شرح كتاب ( بلوغ المرام ) ـ الدرس 52 حديث60
( باب المسح على الخفين )
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين :
( أما بعد )
فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
عن علي رضي الله عنه :
( لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه ، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه )
أخرجه : أبو داود بإسناد حسن .
( من الفوائد )
أن ابن حجر رحمه الله حسَّن هذا الحديث ، كما هو مذكور هنا ، وقد صححه في ” تلخيص الحبير “
فهذا الحديث ثابت .
( ومن الفوائد )
” بيان أن العقول لا تستقل بنفسها في فهم الشريعة وأنه يجب أن تكون العقول تابعة للشريعة”
فلا يناقض الرأي والعقل شرع الله عز وجل ، وإنما متى ما جاء شرع الله فُهمت الغاية والحكمة من هذا الشرع أو لم تفهم ، فواجب على العقل أن يسلِّم ، ولذا قال هنا ( لو كان الدين بالرأي ) وذلك لأن العقول تتفاوت في الحكم على الأشياء حُسنا وقبحا ، فما تراه حسنا قد أراه قبيحا ، وما تراه في أعلى الحسن ، قد أراد فيما هو دون ذلك ،.
وليعلم – أن ” العقل السليم لا يمكن أن يناقض الشرع الصحيح ” ولذا قال عز وجل عن أهل النار :
{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ }الملك10
{ نَسْمَعُ} هذا ما يخص الشرع .
{ نَعْقِلُ }يعني لو كانت لنا عقول سليمة ما وقعنا فيما أفضى بنا إلى هذه النار .
( ومن الفوائد )
أن كلمة ( لو ) أداة شرط ، ومعناها [ امتناع لامتناع ]
فمعناها في هذا الحديث ” امتنع المسح لأسفل الخف لامتناع أن يكون الشرع خاضعاً للعقل “
كما لو قلت : ” لو زرتني لأكرمتك “
انتفى الإكرام لانتفاء الزيارة .
وكلمة ( لو ) يصح في جوابها أن يكون مقرونا باللام وأن يكون خاليا من اللام “
هنا : ( لو كان الدين بالرأي لكان )
أتى جواب ( لو ) باللام .
ويصح أن يكون الجواب خاليا من اللام ، وإذا أردت أن تتذكر هذه المعلومة فاقرأ ما جاء في سورة الواقعة ، قال تعالى :
{ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ{63} أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ{64} لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ{65} جاء الجواب مقرونا باللام .
ما الذي بعدها ؟
{ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ{68} أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ{69} لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ } بدون اللام ، فيصح الإقران وعدم ذلك ، وإن كان الأكثر أن يكون الجواب مقترنا باللام .
وهذه هي فائدة العربية ” أن تعرف معنى الكلام الوارد في الشرع من الكتاب ومن السنة ،
فـ ( لو ) تختلف عن ( لولا ) وتختلف عن ( لمَّا )
( لو ) هنا ” أداة امتناع لامتناع “
و ( لمَّا ) ” أداة وجود لوجود “
و ( لولا ) ” أداة امتناع لوجود “
فـ ( لولا ” أداة امتناع لوجود “
تقول : ” لولا رحمة الله لهلكنا “
امتنع الهلاك لوجود رحمة الله جل وعلا .
( لما ) أداة وجود لوجود “
جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما كما في الصحيحين – وقد مر معنا في التوحيد –
( لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال يا معاذ )
وُجد قول النبي صلى الله عليه وسلم لما وجد ابعاثه صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه .
ولتعلموا أن ( لمَّا ) تأتي جازمة ، ومر معنا في ” الآجرومية “
” لما يقمْ زيدٌ ” تجزم الفعل المضارع .
وتأتي بمعنى ( إلا ) إذا سبقتها ( إنْ ) النافية التي بمعنى ( ما )
قال تعالى :
{إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ }الطارق4
معنى الآية ” ما كل نفس إلا عليها حافظ “
{وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ }يس32
أي ” ما كل إلا جميع لدينا محضرون “
( ومن الفوائد )
لو قال قائل / قلتم إن الشرع لا يخالف العقل ، هنا في هذا الحديث في ظاهره أن الشرع يأتي بما يخالف العقل “
الجواب / لا
فالشرع لا يأتي بما يخالف العقل السليم من الشبهات والشهوات ،بعض الناس صاحب شهوة ، إذا قلت له ” إن الغناء محرم ” قال أنا غير مقتنع ، أين الدليل من القرآن ؟ ولماذا يكون محرما ؟
لم ؟
لأن الشهوة طغت عليه ، لكن إذا كان العقل سليما صحيحا ، فإنه لا يخالف الشرع ، بل يقبل ما جاء به الشرع ، ولذلك الراسخون في العلم مع ما لديهم من العلم الراسخ ، إذا أتى ما لا تفهمه عقولهم ماذا يقولون ؟
{ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا }آل عمران7
إذاً ما معنى هذا الحديث ؟
معنى هذا الحديث أنه في أول الأمر ، أول ما ينقدح في عقل الإنسان ” أن أسفل الخف أولى بالمسح ” لم ؟
لأن أسفل الخف هو الذي يباشر الأرض ، لكن لو تعقَّل وتمهَّل العقل وجد أن أعلى الخف أولى بالمسح من الأسفل .
