تفسير سورة الأحزاب من الآية ( 1 ) إلى ( 27 ) الدرس (206 )

تفسير سورة الأحزاب من الآية ( 1 ) إلى ( 27 ) الدرس (206 )

مشاهدات: 495

[ تفسير سورة الأحزاب]

من الآية (1) إلى الآية (27)الدرس (206)

لفضيلة الشيخ: زيدبن مسفر البحري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين أما بعد.

فنستعين الله ﷻ ونفسر سورة الأحزاب.

سورة الأحزاب سورة مدنية.

 

﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)﴾

 

قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾ قال العلماء النبي ﷺ لم يناده الله ﷻ باسمه لا كغيره من الأنبياء كيا نوح وما شابه ذلك، وهذا من باب تشريفه ﷺ، أما قوله تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّه ِ﴾[الفتح: 29]، صرح باسمه باعتبار إخبار أنه رسول، أما حال المناداة فلم يناده باسمه ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾ وهذا يدل على أن النبي ﷺ كما هو مأمور بتقوى الله فما ظنكم بغيره.

 ﴿وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ ولا تطع هؤلاء من هذين الصنفين الكفرة وأهل النفاق الذين يريدون أن يصدوا الناس عن دين الله.

 ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ فالله ﷻ كان عليمًا حكيمًا ولا يزال ﷻ فهو العليم العالم بكل شيء وهو الحكيم إذ شرع الشرائع ووضع الأمور في مواضعها المناسبة.

 ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ يعني لا تلتفت إلى هؤلاء وإنما عليك أن تتبع ما جاء في هذا القرآن، وهذا يدل على أنه من عند الله ﷻ وليس من عندك كما يزعمه هؤلاء.

 ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ ولم يقل إن الله كان بما تعمل، فدل هذا على أن الخطاب الموجه للنبي ﷺ موجه لأمته فهم وهو في الخطاب سواء إلا إذا جاء دليل يخصص النبي ﷺ بأمر من الأمور.

 ﴿خَبِيرًا﴾ فهو خبير ﷻ بكل ما يعمله البشر، ولذا مما يؤكد ذلك ما قاله ﷻ ﴿يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ﴾[الطلاق: 1]، ولم يقل إذا طلقت فالخطاب الموجه له موجه للأمة كما وضحنا آنفاً.

 ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ يعني أن هؤلاء سيبذلون وسعهم في صد الناس وفي أذيتك وما شابه ذلك من أنواع الأذية وهنا عليك أن تتوكل على الله ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾ فالله ﷻ وكيل يتولى أمورك وهو ﷻ وكيل على هؤلاء فيحصي عليهم أعمالهم ثم يحاسبهم وإذا أُمر النبي ﷺ بالتوكل إذاً غيره من باب أولى.

 

﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)﴾

 

 ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾ وهنا قال: ﴿مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾ ومعلوم أن القلب يكون في الجوف، لكنه صرح بالجوف هنا من باب أن يستحضر السامع والتالي هذا الأمر أنه يستحيل أن يكون في جوف الإنسان قلبان.

 وهذه الآية لها سبب نزول قال بعض المفسرين أن المنافقين قالوا إن محمد له قلبان وقال بعض الكفار إن رجلاً كان يحفظ الحفظ فقالوا: إن له قلبين فقال الله ﷻ: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾ حتى إن بعض العلماء قال: ليس المقصود فقط سبب النزول وهذا داخل أيضًا أنه كما يستحيل أن يكون في جوف الإنسان قلبان يستحيل أن تكون الزوجة أماً حينما يظاهر منها الزوج، وكذلك يستحيل أن يكون الرجل الذي تُبني -وكانوا يتبنون الإنسان في الجاهلية-، فيأخذون رجلًا أو ولدًا فيقول أحدهم هذا ابني، فكما يستحيل أن يكون في جوف الإنسان قلبان، كذلك يستحيل هذا الأمر الذي هو التبني وذلك لأنه ليس من صلب الإنسان.

فإن التنصيص هنا على كلمة رجل يدل على أن ذكر الرجل من أجل سياق الآيات ومن أجل سبب نزول الآيات، أما قول بعضهم إنما لم يذكر الرجل لأن المرأة قد يكون لها قلبان باعتبار الحمل الذي في بطنها فأقول هذا بعيد لأن التنصيص هنا على الرجل من باب ذكر سبب النزول، ولأنه أيضًا معلوم أن المرأة الحامل أن القلبين ليس لها، وإنما هو لها وواحد لما في بطنها.

