الدرس ( 112 ) استقبال القبلة ( 3) ( فرض من قرب من القبلة إصابة عينها ومن بعد إصابة جهتها )

الدرس ( 112 ) استقبال القبلة ( 3) ( فرض من قرب من القبلة إصابة عينها ومن بعد إصابة جهتها )

مشاهدات: 513

بسم الله الرحمن الرحيم

من شروط صحة الصلاة: استقبال القبلة

الدرس (112) من الفقه الموسع

لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مسألة/ قال الفقهاء: فرْضُ مَن قَرُبَ مِن القبلة: إصابَةُ عَينِها، ومَن بَعُد: إصابةُ جِهَتِها.

وهذه المسألة أو ما ذكره الفقهاء يُردُّ بها على ما ذَكَره الصنعاني في سُبل السلام:

 من أنه لو قرُب من القبلة فإنه يكفي أن يُصيب الجهة، ولم ينسُبْه إلى أحد من العلماء إنما قال ذلك تفقهاً منه -رحمه الله-

وإلا فما يُعلم – والعلمُ عند الله – أن هذا مما هو مُجمَعٌ عليه، مِن أن مَن قَرُب من القبلة يجب عليه أن يُصيب عينَها ولا يُكتفَى بجِهتها.

لو قال قائل: ما الدليل؟

أنا لم أطلع على دليل ينص على وجوب إصابة العين إذا قَرُب، لكن الذي يظهر لي: أنها مبنيةٌ على قوله ﷺ في الصحيحين: ” لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِبَوْلٍ وَلَا غَائِطٍ وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا “

والحديث الآخر: ” ما بين الْمَشْرِق وَالْمَغْربِ قِبْلَةٌ ” كما جاء عند الترمذي وغيره.

وهذا الحديثُ إنما هو لأهل المدينة، فدلَّ على أن الأصلَ أن تُصاب العين لا الجهة

فلمَّا جاء هذا الحديث دلَّ على أن من بَعُد يختلف عمّن قَرُب.

وبالتالي: فإن إصابة العين لمن قرُب يقولون فيها مَن أمكنه حِسًّا أن يُصيب عينَها فهذا فَرْضُه

ومن ثم:

فإنه لو أمكنه حِساً أن يُصيب عينها ولم يمكنه شرعاً، فإن الصلاة على غِرار ما ذكروه لا تصح.

مثالُ ذلك:

مَن صلَّى في الحرم وأمامه أعمدة، أو أمامه مُصلون كُثر؛ وذلك كأن يكون في السطح

فإنه في مثل هذه الحال يُمكنه حساً أن يتقدم خطوات ويرى القبلة، لكن من حيث العُذر الشرعي قد لا يتمكن.

فمرادهم من إصابة العين: إذا أمكنه حِساً بقطع النظر عن عدم تمكنه من إصابة العين شرعا

ولذا لو أنه صلَّى في الحرم أمام عمود؛ ثم تبين له بعد الصلاة أنه ما أصاب العين فهنا لا تصح صلاته، ويلزمُه أن يعيدها.

ولذا يقول الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: ” إن مثل هذا فيه حرج “

وبالفعل فيه حرج، وذلك في وقت الزِّحام في مثل موسم الحج أو رمضان فإن هذا عسير -ولم يُعلق الشيخ رحمه الله- وقال: ’’ إن هذا من الأمور المُشكِلة وسكت “

لكن: من اجتهد وسار على ما وُضِع من خطوط رخامية ثابتة فلعله إن شاء الله يكون قد أصاب العين؛ فهذا هو وسعه وطاقته، لكن لو استبان له أنه لم يُصب العينَ: فعليه أن يُعِيد الصلاة.

يقول الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- ’” صليت مرةً أظن أن القبلة أصبتُ عينها، فتبين لي أني لم أُصِب عينها فأعدت الصلاة “.

