تفسير سورة البقرة ( التفسير الوجيز) من الآية ( 142)حتى الآية ( 176 ) الدرس (6)

تفسير سورة البقرة ( التفسير الوجيز) من الآية ( 142)حتى الآية ( 176 ) الدرس (6)

مشاهدات: 646

التفسير الوجيز ـ تفسير سورة البقرة

الدرس ( 6)

من الآية ( 142 ) حتى الآية ( 176 )

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فضيلة الشيخ:  زيد بن مسفر البحري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)}

{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ}  وهم اليهود ومن تبعهم من المنافقين والمشركين {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ} يعني ما صرفهم {عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة توجه إلى بيت المقدس ستة عشر، أو سبعة عشر شهرا، ثم أمر عليه الصلاة والسلام بأن يتوجه إلى الكعبة، فقال اليهود وهم السفهاء {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} منكرين بذلك النص {قُلْ} يا محمد لهؤلاء {لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} له كل جهة، فهو عز وجل له الحكمة إذا أراد أن يوجه عباده إلى أي جهة {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وفي هذا ردعلى القدرية الذين يقولون إن العبد

 يخلق الهداية لنفسه، بل إن الهداية بيد الله عز وجل.

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)}

{وَكَذَلِكَ} أي كما أنه عز وجل هداكم إلى الكعبة {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} كذلك جعلكم أمة وسطا {وَسَطًا} يعني عدولا خيارا، وهذه الأمة وسطية في نفسها، ووسطية باعتبار الأمم السابقة خلافا لما قاله بعض  المعاصرين من أن هذه الأمة وسطية باعتبار الأمم السابقة، وليست وسطية في ذاتها، ومعنى {وَسَطًا} يرد هذا القول لأن معنى {وَسَطًا} أي عدولا خيارا، ولذلك بعض العلماء أخذ من هذه الآية أخذ منها دليلا على الإجماع، فلو لم يكونوا عدولا خيارا، ولو لم يكونوا وسطية في ذاتها ما دل هذا على صحة إجماعهم، ولو لم تكن هذه الأمة وسطية في ذاتها لما شهدت على الأمم السابقة في يوم القيامة، ولذلك لما قال {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} من أجل ماذا؟ {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} ولذلك تشهد هذه الأمة للأنبياء السابقين كما جاء بذلك الحديث، يقوم نوح عليه السلام، فيقول الله عز وجل له هل بلغت؟ فيقول نعم يارب فيقول الله لقومه: هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من بشير ولا نذير، فيقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: أمة محمد عليه الصلاة والسلام، فتشهد له.

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} وهو النبي  محمد عليه الصلاة والسلام يكون شهيدا على هذه الأمة، {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} يعني ما كنت على القبلة التي هي بيت المقدس ثم وجهت إلى الكعبة {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا} من أجل ماذا هذا التحول؟ {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ} يعني يرجع {عَلَى عَقِبَيْهِ} {مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً} يعني وإن كانت التحويلة من بيت المقدس إلى الكعبة {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} يعني صلاتكم؛ لأن الصحابة قالوا: يا رسول الله إن إخواننا قد ماتوا، وكانوا قد توجهوا بالصلاة إلى بيت المقدس، فأنزل الله عز وجل هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}.

{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)}

{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} كان عليه الصلاة والسلام، وهو  يصلي إلى بيت المقدس يحب ماذا؟ يحب أن يتوجه في الصلاة إلى الكعبة، فكان يقلب نظريه في السماء لعل وعسى أن يأتي أمر من الله بأن يوجه إلى الكعبة، {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} يعني جهة المسجد الحرام، ولم يقل الكعبة من أجل ماذا؟ من أجل أن من كان بعيدا عن الكعبة، فيكفيه أن يتوجه إلى جهتها، أما من كان قريبا من الكعبة، فلابد أن يكون التوجه من المصلي إلى القبلة بإصابة عينها يعني إلى الكعبة بإصابة عينها، {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} هذا خطاب لجميع الأمة كما أنه له عليه الصلاة والسلام أتى بالجمع فقال الله {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}  يعني إلى الكعبة، {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} وهم اليهود {لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} يعلمون أنه في التوراة من أن محمدا عليه الصلاة والسلام سيتوجه إلى الكعبة {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} تهديد لهؤلاء.

{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)}

{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ} يعني بكل حجة {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} يعني لا تلتفت إلى هؤلاء {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} على سبيل الافتراض، وإلا فهو عليه الصلاة والسلام لن يتبع أهواءهم، فإذا كان هذا الخطاب موجها إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ولن يفعل، إذًا فيه تهديد للأمة إذا اتبعت هؤلاء اليهود {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} دل على أن ما لديهم هو الهوى، وإن العلم هو ما جئت به {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا} إن اتبعتهم {إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}.

{الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)}

{الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} اليهود يعرفونه إذ قرأوا الكتب {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} الذي علموه في التوراة {وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.

{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} يعني هذا هو الحق، أو جاءك الحق يا محمد من ربك {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} يعني من الشاكين، وحاشاه عليه الصلاة والسلام أن يكون من هؤلاء، لكن فيه تهديد للأمة إن أصابها امتراء أو شك.

{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)}

{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ} لكل أمة {وِجْهَةٌ} يعني قبلة {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} يعني سيتجه إليها {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} ما الذي يجب عليكم؟ {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا} في أي مكان {يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} يعني يوم القيامة {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)}

{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} يعني حتى إذا كنت في البلدان الأخرى، ولذلك كرر الآية هنا {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ} يعني التوجه إلى الكعبة {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.

{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} يعني في الصحاري {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} وتكررت هذه الآية {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} لأن أول شيء نسخ في الإسلام هو القبلة {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} من أجل ماذا؟ {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} حتى لا تقل اليهود كيف يبقى على اتجاه بيت المقدس وهو عندنا في كتبنا سيتوجه إلى الكعبة، وأيضا حتى لا تقول كفار قريش هو يتبع ملة إبراهيم، ولا يتوجه إلى الكعبة التي بناها إبراهيم {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} فهؤلاء ظلمة فإنهم لن ينفعهم أي دليل {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} الخشية لا تكون لله {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} يعني بتوجهكم إلى الكعبة هذا من إتمام نعمة الله عليكم {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} {تَهْتَدُونَ} إلى طرق الخير.

{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)}

{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ} يعني أتممنا عليكم النعمة بالاتجاه إلى الكعبة كما أتممنا عليكم بنعمة سابقة وهي ماذا؟ إرسال هذا الرسول، وهو محمد عليه الصلاة والسلام {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ} يعني يطهركم بهذا الوحي {وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ} يعني القرآن {وَالْحِكْمَةَ} يعني السنة {وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}.

{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} فأمر الله عز وجل بذكره {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} يدل لهذا ما جاء في الحديث القدسي كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام: (قال الله عز وجل: ” من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه” )

{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي} أمر بشكره عز وجل {وَلَا تَكْفُرُونِ} ونهى عن الكفر به عز وجل.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)}

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} معهم بمعيته الخاصة، وهي معية التوفيق والتسديد والرعاية.

{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} حياتهم هي حياة برزخية، الله أعلم بها، لكن مما جاء به الحديث عنه عليه الصلاة والسلام من أن أرواحهم في حواصل طير تسرح في الجنة، فقال الله عز وجل {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} كنه وكيفية هذه الحياة.

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)}

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} يعني لنختبرنكم {بِشَيْءٍ} يعني بقليل؛ لأنه لو اختبرنا بالخوف كله لهلكنا، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ} كأن تخسر التجارة أو يقل الربح {وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ} موت الأبناء موت الأهل الأمراض، {وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} بأن لا تثمر، أو أنها تصيبها الجوائح، {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} أي مصيبة تصيبهم {قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ} يعني نحن ملك لله، والمرد إلى الله، سنترك هذه الدنيا كلها وما فاتنا منها {وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} م أما الثمرة والعاقبة لهؤلاء {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ} والصلاة من الله هي ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}.

{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)}

{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} يعني من أعلام دين الله {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ} يعني لا إثم {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} وذلك لأن الصحابة رضي الله عنهم تحرجوا؛ لأنهم كانوا في الجاهلية كانوا يطوفون بين الصفا والمروة، وكان على الصفا صنم، وكان على المروة صنم، فلما جاء الإسلام تحرجوا من الطواف بين الصفا والمروة، فقال الله عز وجل {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} أي تطوع من الخيرات {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} فالله عز وجل شاكر إذ إنه عز وجل يعطي الثواب الكثير على العمل القليل الذي يقوم به العبد {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}.

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)}

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى}  {مِنَ الْبَيِّنَاتِ} يعني من الدلائل {وَالْهُدَى} {وَالْهُدَى} عام لأن البينات تدخل في ضمن الهدى، وهذا فيه بيان لحال اليهود الذين كتموا ماذا؟ كتموا صفة النبي عليه الصلاة والسلام، وهذه الآية يدخل فيها علماء هذه الأمة إذا كتموا العلم الشرعي، {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ} يعني وضحناه {لِلنَّاسِ} يعني من أجل الناس، يعني أنزل الله هذا الكتاب من أجل ماذا؟ أن ينتفع به الناس فإذا حرف، أو كتم هنا فيه اعتداء على حق الله، وفيه اعتداء على الخلق؛ لأن هذا الكتاب ما أنزل إلا من أجل أن ينتفع به الناس {مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ} طردهم من رحمته {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} جميع الخلق، ولذلك من يكتم العلم الشرعي، فإنه يلعنه جميع الخلق، من نشر العلم فقد قال عليه الصلاة والسلام كما ثبت عنه: (معلم الناس الخير يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر والنمل في جحورها) فقال الله {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}

{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} يعني أصلحوا من حالهم {وَبَيَّنُوا} ما كانوا فيه من ضلال وتبرأوا من الباطل، ولذلك لماذا قال {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} هذه الآية في حق كل مبتدع من كان رئيسا في فرقة مبتدعة، أو صاحب هوى، أو صاحب شعارات، فإنه لو قال تبت فإن توبته لا تكون مقبولة حتى يصلح من حاله، وحتى يتبرأ من منهجه، ومن ضلاله السابق {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ} أقبل توبتهم إذا أتوا بهذه التوبة بشروطها {فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}، وتأمل يأتي التواب مع الرحيم كثيرا، لم؟ لأن التوبة من رحمته عز وجل، ومن رحمته أن شرع لنا التوبة.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)}

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ} يلعنهم الله {وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا} يعني في اللعنة أو في النار {لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} يعني يمهلون ويؤخرون.

{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)}

{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} وذلك أن كفار قريش قالوا يا محمد انسب لنا ربك فقال الله {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} لا معبود بحق إلا هو {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}.

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)}

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} هذه دلائل على ماذا؟ على ربوبيته عز وجل، وعلى تفرده بالألوهية {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يعني فيهما عبرة {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} من حيث  القصر، ومن حيث الطول، ومن حيث التساوي {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي} يعني السفن {الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} أي بكل ما ينفع الناس من حيث التجارة والتنقل وما شابه ذلك، {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} {فَأَحْيَا بِهِ} يعني بسببه {الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} {وَبَثَّ فِيهَا} يعني في الأرض {مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} من كل ما يدب على الأرض {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} مرة حارة، مرة باردة، مرة تأتي بالعذاب، مرة تأتي بالرحمة، مرة تلقح، جنوبية، شمالية، شرقية، غريبة

{وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ} يعني المذلل {بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} ما مضى آيات {لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} من عندهم تعقل حتى يعقلوا، ويعلموا أن الله عز وجل هو الذي يستحق الألوهية عز وجل.

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)}

{وَمِنَ النَّاسِ} هنا صنف مع تلك الدلائل هذا الصنف لم يؤمن بالله ولم يوحد الله عز وجل {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} يعني نظراء وأشباها من الأصنام وغيرها {أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} يعني كمحبتهم لله {وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} لم؟ لأن محبة أهل الإيمان لله محبة في الضراء وفي السراء وعن صدق، أما محبة هؤلاء إنما هي لمصلحة وتكون في الضراء {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فقال الله عز وجل {وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ} يعني بأن القوة {لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} يعني هؤلاء الذين ظلموا لو يروا العذاب، وحينها يرون قوة الله، ويرون عذاب الله لرأوا أمرا عظيما فظيعا، {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ} أي بأن أو لأن القوة {لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}.

{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا} وهم الرؤوساء {مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} وهم الضعفاء {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} {وَرَأَوُا الْعَذَابَ} يعني الأتباع والمتبعون رأوا العذاب {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} كل الأسباب التي كانت بينهم في الدنيا من مال، من جاه، من قرابة، وما شابه ذلك تقطعت في يوم القيامة، بل كما قال تعالى {وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}

{وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} وهم الذين اتبعوا الرؤوساء وهم الضعفاء {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} يعني رجعة في الدنيا {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ} يعني كما أراهم العذاب يريهم الله عز وجل {أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} يرون أعمالهم حسرات تتقطع قلوبهم حسرات يوم القيامة؛ لأنهم سيكون مصيرهم إلى العذاب {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} خالدين فيها.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)}

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} الحلال ضد الحرام {طَيِّبًا} يعني ضد المستقذر، {وَلَا تَتَّبِعُوا} تحريم {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} يعني طرق الشيطان {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} عداوته بينة وواضحة، بل أظهرها، {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ} وهو الذنب الذي يسيء الإنسان يوم القيامة {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} أي ما فحش من الذنوب كالزنا وما شابه ذلك، {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}  يعني يأمركم بأن تقولوا على الله ما لا تعلمون، انظر تأمل، بدأ من الأصغر إلى الأعظم

{إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ} ثم الفشحاء، أعظم ذلك القول على الله بلا علم.

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)}

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وهو القرآن {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا} يعني ما وجدنا {عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ} يعني أيتبعون آباءهم ولو كان آباؤهم {لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}.

