخور في سورة النساء عند قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}[النساء: 36]، الآية والآية التي بعدها وقال هنا {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}.
{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)}
{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} إذا مشيت فليكن مشيك على اقتصاد لا عجلة مفرطة ولا هدوء يصبح الإنسان كأنه ماذا؟ كأنه ميت متمايل ولذلك ماذا قال عز وجل؟ {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا}[الفرقان: 63]، ولذلك النبي ﷺ إذا مشى كأنما ينحط من صبب يعني كأنه ماء نزل من علو، ولكن ليست سرعة مخلة ولذلك في الحديث الحسن عند ابن عساكر إذا مشى ﷺ يمشي مشية من ليس بعاجز ولا بكسلان فقال الله عز وجل هنا: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} يعني خفض من صوتك فلا ترفع صوتك إلا إذا كانت هناك حاجة لأمر ما كما كان النبي ﷺ يأمر بعض أصحابه بأن ينادي في الناس، لكن الأصل أن يكون كلامك فيه هدوء {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ} يعني أفظع وأشنع وأخبث {إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} يعني لو كان الصوت المرتفع محمودًا لحمد من؟ صوت البعير {إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}.
{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)}
{أَلَمْ تَرَوْا} رؤية ماذا؟ رؤية بصرية {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ} ذلل {لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ} يعني انظروا إلى السماوات وإلى الأرض هي منفصلة عنكم وأسبغ يعني أتم وأكمل عليكم {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} ظاهرة وباطنة: اختلف العلماء فيها لكن الذي يجمعها النعم التي تظهر على الإنسان الظاهرة منه والباطنة التي تكون خفية عنه فالظاهرة مثل استقامة الأعضاء مثل اللون الحسن، الشكل الحسن، القامة الحسنة وتكامل الأعضاء وتناسق الأعضاء، الأشياء الخفية مثل ماذا؟ مثل: الفهم، مثل: التعقل، مثل: العلم، مثل: الدين والعلم لمن وفق إليه من أهل الإيمان {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ} ولذلك ماذا قال تعالى؟ {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى}[الروم: 8]، ماذا قال هنا؟ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ} يعني من يخاصم {فِي اللَّهِ} يعني في توحيد الله عز وجل وفي دين الله {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} ليست عنده حجة لا من حيث الشرع ولا من حيث العقل ولا من حيث من يهتدي به من أهل الخير ولا كتاب منير واضح ليس له حجة في ذلك وقد مر معنا مفصلًا فيما يتعلق بهذه الكلمات في سورة الحج.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)}
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} وهذا كما مر معنا في ماذا؟ في سورة البقرة {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}[البقرة: 170]، ما ألفينا يعني: ما وجدنا عليه آباءنا قال هنا: {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} أيتبعون آبائهم على الباطل ولو كان الشيطان هو الذي يدعوهم إلى هذا الأمر الذي يوصلهم إلى السعير إلى النار العظيمة وهذا يدل على ماذا؟ يدل على أن الله عز وجل رد عليهم من باب أن يقبح فعلهم من أن فعلهم من وسوسة الشيطان {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} ولذلك في سورة البقرة {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ}: يعني يتبعون آباءهم، {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ}[البقرة: 170]، وفي سورة المائدة {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ}[المائدة: 104]، يعني كيف يتبعون آباءهم في الدين الباطل وآباؤهم لا يعقلون وآباؤهم لا يعلمون وأيضًا كل ذلك من وسوسة الشياطين ولذلك في أول سورة الحج ماذا قال تعالى؟ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}[الحج: 3-4]، قال هنا: {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}.
{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)}
{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ} مخلصًا لله عز وجل {وَهُوَ مُحْسِنٌ} يعني على طريقة النبي ﷺ ليس على بدع ولا على خرافات ومر معنا ذلك مفصلًا في قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ}[البقرة: 112]، كما في سورة البقرة وفي سورة النساء فقال هنا: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} العروة عروة الشيء لكنها عروة ماذا؟ وثقى يعني متينة {بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} والعروة دائما تكون ماذا؟ في العلو فدل هذا على أن من وحد الله كل ما ازداد توحيده كلما علا شأنه وارتفعت منزلته، ولذا مر معنا {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا}[البقرة: 256]، يعني لا انقطاع لها فقال هنا: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} كل الأمور ترجع إلى الله عز وجل فيما يتعلق بأمور الدنيا، وفيما يتعلق بأمور الآخرة وسوف ترجعون إلى الله وسيحاسب كل إنسان بما عمل وأيضًا من عاقبة الأمور من أن الله عز وجل يجعل عاقبة لأهل التوحيد والعاقبة للمتقين.
{وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23)}
{وَمَنْ كَفَرَ} يا محمد {فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} يرجعون إلينا {فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} لكل ما عملوه {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فهو عالم بذات الصدور بما تكنه صدورهم وهو عالم بما تفعله ماذا؟ جوارحهم.
{نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)}
{نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا} يعني في هذه الدنيا {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ} الاضطرار يدل على ماذا؟ يدل على أنهم يدفعون بقوة {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} يعني شديد وقوي.
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)}
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} سبحان الله يعني هؤلاء يقرون بتوحيد الربوبية أولا يقرون بتوحيد الألوهية! {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} قل يا محمد الحمد لله قامت الحجة عليكم، فيجب عليكم أن تخلصوا العبادة له وحده عز وجل {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} وأين يأتيهم العلم؟ وهم منصرفون عن هذا القرآن {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} وهناك طائفة منهم أسلم وحسن اسلامه.
{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)}
{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} من حيث التدبير والملك والتصرف لا أحد يعترض عليه ولذلك ماذا قال بعدها؟ {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} له الغنى المطلق الكامل فلا يحتاج إلى عبادتكم وهو الحميد المحمود على أفعاله {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}.
{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)}
{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} يعني هم يقولون هذا الذي أتى به محمد إنما هو كلام أتى به وبعد حين سينتهي هذا الكلام ويفنى، فبيّن هنا أن القرآن من كلام الله وكلام الله عز وجل صفة من صفاته وصفاته لا يمكن لأحد أن يحيط بها، فبين هنا ماذا؟ {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَة} لم يقل أشجار، يعني لو كل ما في الأرض شجرة شجرة شجرة أتي عليها شجرة شجرة {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} وهنا جمع الأقلام يعني لكثرتها {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} وهذا للمبالغة {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} لمَ؟ لأنها ليست مخلوقة ولا يحاط به ولا يحاط بصفاته عز وجل، ولذلك في سورة الكهف في أواخرها ماذا قال عز وجل؟ {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ}[الكهف: 109]، مدادا: بمعنى الحبر {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}[الكهف: 109]، لو أتي ببحر وببحر ليست سبعة أبحر، ببحر ببحر ببحر لنفدت مياه البحار وانتهت أقلام الأرض مما يؤخذ من الأشجار ولكن كلمات الله ما تفنى وهذه التي في هذه السورة وفي سورة الكهف تبين هذا الأمر {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فهو عزيز قوي وغالب لا ينال بسوء وحكيم فهو قوي عز وجل وقادر على أن يهلك هؤلاء وحكيم إذ شرع مثل هذه الشرائع.
{مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)}
{مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} الأمر سواء عند الله {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}[الروم: 27]، {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} يعني النفس الواحدة وجميع الأنفس ولو كثرت عند قدرة الله عز وجل سواء {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} سميع لكل الأقوال وبصير بأحوالكم وبأحوال خلقه ولا يخفى عليه شيء.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)}
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} هنا تدبروا وتأملوا أن الله قادر على أن يبعثكم وهو الذي يستحق العبودية {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} يدخل هذا في هذا فيقصر هذا ويطول هذا {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} يعني ذلل الشمس والقمر {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي} الشمس والقمر {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} يعني يصدق على الأمرين {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} يعني في الدنيا {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}[الأنبياء: 33]، كل منهم يمشي على نظام ويجري بانتظام وأيضًا يصدق على يوم القيامة بمعنى أنهما يكونان إلى يوم القيامة فإذا جاء يوم القيامة {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}[التكوير: 1]، {وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ}[القيامة: 8-9]، ووضع في النار {وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فلا يخفى عليه أي شيء.
