خطبة ( الأمر كله لله )

خطبة ( الأمر كله لله )

مشاهدات: 2782

خطبة “الأمر كله لله”

فضيلة الشيخ زيد البحري حفظه الله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّـهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴿۞﴾ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾  أما بعد :

فيا عباد الله تدبير أمور الكون بيد الله ﷻ، هذا العالم وكّل به الملائكة وذلك لأنها المباشِرة لما يأمر به ﷻ، ولذا قال ﴿ فَٱلۡمُدَبِّرَٰتِ أَمۡرٗا ﴾ [النازعات-5] أي الملائكة تدبر أمر هذا الكون بأمر الله ﷻ، ومع تدبيرها -لأنها هي المباشِرة – فالله وكّل لها التقسيم للأمر ﴿فَٱلۡمُقَسِّمَٰتِ أَمۡرًا ﴾ [الذاريات-4]  وأسند التدبير إليه ﷻ، لأنه لا تدبير لأحد إلا بأمر الله ولا قدرة للملائكة على فعل شيء إلا بأمر الله، ولذا لما قال عليه الصلاة والسلام لجبريل ” ألَا تَزُورُنَا أكْثَرَ ممَّا تَزُورُنَا؟” قال جبريل عليه السلام: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمۡرِ رَبِّكَۖ لَهُۥ مَا بَيۡنَ أَيۡدِينَا وَمَا خَلۡفَنَا وَمَا بَيۡنَ ذَٰلِكَۚ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّٗا ﴾ [مريم-64].

فالله استوى على العرش ومع علوه فهو يدبر أمور هذا الكون ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۖ ﴾ [يونس-3]  الأمر كله لله، فإذا أيقن هذا القلب بأن الأمور كلها بيد الله فإنه حينها يعرف أنه هو المعبود الذي يستحق العبادة ولا يستحق العبادة سواه.

فهو غِياث الملهوفين ونجاة المكروبين، لا قدرة لأحد على تقديم شيء ولا على تأخير شيء إلا بأمره ﷻ ﴿ بَل لِّلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ جَمِيعًاۗ ﴾ [الرعد-31] لا تملك لنفسك ولا لأولادك ولا لأسرتك ولا لأي أحد من المخلوقين لا تملك له ضراً أو نفعاً، كل ذلك بتقدير الله ﷻ، ولذا جاء في سورة آل عمران: ﴿ قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَمۡرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِۗ ﴾ [آل عمران-154].

فلا يستطيع أحد أن يتحرك أو أن يسكن إلا بأمر الله: ﴿ وَلَهُۥ مَا سَكَنَ فِي ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ ﴾ [الأنعام-13] ﴿إِنَّمَآ أَمۡرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيۡ‍ًٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ ﴾ [يس-82] ﴿ وَمَآ أَمۡرُنَآ إِلَّا وَٰحِدَةٞ كَلَمۡحِۢ بِٱلۡبَصَرِ﴾ [القمر-50] ﴿ وإِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ ﴾ [البقرة-117] مبدأ الأمور من الله ومنتهاها إلى الله، وبين هذا وبين هذا فالعبد الموفق حينها لا يلجأ إلا إلى الله، ولا يدعو إلا الله، فهو المؤمّن لكل خائف والمستغاث به عند كل مصيبة وفادحة ونائبة.

ولذا لا أمر لأحد حتى لأعظم  مخلوق وهو النبي ﷺ قال الله له: ﴿لَيۡسَ لَكَ مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٌ﴾ [آل عمران-129] إذاً من يملك الأمر كله هو الذي يُعبد، هو الذي يُدعى، هو الذي يُستغاث به، هو الذي يُرجى هو الذي يُؤمَّل هو الذي يرزق ﷻ: ﴿  كُلَّ يَوۡمٍ هُوَ فِي شَأۡنٖ ﴾ [الرحمن-29] يعطي فقيراً ويشفي مريضاً ويهدي حائراً ويقبل تائباً.