ولتعلم: أنه كلما قَرُب من الكعبة كُلَّما تحتم عليه إصابة العين، فإنه كلما قرُب كلما كان الانحرافُ اليسير يُبعدُه عن إصابة العين -هذا ما يتعلقُ بفرض مَن قرُب منها-

أما فرض من بعُد عنها: فإن الواجب عليه أن يُصيب الجهة؛ لقول النبي ﷺ كما في الصحيحين:

” وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا “؛ وحديث: ” ما بين الْمَشْرِق وَالْمَغْربِ قِبْلَةٌ “

 فتكونُ جَهةُ الجنوب بالنسبة إلى أهل المدينة -كما ورد في هذا الحديث- تكون هذه الجهة كلُّها قبلة

وبالتالي: لو انحرف انحرافاً يسيراً فإن صلاته تصح؛ لأن الفرض الواجبَ عليه هو إصابةُ الجهة.

نحن في مدينة الرياض قِبلتُنا ما بين الشمال والجنوب؛ فيكون الغرب هو جهةُ القبلة.

وعلى هذا فَقِس في سائر المدن.

ـــــــــــ

لكن لو حصل انحرافٌ يسير في مسجد النبي ﷺ؟

قال بعضُ العلماء:

إنه يجبُ عليه أن يكون مستقيماً، فلو انحرف انحرافاً يسيراً بطلَت صلاته؛ لأن قبلة المسجدِ النبوي مُتَيَقّنَة

لأن الله عز وجل أمَرَ النبي ﷺ أن يبني المسجد فيكونُ بذلك قد تُيقِنتْ قبلةُ المسجدِ النبوي، لاسيما -إن صح- ما يُذكَرُ في كتب التاريخ وفي كتب الفقهاء: من أن القبلة رُفِعَت إلى النبي ﷺ حين بنى مسجدَه؛ ظَهَرَت له الكعبة -إن صح هذا القول- لكن قد يُعترض على هذ بأن النبي ﷺ قال:

” ما بين الْمَشْرِق وَالْمَغْربِ قِبْلَةٌ ” ولم يُخصص مسجدَه

وقد يقال: بأن حديث: ” ما بين الْمَشْرِق وَالْمَغْربِ قِبْلَةٌ “

إنما هو لمن هو خارج المسجد، وأما المسجد فيبقى على ما هو عليه

ولذا: فالمسلم يحتاط في مثل هذا الأمر، في المسجد النبوي يحتاط.

-لو أن الإنسان ساكن في شقة من الشقق فأظن أن مثل هذا لا يصدق عليه؛ لأن فيه مشقة عليه ولاسيما إذا كان هذا المسلم من النساء فمثل هذا لم تأت به الشريعة.

ــــــــــــ

ولكن: يُحتاج إلى تتبع في بعض الحالات التي حصلت في المسجد النبوي مثل تأخره ﷺ في صلاة الكسوف.

هل حصل انحرافٌ ولو كان يسيراً؟

مثل: ما حصل في قصة أبي بكر رضي الله عنه لمَّا أمَّ بالناس؛ وأتى النبي ﷺ والتفت أبو بكر ورفع يديه وحمِدَ الله

فإن مِثلَ هذه الحالات قد تُثبِت لنا -حسب التتبع لأني لم أراجع تفاصيلَها وجزئياتها- قد تُثبِت لنا أن هناك انحرافاً وقد لا تثبت، لكن يمكن أن تثبت شيئا؛ وذلك في حال تأخر أبي بكر رضي الله عنه لمَّا تأخر؛ وتقدم النبي ﷺ.

ولذا يحتاط الإنسان، بما أنه في سعة من أمْرِه.

لكن لو أتى إنسان وانحرف انحرافاً يسيراً؛ وسأل هل يُلزم بإعادة الصلاة أم لا؟

هذا مَحَل نَظَر، فيُلزَم بإعادة الصلاة؛ لأن ليس هناك دليل واضح صريح في أن قبلته مُتيقنة -ومثل ما قلت لكم- لعل مثل هذه الحالات وما شابهها أن تُراجع ضمن تفصيلاتها، ولعله أن يأتي ما يُثبت أن المسجدَ النبوي يكونُ كغيره من الأماكن.