إذاً / لو كان الدين بالرأي في أول ظاهره ، وليس بعد التعمق ، في أول ظاهره لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه .
ولذلك قال قوم نوح عليه السلام :
{ وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ } هود27 ، يعني ما تعقلوا ولا تمهلوا ، ولو تمهلوا ما انساقوا إليك.
لكن العقل لو تمهَّل وتفهَّم وجد أن أعلى الخلف أولى بالمسح من الأسفل ، كيف ؟
لأنه لو مسح أسفل الخف الذي باشرته القاذورات لازداد تلوثاً ، فيكون المسح على الأعلى أولى ، لم ؟
لإزالة الغبار الخفيف الذي يعلوه .
( ومن الفوائد )
” أن السنة في المسح على الخفين أن يكون المسح على أعلى الخف “
هل يمسح أسفل الخف أو يمسح العقب ؟
قالت الشافعية : يستحب أن يمسح الأسفل ، وكونه صلى الله عليه وسلم يسمح أعلى الخف لا يعني أنه لا يمسح أسف الخف ، باعتبار أن المسح بدلٌ عن الغسل ، والغسل يكون لجميع القدم .
واستدلوا بحديث المغيرة السابق ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح أعلى الخف وأسفله )
ولكن الحديث لا يصح ، وبالتالي فإن القول الصحيح أنه لا يستحب مسح أسفل الخف ولا العقب وإنما يمسح الأعلى ، لظاهر هذا الحديث وللأحاديث الأخرى .
( ومن الفوائد )
لما قررنا أن المسح يكون على أعلى الخف ، ما هو المقدار الذي يمسح منه أعلى الخف ؟
هل يمسح كله ؟ أم يمسح أكثره ؟ أم يمسح بعضه ؟
لم يرد دليل ينص على المقدار الذي يمسح منه أعلى الخف .
ولذا قال بعض العلماء : لو مسح بمقدار أصبع جاز .
وبعضهم قال : بمقدار ثلاثة أصابع .
والصواب / أنه يمسح الأكثر ، لأنه قال ( رأيت رسول الله صلى الله وسلم يمسح على ظاهر خفيه )
ولا يلزم بمسح الجميع .
( ومن الفوائد )
ما صفة المسح على الخفين ؟
نقول : جاءت أحاديث لكنها ضعيفة ، وسيأتي معنا – بإذن الله تعالى – حديث عند ابن ماجه :
( أنه صلى الله عليه وسلم مسح من أطراف أصابع القدم اليمنى على اليمنى ، واليسرى على اليسرى إلى الساق )
ولذا استحب الفقهاء : أن يبدأ من أصابع القدمين إلى الساق “
ولكن أيمسح اليمنى أولا ثم اليسرى ؟ أم يمسح القدمين كلتيهما مرة واحدة كما تمسح الأذنان ؟
يحتمل هذا ويحتمل هذا ، إذا نظرنا إلى قوله :
( مسح ظاهر خفيه )
في ظاهره أنه مسحهما كما تمسح الأذنان .
وإن نظرنا إلى أن كل قدم مستقلة بنفسها عن القدم الأخرى قلنا تمسح اليمنى أولاً ثم اليسرى ولا تقاس على الأذنين ، لأن الأذنين تابعتان للرأس ، فليست كل أذنٌ مستقلة ، بينما الأقدام كل قدم مستقلة ، ويقرر ذلك ويؤكده قول عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين :
( كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وفي ترجله وفي طُهوره وفي شأنه كله )
ومن ثم فإن الأمر في ذلك واسع .
( ومن الفوائد )
وكذلك جاءت الأحاديث الكثيرة بذلك ، تأتينا مسألة الخف المخرَّق الذي به شقوق ، أيمسح عليهما أم لا ؟
المشهور عند الحنابلة : لابد أن يكون الخف صفيقاً لا يصف البشرة ولا يكون به خروق ، فإن ظهر ولو خرْق يسير فإنه لا يصح أن يمسح عليه ، لم ؟
قالوا : لأن ما ظهر من القدم فرضه الغسل ، وما سُتر من القدم ففرضه المسح .
القول الآخر / أنه يصح المسح على الخف الذي به خروق أو شقوق ، ما الدليل ؟
أولا : إطلاق الأحاديث .
ثانيا : أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا لا يملكون ما يستر أقدامهم ، ولذلك في غزوة ” ذات الرقاع ( كانوا يلفون على أقدامهم الخِرَق ) من قلة النعال والخفاف ، فكانوا يمشون على خفافهم ، ومعلوم أن المشي على الخفاف يعرضها إلى الخروق ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في شأن من أصابت خفيه نجاسة ، قال :
( فليدلكهما بالتراب ، فإنه لهما طهور )
ومعلوم أن دلكهما يؤثر .
