تفسير سورة ( الإنسان ) الدرس ( 263 )

تفسير سورة ( الإنسان ) الدرس ( 263 )

مشاهدات: 651

تفسير سورة ( الإنسان )

الدرس (263 )

فضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري

ــــــــــــــــــــــــــ

تفسير سورة الإنسان…

{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)}

{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} قال كثير من المفسرين {هَلْ} هنا بمعنى قد مثل قوله تعالى {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} يعني قد أتاك {هَلْ أَتَى} يعني قد، {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} وهذا كما قال بعض المفسرين فيما يتعلق بآدم خلقه الله، ثم تركه مدة، ثم بعد ذلك نفخ فيه الروح، وقيل وهو الأظهر هذا الثاني هو الأظهر من أنه شامل للإنسان من أن ذلك لا يمتنع دخوله، {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} أنت يا إنسان من حيث الأصل لست بشيء، كنت في العدم، فخلقك الله، {لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} على هذه الدنيا، ولذلك ماذا قالت مريم؟ {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا}

{إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} يعني مختلطة من مني الرجل، ومن مني المرأة، {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} يعني لنختبره {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} جعلنا له السمع والبصر من باب إقامة الحجة عليه حتى ينتفع بهذا القرآن، {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} بيّن الله له سبيل الحق، وسبيل الضلالة حتى يختار الطريق الذي قدره الله له، {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} هذا هو حالك { إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } ولذلك لم يقل شكورا، وذلك لأن كلمة شاكر على اسم فاعل لا تدل على المبالغة، ولذلك فالشكر العظيم قليل من يأتي به، ولذلك لما ذكر عز وجل ما يتعلق بقصة داود وسليمان عليهما السلام قال {اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} لم يقل شكورا، لكن لما كان الكفر عظيما في الناس قال {كَفُورًا} من باب المبالغة.

{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) }

{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ} يعني هيأنا للكافرين {سَلَاسِلَ} يعني يسحبون بها {سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا} تغل أيديهم إلى أعناقهم، {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} يعني نارا مستعرة شديدة.

{إِنَّ الْأَبْرَارَ} لما ذكر حال أولئك الفاسدين ذكر حال الطيبين، {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ} يعني من خمر{مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} يعني ما يخلط بها الكافور لشدة بياضه، ولرائحته، ولا ينظر إلى هذه الأسماء فقط؛ لأن ما في هذه الدنيا من الأسماء ما ذكر في القرآن عن أسماء الجنة إنما تكون الموافقة في الأسماء، أما ما يتعلق بماهية ذلك، فعلمه عند الله فهي تختلف، ولذلك ماذا قال تعالى{ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }

فقال الله {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} يعني ذلكم الكافور{عَيْنًا}لأنه  بدل{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} لم يقل يشرب منها، ولذلك قال بعض المفسرين {يَشْرَبُ بِهَا} يعني إن كلمة {بِهَا} بمعنى منها، ولكن الصواب كما قررناه كثيرا من أن الحروف لا ينوب بعضها عن بعض، وإنما يبقى الحرف على ما هو عليه، ويضمن الفعل فعلا آخر حتى تكون المعاني أكثر، فقال تعالى {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} يعني عينا يرتوي بها عباد الله {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} يفجرون هذه العين حسبما يريدون يفجرونها بين قصورهم، وفي كل مكان يريدونه في الجنة، صفاتهم في الدنيا {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} يعني ما ألزموا أنفسهم من طاعة، فإنهم يقومون بذلك، ولا يهملون ذلك، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت بذلك الحديث الصحيح نهى عن النذر، وقال: ” إن النذر لا يأتي بخير” ومن ثم فإن عقد النذر عقد نذر الطاعة كأن يقول إنسان نذر علي أن أصلي أو أن أتصدق، أو نذر علي إن شفا الله مرضي أن أتصدق أو أن أصوم فإن عقده مكروه، لكن لو أن إنسانا فعل ذلك، ونذر، فإن الواجب عليه أن يتم هذا النذر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عند البخاري” من نذر أن يطيع الله فليطعه” فإذا وفّى بهذا النذر فإنه يكون محمودا لوفائه بهذا النذر.

{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا} ونكر اليوم لتعظيمه {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} فاشيا ممتدا عظيما {كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}  حتى إن السموات لتتفطر في ذلك اليوم من عظم ما يكون في هذا اليوم.

{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} يعني أنهم يطعمون الطعام مع حبهم لهذا الطعام، وقيل{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} يعني على حبهم لله، وقد مر معنا في قوله تعالى {وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} كما في سورة البقرة، ومن ثم فإن الأقرب ولا تنافي بين الرأيين، لكن الأقرب من أن الضمير يعود على محبة الإنسان لهذا الطعام قال تعالى {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} فقال تعالى {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا} يعني فقيرا {وَيَتِيمًا} الذي  مات أبوه قبل أن يبلغ، {وَأَسِيرًا} يعني الأسير الذي يكون عند المسلمين من الكفار، فإن الأسيير الذي هو الكافر إذا أسر فأحسن إليه من غير محبة له كما مر معنا في سورة الممتحنة فإن العبد يؤجر على ذلك.