 

 ﴿وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ كما يستحيل هذا يستحيل أن تكون الزوجة زوجة وأمًا في وقت واحد، كقول بعضهم أنتِ علي كظهر أمي وقد ذكر الله ﷻ ما يتعلق بالظهار كما سيأتي معنا في قوله تعالى: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ﴾[المجادلة: 1]، الآيات.

 فقال الله ﷻ: ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ﴾ بمعنى أنكم تقولون هذا ابن لنا ولذلك النبي ﷺ تبنى زيد بن حارثة وكان زيد قد بيع في مكة فاشتراه حكيم بن حزام فأهداه إلى عمته خديجة فخديجة أهدته إلى النبي ﷺ فقال إنه ابني.

 فقال ﷻ: ﴿ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ﴾ فكما يستحيل أن يكون في قلب الإنسان جوفان فيستحيل حصول مثل هذا الأمر وهو التبني ﴿ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ﴾ يعني ما تقولونه مما مضى إنما هو قولكم بأفواهكم وليس له دليل.

 ﴿وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾ والحق أنه لا تبني في الإسلام ولا ظهارًا يكون جائزًا في الإسلام ﴿وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾ فالله ﷻ يهدي إلى السبيل وإلى طريق الحق.

 ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ يعني أعدل عند الله ﴿فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ﴾ بمعنى أن هؤلاء إخوة لكم في الدين وأيضًا موالي تنصرونهم وتقفون معهم  ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ يعني إثم ﴿فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ﴾ يعني مما مضى من تلك الأمور ﴿وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ فالتعمد بالقلب يدل على أن الإنسان أراد الإثم بمعنى أنه يؤاخذكم ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ وذلك فيما أخطأتم في مثل هذا الأمر أو غيره.

 ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ النبي ﷺ أولى بك من نفسك، فما تريده نفسك ويريده النبي ﷺ فقدم رضا النبي ﷺ، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح قوله ﷺ: “وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ ” فإذا كان هو أولى من نفسك إذاً هو أولى من والديك، ولذلك في صحيح البخاري {لما قال عمر يا رسول الله إنك لأحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال يا عمر حتى من نفسك فقال أنت أحب إلي من نفسي فقال ﷺ الآن يا عمر} يعني قد كمل إيمانك يا عمر ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ فعليهم أن يقدموا أمره على أمر أنفسهم.

  ﴿وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ أمهاتهم من حيث الاحترام، من حيث التقدير، من حيث عدم الزواج بهن، أما أمهاتهم بحيث يجوز الكشف عليهن أو ما شابه ذلك فلا، وكما أنهن أمهات للمؤمنين فالنبي ﷺ أيضًا أب لهم ولذلك في قراءة وهو أب لهم ولو لم تكن القراءة السبعية إلا أنها قراءة تدل عليها الأدلة، ولذا قال ﷺ كما ثبت في السنن ” إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ أُعَلِّمُكُمْ “ من حيث الاحترام والتقدير له ﷺ.

 ﴿وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ ﴾ يعني الأقرباء ﴿فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ أي فيما ذكره الله ﷻ من الإرث في سورة النساء وما كتبه ﷻ في اللوح المحفوظ ﴿وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾ أولى من المسلمين والمهاجرين ونص على المهاجرين هنا باعتبار أن المهاجرين لما هاجروا فإن النبي ﷺ آخى بينهم وبين الأنصار، فكانوا يرثون الأنصار فهنا أبطل الله ﷻ الإرث بسبب هذا الأمر، وبيّن أن الإرث إنما يكون عن طريق القرابة.

 ﴿إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا﴾ بمعنى أنكم توصون لهم بوصية للمؤمنين وللمهاجرين فلا إشكال في ذلك  ﴿إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ﴾ يعني الذين واليتموهم على الدين وعلى النصرة ﴿كَانَ ذَلِكَ﴾ يعني هذا الحكم وهو أن الإرث يكون للقرابة ﴿فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا﴾ يعني في القرآن كما بين في سورة النساء وأيضًا في اللوح المحفوظ.

 

 

﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)﴾

 

 ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ﴾ الميثاق الذي أُخذ على النبيين أن يبلغون رسالات الله ﷻ وأن بعضهم إذا أتى بعد نبي فإنه يؤمن به ويصدقه، وتأمل هنا ذكر النبي ﷺ محمدًا قبلهم وذلك تشريف له ولذا قال: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ﴾ مع أن نوحًا أول الرسل فقدم محمداً ﷺ لتشريفه لكن لو قال قائل: في قوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا﴾[الشورى: 23]، قدم نوحاً عليه السلام في هذه الآية باعتبار أن يبين لهم أن الرسالة التي أتى بها محمد ﷺ في آخر الأمر هي هي نفس الرسالة التي أتى بها نوح وهو أول الرسل فلماذا تعترضون على رسالة محمد ﷺ.

 ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ وذكر هؤلاء الأنبياء لأنهم أولو العزم، فإنهم صبروا أكثر من غيرهم فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل فقال بعدها: ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ كرر ذلك من أنه أخذ عليهم باعتبار أن هذا الميثاق الذي أُخذ عليهم ميثاق غليظ عظيم فيجب عليهم أن يقوموا به، فأكد ذلك ﴿لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ﴾ أخذنا هذا الميثاق على الأنبياء من أجل ماذا؟ ﴿لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ﴾ الأنبياء ﴿وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ ولذلك في أول سورة الأعراف ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِين ﴾[الأعراف:6]، وقد صدق الأنبياء عليهم السلام فقاموا بدعوة الله ﷻ.

 

 

 

 

 

 

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)﴾

 

 ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا﴾ هنا ذكر الله ﷻ أهل الإيمان بشأن غزوة الأحزاب فغزوة الأحزاب تحدثت عنها هذه السورة ﴿اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ تلك النعمة أن ذلكم الحزب وأولئك الأحزاب الذين تحزبوا عليكم ماذا فعل الله بهم؟ ﴿إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا﴾ وذلك أن اليهود تآمروا على النبي ﷺ مع كفار قريش، فكفار قريش جمعوا حلفاؤهم ثم أتى ذلكم الرجل -وهو حيي بن أخطب- إلى كفار قريش يحرضهم على النبي ﷺ بعد غزوة أحد، ثم ذهب إلى غطفان وحرضها، فاجتمعت قريش وحلفاؤها واجتمعت غطفان ثم لما أتت إذا ببني قريظة أيضًا نقضوا العهد مع أنهم عاهدوا النبي ﷺ.

فقال الله ﷻ: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا﴾ أرسل الله عليهم الريح بعد ما حاصروا المدينة وكان الصحابة رضي الله عنهم قد حفروا الخندق فلما أتت قريش استغربوا من هذا الخندق وإذا بهم يحاصرون المدينة ما يقرب من شهر فعجزوا فأرسل الله عليهم الريح فطردتهم وأنزل الله ﷻ عليهم الملائكة فأدخلت في قلوبهم الرعب.

 ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾ من أمر هذا الخندق وما هي أحوالكم في هذه الغزوة.

 ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ يعني اذكروا وهذا تفصيل للغزوة لأنه ذكر الآية السابقة فيها إجمال قال هنا: ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ وهم غطفان ومن معهم ﴿ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ﴾ يعني قريشًا وحلفائها ﴿وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ﴾ يعني مالت الأبصار فليس لها نظر إلا إلى الأعداء وذلك لحصول ما يكون من خوف وما شابه ذلك لاسيما أن بني قريظة نقضوا العهد وهم في المدينة ﴿وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾ يعني من شدة الهول إذا بالقلوب كأنها صعدت إلى الحناجر ﴿وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾ ولم يقل تظنون بالله الظن جمع الظنون لأنهم افترقوا هناك من ظن بالله الظن السيء، وهناك من ظن بالله الظن الحسن.

 ﴿هُنَالِكَ﴾ أي في تلك الحال هنالك إشارة للمكان البعيدة مما يدل على أنهم في ذلكم الحال وفي ذلكم المكان ﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ اختبر المؤمنون ﴿وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾ ليس زلزلة للأرض وإنما زلزلوا باعتبار إحاطة الأعداء بهم ونقض بني قريظة العهد.

 

﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15)﴾

 ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ يعني أنهم ضعفاء إيمان وهنا حصل الظن السيء من هؤلاء ﴿مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ يعني غرونا وذلك بأنهم قالوا أن النصر لكم وهذا هو حالنا، حتى إن محمدًا كما زعموا يقولون أنه يقول سيملك فارس والروم وأحدنا لا يجد مكانًا يقضي فيه حاجته من الرعب.

انظر إلى تفرق هؤلاء وإلى وضع الأراجيف بين المسلمين ﴿وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ﴾ أضافوهم إلى يثرب إلى المكان يعني أن التواصل بينهم من أجل الأرض لا من أجل الدين ﴿لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا﴾ لماذا تبقون هنا عند الخندق وعند الجبل اذهبوا إلى منازلكم ﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ﴾ هذا أيضًا فريق آخر ﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ﴾ يعني مكشوفة للأعداء والأعداء يستطيعون الوصول إليها بسهولة ﴿وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا﴾ أي ما أرادوا بذلك الاستئذان إلا فرارًا ﴿وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا﴾ يعني من جوانب المدينة أو من جوانب بيوتهم ﴿ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا﴾ بمعنى أنهم لو أحيط بهم وطلب منهم الأعداء أن يكفروا بالله وأن يقاتلوا المسلمين لآتوها ﴿وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا﴾ أي ما مكثوا إلا وقتًا يسير بين قول هؤلاء لهم وبين جوابهم لهم.

