الدرس الرابع والأربعون
من الفقه الموسع
لفضيلة الشيخ زيد البحري
مسألة :
المسح على العمامة كالمسح على الخف في مسح أكثره ويسن أن يمسح معها ما ظهر من الرأس ولا توقيت فيها ولا اشتراط طهارة على الصحيح وكذا لا تشترط عمامة بصفات معينة وإنما يشترط أن تكون ساترتا لما جرت العادة بستره
الشرح
العمامة / ما الملابس السائدة في عصر النبي وقد وردت أحاديث مختلفة في فضل لبس العمامة والصواب في لبس العمامة إنها من المباحات التي تجري عادة الناس بها ولذا ليس من السنة أن يأتي انسان في مجتمعنا نحن ويلبس العمامة ، وذلك لأن هذه العمامة انما هي خاضعة في اللبس إلى جريان العادة ، وذلك لو ان انسانا منا لبس عمامة للفت أنظار الناس إليه والقاعدة [ أن موفقة عادات الناس فيما ليس بمحرم ولا مكروه فهو من المشروع ] فموافقتك لعادة مجتمعك فيما ليس بمحرم ولا مكروه فهو مشروع ، ويدل لهذه القاعدة قول النبي ( من لبس لباس شهرة ألبسه الله ثوب مذلة يلتهب عليه نارا ) وهذا ان دل يدل على حرص هذه الشريعة على الاجتماع حتى في المظهر فما ظنكم بالمخبر فالمتأمل للنصوص الشرعية يجد الكم الهائل في توجيه الناس إلى الاجتماع حتى في دقائق الاشياء وذلك لأن الانسان إذا لبس ما يخالف عادة أهل البلد فقد رغب عن اجتماعهم وهذا مما لا تقيده الشريعة والعادات تختلف من بلد إلى آخر لكن في بلدنا نحن لو لبس أحدنا عمامة لأصبح محط أنظار الناس ، ولذا فلا يسن لبسها ، لو أتى دليل صريح من النبي يأمر بلبس العمامة لسمعنا وأطعنا ولذا كان النبي يلبس ما يلبس في زمنه وقد قال صلى الله عليه وسلم ( البسوا من ثيابكم البياض ) وقد لبس أحمر مخططا ولبس الأخضر ولبس الأسود فهذه المسألة يتفرع منها عدة تفريعات
الفرع الأول :
ان المسح على العمامة كالمسح على الخف في مسح أكثرها والعمامة قد اختلف العلماء في المسح عليها ، فبعض يرى أنه لا يمسح على العمامة إلا عند الحاجة أو الضرورة ويستدلون بما يأتي :-
الدليل الأول :
ما جاء في مسند الإمام أحمد ( أن النبي أرسل سرية فلما قدموا شكوا إليه البرد فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين )
والعصائب / هي كل ما يعصب على الرأس من عمامة ونحوها
والتساخين / كل ما يسخن القدم من جلد ونحوه
الدليل الثاني :
أن المسح على العمامة يوجب المسح على غير الرأس والشرع إنما أمر بالمسح على الرأس لا على الحائل الذي يكون عليه
القول الثاني :
أن المسح على العمامة يجوز دون تقييدها بحال إذا توفرت فيها الشروط ويستدلون بما يأتي :-
الدليل الأول :
أمر النبي في أحاديث بالمسح عليها ومنها ما تقدم ذكره في المسند
الدليل الثاني :
فعل النبي فقد صح عنه أنه مسح على العمامة فقد ، وثبت أنه مسح على العمامة مع الناصية وكل ذلك ثابت ،
ولذا قال بعض العلماء من هؤلاء القائلين بجواز المسح قالوا : يسن ان يمسح معها ما ظهر من الرأٍس .