الأمر كله بيد الله، كما أن الأمور في أولها  بيده فمرجعها إليه: ﴿ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ ﴾[آل عمران-109] ومع رجوعها فعاقبة هذه الأمور له: ﴿وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ ﴾ [الحج-41] منتهى هذه الأمور إلى الله: ﴿ أَلَآ إِلَى ٱللَّهِ تَصِيرُ ٱلۡأُمُورُ ﴾ [الشورى-53] ﴿ لِيَقۡضِيَ ٱللَّهُ أَمۡرٗا كَانَ مَفۡعُولٗاۗ ﴾ [الأنفال-44] جاءت في سياق غزوة بدر: ﴿ قُل إِنَّ ٱلۡأَمۡرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِۗ﴾ [آل عمران-154]  جاءت في سياق غزوة أحد.

أمر الله نافذ: ﴿وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِۦ﴾ [يوسف-21] غالب على أمر ما يشاء من الأمور، والله غالب على أمر نفسه فلا يستطيع أحد أن يرد قضاءه أو أن يمنع ما يشاء، ومن ذلك والله غالب على أمر يوسف فلا يوكله إلى غيره فإنما تولاه ﷻ بحفظه ورعايته، وكان في كرب عظيم عليه السلام فنجاه الله ﷻ حتى مكّن له في الأرض.

إذاً الواجب على العبد ألا يخاف وأن لا يحزن وأن لا يهرع إلا إلى الله ﷻ، فإنه حينها يكون هذا العبد أسعد ما يكون.

وكما أسلفت لا تقديم لما أخره الله ولا تأخير لما قدمه الله، ومن ذلك جاءت النصوص الشرعية بالحث على الرفق وعلى عدم العجلة لأن كل شيء قد قُدر: ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيۡءٖ فَقَدَّرَهُۥ تَقۡدِيرٗا ﴾ [الفرقان-2] أنبياء الله لما نزل بهم من الكرب العظيم قال ﷻ في شأن نوح عليه السلام: ﴿ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا  [هود-40] أمر الله جاء بإنجائه وإهلاك قومه: ﴿حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلۡنَا ٱحۡمِلۡ فِيهَا مِن كُلّٖ زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيۡهِ ٱلۡقَوۡلُ وَمَنۡ ءَامَنَۚ وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٞ ﴾ [هود-40] .

هود عليه السلام: ﴿ وَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا نَجَّيۡنَا هُودٗا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ﴾ [هود-58]   صالح عليه السلام: ﴿ فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا نَجَّيۡنَا صَٰلِحٗا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ﴾[هود-66]                                  شعيب عليه السلام: ﴿ وَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا نَجَّيۡنَا شُعَيۡبٗا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ﴾[هود-94]

موسى عليه السلام البحر أمامه وفرعون من خلفه، ومع ذلك نجّاه الله ﷻ في ذلك الكرب العظيم الشديد، فالمَفزَع إلى الله، ولذلك هذه الآيات التي ذكرتها وغيرها كثير تتعلق بالتوحيد، فالتوحيد كما قال ابن القيم رحمه الله :”هو غياث الملهوفين” هو الذي به يدخل العبد إلى الله، لا تصل إلى الله إلا بالتوحيد قال : “ومع التوحيد الإستغفار من الذنوب” ولذلك فلاغنى للعبد عن التوحيد طرفة عين.

ولذلك إذا عظم الكرب بالإنسان تأمل في أدعية الكرب كلها مصدّرَة بالتوحيد، دعوات المكروب كما في مسند الإمام أحمد:” اَللَّهُ أاللَّهُ رَبِّي لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا” ، ” لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ الْعَظِيمُ الحلِيمُ… ” إلى آخر هذا الحديث ذُكر التوحيد.

ولذلك قال ﷺ في حديث أبي رَزِين وهوحسن من حيث السند: ” ضَحِكَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ، وَقُرْبِ غِيَرِهِ” يضحك ربنا ﷻ ضحكاً يليق بجلاله وعظمته من قنوط عباده، وَقُرْبِ غِيَرِهِ: يقنط العبد أن هذا الأمر لن يتحقق، أوأن هذا الكرب لن يدفع من مرض أو فاجعة أو خسارة أو ما شابه ذلك، وَقُرْبِ غِيَرِهِ: يعني ما أقرب تغيير الله ﷻ لحال هذا الإنسان: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ ٱلۡغَيۡثَ مِنۢ بَعۡدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحۡمَتَهُۥۚ وَهُوَ ٱلۡوَلِيُّ ٱلۡحَمِيدُ﴾ [الشورى-28]

الدواب التي في قيعان البحر من الذي يرزقها؟ من الذي يعلم مستقرها ومستودعها؟ الله ﷻ يدبر أمورها: ﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِ رِزۡقُهَا وَيَعۡلَمُ مُسۡتَقَرَّهَا وَمُسۡتَوۡدَعَهَاۚ ﴾ [هود-6].

تقلب الليل والنهار، قِصَر الليل وطول النهار العكس وماشابه ذلك، كلها بتدبير الله وبأمره: ﴿وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَٰتِۢ بِأَمۡرِهِۦٓۗ ﴾ [الأعراف-54]  ﴿لَا ٱلشَّمۡسُ يَنۢبَغِي لَهَآ أَن تُدۡرِكَ ٱلۡقَمَرَ وَلَا ٱلَّيۡلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِۚ وَكُلّٞ فِي فَلَكٖ يَسۡبَحُونَ﴾ [يس-40].

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين    أما بعد

يا عباد الله بعد هذا الحديث في الخطبة الأولى ما الذي يلزمنا؟ ما الذي يلزمك وما الذي يلزمني؟ نحن ضعفاء لا نعلم مايكون ونحن في المسجد ما يكون في خارج المسجد، فلا نعلم ماذا قدر لنا في مستقبل أمرنا في مستقبل حياتنا، ولذلك اختصرتها هذه الآية حتى يكون القلب مطمئناً والموفق من وفقه الله: ﴿وَمَا تَوۡفِيقِيٓ إِلَّا بِٱللَّهِۚ﴾ [هود-88] .

قال ﷻ: ﴿وَلِلَّهِ غَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡض﴾ [هود123] ماغاب في السماء وفي الأرض لا يعلمه إلا الله مما قدرعلينا وعلى غيرنا: ﴿وَلِلَّهِ غَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ﴾ [هود123] تدبير هذا الغيب الذي هو عند الله شهادة، الغيب عند الله شهادة، والسر عنده ﷻ علانية.

﴿فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه-7] يعلم السر الذي في نفس الإنسان، وَأَخْفَى: أي الشيء الذي لم يخطر على قلب هذا الإنسان يعلمه الله ﷻ قبل أن يعلم الإنسان نفسه ما يخطر في باله.

﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [هود123]

﴿وَلِلَّهِ غَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ﴾  ما الذي بعدها ؟ ﴿وَإِلَيۡهِ يُرۡجَعُ ٱلۡأَمۡرُ كُلُّهُۥ﴾ الأمر كله له، إذا ما واجبنا؟ اقرأ ما بعدها ﴿فَٱعۡبُدۡهُ أنت مأمور بعبادة الله، مايكون في المستقبل فوضه إلى الله  ﴿فَٱعۡبُدۡهُ ما الذي بعدها ؟ ﴿وَتَوَكَّلۡ عَلَيۡهِۚ ختام الآية ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ﴾ هذه الآية جمعت أيضاً ما ذكرته في أول الخطبة.

نسأل الله ﷻ أن يصلح أحوالنا وأن يوفقنا وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين وانصر عبادك الموحدين اللهم كن لإخواننا المستضعفين من المسلمين في كل مكان اللهم اشف مريضهم واجبر كسر كسيرهم وآوِ طريدهم وشريدهم وانصرهم على عدوك وعدوهم يارب العالمين، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً سخاءً وسائر بلاد المسلمين.

اللهم آمنا في أوطاننا و وفق ولاة أمرنا اللهم وفقهم بتوفيقك وأيدهم بتأيدك اللهم من أراد بهذه البلاد شرا وفتنة وزعزعة فأشغله في نفسه ورد كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً عليه يا قوي يا عزيز ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.