﴿وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ﴾ يعني تسلية للنبي ﷺ أن صنيع هؤلاء العهود ثم النقض ﴿لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا﴾ بمعنى أنهم عاهدوا أنهم لن يفروا من الجهاد ﴿وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا﴾ أي سيُسألون عن هذا العهد.

 

﴿قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)

 ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء ﴿لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ﴾ يعني أن مصيركم إلى الفناء إما بموت وإما بقتل، ولذا في قال الله ﷻ في سورة آل عمران ﴿لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ [آل عمران: 154].

 ﴿وَإِذًا﴾ لو بقيتم في الدنيا بقيتم مدة معينة ﴿لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ لأن الدنيا كلها قليل.

 ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً﴾ قال هنا مصرحًا ومضيفًا له السوء مع أن الأصل أن الشر لا يُنسب إلى الله تأدبًا “وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ” كما في صحيح مسلم، لكن هنا صرح به من باب بيان أن الله ﷻ له القدرة وله العظمة وله العزة الكاملة فلن يستطيع أحد إذا أراد الله بكم سوءا أن يمنعكم ﴿قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ﴾ هذا للتحدي والتهديد لهؤلاء، ولذلك نسب السوء إليه ﷻ مع أن الشر لا ينسب إليه تأدبًا.

 ﴿وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا﴾ لن يجدوا وليًا يأتي إليهم بالنفع ولا نصيرًا يدفع عنهم الضر.

 ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ﴾ قد هنا للتحقير فعلمه متحقق ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ﴾ يعني الذين يعيقون غيرهم عن الجهاد ﴿وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ﴾ هنا إما أن يكون السياق لصنف واحد والعطف من باب عطف الصفات يعني طائفة تعيق الناس وأيضًا تثبط، ويمكن أن يكون السياق عن طائفتين؛ طائفة المعوقين وطائفة القائلين ﴿وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ﴾ هم إخوانهم في الشر وفي النفاق ﴿هَلُمَّ إِلَيْنَا﴾ يعني أقبلوا علينا ﴿وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ يعني أنهم في القتال لا يأتون إلا قليلًا من أجل أن يدفعوا عن أنفسهم التهم أو من أجل أن يظفروا بشيء من الغنيمة.

 ﴿أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ﴾ يعني هم بخلاء فهم لا ينصرونكم ولا يعينونكم لا بأجسادهم ولا بأموالهم ﴿ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ﴾ يعني يا محمد ﴿تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ﴾ يعني أعينهم تدور في أماكنها ﴿كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ كمن يحتضر وذلك لأن عينيه تتقلب، هذا في حال الخوف ﴿فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ﴾ يعني تسلطوا عليكم وآذوكم ﴿سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ﴾ بألسنة قوية مثل الحديد ﴿أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ﴾ بمعنى أنهم ينسبون إليكم الصفات الغير مناسبة وأيضًا يقولون لكم نحن قاتلنا معكم لم لم تعطونا من الغنيمة وما شابه ذلك فهم يشحون بالخير.

 ﴿أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ﴾ وذلك يدل على أن أعمالهم باطلة لأن تلك الأعمال لم تكن على عقيدة صحيحة ﴿وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ إحباط أعمالهم يسير على الله وكل شيء يسير على الله ﷻ لكن خصص هنا الأمر لأن السياق يتعلق بحال هؤلاء.

﴿يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا﴾ يعني من شدة خوفهم مع أن الأحزاب ذهبوا ﴿وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ﴾ يعني على افتراض لو أتى الأحزاب مرة أخرى ﴿يَوَدُّوا﴾ يتمنون ويحبون ﴿لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ﴾ يعني لو أنهم في الصحراء مع الأعراب ومع أهل البادية ﴿يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ﴾ يعني عن أخباركم وهم في البر ﴿يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ﴾ بمعنى أنهم يحبون الأخبار السيئة عنكم.

﴿وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا﴾ باعتبار تحصيل غنيمة أو دفع تهمة.

 

 ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)﴾

 

 ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ وهذه قاعدة أن النبي ﷺ أسوة وقدوة حسنة لنا في جميع الأحوال لكنه نص هنا على ما يتعلق بشأن هؤلاء الذين لم يقتدوا بالنبي ﷺ ولذا قال تعالى: ﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ﴾[التوبة: 120]، فقال هنا: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ﴾ وأيضًا ممن يذكر الله ﷻ ذكرًا كثيرًا، فإن صفات هؤلاء تدل على أنهم حريصون على الاقتداء بسنة النبي ﷺ.

﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ﴾ ﴿وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾ ظن أولئك ظن سيء أما هنا الظن الحسن أولئك ماذا قالوا؟ ﴿مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [الأحزاب :12]، لكن أهل الإيمان ماذا قالوا؟ ﴿ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ أننا سنبتلى وبعد الابتلاء وبعد الضيق يكون النصر والفرج فقال الله ﷻ عن هؤلاء ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ وما زادهم لما رأوا تلك الجموع وذلك البلاء ﴿وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا﴾ يعني في توحيدهم وفي عقيدتهم وتسليمًا يعني بقضاء الله ﷻ وبقدره.

 

﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)

 

 ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا﴾ وهذه شاملة في غزوة الأحزاب وفي غيرها من الغزوات ﴿مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ عاهدوا الله على ألا يفروا وعلى أن يجاهدوا إذا لقوا العدو وذلك مثل أنس بن النضر -عم أنس بن مالك رضي الله عنه- لما أتى إلى غزوة أحد فقال: إني أجد ريح الجنة من دون أحد فقاتل حتى قُتل رضي الله عنه ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ﴾ يعني وفّى بنحبه يعني بنذره الذي التزمه على نفسه ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ﴾ أن يوفي بذلك ﴿وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ ما غيروا في هذا العهد.

 ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾ يعني ذلكم الجمع وتلك الأحزاب وتلك البلايا في غزوة الأحزاب الله ﷻ قدرها من أجل ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾ الذين صدقوا في إيمانهم.

 ﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ يعني إذا لم يتب عليهم فإنهم سيعذبون، لكن إن تاب وشاء الله أن يتوب عليهم، فإنهم لا يعذبون، ولذلك قال بعدها ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ يعني من لم يشأ الله توبته من المنافقين فإن مصيره إلى النار ومن تاب تاب الله عليه ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ فلا حجر لأحد على مغفرته ولا على رحمته فإنه يهدي من يشاء حتى من أهل النفاق.

 ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ﴾ يعني أنهم رجعوا كفار قريش ومن معهم من الأحزاب ردهم الله خاسئين وذلك بغيظهم يعني أن الغيظ في قلوبهم  ﴿لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ﴾ وهنا حذفت الباء في فاعل كفى ﴿وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ﴾ كفاهم الله القتال ولذلك بعد غزوة الأحزاب لم يغزو أحد المدينة، ولذلك ثبت عن النبي ﷺ أنه قال لما انصرف هؤلاء الأحزاب: ” الْآنَ نَغْزُوهُمْ وَلَا يَغْزُونَنَا”﴿وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا﴾ فهو القوي العزيز فلو شاء لنصر أولياءه من غير جند ولا ريح ومن غير جند الملائكة.

 

وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)﴾

 ﴿وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ﴾ وهم يهود بنو قريظة لما نقضوا العهد وكانت لهم حصون تحصنوا بها ﴿وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ﴾ يعني عاونوا الأحزاب ﴿وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ يهود بنو قريظة ﴿صَيَاصِيهِمْ﴾ من حصونهم ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا﴾ ولذلك رضوا بحكم سعد بن معاذ لأنه كان في الجاهلية بينهم وبين قبيلته نصرة وتحالف فظنوا أنه سيحابيهم، فقال سعد بن معاذ أحكم عليهم بأن من بلغ منهم يُقتل ومن لم يبلغ فيُسبى فسبي النساء والأطفال وقتل الرجال فقال النبي ﷺ {لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات} فقال الله ﷻ: ﴿وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا﴾ من النساء والصبيان.

 ﴿وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ﴾ التي هي محل الزراعة ﴿وَدِيَارَهُمْ﴾ من البيوت والبنيان وما شابه ذلك من أموالهم  ﴿وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا﴾ يعني أنكم لم تطؤوها من قبل للقتال، فوعدهم الله بأن يورثهم أرضًا غير أرض يهود بني قريظة، ولذلك قال بعض المفسرين المقصود من ذلك فارس والروم وقيل غير ذلك، المهم وعدهم الله بهذه الأرض بل قال بعض العلماء هو وعد من الله إلى قيام الساعة، ولذلك لما انتهت غزوة الأحزاب نزع  النبي ﷺ سلاحه فقال جبريل نحن لم ننزع أسلحتنا اذهب إلى بني قريظة فقال ﷺ لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة فجرى ما جرى ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾ فلا يعجزه ﷻ شيء.