أما بعد : فيا عباد الله :
تحدثنا فيما مضى في الجمعة السالفة عن إحدى العلامات الكبرى للساعة وهي ( خروج يأجوج ومأجوج ) وتلك القبيلتان إذا أهلكهما الله عز وجل فإن أسلحتهم كثيرة جدا ، جاء في سنن ابن ماجة من حديث النواس رضي الله عنه وصححه الألباني رحمه الله ، قال عليه الصلاة والسلام ( سيُوقد المسلمون من قِسِّيّ وأترسة يأجوج ومأجوج سبع سنين ) تلك العلامة ذكرناها فيما مضى وبقيت معنا بعض العلامات فنأخذ ثلاثا في هذه الجمعة واثنتين في الجمعة القادمة بإذن الله تعالى ، ومن ثَمّّ ينتهي الحديث عن العلامات الكبرى للساعة .
فمن العلامات الكبرى للساعة :
أن يحصل خسف بالمشرق وبالمغرب وبجزيرة العرب ، المشرق : أي مشرق المدينة من جهة العراق ونحوها .
المغرب : أي جهة الشام .
أما الجزيرة : فهي جزيرة العرب التي نعيش فيها .
والخسف في اللغة : هو الذهاب في الأرض والغياب فيها ، كما جاء في لسان العرب ، ومنه قوله تعالى عن قارون { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ }القصص81 .
وقد جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إن الساعة لا تقوم حتى تروا عشر آيات ) ذكر منها ( ثلاث خسوفات ، خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب ) متى يحصل هذا ؟ إذا عمَّ الخبث والظلم والفساد في الأرض ، ويدل له ما مَرَّ معنا من أحاديث كثيرة ، ومنها حديث عند الطبراني وفيه ما فيه ولكن تعضده الأحاديث السابقة ، وهو حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت ( أيخسف بالأرض يا رسول الله وفيها الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثُر الخبث )
والصحيح أن هذه الخسوفات لم تقع ، وما وقع من خسوف فيما مضى إنما هو من العلامات الصغرى للساعة ، يقول ابن حجر رحمه الله في الفتح ” وقد وُجد الخسف في مواضع لكن يُحتمل أن يكون المراد بالخسوف الثلاثة قدرا زائدا على ما وُجد، كأن يكون أعظم مكانا وأعظم قدرا )
ومن العلامات الكبرى للساعة :
( أن يقع الدخان ) قال عز وجل { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ{10} يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ{11}
أي يُقال هذا عذاب أليم ، أو يقول بعضهم لبعض هذا عذاب أليم ، وهذه الآية ذُكر فيها الدخان ، وهذا الدخان يرى ابن مسعود رضي الله عنه أنه قد وقع وانتهى ، وهو ما وقع بكفار قريش لما أصابهم الجوع ، في الصحيحين( قال رجل متحدثا عن الدخان ، قال إن هناك دخانا يكون آخر الزمان يأخذ بأسماع المنافقين وبأبصارهم ، فقام عبد الله بن مسعود رضي الله عنه غضبا وقال منْ علم فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله أعلم ، فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم لا أعلم ، وإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل له { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ }ص86 ، وإن قريشا – والحديث لابن مسعود – وإن قريشا أبطئوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدخول في الإسلام ، فقال اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف ، فأصابتهم سنة ) يعني قحط وجدب ( حتى أكلوا الميتة والعظام وحتى إن الرجل ليرى ما بين السماء والأرض كهيئة الدخان ) ورجَّح هذا القول الطبري رحمه الله .
بينما ابن عباس رضي الله عنهما يرى أن الدخان المذكور في الآية هو الدخان الذي يكون قبل قيام الساعة ، قال ابن كثير رحمه الله والسند إليه صحيح ، ورجَّحه ابن كثير وقال ” هو ظاهر القرآن ، لأن الدخان لو كان خيالا لما غشاهم ” هذا هو رأي ابن عباس رضي الله عنهما ، وقد ذهب بعض العلماء – وهذا هو القول الفصل – ذهب بعض العلماء إلى أن هناك دُخانين أحدهما وقع وهو ما أصاب قريشا والآخر لم يقع وسيقع في آخر الزمان ، ويدل له حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم قوله عليه الصلاة والسلام ( بادروا بالأعمال ستا ) ذكر منها ( الدخان ) وجاء في معجم الطبراني من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ( إن ربكم أنذركم ثلاثا الدخان يأخذ المؤمن كهيئة الزكمة ) يعني يصيب المسلم مثل ما يصاب بالزكام ( ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مَسْمَعٍ منه ) قال ابن كثير رحمه الله في التفسير ” إسناده جيد ” وقال ابن حجر رحمه الله في الفتح ” تظافرت الأحاديث والآثار على أن لذلك أصلا “
إذاً خلاصة القول هناك دخانان وقع أحدهما وهو ما أصاب قريشا والآخر سيكون في آخر الزمان .