{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} لم يذكروا ذلك، ولكن الله بين أن هؤلاء ما أقدموا على هذا العمل الذي يحبونه إلا ابتغاء وجه الله {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} فهم لم يتحدثوا بذلك {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}

يعني نطعمكم ابتغاء وجه الله لا نريد منكم جزءا يعني مكافأة، ولا شكورا  يعني ولا ثناء من المديح، وما شابه ذلك.

{إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18)}

{إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} سبحان الله! وصف اليوم بأنه عبوس لشدة ما يقع فيه كما يقال نهار صائم نهار صائم يعني أن صاحبه يصوم هذا النهار، وليل قائم مع أن الليل لا يقوم؛ لأن الإنسان يقوم فيه، وهذا يدل على ماذا؟ يدل على أن من شدة ما يكون فيه من العذاب كأن هذا اليوم وهو العبوس القمطرير فقال تعالى {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} {عَبُوسًا} فتعبس فيه ماذا؟ الوجوه {قَمْطَرِيرًا} يعني أنه شديد {عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} وذلك لشدة ما يقع فيه من الأهوال.

{فَوَقَاهُمُ اللَّهُ} لما عملوا تلك الأعمال ابتغاء وجه الله {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ}  فذلك اليوم به شرور، فقال تعالى {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} نضرة في وجوههم، في ظواهرها، {وَسُرُورًا} يعني في قلوبهم؛ لأن السرور والفرح يكون في الباطن.

{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا}  {بِمَا صَبَرُوا} على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقدار الله المؤلمة {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} وأفرد الحرير من باب الثناء على هذا الحرير؛ لأن النفوس كانت في الدنيا تريد أن تلبسه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام:” هذا لبس من لا خلاق له” وقال:” من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة” فقال تعالى {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} وهي الأماكن المرتفعة {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} يعني لا حرا ولا زمهريرا يعني ولا بردا، وقيل {شَمْسًا} يعني صيفا، {وَلَا زَمْهَرِيرًا} يعني شتاء؛ لأن الزمهرير شدة البرد، وقيل إن الزمهرير هو القمر باعتبار أنه قابل ذكر الشمس، وعلى كل حال، فالأظهر ما ذكرناه من القولين الأوليين؛ لأنه قال {شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} ولا مانع من دخول هذا، وليعلم كما هي القاعدة، وقررناها كثيرا من أن أكثر اختلاف المفسرين اختلاف  تنوع، كل ما قالوه يدخل تحت الآية إلا إذا جاء ما يخالف ذلك، وهو قلة، وهو مال يسمى باختلاف التضاد بمعنى أنه لا يمكن أن يجتمع القولان أو هذه الأقوال تحت آية، لا يمكن أن يكون قولا واحدة، وإلا فالأصل إن كل ما ذكره المفسرون يدخل ضمن الآية فقال تعالى {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا}.

{وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا} يعني أن ظلال الجنة قريبة من هؤلاء {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} يعني سهلت وسخرت قطوفها يعني الثمار {تَذْلِيلًا} ولذلك كما قال تعالى {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ}.

{وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ} دل هذا على ماذا؟ على أن هناك أواني للشرب {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ} وأكواب هي التي لا عرى لها، {وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ} يعني أنها قوارير، سبحان الله مع أنها من فضة لبياضها ولمعانها فهي بمثابة  القوراير فيرى ما بداخلها من خارجها فقال تعالى بعد ذلك مؤكدا {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} يعني أن الخدم قدروها لهم على حسب ما يريدون، لم؟ لأن الأكل إذا زاد عن حده فإن الإنسان ينفر منه، وإذا قل فإنه لم يأخذ حاجته منه قال {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا} يعني خمرا { كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا } أي ما يخلط بها {زَنْجَبِيلًا}، والزنجبيل معروف عند العرب ومحبوب لدى العرب، {عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} يعني {زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا} يعني عينا من زنجبيل {عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى} يعني في الجنة {تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} وذلك باعتبار ماذا؟ باعتبار سلاستها وذلك لأن الزنجبيل في الدنيا تكون هناك حرارة في حلق الإنسان لكن إذا شرب من هذا فإنه ينزل بسلاسة إلى أجوافهم من غير تعب، ومن غير حرارة، ومن غير أذى.