وقال بعض العلماء ممن يجيز المسح على العمامة لابد من مسح ما ظهر من الرأس ولكن الصحيح أنه يجوز أن يقتصر على المسح على العمامة وذلك لثبوت النص مقتصرا على مسح العمامة لكن ان مسح عليها مع ما ظهر من الرأس فمستحب لفعله 0
والصواب / من هذين القولين واضح في ترجيحنا في الخلاف الحاصل بين من أجاز المسح على العمامة 0
فالصواب / جواز المسح على العمامة سواء كان هناك عذر أم لم يكن
وقد قال ابن القيم في زاد المعاد : إن بعض العلماء قيد المسح بحال الحاجة والمشقة ولكن الأظهر والأقوى أنه يجوز المسح مطلقا وقد ثبت عند مسلم أن النبي ( مسح على الخفين والخمار ) والمراد بالخمار هنا العمامة ، فيصح أن تسمى العمامة خمارا ثم ان حديث مسحه على الناصية والعمامة استدل به من أجاز المسح على بعض الرأس إذ قالوا : ان الرسول مسح على بعض الرأس فأقل ما يجزئ في المسح على الرأس مكشوفا هو بعضه
ولكن الصواب كما تقدم وجوب استيعاب الرأس بالمسح وأما هذا الحديث فلا دلالة فيه ذلك ان النبي مسح على ناصية وهي مقدمة الرأس مسح عليها مع العمامة
الفرع الثاني : ان لهذا العمامة شروطا وهذه الشروط منها ما هو مختلف فيه ومنها ما ليس بمختلف فيه فيما نعلم
الشرط الأول : يشترط في المسح على العمامة التوقيت وذلك أن يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن .
ويدل لهذا ما جاء عند الطبراني ( أن النبي مسح على العمامة والخفين في الاقامة يوما وليلة وفي السفر ثلاثا ) وخالف البعض فقالوا : لا توقيت فيها ، مستدلين بالأصل والأصل هو عدم الدليل على التوقيت فليمسح على العمامة ما دام لابسا لها وهذا هو الصواب أما الحديث الذي استدل به فهو حديث ضعيف
الشرط الثاني :يشترط ان تلبس على طهارة وذلك قياسا على المسح على الخفين ،ولكن الصواب كما هو الرأي الآخر انه لا يشترط في العمامة ان تلبس على طهارة وذلك لعدم الدليل فقد فعل الرسول المسح وأمر به ولم يأت دليل صريح صحيح باشتراط ذلك وأما قياس العمامة على الخفين فقياس مع الفارق ذلك لأن الأصل في القدم هو الغسل والأصل في الرأس هو المسح ولذا ففي المسح على العمامة ليس منه فرع ولا أصل ويكفي في رد هذا القياس وجود الفعل والأمر من النبي بالمسح على الخفين والعمامة وقد فرق بينها فلو كانت العمامة كالمسح على الخفين في اشتراط الطهارة لأوضح ذلك ، للقاعدة [ تأخير البيان عن وقت الحاجة من النبي لا يجوز ]
الشرط الثالث /ان تكون محنكة وذلك ان يدار بعض أجزائها تحت الحنك .
ودليل هذا الشرط ما يأتي :-
الدليل الأول : ( أمر النبي بالتلحي ونهى عن الاقتعاض ) والنهي عن الاقتعاض / هو المسح على العمامة دون ان تدار تحت الحنك كما هو مفهوم الأمر بالتلحي .
الدليل الثاني :ان هذه العمامة هي عمامة المسلمين فقد تعارف المسلمون على وضع جزء من هذه العمامة تحت الحنك .
الدليل الثالث :
ان وضعها تحت الحنك فيه علة المسح على العمامة وهي المشقة فمشقة نزعها تجيز المسح عليها
القول الثاني :أنه يجوز ان يمسح على العمامة دون ان تكون محنكة وهذا هو اختيار شيخ الإسلام وذلك لأن الرسول مسح على العمامة وهذا مطلق فيشمل أي عمامة كما في أمره للسرية بالمسح على العصائب 0
والعصائب / كل ما يعصب على الرأس 0
وأما ما استدل به فإن هذا الحديث المذكور لا يعرف له مستند ولا يعرف من رواة من أهل الحديث وانما ذكره ابن قدامة في المغني ولم ينسبه إلى كتاب من كتب الحديث ان قولكم بأن هذه هي عمامة المسلمين لا يمنع ان يمسح على عمامة لا يلبسها المسلمون حتى لو كانت عمامة يلبسها أهل الذمة وذلك لأن أهل الذمة كما نقل ابن قدامة ذلك ان أهل الذمة في عصر الرسول لا يحنكون فكونها عمامة اهل الذمة لا يدل على عدم المنع فيجوز له المسح ويكون آثما بالتشبيه بالكفار كما لو لبس الحرير وصلى وكما لو صلى في أرض مغصوبة فإن صلاته تصح مع الاثم على القول الراجح
أما قولكم بأن علة المسح هي مشقة النزع فلا نسلم بهذا العدم وجود نص صريح لهذا العلة وهي علة مقبولة لكن لا يحصر الحكم فيها وذلك لأن هناك علة أخرى وهي علة وجود الضرر ولو سهل نزعها وذلك كأن يعرق الرأس في شدة البرد فلو سهل نزعها للتضرر ولاشك ان هذا مقصود في المسح على العمامة
الشرط الرابع /ان تكون ذات ذؤابة .