ومن العلامات الكبرى للساعة :
( أن تطلع الشمس من مغربها )
قال تعالى { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً }الأنعام158.
وهذا هو رأي أكثر المفسرين على أن الآية إنما تتعلق بطلوع الشمس من مغربها ، ويؤكده ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ( لا تقوم الساعة تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعون ، فحينها { لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً } )
وقال عليه الصلاة والسلام كما عند مسلم ( بادروا بالأعمال ستا ) ذكر منها ( طلوع الشمس من مغربها )
وهذه الشمس – عباد الله – تجري لا يستنكر الناس منها شيئا ، نحن الآن لا نستنكر من هذه الشمس شيئا وإنما سيأتي عليها وقت يستنكرها الناس إذا طلعت من جهة المغرب ، في صحيح مسلم أن أبا ذر رضي الله عنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما ( أتدرون أين تذهب هذه الشمس ؟ فقالوا الله ورسوله أعلم ، فقال : إن الشمس تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة ) يعني إذا وصلت إلى تحت العرش تخر ساجدة في كل يوم ، قال ( إن الشمس تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة ، فلا تزال كذلك حتى يُقال لها ارتفعي راجعة من حيث جئت ، فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ، ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة ، فلا تزال كذلك حتى يُقال لها ارتفعي راجعة من حيث جئت ، فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ، ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فيقال لها ارتفعي طالعة من مغربك فتصبح طالعة من مغربها ، فقال عليه الصلاة والسلام أتدرون متى ذلك ؟ ذلك حين { لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً } )
قال الخطابي رحمه الله : ” لا ننكر أن يكون للشمس استقرار تحت العرش من حيث لا ندركه ولا نشاهد ، وإنما ما أُخبرنا به غيب فلا نكذب به ولا نكيفه ، لأن علمنا لا يحيط به ” ثم قال رحمه الله ” وفيه إخبار عن سجود الشمس تحت العرش فلا يُنكر أن يكون ذلك عند محاذاة العرش في مسيرها ” يعني حينما تحاذي العرش لا ينكر من أنها تسجد وتستقر عند محاذاة ذلك.
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم ” وأما سجود الشمس فهو تمييز وإدراك يخلقه الله تعالى فيها “
قال ابن كثير رحمه الله في التفسير ” وسجود كل شيء مما يختص به “
قال ابن حجر رحمه الله في الفتح ” ظاهر الحديث أن المراد بالاستقرار – يعني باستقرار الشمس – وقوعه في كل يوم وليلة، متى ذلك ؟ عند سجودها ، ومقابل الاستقرار المسير الدائم المُعبَّر عنه بالجري “
قال القرطبي رحمه الله في التفسير ” إنما { لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً } لم ؟ قال لأنه وصل إلى قلوب الناس من الفزع ما تخمد معه كل شهوة من شهوات النفس ” لأن الناس إذا رأوا هذه الآية لم يكن في قلوبهم حب لارتكاب الذنب ، قال ” لأنه وصل إلى قلوب الناس من الفزع ما تخمد معه كل شهوة من شهوات النفس فيصير الناس كلهم لإيقانهم بدنو يوم القيامة في حال من حضره الموت ، فإن الدواعي إلى فعل الذنب قد انقطعت عند من حضره الموت ، فمن تاب في مثل هذه الحال – يعني حينما تطلع الشمس من مغربها – لا تقبل توبته كما لم تقبل توبة من حضره الموت “
قال ابن كثير رحمه الله في التفسير ” إذا أنشأ الكافر يومئذٍ إيمانا لا يُقبل منه ” ثم ذكر حديثا في المسند وجوَّد إسناده في كتابه النهاية ، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم ( لا تنقطع الهجرة ما تُقُبِّلت التوبة ، ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت الشمس من مغربها طُبِع على كل قلب بما فيه وكفي الناس العمل “
والتوبة مفتوحة إلى أن تطلع الشمس من مغربها ، وهناك باب من أبواب التوبة عرضه سبعون سنة ، كما جاء في الحديث عند ابن ماجة من حديث صفوان بن عسَّال رضي الله عنه وحسنه الألباني رحمه الله ( إن من قِبل مغرب الشمس بابا مفتوحا عرضه سبعون سنة لا يزال ذلك الباب مفتوحا حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت { لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً )
بعض العلماء يرى أن التوبة إذا مضى على الناس زمان بعد طلوع الشمس من مغربها أنها تُقبل ، وهذا وإن كان قد ذكره بعض العلماء كالقرطبي في التذكرة والألوسي في التفسير ، إلا أنه مخالف للنصوص الشرعية ، فإن النصوص الشرعية دلت على أنه من حين ما تطلع الشمس من مغربها لا تقبل توبة أبدا .