ثم لو نظرنا إلى الحكمة والمشروعية من المسح على الخفين أهو التيسير أم غيره ؟
التيسير .
وبالتالي فإن القول الصحيح أنه يمسح على الخف الذي به خروق لهذه الأدلة ، وأما ما ذكره فقهاء الحنابلة فإنه ليس عليه دليل ، أين الدليل على أن ما كان ظاهرا ففرضه الغسل ، وأن ما ستر أن فرضه المسح ؟
لا دليل ، وإنما هي علة لا يلتفت إليها .
لو قال قائل : ما ضابط هذه الخروق ؟
بعض الناس يصيب خفه خرق يسير ، وبعضهم كبير ، فما هو الضابط ؟
نقول : ما دام أنه في العرف يقال هذا خف ، لكنه خف به خروق فلتمسح عليه .
لو قال قائل : هب أن الخف ليست به خروق ، وستر القدم كلها ، لكنه يظهر لون البشرة ؟
فقهاء الحنابلة – كما أسلفنا – يقولون لو ستر القدم ولكن يظهر لون البشرة فإنه لا يصح المسح عليه .
ولذا تأتينا مسألة ” الشُّرَّاب الشفاف ” ومع تطور الناس في التصنيع ، ظهر شُرَّاب تقول هي هي جلد الإنسان ، لو رأيت إنسانا لم يلبس شرَّابا وآخر لبس هذا الشرَّاب ، قلت إنه لا فرق بينهما إلا فرق يسير ، لا يكاد أن يعرف إلا أذا تُمُعِن النظر فيه .
رأي الشيخ ابن عثيمين رحمه الله يقول : يجوز المسح ، وهو الصواب ، لم ؟
أولا : لأن اسم الجورب صادق عليه .
ثانيا : جاء في المسند – وسيأتي معنا إن شاء الله – أن النبي صلى الله عليه وسلم :
( إذ1 أرسل سرية أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين )
العصائب : العمائم .
التساخين : كل ما يسخن القدم .
ومعلوم أن القدم حينما يلبس هذا الجورب تسخن ولو سخونة يسيرة تختلف عن القدم التي هي مشكوفة ، وهذا شيء مشاهد وبالحس .
( ومن الفوائد )
” هل مسح النبي صلى الله عليه وسلم على الجورب ” ؟
اختلف العلماء في المسح على الجوربين لاختلافهم في ثبوت الأحاديث ، جاء في السنن
( أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الجوربين والنعلين )
بعض العلماء قال : لم يصح حديث في المسح على الجوربين .
وبالتالي فإنه لا يمسح إلا ما كان مصنوعا من جلد فقط .
وبعض العلماء : صححها ، بل قال الألباني – رحمه الله – رواة من روى ” مسح النبي صلى الله عليه وسلم على الجوربين ” هم رواة البخاري .
والصواب / أنه يمسح على الجوربين ، حتى لو قيل بضعف الأحاديث فإنه يمسح على الجوربين ، بدليل ما ذكرناه من أن النبي صلى الله عليه وسلم ( أمر تلك السرية أن تمسح على العصائب والتساخين )
لكنهم يقولون : ( التساخين ) ليست هي الجوارب ، وإنما هي الخفاف المصنوعة من الجلد .
نقول : ثبت عن جملة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم رأوا المسح على الجوربين ، وفعل هؤلاء الصحابة وآراؤهم مقبولة .
( ومن الفوائد )
وهي فائدة عزيزة :
أن في هذا الحديث ردا على الرافضة ،فهم لا يرون المسح على الخفين ، نقول – سبحان الله – إمامكم الأعظم الذي ترونه أعظم الأئمة ، بل إن بعضكم يجعله في منزلة النبي صلى الله عليه وسلم ، بل إن بعضهم يرى أنه في منزلة الإله ، وهو علي رضي الله عنه ، روى حديث المسح على الخفين كما هنا ، ولكن أين العقول السليمة
( ومن الفوائد )
أن المسح على الخفين رخصة ، هذا ما قررناه ، لو قال قائل : لن أمسح ، سأغسل خفي ، أو سأغسل جواربي ، ما الحكم ؟
هذه المسألة اختلف فيها العلماء على ثلاثة أقوال :
القول الأول : يقول إن غسله لا يصح ، لأن الوارد حينما تكون القدم مستورة هو المسح ، فيكون هناك تنطع منه .
القول الثاني : يصح المسح ، فإن الغسل أولى من وأعلى مرتبة من المسح .
القول الثالث : أنه يصح غسل الخفين إذا أمرَّ يديه عليهما .
ولا شك أن المسح هو الأفضل ولا نزاع في هذا ، فلا يعدل المسلم من المسح إلى الغسل ، لكن لو فعل فما هو أقرب الأقوال صحة ؟
أقرب الأقوال : أنه إذا مرَّ يديه عليهما أثناء الغسل فنقول صدق عليه وصف المسح ، لكنه زاد في الماء .
ولتعلموا _ أن ما يقال هنا يقال على شخص توضأ فبدل أن يمسح رأسه أثناء الوضوء غسله ، فما يقال هنا يقال هناك .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد .