التفسير الشامل سورة يوسف من الآية (1) إلى (22) الدرس( 138)

التفسير الشامل سورة يوسف من الآية (1) إلى (22) الدرس( 138)

مشاهدات: 643

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة يوسف

 من الآية  (1) إلى الآية  ( 22 )

الدرس ( 138 )

 للشيخ زيد بن مسفر البحري حفظه الله

 

بسم الله الرحمن الرحيم ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾(1)

سورة يوسف من السور المكية، قال تعالى : ﴿ الر ) : و مرَّ معنا ما يتعلقُ بالحروف المقطعة في سورة البقرة ، ( تِلكَ آياتُ الكِتابِ المُبينِ) : تلك آياتُ : الإشارة هنا إلى تعظيم  تلك  الآيات و هي آيات القران العظيم،

 و قال هنا ( المُبينِ ) : لأنه بَيِّن و واضح { تِلكَ آياتُ الكِتابِ المُبينِ}.

 

﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾(2)

 ﴿ إِنّا أَنزَلناهُ قُرآنًا ﴾ : هذا فيه دليل على أن القران مُنَزَّل غير مخلوق و مرَّ معنا  ذلك  مفصلًا عند قول الله تعالى : ﴿ يا بَني آدَمَ قَد أَنزَلنا عَلَيكُم لِباسًا يُواري سَوآتِكُم وَريشًا ﴾

﴿ إِنّا أَنزَلناهُ قُرآنًا عَرَبِيًّا ) لو قال قائل : هناك بعضُ الكلمات قال بعض العلماء هي من الكلمات الأعجمية كاستبرق و سندس و اليَم و ما شابه هذه الكلمات ، فكيف يكونُ قرآنًا عربيًا ؟

 فالجواب عن هذا : من أن قائل ذلك أنها كلمات ليست بعربية يُحتاج إلى دليل لأنه ربما يُنقض كلامهم، بل يُنقض كلامهم من أن هذه أصلُها عربية ثم استخدمها العجم و مع هذا كله لو قيل من أن أصلها أعجمية فإنها قد تلَقتها العرب و أصبحت كأنها لغةٌ لهم؛ و أما ما ذُكر من أسماء غير عربية ، كإسحاق و ما شابه ذلك فإنه من المعلوم من أن الأعلام : يعني الأسماء ، إذا ذُكرت في أي لغة إنما تُذكر بهيئتها وبصفتها ، و من ثم فإنه لا مَدخلَ لأحد فيما يتعلق بذكر هذه الكلمات.

 

   ﴿ إِنّا أَنزَلناهُ قُرآنًا عَرَبِيًّا ) ولذا قال تعالى: ﴿وَلَو جَعَلناهُ قُرآنًا أَعجَمِيًّا لَقالوا لَولا فُصِّلَت آياتُهُ أَأَعجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ﴾  و مما يدل على أنه عربي لو كان ما يُذكر من أن تلك الكلمات التي ذُكرت من أنها أعجمية ،  لو كانت كذلك لطعنت قريشٌ في هذا القران.

﴿ إِنّا أَنزَلناهُ قُرآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُم تَعقِلونَ ﴾ هذا يدل على أن التفكر والتمعن في هذا القران ، فإنه يهدي إلى التعقل ، و يزيدُ من عقل الإنسان .

 

 

﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ(3)

 