والذؤابة / ان يرخي طرفا منها خلف ظهره وذلك لأن جعل الذؤابة خلف الظهر هي صفة عمامة المسلمين . ولكن الصحيح عدم اشتراط هذا الشرط لما سبق في الشرط السابق بل قال شيخ الاسلام كما في زاد المعاد إذ ذكر ابن القيم عنه قولا تحت حديث ( رؤية النبي لربه في المنام ) وأول الحديث ( أتاني ربي الليلة في أحسن صورة ، فقال يا محمد أتدري فيما يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت : لا ، فوضع يده على كتفي فوجدت بردها بين ثديي ……الحديث ) قال شيخ الإسلام بعد هذا الحديث اتخذ النبي العمامة ذات الذؤابة قال ابن القيم ولم أر هذه الفائدة لغيره .
الشرط الخامس /ان تكون ساترتا لما جرت العادة بستره وأما اذا لم تجري العادة بستر شيء من الرأس في العامة كمقدمة الرأس وجوانبيه والأذنين فإنه يجوز المسح عليها حتى مع طهور هذه الأشياء ، وتكون العادة محكمة
ويدل لهذا ان النبي لم يستر ناصيته ( مسح على ناصيته وعلى العمامة )
فهذه هي شروط المسح على العمامة وما جرى فيها من خلاف بين العلماء
وإذا قيل بجواز المسح على العمامة فيجوز مسح أكثرها والسنة ان يمسح معها ما ظهر من الرأس ولا يجب ،
ولنذكر فائدة ذكرها الشيخ ابن عثيمين
إذ قال : أما القبع فيجوز المسح عليها وذلك لأن المسح عليها ليست العلة فيها المشقة أي مشقة النزع وإنما خشية الضرر ، إذ إن الرأس يعرق ولاسيما في شدة البرد فيتضرر الانسان بنزعها وسئل عما يسمى بالطواقي والشمغ فقال : إنها لا تدخل في ذلك ، وعدم دخولها واضح وذلك لعدم وجود أي علة من هاتين العلتين المذكورتين سابقا وقد قال شيخ الاسلام : يجوز المسح على العامة الصماء 0
والصماء / هي العارية من أي صفة عارية من التحنيك عارية من الذؤابة ، فما عده الناس عمامة فيجوز المسح عليها والمسح على العمامة وعلى الخفين من باب الرخصة وهناك فرق بين العزيمة والرخصة وقد فرق بينهما أهل الأصول فقالوا :ان العزيمة : هي الحكم الثابت بدليل شرعي لمعارض راجح وذكرت هذا التعريف لأن له فائدة حال ذكر أحكام المسح على الجبيرة فمثلا فيما يتعلق بالرخصة الأصل في القدم ان تغسل فجاء دليل معارض لدليل الغسل وهو دليل رجح وهو دليل المسح
ذكرت كلام لعمر قال ( من لم يطهره المسح على العمامة فلا طهره الله ) وهذا القول من عمر وقد قال النبي ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ) فلعل قوله انبعث من قولٍ قد قيل بعدم اجزاء المسح على العمامة فقال هذا القول المبني على فعل النبي وأمره فيكون المسح على العمامة ثابت بالنص القولي وبالنص الفعلي وبقول بعض الصحابة وفعلهم
وهذا القول هو قول الفقهاء /وهو أن المسح يكون على أكثر العمامة والمراد من هؤلاء الفقهاء فقهاء الحنابلة ولعلهم قاسوا العمامة على الخفين ولم أر من المعاصرين من علق على قولهم مع ان ظاهر فعل النبي يدل على العموم
( مسح على العمامة ) و( ال ) تفيد العموم ( مسح عل عمامته ) وهي مفرد أضيف إلى معرفة فتعم ، فإن كان محل اجماع وإلا فالأصل ان يمسح علي العمامة كلها لكن يجوز ترك ما ظهر من الرأس لفعل الرسول إذ ترك المسح على الناصية مقتصرا على العمامة وبالنسبة للإجماع فقد قال الإمام أحمد قال : وما يدريك انهم اجمعوا فلعلهم اختلفوا ) ولذا قال شيخ الإسلام : الاجماع المنضبط هو ما كان عند المتقدمين في القرون الأولى ذلك لأن الصحابة كانوا في الحجاز أما بعد ذلك فقد تفرقوا ، ومن ثم فادعاء الاجماع فيه نظر إلا إذا نقل هذا الإجماع عن عالم محقق له دراية واسعة بالآثار والنصوص ولذا فالنفس تميل إلى مسح العمامة كلها .