لكن الأصل أن الحديث شامل للمسجد النبوي ولغيره ممن هو خارج المسجد النبوي

لكن ما أُشكِل أن بناء النبي ﷺ بناء متيقن؛ ويكون الإشكال وهو:

 أن المسجد النبوي له ما يخُصه، وما هو خارج المسجد يصدق عليه هذان الحديثان، ولا يُتصور -في ظننا- أن قبلة المسجد النبوي ستكونُ منحرفةً عن القبلة؛ لأنه مِن أمْرِ الله عز وجل، والله يعلم السر وأخفى؛

بينما هذه اجتهادات البشر وقد يبنى المسجد ويكون فيه انحراف

وهذا بناءً على ما ذكره الفقهاء -رحمهم الله- في أن المسجد النبوي يأخذ حكم المسجدَ الحرام، وهذا دليلهم -وقد يُجاب عنه بما ذكرته لكم-

ونحن نقول:

أنه لا يأخذ حكم من قرُب من القبلة؛ وذلك لأن النص ليس واضحاً، بل إن عموم ” ما بين الْمَشْرِق وَالْمَغْربِ قِبْلَةٌ ” أقوى؛ مع هذا كله يحتاط الإنسان؛ لكن لو نظر الإنسان إلى مثل هذه القضايا والحالات التي حصلت في مسجد النبي ﷺ في تأخر النبي ﷺ، في تأخر أبي بكر رضي الله عنه؛ وما شابه ذلك من هذه الحالات قد نخرج منها بدليل واضح يقطع في هذه المسألة.

 

ولكن لو قال قائل: ما ضابطُ الانحراف اليسير الذي يُتجاوز فيه إذا انحرف المصلي عن قبلته؟

فإنه: ما اقتضاه العُرف.

فما عُرِفَ في العُرف أنه انحرافٌ يسير فإنه مُتجاوَزٌ عنه، وأما إذا عُرِف أنه في العُرف انحرافٌ كثير بحيث لا يكونُ المصلي إلى جهةِ قبلته: فإنه انحرافٌ يضرُّ ويؤثرُ في الصلاة.

ــــــــــــــــــــــــــ

فائدة: أنه جاء عند البخاري من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- “أن النبي ﷺ دخل الكعبة فدعا في نواحيها، ولم يُصلِ حتى خرج، فلمَّا خرج صلَّى وقال هذه هي القبلة”

قال ابن حجر -رحمه الله- الإشارة إلى القبلة:

-إما أن يكون تنبيهاً على نسخ استقبال بيت المقدس، والتأكيد على أن هذه هي القبلة.

-وإما أن يكون قولُه ﷺ “هذه هي القبلة” أنه يتعين على مَن شَهِدَها أن يُصيب عينَها

فيكونُ دليلا على ما سبق: من أن فَرْضَ مَن قرُب إصابةُ عينِها.

– أو أن هذه هي القبلة بمعنى أن القبلة ليست مكةَ ولا المسجد الحرام ولا الحرم، إنما القبلة هي الكعبة.

-أو أن يكون هذا المَقام هو مقام الإمام الذي يصلي فيه بالناس جماعة؛ وذلك لِما جاء عند البزَّار:

 أن النبي ﷺ صلَّى عند الباب -أي اتجاه الباب- وقال: ” إِنَّ الْبَابَ قِبْلَةُ الْبَيْتِ “

وقال هذا يؤيده ما جاء عند البزَّار

وهذا على سبيل الأفضلية والاستحباب، وإلا فإن الإجماعَ كما قال -رحمه الله- قد انعقد على أنه لو استقبل أيَّ جهةٍ مِن جهاتها صحت صلاتُه.

ولذا يكونُ حال المصلي عند الباب أفضلَ مِن حاله وهو بعيدٌ عن الباب.