ولذا جاء عند الطبراني من حديث عائشة رضي الله عنها ( إذا خرج أول الآيات ) وأول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها ، كما بينت ذلك الأحاديث الأخرى ، وسيأتي تفصيلٌ لذلك إن شاء الله ( إذا خرج أول الآيات طُرحت الأقلام ) يعني الملائكة ما يكتبون ( وحُبست الحفظة وشهدت الأجسام على الأعمال ) قال ابن حجر رحمه الله في الفتح سنده صحيح ، وهو وإن كان موقوفا على عائشة رضي الله عنها إلا أنه يكون في حكم المرفوع .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه ( التوبة مبسوطة ما لم تطلع الشمس من مغربها ) وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها )
وذكر ابن حجر رحمه الله آثارا تدل على أن استمرار قفل باب التوبة يكون إلى قيام الساعة ، ولذا في معجم الطبراني ذكر رحمه الله حديثا عن طلوع الشمس ، قال ( فمن يومئذٍ إلى يوم القيامة { لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً }
ولا يختص ذلك بيوم الطلوع ولا بعده .
أما ما جاء من حديث عبد بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( يبقى الناس بعد طلوع الشمس من مغربها عشرين ومائة سنة ) قال ابن حجر رحمه الله رفعه لا يثبت “
فخلاصة القول ” أنه إذا طلعت الشمس من مغربها { لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً } إلى أن تقوم الساعة ولا تقبل توبة أبدا ولو امتد الزمان بعد طلوعها “
يقول ابن حجر رحمه في الفتح وهو أحسن مما قاله ابن كثير رحمه الله في قضية ما هي أول العلامات الكبرى طلوعا ؟
لأن الأحاديث في ظاهرها شيء التعارض ، قال ابن حجر رحمه الله في الفتح ” إن خروج الدجال هو أول الآيات العظام المؤذنة بتغير الأحوال العامة في معظم الأرض وينتهي بموت عيسى عليه السلام ” وإنما كان خروج المسيح الدجال أول الآيات الأرضية عظمة ، ليس لكونه بشرا ، كما مال إلى ذلك ابن كثير وقال إن أول الآيات هو خروج الدابة ، ليس لكونه بشرا وإنما لكون ما معه من الآيات العظام ( يأمر السماء فتمطر ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت ) قال ابن حجر رحمه الله ” وإن طلوع الشمس هو أول الآيات العظام المؤذنة بتغير أحوال العالم العلوي وينتهي ذلك بقيام الساعة ” يعني أول العلامات التي تتغير معها أمور الناس في الأرض الدجال ، وأول العلامات التي تتغير معها أحوال السماء طلوع الشمس من مغربها ، قال رحمه الله ” ولعل خروج الدابة في ذلك اليوم التي تطلع فيه الشمس كما جاء عند مسلم قال عليه الصلاة والسلام ( إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى فأيتهما كانت الأولى فالأخرى على أثرها قريبا ) قال رحمه الله ” لعل الحكمة إذا طلعت الشمس من مغربها فخرجت بعد ذلك الدابة ، لعل الحكمة في ذلك التأكيد على أن باب التوبة مغلق ” لم ؟ لأن خروج الدابة كما سيأتي بيانه معنا في الجمعة القادمة إن شاء الله ، لأن خروج الدابة تميز الكافر من المؤمن ، يقول رحمه الله ” فيكون تكميلا للمقصود من إغلاق التوبة ” ثم قال رحمه الله ” وإن أول الآيات المؤذنة بقيام الساعة النار التي تحشر الناس “
وسيأتي معنا إن شاء الله في الجمعة القادمة ذكر هذه النار ، ولا يبقى معنا إلا علامتان ” خروج الدابة ضحى على الناس وحشر النار للناس ” وهذا إيذان بقيام الساعة ، وفي الجمعة القادمة إن شاء الله تعالى يتم الحديث عن العلامات الكبرى للساعة .
الخطبة الثانية
الخاتمة : ………………..