{نَحنُ نَقُصُّ عَلَيكَ أَحسَنَ القَصَصِ} يعني يا محمد نحن نقص عليك أحسن القصص

( بِما أَوحَينا ) الباء هنا  للسببية و ما مصدرية أي : بسبب إيحائنا ( بِما أَوحَينا إِلَيكَ هذَا القُرآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبلِهِ لَمِنَ الغافِلينَ﴾ أي : وإن كنت من قبله لمن الغافلين : أي لم تعلم بتلك الأحكام قبل مجيء هذا القران ، و لم تعلم بمثل هذه الَقصص كقصة يوسف قبل مجيء هذا القرآن؛ و من ثَمَّ فإنَّ تفسير هذه الآية  تُفَسِّرُها الآيات الأخرى كقوله تعالى : ﴿ وَوَجَدَكَ ضالًّا فَهَدى ﴾ قال تعالى : ﴿ ما كُنتَ تَدري مَا الكِتابُ وَلَا الإيمانُ ﴾ و قال تعالى لمّا  ذكَر قصةَ نوح : ﴿تِلكَ مِن أَنباءِ الغَيبِ نوحيها إِلَيكَ ) ما الذي بعدها ؟ (ما كُنتَ تَعلَمُها أَنتَ وَلا قَومُكَ مِن قَبلِ هذا﴾

 و من هذه الآية: {نَحنُ نَقُصُّ عَلَيكَ أَحسَنَ القَصَصِ} أَخَذَ بعضُ العلماء من أنَّ أحسنَ و أعظمَ قصة في القرآن هي: قصة يوسف، و هذا قولٌ لبعض أهل العلم، و الذي يُرجحه شيخ الإسلام – رحمه الله – من أنَّ هذه القصة ليست بأعظم قصة بدلالة ماذا؟ بدلالة أن هذه القصة المتعلقة بيوسف إنما حصل الابتلاء بسبب أمرٍ دنيوي؛ فإنه ما وقع من حسدٍ بينه وبين إخوته: آَذوه، و ما وقع من حب تلك المرأة ليوسف : وقع فيما وقع فيه من الابتلاء.

 بينما الأنبياء السابقون كموسى وهود وصالح وما شابه هؤلاء إنما ابتلوا بسبب ماذا؟

بسبب دعوتهم إلى التوحيد ؛ يعني بسبب أمر الدين ، و لا يعني ذلك أن يوسف لم يدعُ إلى التوحيد ، بل دعا إلى التوحيد كما ذَكَرَ عز و جل في هذه السورة، و لذا قال الإمام أحمد رحمه الله : إن أعظمَ قصة في القران : هي قصة موسى عليه السلام، ولذا لم تتكرر قصة يوسف بينما الأنبياء السابقون قد تكررت مما يدل على عِظَمِها ، بل قال شيخ الإسلام رحمه الله : قصةُ هود و صالح أعظم من قصة يوسف عليهم السلام.

ومن ثمّ فإن الدليلَ على أن قصة يوسف هي أعظم قصة كما قال بعض العلماء استنادًا لما في هذه السورة نحن نقص عليك أحسن القصص؛ مردودٌ بهذه الآية نفسها؛ لأنه قال : { بِما أَوحَينا إِلَيكَ هذَا القُرآنَ }أي المقصود : أحسن القصص : قَصَصُ القران ، و ليست محصورةً في قصة يوسف ، ولما ذَكَرَ في آخر السورة ، لمّا ذَكَرَ الأنبياء ، قال في آخر آية : ( لَقَد كانَ في قَصَصِهِم  عِبرَةٌ لِأُولي الأَلبابِ ) فدل هذا على أن قصة  يوسف ليست أعظم قصة كما يُتَصوَّرُ عند كثير من الناس. 

 

﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾(4)

 {إِذ قالَ يوسُفُ لِأَبيهِ يا أَبَتِ إِنّي رَأَيتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوكَبًا}  يا أَبَتِ إِنّي رَأَيتُ : أي في المنام ( أَحَدَ عَشَرَ كَوكَبًا وَالشَّمسَ وَالقَمَرَ رَأَيتُهُم لي ساجِدينَ ﴾ و هذه الرؤيا تُبَيّنُ ماذا ؟ تُبَيّن أن يوسفَ عليه السلام سيسجد له كما ذَكَر ﷻ في -آخر السورة-  سيسجد له إخوته الأحدَ عشر و كذلك سيسجد له أمه و أبوه ، قال : ( وَالشَّمسَ وَالقَمَرَ) و أفردهما بالذِّكر مع أنهما من ضمن الكواكب تعظيمًا لشأن أبويه { وَالشَّمسَ وَالقَمَرَ رَأَيتُهُم لي ساجِدينَ} .

 

﴿قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ(5)

قال أي أبوه يعقوب عليه السلام: ﴿ قالَ يا بُنَيَّ لا تَقصُص رُؤياكَ عَلى إِخوَتِكَ فَيَكيدوا لَكَ كَيدًا ) لِمَ؟

 لأن يعقوبَ عليه السلام خشي أن يحسِدَه إخوته على هذه الرؤيا و  لذا قال : ( فَيَكيدوا لَكَ كَيدًا )   بمعنى أنهم يُدبِّرون لك أمرًا فيما يتعلق بهذه الرؤيا لا سيما أنهم يرون أن يعقوب عليه السلام يُحبه حبًا عظيمًا

{فَيَكيدوا لَكَ كَيدًا}  و أَّكد ذلك بالمصدر ( كيدًا ) يعني أنه كيد سيحرصون عليه من حيثُ الفعل { فَيَكيدوا لَكَ كَيدًا إِنَّ الشَّيطانَ لِلإِنسانِ عَدُوٌّ مُبينٌ} فالشيطان عدوٌّ للإنسان و واضح العداوة.

و من ثم فإنه قال يعقوب : ( إِنَّ الشَّيطانَ لِلإِنسانِ عَدُوٌّ مُبينٌ ﴾ باعتبار ماذا ؟ حتى لا يُؤجج ما سيكونُ في نفس يوسف على إخوته، مُبينًا له أن ما يجري بينه  و بين إخوته إنما هو من نزغ الشيطان حتى لا تعْظُم المشكلة بينه و بين إخوته و لذا قال احذر : { إِنَّ الشَّيطانَ لِلإِنسانِ عَدُوٌّ مُبينٌ } .

 

﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(6)

{ وَكَذلِكَ يَجتَبيكَ رَبُّكَ} أي : و كذلك يختارُك بعد أن أراك هذه الرؤيا ﴿ وَكَذلِكَ يَجتَبيكَ رَبُّكَ  وَيُعَلِّمُكَ ) يعني:  كما أراك هذه الرؤيا يصطفيك ربك   {وَكَذلِكَ يَجتَبيكَ رَبُّكَ  وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأويلِ الأَحاديثِ}مِن تَأويلِ الأَحاديثِ: أي تفسير الأحاديث فيما يتعلق بما يكون في الكُتُب ، و أيضًا بما يتعلق بالرؤيا.

و هذا يدل على ماذا ؟ يدل على منزلة يوسف عليه السلام ؛ إذ إن أباه حَرِص على أن يستُرَ ما لديه من الخير، و في هذا بيان أن الإنسان إذا عَلِمَ أن أحدًا يكرَهُه أو يَحسُدُه فإن له أن يُخفيَ ما يتعلق بما يحصل له من خيرٍ سيأتي أو أتى.

 ولذا قال هنا: {وَكَذلِكَ يَجتَبيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأويلِ الأَحاديثِ وَيُتِمُّ نِعمَتَهُ عَلَيكَ وَعَلى آلِ يَعقوبَ } أي : يتم نعمته عليك بالنبوة و بالمُلك ( وَيُتِمُّ نِعمَتَهُ عَلَيكَ وَعَلى آلِ يَعقوبَ ) يعني : أن تلك النعمة التي ستكون لك ، أيضًا ستحصُل لآل يعقوب ( وَيُتِمُّ نِعمَتَهُ عَلَيكَ وَعَلى آلِ يَعقوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيكَ مِن قَبلُ إِبراهيمَ وَإِسحاقَ )  مع أنَّ إبراهيمَ و إسحاق من أجداده لكن هذا يدل على أن الجد يُسمى أبًا.

 

( كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيكَ مِن قَبلُ إِبراهيمَ وَإِسحاقَ ) و لذا النبي ﷺ  قال كما ثبت عنه : ( إنَّ الكريم ابن الكريم ابن الكريم : يوسف ابن يعقوب ابن إسحاق ) قال هنا : { إِنَّ رَبَّكَ عَليمٌ حَكيمٌ } فهو عليمٌ بمن يستحق هذه النعم و هو حكيم يضعها عز و جل فيمن يشاء بحكمةٍ منه عز و جل { إِنَّ رَبَّكَ عَليمٌ حَكيمٌ} و لذا قال عز و جل : ﴿ اللَّهُ أَعلَمُ حَيثُ يَجعَلُ رِسالَتَهُ ﴾ .

 

﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ﴾(7)

{ لَقَد كانَ في يوسُفَ وَإِخوَتِهِ آياتٌ}  أي : عِبَر  ( آياتٌ لِلسّائِلينَ ﴾  أي : لمن سأل ، أو من قَدّر في ذهنه السؤال ، هنا:  ﴿ لَقَد كانَ في يوسُفَ وَإِخوَتِهِ آياتٌ )  أي علامات و عبرة و عظة  للسائلين .

 

 ﴿إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(8)

{إِذ قالوا لَيوسُفُ}  إذ قال إخوة يوسف  ( لَيوسُفُ )  و اللام هنا  للتوكيد  ﴿ إِذ قالوا لَيوسُفُ وَأَخوهُ ) و أخوه لأنه شقيقُهُ  ﴿ إِذ قالوا لَيوسُفُ وَأَخوهُ )  فيدل هذا على أن يوسف ليس أخًا شقيقًا لهم ، و إنما هو أخٌ لهم من الأب ﴿ إِذ قالوا لَيوسُفُ وَأَخوهُ أَحَبُّ إِلى أَبينا )  قال : أحبُّ ، و هذا يدل على أنَّ يعقوب لا يكره أبناءه و إنما يحبهم ، لكنّ محبة يوسف زادت على ذلك و هذا لا يترتب عليه جُناح لِم؟

لأن المحبة القلبية لا يستطيع الإنسان أن يدفعها، و لذا قال ﷻ فيما يتعلق بالعدل بين النساء في المحبة {وَلَن تَستَطيعوا أَن تَعدِلوا بَينَ النِّساءِ وَلَو حَرَصتُم} فَلا يدل هذا على أن يعقوب  عليه السلام – و حاشاه – لا يدل على أنه جار و ظلم هؤلاء الأبناء، و إنما قال هنا مما يدل على أنه كان يحبهم لكن يوسف أعظم محبة منهم في قلبه.

 ( إِذ قالوا لَيوسُفُ وَأَخوهُ أَحَبُّ إِلى أَبينا مِنّا ) وهذه شهادةٌ منهم أن أباهم يحبهم  ( إِذ قالوا لَيوسُفُ وَأَخوهُ أَحَبُّ إِلى أَبينا مِنّا وَنَحنُ عُصبَةٌ )  نحن جماعة ، و هذا يدل على ماذا ؟ يدل على أن الجماعةَ تكون من عشرة أو ما فوق عشرة خلافًا لمن قال إن العصبةَ لا تكون إلا من أربعين، وهذا دليل على أنهم عصبة  (وَنَحنُ عُصبَةٌ ) أي : كيف يحبه أكثر منا و نحن أكبر منه و نحن  أكثر عددًا منه فالنفعُ منا أكثر من النفع من يوسف،

لكن كما قلنا : المحبة يضعها الله عز و جل في قلب من شاء.

  ( وَنَحنُ عُصبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفي ضَلالٍ مُبينٍ ﴾  أي : لفي خطأ مبين ، أي : واضح ، و ليس معنى الضلال، الضلال عن الدين إذ لو قالوا ذلك لكفروا ، ولِيعُلَم أن إخوة يوسف ، كما قررنا ليسوا بأنبياء ذلك مفصلًا في قوله تعالى : ﴿ قولوا آمَنّا بِاللَّهِ وَما أُنزِلَ إِلَينا وَما أُنزِلَ إِلى إِبراهيمَ ﴾ الآية.

