تفسيرسورة هود
من الآية ١ – إلى الآية ١٦
للشيخ زيد بن مسفر البحري
سورة هود هي من السور المكية ، وقد اختلف بعض العلماء في بعض آياتها هل هي مدنية أم أنها مكية كسائر آيات السورة.
الله عز وجل قال {الر} وهذه من الحروف المقطعة ، وقد مرمعنا ذلك مفصلا في أول سورة البقرة {الم}.
{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ} أي أُتقنت {آيَاتُهُ} ففيه ما فيه من الإتقان والجمال والإحسان، {ثُمَّ فُصِّلَتْ} مع هذا الإحكام فقد فُصلت وبُينت ووُضحت فأُقيمت الحجة على الناس، ولذا قال عز وجل {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}.
قال هنا {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِير} من لدن رب العالمين عز وجل الحكيم الخبير، ومن ثَمَّ فقوله عز وجل {حَكِيمٍ} يعود إلى ماذا؟ كما أن هذا الاسم عام، فهو حكيم عز وجل في أقواله وفي شرعه، ولذا {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} هذا القرآن لأنه حكيم، {فُصِّلَتْ} لأنه عز وجل عالم بالظواهر وبالخفايا من الأمور فقال {خَبِير}، وهذا يتناسب مع قوله عز وجل {فُصِّلَتْ}، ولذا قال عز وجل {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}.
{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} أي بألا تعبدوا إلا الله، ما أنزل الله عز وجل هذا الكتاب إلا من أجل التوحيد، من أجل أن يُعبد الله عز وجل.
{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ۚ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِير} {إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ} أي من الله {نَذِيرٌ} ينذركم ويخوفكم من عقابه، {وَبَشِير} لمن أطاعه.
{إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُم} أي بأن تستغفروا ربكم، أيضا أُمروا بالاستغفار، فدل هذا على أن العبد لا غنى له عن هذين الأمرين، وهو التوحيد {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ}، ولا غنى له عن الاستغفار لم؟ لأن التوحيد هو المنجى وهو الطريق الذي يوصل إلى السعادة، والعبد فيما يتعلق بشرع الله عز وجل لا يسلم من الزلل، فهو في حاجة إلى الاستغفار، ولذا قال تعالى {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ}، وجاءت آيات أخر كهذه الآية.
{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} وجمع الاستغفار والتوبة هنا لم؟ لأن الاستغفارلما مضى، والتوبة لما يُستقبل، فمن استغفر مما مضى فإنه مطالب بأن يبقى على هذه التوبة، ولذا يستمر على هذه التوبة حتى تحسن حاله.
فقال عز وجل {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} ما الثمرة؟ {يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا} {يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا} طيبا في هذه الدنيا كما قال عز وجل {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} {يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى} أي إلى انقضاء آجالكم.
{وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} أي ويؤتي الله عز وجل {كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} أي كل ذي فضل مما أتى به من الأعمال الطيبة الصالحة، فضله أي ثوابه جزاء هذه الأعمال الصالحة، فإنه يجازى عليها بأحسن الجزاء في الدنيا وفي الآخرة.
{وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} فدل هذا على أن العبد يفضل ويشرف بطاعة الله عز وجل، ولذا قال تعالى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.
{وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ۖ وَإِن تَوَلَّوْا} أي أعرضوا {فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} {عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} وذلك لما فيه من العذاب الشديد من الله عز وجل.
{إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ} الجميع مرجعه إلى الله، فيجازيه الله عز وجل إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ} ولذا في سورة يونس {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا}.
{إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ولذا فإن الله عز وجل على كل شيء قدير، ومن ذلك أنه يجمعكم، {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (50)} إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على ذلك.
{أَلَا إِنَّهُمْ} ألا أداة تنبيه وهي للتوكيد، إن أيضا للتوكيد، {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} قال بعض العلماء {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} أي يثنون ويطأطئون برؤوسهم على صدورهم ظنا منهم أن الله عز وجل لا يعلم حالهم، فيستخفون من الله بهذه الطريقة كما زعموا، وقال بعض المفسرين {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} بمعنى أنهم إذا رأوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، صنعوا هذا الصنيع حتى لا يراهم، وإن كان هذا القول يمكن أن يدخل، لكن القول الأول هو الأظهر، بدليل ماذا؟ أنه قال عز وجل بعد ما قال {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} {أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} أي مع ذلك يغطون ثيابهم حتى لا تُعلم حالهم، فقال عز وجل هنا {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ۚ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} قال {يَعْلَمُ} أي الله {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} أي ما يخفون {وَمَا يُعْلِنُونَ}، وأكد أيضا من أنه يعلم ما في صدورهم {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} عز وجل.
ومن ثَمَّ فإن هناك قولا لبعض المفسرين أنهم قالوا إن هذه الآية من أجل أن بعضهم كان يستحي أن يظهر فرجه وأن يظهر عورته نحو السماء، ولكن هذا القول لا تُفسر به الآية، إنما يمكن أن يقال الآية تدل على ماذا؟ تدل على أن الله عليم بحال هؤلاء، لأن الأمر يتعلق بتفسير هذه الآية، لم؟ لأن من يستخفي ويستحيي من الله حال إبداء فرجه ليس مذموما ليس مذموما، والآية هنا في سياق ماذا؟ في سياق الذم {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.
{وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} لما ذكر الله عز وجل من أنه عالم بكل شيء، بيَّن هنا من أن الخلق كلهم قد أحاط الله بهم علما.
قال عز وجل {وَمَا مِن دَابَّةٍ} أي تدب على الأرض، {وَمَا مِن دَابَّةٍ} أي دابة بشتى أنواعها، ولذا قال تعالى {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ ۖ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ}، أي دابة في الأرض صغرت كبرت عظمت حقرت كل ذلك الله عز وجل عالم بحالها.
{وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} الله يرزقها، وأتى بكلمة {عَلَى} تدل على ماذا؟ تدل على الوجوب، يعني أوجب ذلك على نفسه تفضلا منه، فقد رزق عباده ورزق الدواب.
{إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} هذا شامل لكل ما قاله المفسرون، {يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} أي ما تستقر فيه، ويعلم {مُسْتَوْدَعَهَا} أيضا ما يكون في دنياها وفي القبر وفي الآخرة، وقد مر معنا ذلك مفصلا عند قوله تعالى {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ}، إذا كل هذه الدواب يعلم الله عز وجل ما تستقر فيه وما تستودع فيه في هذه الدنيا وفي القبر وفي الآخرة.
{كُلٌّ} أي كل ذلك مما مضى ذكره في الآية {كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} أي مكتوب في اللوح المحفوظ، وهنا ذكر مرتبتين من مراتب القدر: العلم والكتابة، وقد مرمعنا ذلك مفصلا في سورة يونس {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ۚ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}، وكما قال تعالى {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}.
فإذا أيقن العبد بأن رزقه على الله، وأن ذلك مكتوب عند الله عز وجل، والله عالم بمستقره وبمستودعه، هنا اطمأن من أن رزقه سيأتيه، ولن يبخس من رزقه أي شيء، ولن يستطيع أحد من المخلوقين مهما عظم أن يأخذ رزقك ولو أتى بكل الوسائل في هذه الدنيا.
فقال عز وجل {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} ومر معنا بيان خلقه عز وجل للسماوات والأرض والحديث عن العرش في قوله تعالى {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ} كما في سورة الأعراف، فقال هنا {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}، دل هذا على ماذا؟ على أنه قبل أن يخلق عز وجل السماوات والأرض كان العرش موجودا، وكان الماء موجودا، ولذا قال صلى الله عليه وآله وسلم كما عند مسلم قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء.
لم؟ {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} لماذا خلق السماوات والأرض؟ لأنه لما خلق السماوات والأرض ماخلقهما إلا لحكمة، ولذا ماذا قال عز وجل؟ {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم ۗ مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} ذاك ظن الكفار، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} فدل هذا على أن خلق السماوات والأرض يدل على ماذا؟ يدل على أن هناك إلها قد خلقها، وهذا الإله يجب أن تُفرد العبادة له عز وجل وحده، ولذا قال {لِيَبْلُوَكُمْ}، لمذا خلق السماوات والأرض؟ {لِيَبْلُوَكُمْ} أي ليختبركم {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} أي من هو أحسن عملا، ومن هو يسابق إلى هذا العمل الحسن.
وقال هنا {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} ولم يقل أكثر عملا، دل هذا على ماذا؟ العبرة بماذا؟ بحسن العمل، وهذا العمل الحسن هو أن يكون خالصا يراد من ذلك اتقاء وجه الله عز وجل، وأن يكون صوابا على طريقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلا بدع، ولا خرافات.
وتأمل هنا {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} من أجل ماذا؟ {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}، أيضا هو عز وجل جعل الزينة في هذه الدنيا من أجل أن يبلونا من هو أحسن عملا، قال عز وجل {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} من هو الذي يطمع إلى هذه الدنيا ويحرص عليها؟ ومن هو يستعفف يريد وجه الله عز وجل؟وأيضا هو عز وجل كما قال تعالى {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}.
إذًا هذه الأشياء التي خلقها الله عز وجل من أجل ماذا؟ أن يتبين من أحسن العمل ممن أساء العمل {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}.
{وَلَئِن قُلْتَ} يا محمد لهؤلاء {وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} قال كفروا؛ دل هذا على أنهم كفار لما أنكروا البعث والنشور، {لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا} أي ما هذا {إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ} فليس هذا بحق وإنما هو سحر واضح أتيت به يا محمد.
{لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} إن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة؛ الأمة هنا هي الزمن، لأن الأمة تأتي في القرآن على معان متعددة: منها الزمن كما هنا وكما قال تعالى {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ}، وتأتي أيضا بمعنى ماذا؟ الملة {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ} يعني على ملة، وتأتي بمعنى الإمام الذي يقتدى به في الخير {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا}.
{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ} أي في هذه الدنيا {إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ} قال معدودة مما يدل على أن نزول العذاب بهم إنما هو قريب، لأن الذي يعد هو قليل، ولذا نزل ما نزل بهم من صناديد قريش في غزوة بدر؛ إذ قُتل الصواديد وألقوا في البئر، فقال عز وجل هنا عن هؤلاء {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} أي لماذا يُحبس نحن ننتظر العذاب -أعوذ بالله من الطغيان- {لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ ۗ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} فلن يستطيعوا أن يصرفوا هذا العذاب، ولن يستطيع أحد أن يصرف هذا العذاب عنهم، قال تعالى كما مر معنا في سورة يونس {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ}.
{لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ ۗ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم} قال {وَحَاقَ بِهِم} دل هذا على ماذا؟ دل هذا على أنه قد وقع بهم، قال {وَحَاقَ بِهِم} هذا فعل ماضي يدل على أن ما أوعدوا به من العذاب وقع وتحقق، فقال هنا {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي أحدق وأحاط بهم {مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} يستهزئون بماذا؟ يستهزئون بنزول العذاب {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}، ويستهزئون أيضا بشرع الله عز وجل {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}.
{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ} هنا بيان لجنس الإنسان، {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ}، {وَلَئِنْ أَذَقْنَا} والذوق هو أول الطعم مما يدل على أنه ماذا؟ على أنه حريص على الدنيا، {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا} {مِنَّا} يعني هذه من الله عز وجل هذه النعم من الله، {رَحْمَةً} {رَحْمَةً} المقصود منها الرحمة التي بمعنى الغنى أو بمعنى الصحة أي الحال الحسنة التي رحمهم الله عز وجل بها.
فقال هنا {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ} قال {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ} النزع بقوة مما يدل على أنه حريص على الدنيا، وأن الدنيا في قلبه، فبمجرد ما يؤخذ منه شيء من هذه الدنيا ولو قل كأنها منزوعة منه.
{ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُور} أي هذا الإنسان {لَيَئُوسٌ} أي ييأس من وجود الخير، وييأس من استبعاد الشر، {إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُور} كفور يكفر نعمة الله التي أعطاه الله عز وجل إياها فيما مضى لما نزل به العذاب.
وتأمل أحوال الناس فيما يتعلق بالضراء، وفينا يتعلق بالنعماء، في سورة يونس كما مر معنا {وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ} دل هذا على أن الإنسان الجاحد لنعمة الله عز وجل إذا مسه الضر، الناس من هؤلاء من هذا الصنف يختلفون، لكن المرد إلى ماذا؟ المرد إلى أنهم كفروا بنعمة الله عز وجل، وأيضا لم يصبروا على قضاء الله وعلى قدره، ولذا قال تعالى هنا {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ}، بينما في سورة يونس ماذا يصنع؟ يدعو الله يدعو الله في جميع الأحوال، فلما أتته النعمة نسي، نسي فضل الله عز وجل، قال هنا {إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُور}.
{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} أي ذهبت الحالة السيئة، الحالات السيئة التي لا تناسبني من فقر ومن مرض وما شابه ذلك، {ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي ۚ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} قال {ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي ۚ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} فرح ماذا؟ فرح بطر، فخور يفخر على غيره ويتكبر، والفرح هنا ذُمة مع أنه كما مر معنا في سورة يونس {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}، فإذا كان الفرح من باب البطر والكبر وما شابه ذلك، فإنه يكون مذموما، ولذا ماذا قال عز وجل في شأن قارون {لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}.
{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} يعني من أنها لن تأتيني مرة أخرى، وهذا كما مر معنا في قوله عز وجل في سورة الأعراف {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوا} ماذا قالوا؟ {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوا وَّقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} فقال عز وجل هنا {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ}.
{إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} لم يقل إلا الذين آمنوا، لا شك أن الصبر من الإيمان لا شك أن الصبر من الإيمان، لكنه ذُكر هنا والعلم عند اله من باب ماذا؟ من باب بيان أن هذا الصنف وهم أهل الإيمان صبروا مقابل أولئك الذين جزعوا وسخطوا، {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي ليسوا كأولئك، {أُولَٰئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِير} {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} لذنوبهم، لأنهم قد لا يسلمون من الذنوب، {وَأَجْرٌ كَبِير} مما يدل على ماذا؟ يدل على أن هذا الأجر كبير بسبب صبرهم، ولذا ماذا قال تعالى {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}، {أُولَٰئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِير}.
{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ} يا محمد {بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ} فلعلك يا محمد تارك، {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ} لأنهم إذا وعظهم وأرشدهم صلى الله عليه وآله وسلم وعاب عليهم آلهتهم، إذا بهم يقولون له الأقوال البذيئة، وينكرون رسالته، ولذا كان عليه الصلاة والسلام يضيق صدره لما يقولون، فقال عز وجل {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ}.
لا يُظن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هَمَّ أن يترك بعض هذا الشئ من أجل أن يرضى قومه، لا قول {لَعَلَّ} هنا من باب الحث، يعني يحث على أنه يبلغ الرسالة، ولذا صلى الله عليه وآله وسلم معصوم من أن يترك شيئا من بيان التوحيد، ومن بيان الشرع، وقد بينا ذلك مفصلا عند قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}، لكن قوله هنا {فَلَعَلَّكَ} من باب الحث والحض للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على تبليغ ماذا؟ جميع ما أرسل به.
{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} هو صلى الله عليه وآله وسلم بشر، مثله مثل البشر يضيق صدره، {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} من أجل كلامهم، ومن كلامهم {أَن يَقُولُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنز} حتى يغتني لا أن يكون فقيرا ومن معه يكون فقيرا، {أَن يَقُولُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} يشهد له بأنه رسول، وهذه الآية نظير الآية التي في سورة الفرقان {وَقَالُوا مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ۙ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنزٌ} {أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنزٌ}، فقال هنا {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} من أجل {أَن يَقُولُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ}.
{إِنَّمَا أَنتَ نَذِير} وظيفتك ومهمتك أنك نذير فقط، {إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} فهو عز وجل{عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} ومطلع على حالك وعلى أحوالهم، فهو يحفظك ويحفظ عليهم أعمالهم، وسيجازيهم على ما قالوه وما فعلوه.
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} كفار قريش قالت إن هذا القرآن افتُرِيَ من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولذا ماذا قال تعالى؟ {وَمَا كَانَ هَٰذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ} كما مر معنا في سورة يونس، فقال هنا {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} أي إن كنتم تقولون إن هذا القرآن مفترى، إذًا لتأتوا {بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} يعني تفترونها كما زعمتم أن هذا القرآن مفترى.
{فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ} قال {مِّثْلِهِ} مثله من حيث ماذا؟ من حيث الإحكام والإتقان والإعجاز، ولذا في أول السورة {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} ، {فَأْتُوا} به فعجزوا.
ولذا تحداهم الله أن يأتوا بمثل هذا القرآن {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ} فعجزوا، فتحداهم بعشر سور كما هو هنا فعجزوا، فتحداهم بسورة {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ}.
فقال عز وجل هنا {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْر} قل يا محمد لهؤلاء {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ} {مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ} لكي يساعدوكم على أن تأتوا بهذه العشر.
{وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ} قال {مِّن دُونِ اللَّهِ} لأنه لا يمكن أن يأتي بمثل هذا القرآن إلا الله عز وجل، {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} فيما زعمتم فيما زعمتم من هذا الزعم من أنه مفترى.
{فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} هنا الخطاب لمن؟ للكفار {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} أنتم أيها الكفار إن لم يستجب لكم شركاؤكم ومن دعوتموهم في تأليف عشر سور مثله مفتريات، {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} ما الواجب عليكم؟ {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ} يعني هذا القرآن {بِعِلْمِ اللَّهِ} لأنه اشتمل على علم الله عز وجل، وعلم عز وجل أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم رسول قد أُنزل عليه هذا القرآن، ولذا قال عز وجل كما في سورة النساء كما مر معنا {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} ماذا قال؟ {لَّٰكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ ۖ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ} إذًا ماذا قال؟ {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ} {وَأَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ} لا معبود بحق إلا هو، إذًا عليكم بالتوحيد، ولذا ماذا قال عز وجل في أول السورة ماذا قال؟ {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ} من؟ {حَكِيمٍ خَبِير} لم؟ {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} أيضا أنتم لما عجز من عجز من شركائكم.
{فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} هنا من باب ماذا؟ يعني من باب الأمر لهم، يعني أسلموا، {فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} وأيضا يتضمن التوبيخ إن لم يسلموا {فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} هذا هو الأظهر من حيث سياق الآيات.
وقال بعض المفسرين {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} يعني إن لم يستجب يا محمد ويا أيها المؤمنون، إن لم يستجب لكم هؤلاء الكفار {فَاعْلَمُوا} علما يزداد به إيمانكم {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ} ازدادوا علما ويقينا بأنه لا معبود بحق إلا هو، {فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} يعني اثبتوا واستمروا على الإسلام حتى تموتوا، لكن القول الأول هو الأظهر لتناسب السياق.
فقال هنا {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} إذًا هؤلاء إنما أرادوا ماذا؟ إنما أرادوا الدنيا وزينتها {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ} أي نجازيهم على أعمالهم الصالحة من حيث الظاهر من ماذا؟ منبر الوالدين أو ما شابه ذلك، فقال عز وجل {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} يعني ما عمل الأعمال الصالحة إلا من أجل الدنيا، مايريد وجه الله، فالله عز وجل ماذا قال؟ {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} أي في الدنيا {وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} لا ينقصون.
{أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ۖ وَحَبِطَ} أي بطل {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا} أي ما صنعوا في هذه الدنيا من تلك الأعمال لأنها لم تكن ابتغاء وجه الله.
{وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} لو قال قائل لماذا كرر؟ لأن كلمة {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا} تغني من حيث الظاهر عن آخر الآية {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}؟ فالجواب عن هذا والعلم عند الله من أنه كرر ذلك فقال {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} لأنه ربما إذا رُؤيت تلك الأعمال من حيث الظاهر من حيث أنها أعمال صالحة، ربما يُظن أن لها نصيبا من ذلك في الآخرة، لكن قال هنا قال {وَبَاطِلٌ} نص على ماذا؟ على العمل {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، ولذا قال عز وجل {وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا}، وفي صحيح مسلم لما قالت عائشة رضي الله عنها إن ابن جدعان كان يقري الضيف، ويغيث الملهوف، فهل ينفعه ذلك يا رسول الله؟ فقال: لا، لأنه لم يقل في يوم من الأيام رب اعفر لي خطيئتي يوم الدين.
لكن لو أسلم فإنه يجزى على أعماله الصالحة التي تملها في الجاهلية ولا يبخس منها شيء، ولذا حكيم بن حزام كما ثبت في الصحيح لما قال: يا رسول الله إن لي أعمالا في الجاهلية، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أسلمت على ما أسلفت من خير.
فقال عز وجل هنا مبينا أن الكافر يجزى على عمله من بر للوالدين أو ما شابه ذلك، يجزى على ذلك العطاء في الدنيا، وهذا ايس لكل كافر، وإنما لمن شاء الله ذلك لدلالة آية الإسراء {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ} قال {لِمَن نُّرِيدُ}.
ولذا هذه الآية قال بعض العلماء أنها نزلت في الكافرين لأنه قال {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ}، وبعض المفسرين نزلت في المرائين، وعلى كل حال لا تعارض بينهما، لم؟ لأن من كان مسلما وراءى بعمله فإنه يكون عمله باطلا، ولذا في صحيح مسلم قال صلى الله عليه وآله وسلم: قال الله: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه.
وعند أحمد كما ثبت يقول الله عز وجل لهم يوم القيامة: اذهبوا لمن كنتم تراؤون عندهم فهل تجدون عندهم جزاء.