مسألة :
خمر النساء تمسح مع الحاجة وينبغي أن يمسح معها بعض الشعر أم إن لم تكن حاجة فخلاف في المسح عليها
الشرح
هذه المسألة ذكرها شيخ الاسلام بهذا الأسلوب وبهذه الصيغة فقال :
ان خمر النساء / وهو ما يغطي به الرأس يجوز ان تمسح مع الحاجة ، وذلك لفعل ام سلمة وينبغي ان تمسح مع الخمار بعض شعر رأسها أما إذا لم تكن هناك حاجة فقد اختلف العلماء في المسح عليها .
القول الأول :أنه يجوز أن يمسح عليها قياسا على العمامة وذلك إذا كانت مدارة تحت حلوقهن
القول الثاني :يرى عدم المسح وذلك لأن الأصل في المسح على الرأس ان يكون مكشوفا فلا ان يكون مستورا ، وإنما جاز المسح على العمامة لوجود الدليل أما هذه الخمر فلم يأت دليل عن النبي
وأما الراجح مع عدم الحاجة فلم يستبين لي حتى الآن الراجح والله تعالى أعلى بالصواب وفقهاء الحنابلة / يرون المسح مطلقا فيما هو مشهور عنهم إذا كانت مدارة تحت حلوقهن
مسألة :
طهارة مسح الرأس الأصل فيها التسهيل فيصح المسح ولو كان الشعر ملبدا بحناء
الشرح
قبل الشروع في هذه المسألة يستبين لنا ما ذكر فيما سبق ان تلك الصبغة المسماة بالميش عند النساء لا يجوز المسح عليها إذا كان لها جرم ، وذلك أن المسح عليها مسح على غير الرأس وإذا كان العلماء قد اختلفوا في خمر النساء وفي المسح عليها من غير حاجة فمن باب أولى المسح على هذه الصبغة التي لها جرم أما دليل هذه المسألة /
ما جاء من أحاديث كثيرة في المسح على العمامة مقتصرا فيها النبي عليها في المسح ومضيفا إليها في بعض الأحيان المسح على الناصية وكذلك ما جاء في الصحيحين أن النبي ( حج ملبدا رأسه ) والتلبيد / أن يضع ما يشبه الصمغ ونحوه لجمع الرأس فلا تدخله الهوام وكونه يحج ملبدا رأسه يلزم من ذلك أن يمسح على هذه التلبيدة وذلك لأنه ظل على احرامه إلى يوم النحر وقد مرت به صلوات وهذا من باب الاستدلال بدلالة اللزوم لأن الدلالات الشرعية ثلاث
وسيأتي لهذه الدلالات حديث واسع ودلالة اللزوم من الدلالات العظمية التي تفيد طالب العلم في التحقيق ما وجه على فعل النبي ( ملبدا رأسه ) واضح وذلك أنه سيصلي فيلزم من ذلك ان يمسح على هذه التلبيدة مثال آخر /يجوز ان يؤخر الصائم الجنب من الليل يجوز ان يؤخر الاغتسال إلى ما بعد طلوع الفجر الثاني ، وذلك لأنه عز وجل قال { كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر }فأباح لنا المنفطرات طيلة الليل فإذا كان هذا مباحا فيجوز ان يجامع الرجل زوجته قبل طلوع الفجر الثاني بيسير ، ومن ثم فقد يفرغ من الجماع وعند فراغه يطلع الفجر الثاني ، والأمثلة كثيرة ، ولهذا لو وضعت المرأة حناء على رأسها فيجوز وذلك لأن الحناء لا يستوعب جميع الشعر ولأن الماء سيتخلل من خلاله ولأنه مع المسح يتناثر ، فلا تقاس تلك الاصباغ عليه ،أما الصبغة التي لا جرم لها فيجوز المسح عليها شأنها كشأن سائر الألوان ،