خطبة [ أنفق فـ( يمين الله ملأى ) ولا تحصي ولا توكي ولا توعي فيوعي الله عليك ]

خطبة [ أنفق فـ( يمين الله ملأى ) ولا تحصي ولا توكي ولا توعي فيوعي الله عليك ]

مشاهدات: 590

خطبة

[أنفق فـ( يمين الله ملأى ) ولا تحصي ولا توكي ولا توعي فيوعي الله عليك]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فضيلة الشيخ :  زيد بن مسفر البحري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى أنفق أنفق عليك) وفي رواية: (يا ابن آدم أنفق أنفق عليك) وعند مسلم الخطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم: (قال لي الله أنفق أنفق عليك)

عباد الله:

 قوله صلى الله عليه وسلم (أنفق أنفق عليك) هذا حديث قدسي (أنفق) فعل أمر (أنفق) فعل مضارع مجزوم بالأمر، أنفق من ماذا؟ من كل شيء مما قل، أو كثر، رغبته النفس، أو لم ترغبه، الجواب: (أنفق عليك) وفي هذا تبشير للعباد  بأن الخلف من الله آت لهم، ولذلك لما ذكر صلى الله عليه وسلم هذا الحديث: (قال الله أنفق أنفق عليك) قال يعني الرسول صلى الله عليه وسلم: (يد الله) إذا أنفقت أنفق الله عليك ما الذي بعدها (يد الله) وفي رواية (يمين الله) (يد الله ملأى) وضبطها ابن النمير في رواية لمسلم وإن كان قد غُلِّط (يمين الله ملآن)، وضبطت (ملان) (يد الله ملأى، لا تغيضها نفقة) أي لا تنقصها نفقة، وفي رواية: (لا يغيضها شيء) (سحاء) وهو الشيء المتصبب المتدفق المستمر  وضبطت (سحا) على المصدر (سحاء الليل والنهار) منصوبان على الظرفية، أي في الليل، وفي النهار.

(سحاء الليلَ والنهارَ، أرأيتم) استفهام تقريري يعني أخبروني (أرأيتم ما أنفق) أي الذي أنفق (ما) موصولية (أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماء والأرض فإنه لم يغض) يعني لم ينقص (ما في يده) وفي رواية (يمينه، وبيده الأخرى القبض) الذي هو الموت، لم؟لأن المرد إلى الله، {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}

فهذا المال إنما هو مال الله بيدك، (سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماء والأرض فإنه لم يغض في يده، وبيده الأخرى القبض) وفي رواية ضبطت (وبيده الأخرى الكيل) يعني الكيل العطاء المستمر، ويمكن أن تضبط على الرواية الأخرى (القبض) من فاضت روح فلان أي أماته الله عز وجل.

(يا ابن آدم أنفقْ أُنفِق عليك)، قال بعض العلماء انظروا إلى الترقي كيف؟ لما قال صلى الله عليه وسلم: (يد الله ملأى)، ربما يتوهم أنه يحصل نقصان، فماذا قال بعدها؟ (يد الله ملأى، لا تغيضها)، لا يكون هناك نقص، (لا تغيضها نفقة) بل في الرواية الأخرى أعم، (لا يغيضها شيء)، ثم ترقى، فبين أن هذا العطاء متدفق، وقرن بالليل وبالنهار، فمستمر مع هذا الإعطاء، فإنه لا ينقص شيء (سحاء الليل والنهار)، ومع طول هذه المدة (أرأيتم ما أنفق  منذ خلق السماء والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه)

ولذلك وعد المنفق بالخلف، وتوعد الممسك بالتلف، في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم يصبح العباد إلا ملكان ينزلان كل يوم، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا) متى؟ في رواية أبي داود الطيالسي من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: إذا طلعت الشمس (ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا ويبعث الله بين جنبتيها) يعني بين ناحيتيها (يبعث ملكين يقول أحدهما: اللهم أعظ منفقا خلفا، وآخر يقول اللهم أعط) بهمزة القطع (اللهم أعط ممسكا تلفا)

بل حتى في الغروب، ولذلك في حديث أبي الدرداء كما ثبت عند الحاكم في المستدرك: (وما غربت شمس إلا ويبعث ملكان بين جنبتيها يقول أحدهما) انظر هناك يقول (اللهم أعط) هنا بالتعجيل (اللهم عجل لمنفق خلفا، وعجل لممسك تلفا)

بل جاء عند أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: (أن هناك ملكين عند باب من السماء، كل واحد عند باب من السماء لا ينزلان) رواية أحمد من حديث أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم: (إن ملكا بباب من أبواب السماء يقول من يقرض اليوم فيجزى غدا، من يعطي قرضا حسنا)

سبحان الله! لما ترى بعض الناس وهلعهم يدخلون في مداينات، وفي معاملات ربوية، وليست شرعية، انظر إلى هذا الحديث قال: (من يقرض اليوم) (من يقرض اليوم يجز غدا)

(وهناك ملك بباب من أبواب السماء يقول: اللهم أعط لمنفق خلفا، وعجل لممسك تلفا)

(اللهم أعط منفقا خلفا)، ما هو الخلف؟ الخلف شامل، خلف في الصحة، في صلاح الذرية، في البركة والنماء في هذا المال، بركة معنوية، أو بركة حسية يزيد الثواب من الله، وهذا شامل لما ينفقه الإنسان من واجبات على نفسه، على أولاده، كل هذا شامل، ويدخل في ذلك الإنفاق في وجوه البر التي على وجه الاستحباب.

(وأعط ممسكا تلفا)، أبهمه، تلف إما بمحق في هذا المال، ولو زاد حسيا، فإنه ممحوق البركة، أو العقاب من الله إذا منع حقا واجبا عليه، أو كما قال بعض العلماء يمحق في صحته صاحب المالي محق لا يسعد بهذا المال، ولا يستلذ به، بل ربما تصيبه الأمراض والأوجاع، وهذا يدخل في ذلك في هذا الذم من مسك عن الإنفاق المستحب من أنفق شيئا مستحبا خلفه الله عليه، لكن لو أمسك الإنسان شيئا ليس بواجب عليه هل يصدق عليه هذا الحديث؟ لا يصدق على المندوبات، لكن قال القرطبي والعيني قالا: يصدق عليه إذا غلب عليه وصف البخل المذموم، فمن كانت هذه الصفة صفة البخل ارتسمت واتصف بها، فإن هذا الحديث يصدق عليه، وإلا فالأصل فإنه لا يصدق عليه، ولذا النبي صلى الله عليه وسلم ماذا قال كما عند مسلم قال: (يا ابن آدم إنك أن) أن المصدرية (يا ابن آدم إنك أن تبذل) أي تنفق (الفضل) يعني الشيء الزائد (فهو خير لك، وأن تمسك الفضل فهو شر لك، ولن تلام على كفاف) يعني إذا أمسكت الشيء الذي يكفيك ويكفي عائلتك لا تلام، لست بلموم، ولذلك ماذا قال بعده (وابدأ بمن تعول) هذا الزائد الذي يزيد عن حاجتك أول من تبدأ ببذله وبإنفاقه تبذله بمن تعول بأسرتك، فإن فضل ففي وجوه وأنواع البر.

ولذلك  في صحيح مسلم قالت أسماء رضي الله عنها قالت: (يا رسول الله) أسماء بنت أبي بكر قالت: (يا رسول الله إنه لا يكون عندي شيء إلا ما يدخل علي من الزبير) زوجها، فقال صلى الله عليه وسلم، هذا سبب السؤال عند مسلم، وإلا فالحديث في الصحيحين، يعني ما يدخل علي من الزبير يعني إما ما يعطيها من نفقة لها، فتدخر هذا الشيء، أو ما يعطيها من ماله، فيسمح لها أن تنفق منه فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تحصي فيحصي الله عليك) (فيحصيَ) مضارع منصوب؛ لأنه بعد فاء السببية المسبوق بالنهي (لا تحصي) يعني لا تدققي، ولا تجمعي (فيحصي الله عليك) يعني من العطاء أو من الثواب يوم القيامة (ولا توعي فيوعي الله عليك) كذلك الإعراب نفسه، من الوعاء وحبس الشيء في الوعاء وفي الإناء يعني حفظته ومسكته، قال (ولا توعي فيوعي الله عليك)

