تأملات في قصة داود عليه السلام

تأملات في قصة داود عليه السلام

مشاهدات: 454

( قصة داود عليه السلام )

فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين :

أما بعد :

قال الله عز وجل { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ{17} إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ{18} وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ{19} وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ }.

هذه الآيات تتحدث عن نبي من أنبياء الله جل وعلا  ، ألا وهو داود عليه الصلاة والسلام ، وداود من حيث الترتيب الزمني في نبوته يكون بعد موسى عليه الصلاة والسلام ، بعد وفاة موسى وهارون توالت الأنبياء على بني إسرائيل ، وكانت الأمم التي هي مجاورة لبني إسرائيل تتسلط عليهم وتُغِير عليهم ، وممن بُعث بعد موسى عليه الصلاة والسلام نبي ذكر المفسرون إن صح ما ذكروا أن اسمه ( صُمويه ) فطلبت بنو إسرائيل من هذا النبي أن يجعل لهم ملكا يسوسهم من بعده حتى يكون قائدا لهم على جيش يدافعون به عن أنفسهم ، وكان هذا النبي يعلم طبيعة بني إسرائيل وكان يستذكر تلك المقولة التي قالوها لموسى عليه الصلاة والسلام { فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } المائدة24 ، فقال لهم : { هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ }  فأتوا بعذر { وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا }البقرة246 ، فنريد أن ندفع الذل عن أنفسنا وعن أرضنا ، ولكن كان ما توقعه هذا النبي صحيحا إذ إن الكثرة منهم تولوا ، كما ذكر الله جل وعلا ذلك في سورة البقرة ، فملَّكهم رجلا يقال له ( طالوت ) وكان هذا الرجل حسن الجسم غزير العلم لكنه قليل المادة ، قالوا : كيف تؤمِّر علينا هذا الرجل وهو لا يملك شيئا ؟! ) نظروا بنظرة قاصرة وهي نظرة دنيوية ، وللأسف يمشي على هذه النبرة كثير من الناس ، مَن كان عنده مال فهو المُكرَّم ، فهو المقدَّر ، ومن ليس له مال فهو منبوذ بين الناس ، وهذه نظرية خاطئة ، النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل ( من أكرم الناس ؟ قال : أتقاهم ) وقال عليه الصلاة والسلام ( الكرم هو التقوى )

فبيَّن لهم نبيهم أن من بركة هذا الملك أن يأتيهم التابوت ،  كان لهم تابوت جعل الله جل وعلا في هذا التابوت سكينة وطمأنينة لهم فإذا حضروا في المعارك نزلت عليهم السكينة والطمأنينة ، وكان من بين محتويات هذا التابوت بقيَّة مما تركه موسى عليه الصلاة والسلام من التوراة ، وقد أخذ هذا التابوت أعداؤهم ( فقال لهم { نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ } ترونه عيانا بأبصاركم تحمله الملائكة إليكم ، فلما رأوا التابوت استقر أمرهم على هذا الملك الذي هو طالوت ، وظل طالوت مدة من الزمن وهو بين هذه الأمم المعادية له في حروب طاحنة إلى أن جهز جيشا يريد أن يفصل النزاع والشقاق الذي بينه وبين تلك الأمم ، فأعد العدة وقال لأفراد جيشه سنمر بنهر فمن شرب منه فلن يصحبني ، ولكن يُستثنى أن تغترفوا غرفة واحدة ، يريد أن يتبين له من هو الذي سيتحمل الشدائد ممن لا يتحملها ، وبالفعل لم ينصع لأمره إلا القلة ، فلما التقى الجيشان وإذا بأعدى أعدائه ملك يقال له ( جالوت ) وقد أعد العدة فدخل الهلع والخوف في بعض نفوس أفراد طالوت  )  والهلع والجبن مغروز في نفوس اليهود قال تعالى { {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ } الحشر14، ( فقالوا { لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ } لكن ثبتت قلة ، الذين يظنون أنهم ملاقوا الله جل وعلا{ ِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }البقرة249 ، وكان من بين أفراد هذا الجيش رجل يدعى داود ، وكان ماهرا في الرمي ، فتحيَّن الفرصة المناسبة وإذا به يرى هذا الملك الجائر ( جالوت ) وإذا به يقتله ، فنال داود بهذا الفعل الملك بعد طالوت ، ومع هذا الملك أوحى الله عز وجل إليه وآتاه ( الزبور ) وكان عليه الصلاة والسلام حسن الصوت حتى إن الطير لتقف تردد معه وكذلك الجبال { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْر } فكانت الطيور والجبال تردد معه { يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ } سبأ10 ، بل أعطاه الله عز وجل إلانة الحديد ، كان يفتله بدون نار وبدون طرْق ، يفعل به ويصنع كيفما يشاء ، يكون الحديد معه كالمطاط { وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ } سبأ10 ، وداود عليه السلام مع هذا كله مع أنه نبي وملك إلا أن الله عز وجل قوَّى ملكه وأعطاه الحكمة في تصرفاته وأعطاه فصّل الخطاب في أقواله ( نعم ) قد يكون بعض الناس عنده علم لكن ما عنده حسن تصرف ، مَن أكرمه الله عز وجل بحسن النية وحسن التصرف فقد رُزق خيرا كثيرا ، بعض الناس عنده حسن نية وحب للخير لكن لا يحسن التصرف ومن هناك تكون أغلاطه كثيرة .

{ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ }

قال الله جل وعلا { يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ } ص26 ، وهذا هو الواجب على من له ولاية سواء كانت ولاية صغرى أو ولاية كبرى أن يحكم فيمن ولاه الله عز وجل عليهم أن يحكم بالعدل ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم ( المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في أهليهم وفي حكمهم وفيما ولَوّا )

هذه بعض التأملات حول هذه الآيات التي تتحدث عن نبي من أنبياء الله عز وجل ألا وهو ( داود ) عليه الصلاة والسلام .