بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة مهمة نحتاجها في هذا الزمن (المجالس بالأمانة)
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
24/2/1440هـ
حديث جابر “المجالسُ بالأمانةِ“، هذا الحديث أخرجه أحمد وأبو داود وحسنه الألباني رحمه الله لِما عند ابن المبارك في الزهد من حديث
أبي بكر بن حزم مرسلًا، وهو حسن بلفظ “إنما يَتَجالسُ المُتَجَالِسانِ بأمانةِ اللهِ، فلا يَحِلُّ لأحدِهِما أن يُفْشِيَ على صاحبِهِ ما يَكْرَهُ“، لهذا المرسل حسنه الألباني رحمه الله مع أنه هناك جملة لها تتمة في هذا الحديث، لكن لم يجد لها ما يؤيدها.
وعلى كل حال هذا الحديث، وهذا المرسل من حيث المعنى دلت عليه النصوص العامة قال تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27] ويؤيده أيضًا من حيث المعنى الحديث الحسن، حديث جابر عند أبي داود والترمذي قال ﷺ:
“إذا حَدَّثَ الرجلُ الحديثَ ثم التَفَتَ فهي أمانةٌ“.
وعلى كل حال هذا الحديث، معناه دلت عليه النصوص العامة الكثيرة التي ذكرناها، والتي سنذكرها إن شاء الله، والتي لم نذكرها
دلت على ذلك.
ما معنى هذا الحديث “المجالسُ بالأمانةِ“؟
الباء هنا لها متعلق يتعلق بها شيء، يعني المجالس تشرف، وتحسن إذا وجدت فيها الأمانة من قبل المجتمعين، فإن هذه المجالس تقبح إذا وجد فيها من يفشي ما يكون فيها مما سمعه أو رآه، ففيها حث على أن الإنسان يحفظ ما يقال، وما يراه في هذا المجلس.
وهذا الحديث: “المجالسُ بالأمانةِ“
له صور وازدادت صورها في هذا العصر،
أوضح ذلك:
بعض الناس قد يجلس في مجلس، وإذا ببعضهم أو بأحدهم
إذا انصرف هذا المجلس نقل ما كان فيه أو نقل بعضه.
قبيح هذا الفعل!.
أو أنه –وهذا أقبح– يسجل ما سمعه في هذا المجلس أو أنه يصور
ما يكون في هذا المجلس، أو يصور بعضهم أو أحدهم، أو أنه يسجل
ما يجري بينه
وبين شخص من مهاتفة يسجل ما يكون بينهما، أو ما استجد في هذا العصر من وسائل التواصل، من وسائل المحادثات من الواتس
أو من غيره، ربما أن بعضهم قد تكون له محادثة أو محادثات
في المجموعات أو ما يسمى عندنا مما اشتهر بالجروبات، أو محادثة خاصة، ربما أنه يصور هذه المحادثة، أو أنه يكون بينه وبينه تسجيل صوتي، فيحفظ هذه المحادثة الصوتية.
فهذا الفعل قبيح لو أراد أن يحتفظ بهذه الأشياء.
أقبح منه إذا نقلها إلى الغير، أقبح من ذلك إذا وضعها
في وسائل التواصل، ونشرها في اليوتيوب أو في غير ذلك،
أقبح من ذلك إذا علم حسب القرائن أن صاحبه لا يريد أن يَنشُر عنه
ما ذُكِر، أو أن هذه المجموعة في هذا المجلس أو في هذا الواتس،
أو في غيره لا يحبون ذلك.
ولذلك الحديث حديث جابر الحسن عند أبي داود والترمذي:
“إذا حَدَّثَ الرجلُ الحديثَ ثم التَفَتَ فهي أمانةٌ”
ثم التفت ما معناها؟
قال بعض الشراح: التفت يعني غاب يعني انفض هذا المجلس؛ فلا يحل لأحد أن يفشي هذا الأمر، وقيل وهو الأظهر مع دخول الأول، ولا مانع من دخول الأول، من أنه لما حدثه بالحديث التفت، ما التفت إلا من أجل ألا يسمعه أحد، فهذه قرينة على أنه لا يجوز لمن حدثه
أن يفشي هذا الخبر.
وأقبح وأقبح وأقبح من ذلك أن يقول شخص
من الجالسين أو في وسائل التواصل في المجموعات أو ما شابه ذلك
أن يقول: لا أسمح لأحد أن يسجل لي أو أن ينقل عني شيئًا.
وأقبح من ذلك وأقبح أيضًا إذا كان هذا الجليس قد ائتمنه هذا الجليس كما يأتمن الأب ابنه، أو يأتمن الأخ أخاه.
ولذلك عند الخرائطي في اعتلال القلوب:
” أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ: يَا بُنَيَّ , أَرَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِيكَ “، يعني يقربك ما لا يقرب غيرك، وكان ابن عباس رضي الله عنه نعم الجليس، ونعم الأمين، ونعم الصاحب
لعمر رضي الله عنه.
فقال العباس: ” يَا بُنَيَّ , أَرَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِيكَ , فَاحْفَظْ مِنِّي خِصَالًا ثَلَاثَةً: لَا تُفْشِ لَهُ سِرًّا ” هذا موضع الشاهد “وَلَا يَسْمَعَنَّ مِنْكَ كَذِبًا , وَلَا تَغْتَابَنَّ عِنْدَهُ أَحَدًا ” ا.هـ
وأقبح وأقبح من هذا كله أن يكون في هذا النقل إضرار بهذا المتحدث
أو بهؤلاء المتحدثين، إضرار عليهم في سمعتهم، أو في معيشتهم،
أو في رزقهم، أو ما شابه ذلك من هذه الأضرار.
بعض الناس قد يقول هذه مصلحة!.
مصلحة إذا كانت خاصة بك،
أما مصلحة لحديث تحدث به أُناس في مجالسهم أو في وسائل التواصل وتقول نشره مصلحة، أو حفظه مصلحة، هذا إذا كان خاصًا بك،
لكن هنا فيه ماذا؟
اعتداء على حقوق الآخرين، اللهم إلا إذا كان في جلسة هؤلاء
ما فيه إضرار واضح بمصالح المسلمين كما قال الشُّرّاح من أنهم يأتمرون ويدبرون لقتل نفس، أو لهتك عرض، أو لأخذ أموال الناس، فهنا المصلحة تقتضي أن تدفع هذه المفسدة بالإخبار عنهم،
لكن أشياء تخص هؤلاء، فإن مثل هذا لا يجوز بشتى صوره
إلا في بعض الصور السابقة، لأن ما يضر بالإنسان؛
الإنسان العاقل لا يسمح أن يُنشر عنه، لكن مما سبق إلا أن تستأذنه
قل يا فلان سجلت لك أو صورت لك، قد يصوره على حالة ليست طيبة،
أو لا تدل على الوقار لأن بعض الناس قد يكونُ وقورًا، وهو وقور أصلا لا يمثل ذلك، ولا يتزيفه، لكن لما يكون الإنسان في مجلس مع أهله
أو مع أصدقائه يتبسط.
ولذلك عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ماذا قال لعمر؟
قال: ” إنّا إذَا خَلَوْنَا، قُلْنَا “، يعني ما نقوله في الخلاء من التبسط
مع الأهل والأصحاب، ما لا نقوله مع وأمام عموم الناس.
إلا أن يأذن لك، فإن لم يأذن، لا بد أن تستأذنه، وإلا فلا يجوز هذا الفعل، ثم أيضًا لو أذن لك انظر هل هذا من الخير الذي يُنشر؟
هل هذا من المنفعة التي تُنشر؟
وإلا فكما قال ﷺ كما ثبت عند الترمذي:
“مِن حُسنِ إسلامِ المرءِ تَرْكُه ما لا يعنيه“.
“المجالسُ بالأمانةِ“!
فإن خالف ذلك وقع في هذه المحظورات:
أولًا: يكون نمامًا كما قال الشراح يقولون هذا نمام،
ولذلك النبي ﷺ كما في الصحيحين قال:
“لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَتّاتٌ“ يعني هو النمام
وقيل: هو الرجل يتسمع لكلام غيره من حيث لا يعلمون، فينشُر.
إذًا ما ظنك بمن ائتمنه هؤلاء، فنشر عنهم وهو جالس في مجلسهم.
ثانيًا: هذا خيانة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27].
ثالثًا: هذه خصلة من خصال المنافقين قال ﷺ كما في الصحيحين:
“آيَةُ المُنافِقِ ثَلاثٌ“ منها “إذا اؤْتُمِنَ خانَ“.
رابعًا: أن دينه وأن إيمانه ناقص، ولذلك أنس رضي الله عنه كما ثبت في المسند قال: “قَلَّمَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَالَ :
” لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ “.
” قَلَّمَا “ وجود الاستثناء إلا تدل على النفي، يعني ما وعظنا رسول الله ﷺ في غالب أحواله إلا ذكر لنا هذا الحديث.
خامسًا: إيمان هذا الناقل أو من هذه صفته ليس بكامل، ولذلك النبي ﷺ كما في حديث أنس في الصحيحين:
“لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ”
زاد أحمد والنسائي بإسناد صحيح “ما يُحِبُّ لِنفْسِهِ من الخيْرِ“.
سادسًا: هذه ليست بفُتُوَّة؛ الفتوة المحمودة هي من اجتمعت فيه
صفات الفتوة من الشباب من حيث اكتمال صفاته البدنية، والخُلُقية.
ولذلك البوشنجي كما عند البيهقي في شعبه، وهو أحد رجال البيهقي قال لما سئل عن الفتوة المحمودة قال: ” الفتوة عندي في آية من كتاب الله تعالى وخبر عن النبي ﷺ فأما قول الله تعالى:
﴿يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ﴾. [الحشر:9]” وأما الخبر كما قال فهو قول النبي ﷺ: ” لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ “ زاد رحمه الله، ولم أرَ هذه من ضمن الحديث
بعد البحث، ومعناها صحيح يدل عليها مفهوم الحديث.
قال: ” ويكره لأخيه ما يكره لنفسه“ قال: “فمن اجتمع فيه هاتان الحالتان “ التي في الآية وفي الحديث “ فله الفتوة “
فقد اجتمعت فيه خصال الفتوة المحمودة
.
خلاصة القول: المجالس لها أمانة!
وتشرف بما تشرف به من حفظ ما يكون فيها مما يُسمع أو يُرى
حسب التفصيل السابق.
أخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث المستورد قال ﷺ
كما صح عنه وثبت:
“مَنْ أَكَلَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أُكْلَةً” وضبطت “أَكْلَةً“، “فَإِنَّ اللَّهَ يُطْعِمُهُ مِثْلَهَا مِنْ جَهَنَّمَ، وَمَنِ اكْتَسَى بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ ثَوْبًا” وفي رواية أبو داود “من اُكتسيِ“
“وَمَنِ اكْتَسَى بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ ثَوْبًا، فَإِنَّ اللَّهَ يَكْسُوهُ مِثْلَهُ مِنْ جَهَنَّمَ، وَمَنْ قَامَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ مَقَامَ سُمْعَةٍ ورِيَاء، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُومُ بِهِ مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ “ ما معنى هذا الحديث؟
“مَن قامَ برَجلٍ” الباء هنا سببية يعني من قام بسبب رجل
بمعنى أنه اغتابه، أو نقل عنه إلى غيره مما يضر به
أو من أجل أن يكتسب هذا الناقل شيئًا من حظوظ الدنيا.
ذَكَر الثوب هنا وذَكَر الأكل، لأنه هو المشهور فيما مضى، لكن أي نوع من أنواع حظوظ الدنيا التي يتحصل عليها الإنسان حينما يكون سببًا
في الإضرار بغيره وبِنفع نفسه مما يكتسبه عند ذلك الشخص
الذي نقل إليه الكلام: “مَن أكَلَ برَجلٍ مُسلِمٍ أُكْلةً“
مرة واحدة قل هذا الطعام أو كَثُر.
أو “أَكْلةً” يعني لُقمة واحدة؛ لُقمة: “أَكْلةً“
“فَإِنَّ اللَّهَ يُطْعِمُهُ مِثْلَهَا مِنْ جَهَنَّمَ” وكذلك تفسير ما يتعلق بالاكتساء؛ نفسُه “وَمَن اكْتَسى برَجلٍ مُسلِمٍ” يعني تسبب أن يحصل
على ثوب بسبب ماذا؟
بسبب اغتيابه لرجل مسلم أو نقل عنه ما يسوؤه، أو مما يشوه سمعته، أو ما شابه ذلك، ليتقرب لغيره حتى يحصل على هذه الأمور الدنيئة
من أمور الدنيا من منصب، أو مال، أو جاه، أو ما شابه ذلك من حظوظ الدنيا “ومن قام برجلٍ مقامَ سُمعةٍ ورياءٍ، فإنَّ اللهَ يقوم به مقامَ سُمعةٍ ورياءٍ يوم القيامةِ” ما معنى هذا الحديث؟
من قام برجل الباء هنا إما أن تكون للتعْدِيَة، وإما أن تكون للسببية،
ولا تعارض بين القولين، فكلا القولين يدخلان في هذا الحديث.
أما على أنها للتعدية: “من قام برجلٍ مقامَ سُمعةٍ ورياءٍ“
يعني أنه أظهر للناس أن هذا الرجل من أنه ذو صلاح، وذو عبادة،
وذو علم، وذو تقى من أجل ماذا؟
من أجل أن يخدمه الناس، وأن يقوم الناس على مصالح هذا الرجل،
لكي يستفيد هذا الذي قام بهذا الأمر، ومدح ذلك الشخص، لكي يستفيد من ورائه “فإنَّ اللهَ يقوم به مقامَ سُمعةٍ ورياءٍ يوم القيامةِ“ يعني يفضحه من أنه من الكذَّابين يوم القيامة.
أو سببية “من قام برجلٍ مسلمٍ“ يعني أنه أظهر نفسه لم يظهر غيره على المعنى الأول لا، هو أظهر نفسه هو، أظهر نفسه بالصلاح، وبالهدى، وبالورع، وبالخشوع
عند رجل عظيم من أجل أن يقربه، لينال حظوظ الدنيا،
أو يشمل من أظهر نفسه بخشوع ودموع وما شابه ذلك من ورع وزهد من أجل أن يعرفه الناس، ومن أجل أن يكون ذا شهرة، وذا مقام،
فهذا يدخل فيه “فإنَّ اللهَ يقوم به مقامَ سُمعةٍ ورياءٍ يوم القيامةِ”
يعني يفضحه الله عز وجل من أنه مِن المراءين، نعوذ بالله ونستجير بالله من الخصال الذميمة والصفات الرذيلة.