حسن الظن

حسن الظن

مشاهدات: 550

حسن الظن

فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

أما بعد فيا عباد الله 

كلمة ( الظن ) ترد في كلام الله عز وجل على ثلاثة معاني :

المعنى الأول : ( اليقين ) قال تعالى {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ }البقرة46 ، يعني أنهم يوقون بملاقاة الله عز وجل .

المعنى الثاني : ( الشك والتهمة ) قال تعالى:

{ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا }الأحزاب10 .

المعنى الثالث : ( الحُسبان ) قال تعالى {  وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ }فصلت22 ، يعني حسبتم .

قال الزركشي رحمه اله : ” كيف تعرف أن كلمة الظن في كتاب الله جل وعلا أن معناها اليقين أو أن معناها الشك ” ؟

قال رحمه الله “:  إذا وردت كلمة الظن في سياق المدح والثواب فهي بمعنى اليقين ، كما قال تعالى {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ }البقرة46 ، فهذا السياق سياق مدح ، وسياق ثواب .

أو ” إذا دخلت ظنَّ على ” أنَّ ” المشددة ، فإنها تكون بمعنى اليقين ، قال عز وجل عن ذلك الرجل {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ }الحاقة20 يعني موقن أن الحساب سأجازى به .

أما إذا أتت كلمة الظن في سياق الذم أو دخلت على ” أنْ ” المخففة ” فإن المقصود منها هو الشك .

عباد الله – الظن إما أن يكون حسنا وإما أن يكون سيئا ، والواجب على المسلم أن يكون حسن الظن ، ما هو حسن الظن ؟

هو ” ترجيح جانب الخير على جانب الشر ” ونتحدث في هذا اليوم عن حسن الظن بالله جل وعلا وعن حسن الظن بالمخلوقين .

حسن الظن بالله جل وعلا واجب من واجبات الدِّين ، في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( قال الله عز وجل أن عند ظن عبدي بي )

ما معنى هذا الكلام ؟

معنى هذا الكلام أن الواجب على المسلم متى ما كان فقيرا يحسن الظن بالله جل وعلا أنه سيغنيه .

!متى ما كان مريضا يحسن الظن بالله جل وعلا أنه سيشفيه .

!متى ما كان مهموما مظلوما يحسن الظن بالله جل وعلا أنه كافيه .

!متى ما كان مبتلا يحسن الظن بالله جل وعلا أنه مفرج عنه .

وهكذا ( أنا عند ظن عبدي بي ) إن دعا الله جلا وعلا حسن ظنه بالله جل وعلا أنه سيجيب دعوته ، إن أذنب فاستغفر الله حسن ظنه بالله عز وجل أن الله سيغفر له ، وعلى قدر حسن ظنك بالله جل وعلا يأتيك الخير ، في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في مسند الإمام أحمد ( قال الله جل وعلا أنا عند ظن بعدي بي إن ظن بي خيرا فله وإن ظن بي شرا فله ) وفي حديث واثلة بن الأسقع كما في المسند ( أنا عند ظن عبدي بي فليظن عبدي بي ما شاء )

قال ابن القيم رحمه الله : كما في زاد المعاد قال ” إن بعضا من الناس يسيء الظن بالله جل وعلا فيما يختص به

معنى هذا الكلام “ أن بعضا من الناس إذا كان مريضا يسيء الظن بالله من أنه لن يشفيه ، أو إذا كان فقيرا يسيء الظن بالله جل وعلا أنه لن يغنيه ، إذا كان مبتلى مظلوما يظن أن الله عز وجل لن يكفيه ، وهذا من الخطورة بمكان ، ولتعلم – عبد الله – أنه متى ما حسن ظنك بالله فاعلم أنك من المتوكلين على الله جل وعلا حق توكله ، متى ما حسن ظنك بالله جل وعلا فاعلم بأنك تؤمن وتطبق مقتضى أسماء الله عز وجل ، من كان من بين أسمائه ” الشافي ، الغني ، الرزَّاق ، والوهَّاب ، الغفور ، الغفَّار ، الرحيم “ كيف ييأس العبد من رحمة الله جل وعلا ، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث علي رضي الله عنه في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود  ( يعجب الله عز وجل من عبده إذا أذنب فقال ربِّ اغفر لي ، فيقول الله جل وعلا علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب إلا أنا )

متى ما أذنبت وعظم ذنبك فتبت إلى الله حق التوبة فأحسن الظن بالله جل وعلا أن يغفر لك ، في الصحيحين كما في حديث عمر رضي الله عنه ( أن سبيا أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فرأى الصحابة رضي الله عنهم من بين السبي امرأة من الكفار ، فإذا بها تطوف في السبي فرأت طفلا فأخذته وضمته إلى صدرها وأرضعته ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أترون أن هذه طارحة ولدها في النار ؟ قالوا لا يا رسول الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لَلَّه أرحم بعباده من هذه بولدها )