{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)}

{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} لما ذكر {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ} من الذي يطوف؟ الولدان، قال تعالى {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} قال هنا {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} يعني أنهم باقون على هيئتهم، فإنهم لا يفنون، ويبقون على صفاتهم، {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ}  للخدمة {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا} من جمالهم كصفاء اللؤلؤ، وقال {مَنْثُورًا} لأن اللؤلؤ إذا كان مجموعا ليس بأحسن منه إذا كان منثورا، فإذا نثر كان أجمل وأجمل.

{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ} {وَإِذَا رَأَيْتَ} في الجنة وفي نعيمها {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ}  هناك رأيتم مرة أخرى ماذا؟ ترى العجب {رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا}، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في الحديث الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم : ” فإن أقل أهل الجنة منزلة من يملك عشرة أمثال الدنيا” فدل هذا على أنه ماذا؟ ملك كبير {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا}

{عَالِيَهُمْ} نصبت هنا لأنها ظرفية يعني فوقهم {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ} يعني أن فوقهم ثياب {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ}  وهو ما رق من الحرير، {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ} يعني أن ألوانها خضر، {وَإِسْتَبْرَقٌ} يعني غليظ الحرير، {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} حلوا بالأساور من الفضة وفي الآية الآخرى قال تعالى {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} يحلون فيها باللؤلؤ وبالذهب وبالفضة، {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} فهو طهور من ماذا؟ من الأقذار، وأيضا هو طهور، ليس كخمر الدنيا فيه ما فيه من الأقذار والآلام {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا}

{إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ} يعني ما مضى من النعيم، {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} جزاء لأعمالكم، {وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} ما سعيتموه من العمل الصالح فإنه مشكور عند الله، والله من أسمائه شاكر، لم؟ لأنه عز وجل يثيب الثواب العظيم الجزيل على العمل القليل الذي يقوم به عباده، فقال الله {وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا}.

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)}

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا} {إِنَّا} يعني يا محمد لا تلتفت إلى أولئك فنحن {نَزَّلْنَا عَلَيْكَ} هذا القرآن {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا} يعني مفرقا حسب الأحداث {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا}.

{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} لحكم ربك القدري والشرعي والجزائي، ومر توضيح لهذه الأحكام في آيات سابقة، {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا} {أَوْ} هنا بمعنى الواو يعني لا تطع من هو؟ الأثيم والكافر لكن لماذا أتى بكلمة {أَوْ} من باب ماذا؟ من باب أن هذا إنما يأمر إما بالكفر وإما بالإثم، فهم يريدون أن يوقعوا الناس، وأن يوقعوك في الإثم وفي الكفر، {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25)} ولذا لما ذكر ما يتعلق بالصبر قال هنا كما قال جملة من المفسرين المقصود من ذكر اسم الله هنا، وإن كان الذكر باللسان يدخل في ذلك، لكن أيضا ذكروا ماذا؟ ذكروا أن هذا يدل على الصلوات؛ لأن الصبر مع الصلاة كما قال تعالى {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ}

{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} {بُكْرَةً} يعني أول النهار، {وَأَصِيلًا} يعني ما يكون بعد العصر

{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ} {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ} يعني صلاة ماذا؟ المغرب والعشاء، فتكون الآية هذه مع التي قبلها تكون لجميع الصلوات فقال هنا {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} يعني في الليل قم لصلاة الليل {وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا}.

{إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} يعني يحبون هذه الدنيا، وسميت بالعاجلة لزوالها؛ لأن هؤلاء لا يريدون الآخرة، وإنما يريدون الدنيا، {إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} يوما عظيما شديدا {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} وكما قال تعالى {كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} كما في أول السورة، فقال الله {وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} {وَرَاءَهُمْ} يعني أمامهم.

{نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} يعني من الذي خلقهم هو الله، {وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} الأسر الأعضاء والمفاصل شدّ الله هذه الأعضاء، وقواها وأحسنها إذن ما الذي يلزم هؤلاء؟ أن يقروا بأنه ماذا؟ أنه هو الإله الذي يستحق  العبودية وحده، فقال تعالى {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ} يعني أشباههم {تَبْدِيلًا}.

{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ} يعني ما مر في هذه السورة {تَذْكِرَةٌ} {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ} طريقا إلى الله عز وجل {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} يعني أن مشيئتكم من أنها لا يمكن أن تتحقق إلا بمشيئة من؟ الله، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}  ومن ثم فإن على العبد أن يدعو الله بالهداية وبالثبات، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} وتأمل هنا ذكر العليم وذكر الحكيم بعد المشيئة، لم؟ لأن مشيئته عز وجل، ولأن أفعاله صادرة عن علم وعن حكمة ليست كأفعال ومشيئة المخلوقين تصدر من جهل ومن عدم حكمة.

{يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} يدخل يعني من منَّ الله عليه بالهداية، {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} ومن رحمته الجنة كما مر معنا في سورة آل عمران {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}

{يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} أي هيأ لهم عذابا أليما مؤلما…..

وبهذا ينتهي تفسير سورة الإنسان……