بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة خمس عشرة فائدة من حديث
(ابن آدم إن أصابه البرد قال حس وإن أصابه الحر قال حس)
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
6/6/1444 هـ
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين أما بعد فيا عباد الله:
ثبت في المسند بإسناد صحيح عن خولة بنت قيس قالت: قدَّمتُ للنبي ﷺ طعامًا في بُرمة “فوضع رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يدَه في البُرمةِ ليأكلَ، فاحترقت أصابعُه، فقال: حَسِّ، ثم قال: ابنُ آدمَ إن أصابَه البردُ قال حَسِّ وإن أصابه الحَرُّ قال حَسِّ“.
البرمة: هو القدر، وضع النبي ﷺ يده، فوجد أن الطعام حار، فتأثرت أصابعه عليه الصلاة والسلام فماذا قال؟
“قال حَسِّ” حس كلمة توجع عندما يُفجأ الإنسان بأذى يصيبه في بدنه.
“قال حَسِّ” وتضبط حسٍّ بالتنوين، وأيضًا جاء في اللغة حِسِ، ولعلها من الإحساس فإن الجسم أحسَّ بما آذاه على وجه المفاجأة مثل ما يقول أحدنا إذا أصابه ما يؤذيه: أَحْ.
أَحْ كلمة عربية في بعض كُتُب اللغة (أحَّ الرجلُ إذا توجعَ) وهذه الكلمة إذا صدرت (حَسِّ) أو (أَحْ) إذا صدرت من باب إيضاح ما وقع له فلا إشكال في ذلك.
أما إذا كان فيها اعتراض على قدر الله، فهذا لا يجوز، لكن أصلها إنما هي تحصل حين ما يكون للجسم من أذية يؤذيه، حَسِّ.
ولذلك يقول أهل اللغة: ( ضُرِبَ فما قال حَسِّ) يعني فما تألم، فالشاهد من هذا أنه عليه الصلاة والسلام بشر يصيبه ما يصيب البشر يتأذى كما يتأذى البشر، فهو مخلوق عليه الصلاة والسلام، فلا يُرفع فوق منزلته كما تفعل الصوفية من جعله ندًا لله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرًا.
“قال حَسِّ” ثم ذكر النبي عليه الصلاة والسلام الآدمي حينما يصيبه ما يصيبه، حتى من قلة الأذى قال: “قال: ابنُ آدمَ..” هذا هو حال ابن آدم “إن أصابَه البردُ قال حَسِّ وإن أصابه الحَرُّ قال حَسِّ” لا يتوافق ما هو حاله، إن جاء البرد قلنا: أين الصيف وحرارته، إن أتى الصيف وحرارته قلنا: أين الشتاء وبرده، فنحن ضعفاء فإذا كان ابن آدم لا يتحمل ما قلَّ من لهيب حرارة الدنيا، فكيف يتحمل تلك النار التي هي سبعون ضعفًا من نحو هذه النار، وأيضًا حتى لو خرج الإنسان في شدة الصيف إلى منطقة باردة أو العكس مع أنه في فصل الصيف، وذهب إلى مكان بارد أيام وقد ذهب وهو قد شُغِف قلبه بالذهاب، فإذا به يتأثر.
ولذلك في رواية ابن حبان “إنْ أصابه بَرْدٌ قال: حَسِّ وإنْ أصابه حَرٌّ قال: حَسِّ” وأيضًا يدل هذا كما أنه يدل على ضعف ابن آدم {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28] مسكين هذا الآدمي، {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} [الروم: 54]، {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [المرسلات:20]، من نطفة، مهين ضعيفة، فكيف يتكبر هذا الآدمي على الله!
وهذا يدل –في تقلب أحوالنا مع الأجواء– يدل على أنه لا راحة للإنسان، ولا قرار له إلا في الجنة، {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا} [الإنسان:13] الشمس يكون منها الحر، والزمهرير شدة البرد، {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا} [الإنسان:13] لا راحة لهذا الآدمي إلا في الجنة.
أما الدنيا مهما كان لدى الإنسان من متعها ولذاتها، فتلك المتع واللذات مشوبة بالكدر وبالتنغص ما تسلم، ليست لذة صافية فكيف يركن الإنسان إليها، ولذلك سبحان الله ما تنفتح الدنيا انفتاحًا كثيرًا كبيرًا، إلا ويحصل معها من الشقاء بقدر أو بأكثر من متعها، ومن هم في أعمار السبعين، والثمانين، والستين لِيُسألوا ولْيَسألوا أنفسهم كيف كان حال الناس فيما مضى من الطمأنينة والراحة مع قلة ما لديهم من المأكل والمطعم والمشرب.