ولاسيما إذا كان الإنسان على مشارف الموت ، يحسن الظن بالله جل وعلا ، قال جابر رضي الله عنه كما في صحيح مسلم ( سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بثلاثة أيام يقول ” لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله جل وعلا ” )

من أحسن الظن بالله جل وعلا فهو من العابدين ، قال الله جل وعلا { وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }البقرة195، هذه الآية فسرها سفيان الثوري رحمه الله كما في ” حسن الظن ” لابن أبي الدنيا { وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }البقرة195 قال ” أحسنوا الظن بالله عز وجل ”

جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي داود والترمذي قوله صلى الله عليه وسلم ( إن حسن الظن بالله من حسن العبادة )

ولقد طبَّق ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أعظم التطبيق ، في الصحيحين ( لما كان هو وأبو بكر رضي الله عنه في الغار ) يعني مهما كان الإنسان في أحلك ما يكون من الظروف ، فعليه أن يلجأ إلى الله جل وعلا ( قال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله لو أبصر أحدهم موضع قدمه لرآنا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ) محسنا ظنه بالله ( قال : يا أبا بكر ” ما ظنك باثنين الله ثالثهما ” )

بل جاء في الصحيحين من حديث جابر رضي الله عنه أنه قال ( غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة قِبل نجد فقفل ) يعني رجع ( فقفل وقفلنا معه ، فأدركتنا القائلة ) يعني شد الحر ( فأتينا إلى وادي كثير العضاه ) وهو شجر كبير له شوك ( فاستظل كل منا تحت ظل شجرة، واستظل النبي صلى الله عليه وسلم تحت شجرة وعلَّق سيفه بها ، فنمنا نومة ، فإذا به يدعونا فأتينا إليه ، وإذا بأعرابي عنده فقال صلى الله عليه وسلم : إن هذا اخترط علي سيفي ، فاسيقظت فوجدته في يده صلتا ) يعني أخرجه من غمده ( فقال يا محمد من يمنعك مني ؟ قلت الله ، قلت الله ، قلت الله ، فسقط السيف من يده ) فجلس النبي صلى الله عليه وعفا عن هذا الرجل  ( من يمنعك مني ؟ ) حسن ظنه بالله جل وعلا ، مع أن الموت أمامه ( من يمنعك مني ؟ ) قال الله ، قال الله ، قال الله )

الصحابة رضي الله عنهم طبَّقوا حسن الظن بالله جل وعلا أعظم التطبيق ، عند الترمذي من حديث عبادة رضي الله عنه  أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها ، فقال بعض الصحابة يا رسول الله إذاً نكثر ؟ قال الله أكثر ) بمعنى أننا نكثر من الدعاء ، بما أن الله جل وعلا سيستجيب لنا ، فحسن ظنهم بالله جل وعلا ، فقال ( الله أكثر ) بمعنى أن العبد متى ما حسن ظنه بالله جل وعلا وكثر فإن الله عز وجل سيعطيه على حسن ظنه ، يقول ابن مسعود رضي الله عنه كما عند ابن أبي الدنيا في كتابه ( حسن الظن ) قال ابن مسعود رضي الله عنه (  والله الذي لا إله إلا هو ما أعطي عبدٌ شيئا خيرا له من حسن الظن ، وإن العبد متى ما حسن ظنه بالله أعطاه الله ما ظنه ) لم ؟ ( قال لأن الخير بيد الله )

وكذا روى ابن أبي الدنيا عن سهل القطاعي أنه قال ( رأيت مالك بن دينار في المنام فقلت ماذا فعل الله بك يا مالك ؟ قال أتيت الله بذنوب عظام فغفرها الله لي بحسن الظن )

قال الشاعر :

           وإني لأرجو الله حتى كأني أرى

                                       بجميل الظن ما الله صانع

الزبير بن العوام رضي الله عنه في ساحة المعركة – كما عند البخاري – وكان معه ابنه عبد الله رضي الله عنه ، وقد ترك الزبير أربع نسوة وترك تسع بنات ، وتسعة من الأولاد ، فالتفت إلى ابنه وقال ما أراني إلا سأقتل اليوم فإذا قتلت فأوفِ ديني ، فإذا عجزت عن ديني فاستعن بديني على مولاي ، قال عبد الله والله ما دريت من مولاه ، فقلت يا أبتي إذا عجزتُ استعنت على دينك بمولاك ، من مولاك ؟ قال الزبير ” الله ” فقتل الزبير رضي الله عنه ، قال عبد الله فأوفيت دينه ، فوالله ما وقعت في كربة من كرب دينه إلا قلت ” يا مولى الزبير اقض عنه دينه ” فيقضي الله عز وجل عنه دينه )

هذه جملة – عباد الله – من هذه الكلمات العطرة النيرة التي تدل على حسن الظن بالله جل وعلا ، أحسن ظنك بربك ، إن كنت مريضا فاعلم بأن الله جل وعلا هو الشافي ، إن كنت مذنبا فتبت إلى الله فاعلم بأن الله هو الغفور ، إذا كنت مظلوما فاعلم بأن الله هو الناصر ، إذا كنت مبتلى مهموما مغموما فاعلم بأن الله عز وجل هو الوكيل .