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)}
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ} يعني الذي له هذا التصرف في الكون مما ذكر في الآيات السابقات {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} عبادته حق وهو حق {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} الباطل الذي يزول {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} ومرت معنا هذه الآية في سورة الحج {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هو الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)}
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ} ليتأمل هؤلاء إلى البحر وإلى تلك السفن وهي عظيمة تجري في البحر {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ} الفلك: يعني السفن، بنعمة من الله {لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ} إذ إنها تمشي مع عظمها ومع ذلك لا تغرق {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} لآيات وعلامات، انظر صبار شكور جمعهما وقد مر معنا ذلك في أول سورة إبراهيم {صَبَّارٍ شَكُورٍ} يعني هناك من يصبر عند الضراء وهناك من يشكر عند النعماء فكونوا كهؤلاء {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}.
{وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)}
{وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ} يعني غطاهم موج وهم في البحر {كَالظُّلَلِ} مثل السحاب والجبال لعظم هذا الموج غطاهم كأن هذه الأمواج بمثابة السحب العظيمة والجبال العظيمة {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} بمعنى أنه وفى بما قاله وذلك كعكرمة لما قال إن نجاني الله أتيت إلى محمد فأسلمت كما ثبت عنه ومر معنا كثيرًا وبعض العلماء يقول إن قوله: {فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} وهذا كلام لابن كثير رحمه الله مقتصد يعني أنه ليس من السبّاقين إلى الخير يعني يقول كان من الواجب عليه أن يكون من السباقين إلى الخيرات لا أن يكون مقتصدا فقط يأتي بالواجبات وفي هذا إنكار عليه لمَ؟ قال: لأن الله عز وجل ماذا قال؟ {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ}[فاطر: 32]، وعلى كل حال بين هنا حال هؤلاء ولهذا ماذا قال عز وجل عن أهل الكتاب؟ {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ}[المائدة: 66]، سواء قيل بهذا أو بهذا فعلى كل حال {فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} يعني أنه وفى هل وفى الوفاء التام أو وفاء ليس بتام؟ على القولين {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا} أي ما ينكر هذه الآيات {إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ} يعني عظيم وكبير الغدر {إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} لمَ؟ لأنه غدر إذ قال إن نجاني الله -والله مطلع على حاله وبما سيؤول إليه أمره-، لكن في التحذير من ماذا؟ التحذير من الغدر والمخادعة ولذلك ماذا قال تعالى عن المنافقين؟ {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ}[النساء: 142].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)}
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} لمَ؟ لأن أمامكم يومًا عظيمًا {وَاخْشَوْا يَوْمًا} نكّره {يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} يعني أن الوالد لا ينفع ولده ولا يتحمل عنه شيء {وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} فلا ينفع الولد والده وذكر الوالدين لأن صلة الوالد بالولد والعكس من أعظم الصلات، فإذا انقطعت فغيرها من باب أولى وتقطعت بهم الأسباب {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} مما وعد به ومن ذلك البعث {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} بزينتها وزخارفها {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} الغرور كل ما يغر الإنسان ويخدعه فيصرفه عن الدين يعتبر هو الغرور، وقد نص كثير من المفسرين من أن الغرور هو الشيطان ولا شك أن الشيطان هو سبب ماذا؟ غرور بني آدم {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}.
{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (34)
{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} هذه كما قال ﷺ كما في حديث ابن عمر في الصحيح «خمس من الغيب لا يعلمهن إلا الله» هذه هي الآية {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} يعني الأمطار {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} ومر معنا مفصلًا ما يتعلق بالأرحام في سورة الرعد {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ}[الرعد: 8]، {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} ما تدري نفس الإنسان ماذا تكسب غدا مما يكون متعلقًا بالدين من طاعة وما شابه ذلك أو مما يتعلق بالدنيا من رزق ونحو ذلك {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} ولذلك النبي ﷺ كما ثبت عنه قال إن الله عز وجل إذا أراد أن يقبض عبدا في بلد جعل الله له فيها حاجة فذهب إليها فيقضبه الله هناك {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} ثم عمم {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} عالم بكل شيء وخبير ببواطن الأمور وخبير بظواهرها وبهذا ينتهي تفسير سورة لقمان.