الآن الخيرات كثيرة، ومع ذلك لا يقتنع الإنسان بما لديه، ويتشوف إلى ما لدى غيره وأوجعت الناس هذه الوسائل وسائل التواصل التي يُتابع فيها أهل الترف وأهل النعم، فأصبح الإنسان لا يقتنع بما لديه، ويتطلب إلى أن يكون كفلان، وكذلك المرأة تتطلب أن تكون مثل فلانة وهكذا.
{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} سافرنا إلى تلك البلدة، وضعنا ذلك العرس في تلك القاعة،….
{تَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} هذه أمثلة!
{وَتَكَاثُرٌ} كل يريد أن يكون أكثر من الآخر {وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ} أي الزراع {نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ} بعد فترة، بعد ما يخضر يهيج، ينتفض للتحول من الخضرة إلى اليُبْس {ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20].
ومن أعظم المصائب التي تحل ببعض الناس –ولذلك كان من دعاء النبي عليه الصلاة والسلام عند الترمذي “ولا تجعلْ مصيبَتنا في دينِنا“-
أن يطلب هذه الدنيا بما حرم الله، مما يشين الإنسان من حيث العادة والتقاليد، ومما يشينه من حيث الدين في وسائل التواصل ما الذي يجري فيها من أجل طلب الدنيا؟
أن يكثر المتابعون، ثم تكثر الإعلانات، أو يُعطَوا نظير هذه المتابعات
أن يُعطَوا مالًا، ما هذه الدنيا؟
ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال كما عند البخاري:
“مَوْضِعُ سَوْطٍ في الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وما فِيهَا”
السوط الذي يضعه الراكب من أجل أن يحجز مكانًا، كم يأخذ هذا السوط من حيز من هذه الأرض؟ لا شيء
“مَوْضِعُ سَوْطٍ في الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وما فِيهَا“.
النبي عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم قال:
“والله“ يقسم عليه الصلاة والسلام “واللهِ ما الدُّنيا في الآخرةِ إلَّا كما يجعَلُ أحدُكم إِصبَعَه في اليمِّ” في البحر “فلْينظُرْ بمَ ترجِعُ” ترجع الإصبع ماذا تمسك الإصبع من ماء البحر،أو في الرواية الأخرى “فَلْيَنْظُرْ بِمَاذَا يَرْجِعُ ” بماذا يرجع هو؟
كذلك الدنيا بالنسبة إلى الآخرة ما هي في ذهاب لذاتها وزوالها إلا الشيء الذي أُخِذ نظير ما بقي من البحر، مما يدل على كمال الآخرة وكمال لذتها وراحتها.
فكيف يُطمَئن إليها؟
“إن أصابَه البردُ قال حَسِّ وإن أصابه الحَرُّ قال حَسِّ” هذا شيء يسير، فما ظنكم بالأذى الكبير الكثير.
ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان يعلق قلوب أصحابه بالآخرة، سبحان الله في الصحيحين لما رأى ما بهم من النصب والتعب، وقلة الحال والمال ماذا قال لهم؟
“اللَّهُمَّ إنَّ العَيْشَ عَيْشُ الآخِرَهْ”
العيش عيش الآخرة، هذا هو العيش الحقيقي الذي به يسعد الإنسان.
ولذلك في الحديث الحسن في المسند “إنَّ مَطعَمَ ابنِ آدَمَ ضُرِب لِلدُّنيا مَثَلًا بما خرَج مِن ابنِ آدَمَ وإنْ قزَّحه وملَّحه” يعني وإن وضع له التوابل ووضع الملح “وإنْ قزَّحه وملَّحه فَانْظُرُوا إِلَى مَا يَصِيرُ”
هذه نهاية الدنيا التي يُشغف بها، ويُترك من أجلها الآخرة!.
ولذلك في الحديث الآخر حديث الضحاك بن سفيان الكلابي في المسند، وهو يعضد الحديث السابق قال: ” يَا ضَحَّاكُ مَا طَعَامُكَ ؟ “.
قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، اللَّحْمُ وَاللَّبَنُ“ اللحم واللبن من أعظم ما يكون “قَالَ : ” ثُمَّ يَصِيرُ إِلَى مَاذَا ؟ “.
قَالَ : إِلَى مَا قَدْ عَلِمْتَ، قَالَ :
” فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ضَرَبَ مَا يَخْرُجُ مِنِ ابْنِ آدَمَ مَثَلًا لِلدُّنْيَا “
وهذا هو حال الإنسان لما يأكل أطيب ما يكون من المآكل والمشارب
أثناء خروج الفضلات أكرمكم الله أنتن ما يكون، فانظروا إلى حال الدنيا التي تَعذَّب كثير من الناس من أجلها
بل للأسف وهذه هي المصيبة العظمى ضحَّوا بشيء من دينهم
من أجل الحصولٍ عليها والله المستعان.