 

 

الخطبة الثانية

أما بعد : فيا عباد الله /

تحدثنا عن حسن الظن بالله جل وعلا ، بقي الحديث عن حسن الظن بالمخلوق  ، يقول العلماء ” يحرم سوء الظن بالمسلم الذي ظاهره العدالة “ لا يجوز بأي حال من الأحوال أن تفرغ قلبك وعقلك لسوء الظن بالآخرين ، بل قال بعض السلف ( متى ما سمعت من أخيك كلاما يحتمل السوء والحسن فاحمله على محمل الحسن ما وجدت إلى ذلك سبيلا )

بعض الناس لو سمع من أخيه كلمة جلس وطفق يفسرها على أسوء المحامل – لا – إذا سمعت كلمة وهي تحتمل في السوء تسعة وتسعين في المائة ، وتحتمل واحدا في المائة من حسن الظن ، فعليك أن تحمل هذه الكلمة على المحمل الحسن ، ولذا نهى الله جل وعلا عن كثير من الظن ، لم ؟ لأن الظن يولد آثاما أخرى ، قال ابن كثير رحمه الله في التفسير تحت قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً }الحجرات12

قال رحمه الله “ إذا أساء الظن بأخيه حمله ذلك السوء من الظن على أن يتجسس عليه ، فإذا تجسس عليه حمله التجسس على أن يغتابه “ وانظروا إلى ترتيب هذه الجمل ذكر الظن ثم ذكر التجسس ثم ذكر الغيبة ” ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم طبَّق هذا كما جاء في الصحيحين لما رميت عائشة رضي الله عنها في عرضها ، ماذا قال عليه الصلاة والسلام  ؟ مع أن القرائن كانت عظيمة في الشك في عرض عائشة رضي الله عنها حسب ما وشى به المنافقون ، فماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال ( والله ما علمت في أهلي إلا خيرا )

بل طبَّق ذلك الصحابة رضي الله عنهم ، في الصحيحين ( لما تخلف كعب بن مالك رضي الله عنه عن غزوة تبوك ، لما قال النبي صلى الله عليه وسلم أين كعب بن مالك ؟ فقال رجل من بني سلمة حبسه برداه  والنظر في عطفيه ، فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه بئس ما قلت ، والله ما علمنا عليه إلا خيرا )

بل إن أهل الكوفة كما جاء عند مسلم لما شكوا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، وقد ولاه عمر رضي الله عنه على أهل الكوفة ، وأهل الكوفة لا يستقيم لهم أمر ، وهذا شيء مشاهد ، العراق على وجه العموم ، وهذا شيء مشاهد على مر التاريخ ، لما ولاه عمر رضي الله عنه على الكوفة ، أساءوا به الظن ، قالوا إنه لا يحسن حتى الصلاة ، فاستدعاه عمر رضي الله عنه وأخبره بخبرهم ، فقال سعد والله لا آلو أن أصلي بهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الظهرين ، أطيل الركعتين الأوليين ، وأخرم ) يعني أنقص وأقتصر على الفاتحة ( في الركعتين الأخريين ، فقال عمر رضي الله عنه ذاك الظن بك يا أبا إسحاق )

بعض الناس – عباد الله – يُحمِّل نفسه جبالا من الهموم تجاه إخوانه ، ماذا قصد فلان بهذه الكلمة ؟ وماذا يقصد فلان بهذا الفعل،  ربما يريد الإساءة إلي ؟ لا ، أنت مؤمن ، والمؤمن طيب النفس ، مع نفسه ومع إخوانه ، بل هو كريم ، ولذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن بأنه ( غِرٌكريم ) كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي داود قال ( المؤمن غِرٌ ) يعني أنه لم يعتد على سفاسف الأمور ، ولذلك من يراه يقول إن هذا الرجل قد لا يأبه ولا يفقه شيئا – لا – ولكن لطيب قلبه وسلامة صدره بحيث لا يشقي نفسه ولا يشقي إخوانه معه فإنه ( غرٌ ) بل ( كريم ) كيف ذلك ؟ بمعنى أنه لو أخطئ عليه خطأ عمدا محضا فإنه لا يستقصي في خطئه ، ولذلك وصف الفاجر بعده فقال ( والفاجر خِبٌّ ) يعني خدَّاع ، نكَّار ( والفاجر خِبٌّ لئيم ) فعلينا – عباد الله – أن نتعاهد قلوبنا وأن نملأ قلوبنا بحسن الظن بالله جل وعلا الخالق وبإخواننا المخلوقين ، نسأل الله عز وجل أن يطهر قلوبنا من الغل والحقد والحسد ومن الصفات الذميمة إنه ولي ذلك والقادر عليه .