الشرح الموسع لكتاب التوحيد ـ الدرس ( 112 )
قوله تعالى ( فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه )
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم قال المصنف :
وقوله تعالى : ((فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )) :
ــــــــــــــــــــ
الشرح :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذكر المصنف هذه الآية وقبلها قوله تعالى : ((وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ{16} إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ{17} ))
ـــ نفسر ما ذكره المصنف التزاما بالمتن :
ـــ فإبراهيم قال لقومه : ((اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ))
” إبراهيم “ هنا ــــــــ نُصب بناء على فعل محذوف مقدر، تقديره : (( واذكر إبراهيم إذ قال لقومه : اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ” ))
ــــــــــــــــــــــ
فقوله تعالى : ((إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ )) :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا شامل لكل ما يعبد من دون الله بدلالة اسم الموصول الذي هو : (( الذين ))
فهو شامل لكل ما عُبد من دون الله في عصر إبراهيم ، وكانوا في عهده يعبدون الأصنام :
قال تعالى : ((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً ))
وكانوا يعبدون النجوم :
قال تعالى : ((فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ{88} فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ{89} ))
وقال تعالى : ((فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ{76} فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ{77} فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ{78} إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ{79} ))
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله عز وجل هنا عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام
((لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً )) :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
” لا “ ـــــــــــــ هنا نافية ، وليست ناهية
ولذا :
ــــــــــــــــ
هذا الفعل ، وهو الفعل المضارع الذي من الأفعال الخمسة لم تُحذف نونه لأنه ليس بمجزوم :
قال : ((لَا يَمْلِكُونَ ))
ـــ والفعل المضارع يدل على التجدد والاستمرار ، ففيه نفي لملك هذه المعبودات الرزق في جميع الأحوال
فإنهم في ابتداء الأمر ضعفاء :
فالإنسان خرج من بطن أمه وهو لا يملك شيئا حتى لو استغنى وأثرى فإنه لا يملك رزقا
((رِزْقاً )) هنا : نكرة في سياق النفي فتعم أي رزق ، فلا يستطيع أحد ان يرزق أحدا
وإذا أمدّ المخلوق مخلوقا بمال فإنما الذي ملكه ووهبه ومنحه هو الله عز وجل ، إذ جعل هذا المخلوق سببا
وإذا نفي الله عز وجل عن المخلوقين الرزق دلّ على ان الرزق هو من عنده عز وجل
ولذا قال : ((فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ )) :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولذا : قال عز وجل في مثل هذه الآية مبينا ضعف هؤلاء المعبودين :
((اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ ))
الجواب : ” لا ” :
((سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ))
ولو نظرت لوجدت الرزق هنا ذكر مع العبادة ، فدلّ على أن العبد مأمور بأن يشتغل بطاعة الله عز وجل ، وأن يأخذ من هذه الدنيا من الرزق ما يعينه على طاعة الله عز وجل
ولذا : في أول آية ذكرها المصنف :
قال : قال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }
ما الذي ذكره بعدها ؟
{مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ }
ــــ وهنا ذكرت العبادة :
((وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ……………….. )) الآية
فكما أن الإنسان مأمور أن لا يشتغل بالرزق عن عبادة الله ، فليعلم أنه إذا عبد الله ، وقدم عبادة الله فإن الله أكرم منه فيرزقه
فأنت مأمور بطاعة الله ، وأن لا تشتغل عنها بطلب الرزق
وإذا اشتغلت بهذه العبادة حظيتَ بالرزق الواسع
ولذا قال تعالى : ((وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً{2} وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ))
وقال تعالى : {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى }
وقوله تعالى : ((فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ )) :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هل هذا الرزق هو المال الذي يُتمول ؟
هل هو هذا المال العيني أم أن هذا الرزق شامل لكل ما يحبه الإنسان ؟
هو شامل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فالعلم رزق من الله
الصحة رزق
السعادة رزق
الأولاد الصالحون رزق
الزوجات الصالحات رزق
الصحبة الطيبة رزق
المال رزق
قوله : ((فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ )):
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الابتغاء هو الطلب
وقوله : ((عِندَ اللَّهِ )) :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العندية هنا في تقديمها فائدة :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إذ إن الأصل في السياق لو كان في غير القرآن : ( فابتغوا الرزق عند الله )
فلما قدم الظرف دلّ على ” الحصر “
وذلك لأن القاعدة عند البلاغيين:(( أن ما كان حقه التقديم فأوخر أو حقه التأخير فقدم فغنه يفيد الحصر ))
فيحصر طلب الرزق عند من ؟
عند الله عز وجل
وابتغاء الرزق ليس المراد منه ما يجول في الخاطر ، وما ينقدح في الذهن من المال
” لا “
وإنما كل نعمة هي رزق من الله عز وجل :
فالصحة رزق
والجاه رزق
والمال رزق
والأولاد الصالحون رزق
والزوجة الصالحة رزق
ولذا : ثبت عند النبي صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم : (( الدنيا متاع وخير متاعها الزوجة الصالحة ))
وقال تعالى : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم ))
أمر بالإنفاق من الرزق
وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين : (( من أنفق زوجين – أي صنفين – من أنفق زوجين في شيء من الأشياء دُعي من أبواب الجنة : يا عبد الله هذا خير :
فإن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة
وإن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة
وإن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان
وإن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ……))
الحديث
فكيف يكون هنا إنفاق في الصلاة ؟
الإنفاق في الصلاة : أن يبذل الإنسان نفسه وأن يحبسها لله
فهذا وجه من وجوه الإنفاق في الصلاة
وأبواب الجنة الثمانية التي رتب عليه أعمال راجع الفقه الموسع في بيانها
وقوله : (( واعبدوه )) :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إذا ذكرت العبادة يذكر الرزق في غالب ما يكون
ولذا كما سبق أشرنا إلى ذكر قوله تعالى :{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }
بين الحكمة من خلق الإنس والجن ثم ذكر الرزق
ثم قال : ((وَاشْكُرُوا لَهُ )) :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشكر لاشك أنه عبادة ،فلماذا أفرد بالذكر ؟
هذا من باب عطف الخاص على العام ، فيكون فيه تنويه وتنبيه بشأن الذكر
ــــ والشكر يجب أن يُخلص فيه لله بدلالة قوله (( له ))
((وَاشْكُرُوا لَهُ )) يعني لا إلى غيره
ــــ والشكر مرتقى عزيز لا يصل إليه إلا من علت نفسه
ولذا قال تعالى : ((اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ))
ــــ والشكر ذكر هنا لأنه ذكر الرزق ، فإذا رُزقت بخصلة حميدة أو بمال فإن الواجب عليك أن تشكر الله عز وجل
ـــ فإذا طلبت الرزق من الله فنلتَ هذا الرزق فعليك أن تشكر الله عز وجل على هذا الرزق
ـــــــــــ وقوله : ((إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )) :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إليه ترجعون فيجازي كلا بعمله :
ـــ الشاكر وغير الشاكر
ـــ العابد وغير العابد
ــــ الطالب الرزق من الله ، والذي لم يطلب الرزق من الله ، وإنما طلبه من غيره
فالختم بقوله : ((إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )) ختم الآية فيه تهديد وترهيب أن تُصرف عبادة لغير الله
فيكون موضع الشاهد من الآية قوله تعالى : ((فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ )) :
ففيه أن من ابتغى الرزق من عند غير الله فهو غير عابد لله
وإذا لم يعبد الله فإنه غير موحد
فذكر قوله : ((وَاعْبُدُوهُ )) بعد طلب الرزق من عند الله يدل على أن طلب الرزق من عند الله عبادة