وفي رواية البخاري (لا توكي) يعني الوكاء، وهو الذي يربط به الإناء  قال (لا توكي فيوكى عليك) فدل هذا على أن الإنسان يحرص على أن ينفق ما استطاع، ولو بما قل. 

أما كون بعض الناس يصيبه الهلع والخوف، بل ربما أفضى ببعضهم إلى أن يبيع دينه، ليس من أجل، وهذا مذموم أصلا، ليس من أجل أنه يوفر الأشياء الضرورية، بل للأسف الشديد يبيع دينه من أجل أن يتحصل على أموال؛ ليشبع غرائزه الكمالية، نسأل الله السلامة والعافية.

ولذلك عبد الله لتوقن بأن الرزق بيد الجبار، جبر الرحمة، وجبر القوة، جبر العلو، جبار في علوه، جبار في قوته، جبار في رحمته.

هناك حديث يتناقل وهو:

أن أبا بكر رضي الله عنه أنفق ماله حتى تخلل بالعباءة، يعني لم يجد إلا عباءة يتخللها ويلتحفها، وهذا ليس بحديث، وإن كان معناه صحيحا، فأبو بكر رضي الله عنه أنفق ماله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أجل الدين ولأجل الدين، وقد ورد حديث أيضا في الفضائل لأبي نعيم أن أبا هريرة قال: (بينما كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ التفت على أبي بكر وقال: هنيئا لك يا أبا بكر، هنيئا لك فالله يحييك)، فهذا جبريل أتى فقال: (يا محمد قل لأبي بكر إن الله يقرئه السلام، ويقول أهو راض عني)

في فقره هذا، وكان أبو بكر متخللا بعباءة، أم أنه ساخط، فبكى أبو بكر بكاء شيدا حتى قال: (رضيت بقضاء الله وبقدره)

وهذا الحديث كما قال وهو عند الطبراني قال ابن كثير هو حديث به غرابة وشيخ الطبراني، وشيخ شيخه مجهولان.

الشاهد من هذا: أن هذا الحديث لا يصح، لكن انظروا: أبو بكر لما أنفق ما أنفق عوضه الله، يكفي في ذلك أن الله مدحه وأثنى عليه.

وهناك حديث يتناقل: “أنفق ما الجيب يأتيك ما في الغيب”

قال الحفاظ كالسخاوي وغيره: هذا لا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام، وليس بحديث إنما يتناقله الناس، لكن معناه صيحح: “أنفق ما في الجيب يأتيك ما في الغيب” معناه صحيح إنه مثل حديث (أنفق أنفق عليك)

ومعناه يدل عليه قوله تعالى (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُلكن إذا قلته لا تقل قال النبي صلى الله عليه وسلم كعبارة فهذا لك في ذلك، لكن أن تنسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلا، ولذلك الناس يقولون: “أنفق ما في الجيب يأتيك ما في الغيب” لو كان حديثا “أنفق ما في الجيب يأتك” أنفق  ما في الجيب يأتك” مجزومة؛ لأنها واقعة في جواب الأمر، “أنفق ما في الجيب يأتك ما في الغيب”، ولو صح فإن لهذا وجها في اللغة العربية، وهي جملة يأتيك إذا وقعت مجزومة.

الشاهد من هذا:

أن على المسلم ألا ينمي في نفسه صفة البخل، أنفق بما تيسر بما تيسر، وأعظم من ذلك أن بعضا من الناس قد يبخل على أهله، وعلى أسرته بما أوجبه الله عز وجل عليه من النفقة الواجبة.