نسأل المولى لنا ولكم الثبات، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين أما بعد فيا عباد الله:
في الصحيحين: “أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُرَّ عليه بجِنَازَةٍ، فَقالَ: مُسْتَرِيحٌ ومُسْتَرَاحٌ منه“ الواو هنا بمعنى أو لأنها للتقسيم.
الميت إما أن يكون مستريحًا، وإما أن يكون مستراحًا منه.
“قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، ما المُسْتَرِيحُ والمُسْتَرَاحُ منه؟ قالَ: العَبْدُ المُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِن نَصَبِ الدُّنْيَا“ أي من تعب الدنيا ” وأَذَاهَا إلى رَحْمَةِ اللَّهِ، والعَبْدُ الفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ منه العِبَادُ والبِلَادُ، والشَّجَرُ والدَّوَابُّ.”
يستريح من نصب الدنيا ومن أذاها.
وفي رواية النسائي “من أوصابِ الدُّنيا“ أوصاب الأوجاع.
ومن نصب يعني من التعب.
وفي رواية الإمام أحمد “ومن همها“
لأنه يروح إلى رحمة الله عز وجل.
مما يدل على أن هذه الدنيا كما أسلفت وقلت مشوبة، ولو عظمت
في أعين الناس ملذاتها إلا أنها مشوبة بالأكدار، ومهما ارتفع الإنسان في هذه الدنيا مهما كان سبحان الله في صحيح البخاري كان للنبي عليه الصلاة والسلام ناقة يقال لها العضباء لا تُسبق، وفي رواية لا تكاد تُسبق، فأتى أعرابي على قعود فسبقه يعني سابق النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا من تواضعه عليه الصلاة والسلام، فهذا الأعرابي سبق الناقة، فشق ذلك على أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام وقالوا: سُبقت العضباء فعرف ذلك النبي عليه الصلاة والسلام فماذا قال؟
“حَقٌّ علَى اللَّهِ أنْ لا يَرْتَفِعَ شيءٌ مِنَ الدُّنْيا إلَّا وضَعَهُ” وفي الرواية الأخرى عند البخاري “إِنَّ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يَرْفَعَ“ هو سبحانه لا يمكن أن يرتفع أحد ولا شيء في هذه الدنيا إلا بقدر من الله “إِنَّ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يَرْفَعَ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا وَضَعَهُ “ وفي رواية النسائي : “حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يَرْفَعَ شَيْءٌ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا إِلَّا وَضَعَهُ“ هذا يدل على ماذا؟
معناه الناقة لم ترفع نفسها، لكن من رُفع بغير استحقاق من الناس أو رفع نفسه من غير استحقاق، وليس معنى الاستحقاق أنه يتعمد أن يرفع نفسه لا، لكن لديه مما لديه من الخير الذي فضله الله عز وجل، فرفعه الله ورفع شأنه في هذه الدنيا، لكن مهما كان أي شيء يرتفع في هذه الدنيا، ولذلك بعض المشاهير يتذكر هذا الحديث فكيف إذا كانت تلك الشهرة نسأل الله السلامة والعافية سبيلًا لنشر الفحشاء أو لطمس شيء من معالم الدين، أو تهوين المعصية في نفوس الناس، فليتقوا الله عز وجل، والحديث طويل لو جلسنا خمس ساعات ما انتهى الحديث عما يتعلق بحال هذه الدنيا، وما يتعلق بحالنا فيها، ولكن لعل ما ذكر موعظة لنفسي أولًا، ولكم ثانية، وأسال الله عز وجل ألا يخرجنا من هذه الدنيا إلا وهو راض عنا، نسأله عز وجل أن يختم لنا بخاتمة السعادة، وأن يكتب لنا الحسنى وزيادة.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين وانصر عبادك الموحدين، اللهم كن لإخواننا المرابطين على الحدود، اللهم كن لهم ناصرًا ومعينًا، اللهم ثبت أقدامهم وسدد رميهم وانصرهم على الرافضة الحاقدين، اللهم اجعل هذا البلد أمنا مطمئنًا رخاء سخاء وسائر بلاد المسلمين، اللهم أمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفقهم بتوفيقك وأيدهم بتأييدك، اللهم من أراد بهذه البلاد شرًا وفتنة، فأشغله في نفسه ورد كيده في نحره واجعل تدبيره تدميرًا عليه يا قوي يا عزيز.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إمامًا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم صلٍ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.