{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)}

{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} يعني يرفع صوته {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} الدعاء هو الصوت القريب، النداء الصوت البعيد، حال هؤلاء الكفار كراعي ينعق بغنمه رفع صوته أو أنه أخفض صوته من قريب أو من بعيد هل تفقه؟ هل تفهم؟ الجواب: لا، فكذلك هؤلاء الكفار لا يفقهون ولا يفهمون، بل يدخل في ذلك كما قال بعض المفسرين من أن حال هؤلاء الكفار مع آلهتهم إذا دعوهم من دون الله كحال هذا الراعي مع هذه البهائم، فإنها لا تفقه شيئا، وتلك الأصنام لن تستجيب لهم دعواتهم، فقال عز وجل {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ} يعني عن سماع الحق {بُكْمٌ} يعني عن النطق بالحق {عُمْيٌ} يعني أنهم لا يبصرون الحق {فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)}

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} لم يقل حلالا، لم؟ لأن المؤمن لا يأكل إلا الحلال، لكنه نص هنا على الطيب، لكن فيما مضى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} لأنه خطاب للكفار وللمؤمنين نص على ماذا؟ على الحلال أيضا، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} هنا قال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أمر بشكره، فإذا كنتم تعبدونه فاشكروه عز وجل، {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} وهي ما مات حتف أنفها، ويستثنى من الميتة ما جاءت الأدلة باستثنائه كالحوت والجراد يعني ميتة البحر {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} والمقصود الدم المسفوح الذي يخرج من البهيمة حينما تذبح وتذكى، لكن الدم الذي يكون في أعضائها في قدمها في يدها، فإنه يكون حلالا مع اللحم، فقال الله {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} نص على لحم الخنزير؛ لأن النفوس تطلبه، ولا يدل على أن شحم ومصران وكرش الخنزير لا يدل على أنه حلال، بل كل أجزاء الخنزير حرام {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} {وَمَا أُهِلَّ} يعني ما رفع الصوت به لغير الله، كانوا إذا ذبحوا لأصنامهم يرفعون الصوت، لكن هذا يشمل ما رفع الصوت عليه، وما لم يرفع، بمعنى أن من ذبح لغير الله فإن هذه الذبيحة تكون ميتة سواء رفع صوته، أو أنه لم يرفع صوته {فَمَنِ اضْطُرَّ} يعني من ألجأته الضرورة، وسيموت وسيهلك إن لم يأكل من الميتة {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ} يعني غير طالب لأكل الميتة {وَلَا عَادٍ} يعني أنه لا يأكل أكثر مما يسد رمقه يعني أنه لا يشبع {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)}

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} وهذه يدخل فيها، وإن كان الحديث عن اليهود يدخل فيها من يكون من علماء هذه الأمة {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} سبحان الله! مرت الآية السابقة {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} فما الفرق بينهما؟ الفرق أولا: هو التأكيد، التأكيد على حرمة كتمان العلم، الآية السابقة كتمان العلم من غير أن يأخذ على كتمانه شيئا من المال عقابه {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}، فإذا أخذ الثمن كتم العلم من أجل أن يأخذ غرضا من أغراض الدنيا هذه الآية تبين عقوبته {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} ولذلك ماذا قال بعدها؟ {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} أي مما يؤدي بهم إلى النار{أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} والنار تشتعل في بطونهم يوم القيامة {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} تكليم تشريف، وإلا فهو عز وجل يكلمهم كلام توبيخ قال تعالى {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} وهذا يدل على أنه عز وجل يكلم المؤمنين تكليم تشريف، ولذلك من صفاته عز وجل صفة الكلام تثبت له عز وجل بما يليق بجلاله وبعظمته {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ} أي لا يطهرهم من دنس الذنوب والشرك {وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ما حال هؤلاء؟ {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} أخذوا الضلالة، الثمن الذي دفعوه الهدى {وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ} أخذوا العذاب، واشتروا العذاب، والثمن ما هو؟ المغفرة {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} تعجب ما أصبر هؤلاء على النار إذ أقدموا على أن يأتوا بالأسباب التي تؤدي بهم إلى النار، ويصح أن يكون أيضا استفهام {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} أي: أي شيء صبرهم على النار.

{ذَلِكَ} أي ما جرى لهؤلاء من العذاب السابق {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ} بسبب أن الله {نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} وهذا يشمل حتى كما أنه فيما يتعلق بالكتب السابقة التوراة والإنجيل يدخل في ذلك القرآن {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} ما أنزله إلا بالحق، لكن هؤلاء ما أرادوا إظهار الحق، ولذا ماذا قال بعدها؟ {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ} يعني في نزاع ومخالفة مع الرسل {لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} مما يدل على عظيم ما في قلوبهم من الخلاف والمعاداة للرسل.