 أما كونُهم موحدين فنعم و لذا ماذا قال ﷻ في سورة البقرة ﴿ أَم كُنتُم شُهَداءَ إِذ حَضَرَ يَعقوبَ المَوتُ إِذ قالَ لِبَنيهِ ما تَعبُدونَ مِن بَعدي قالوا نَعبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبراهيمَ وَإِسماعيلَ وَإِسحاقَ ﴾ و من ثم فبعض العلماء  يرى أنهم أنبياء، لكن من تأمل ما فعلوه مما فعلوه من الكَذِبِ ،  و ما شابه ذلك فإنه لا يدل على أنهم أنبياء.

 حتى من قال إنهم أنبياء، فإنه يُقالُ في مثل هذا الأمر: تلك الأعمال – تنَزُلًا على أنهم أنبياء –  لكن كما رجحنا  ليسوا بأنبياء، تنَزُّلًا لو كان كذلك ؛ فالعبرةُ بكمال النهاية، لا بأول البداية فقال ﷻ هنا عن هؤلاء: { إِنَّ أَبانا لَفي ضَلالٍ مُبينٍ } إذ لو كان المقصود منهم الضلال عن الدين لكفروا ، و إنما الضلال هنا هو الخطأ { إِنَّ أَبانا لَفي ضَلالٍ مُبينٍ } .

 

﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ(9)

{ اقتُلوا يوسُفَ أَوِ اطرَحوهُ أَرضًا} اقتُلوا يوسُفَ و ذكروا اسمه من باب التنصيص على أنه هو الذي يُقتل و ذلك لأنهم رأوا المحبة الزائدة من أبيه له { اقتُلوا يوسُفَ أَوِ اطرَحوهُ أَرضًا } و الطرح هو النبذ يعني : انبُذوه في أرض مجهولة {أَوِ اطرَحوهُ أَرضًا }

 (يَخلُ لَكُم وَجهُ أَبيكُم) أي: يبقى وجه أبيكم لكم والوجه ذُكِر هنا  لأن الوجه هو الذي يُقابل به الإنسان غيرَه.

 {يَخلُ لَكُم وَجهُ } و قالوا هنا  {يَخلُ لَكُم } يعني أنتم وحدكم لا إلى غيركم.

 { يَخلُ لَكُم وَجهُ أَبيكُم  وَتَكونوا مِن بَعدِهِ قَومًا صالِحينَ} أي : من بعد ما تفعلونه بيوسف تتوبون إلى الله فتكونون صالحين ، و أيضًا يصلُح لكم حالكم مع أبيكم إذ تنفرُد محبته لكم { وَتَكونوا مِن بَعدِهِ قَومًا صالِحينَ}

 ( يَخلُ لَكُم وَجهُ أَبيكُم) و لذا قولُ بعض الناس مثلًا لبعض الناس : مثلًا أعطنا وجهًا، أو بالعامِّية : عطنا وجه، فهذا أيضًا تدلُّ عليه هذه الآية، بمعنى أنك تعطينا وجهًا لكلامنا أو لأفعالنا، و على كل حال لو تأمل الإنسان ما تصدر من الناس من كلمات فإنه يرى شيئًا منها يُوافقُ ما جاء في اللغة العربية.

 

﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ(10)

{قالَ قائِلٌ مِنهُم} أي: من الإخوة ( لا تَقتُلوا يوسُفَ ) صرَّح باسمه من باب ماذا ؟ من باب أنه يُرقق قلوبهم له، فهو و إن كان فهو يوسف: أخٌ لهم ( لا تَقتُلوا يوسُفَ وَأَلقوهُ في غَيابَتِ الجُبِّ ) أي : في قَعرِ و ظلمة الجُبّ ، أي : البئر.

 ( وَأَلقوهُ في غَيابَتِ الجُبِّ يَلتَقِطهُ ) لأنه إذا كان في قعر الجب و في ظلمته فإنه لا يَتوصلُ إليه أحد ، إلا من أتى لكي يستقيَ الماء {وَأَلقوهُ في غَيابَتِ الجُبِّ يَلتَقِطهُ بَعضُ السَّيّارَةِ }يلْتقطه : جُزِم هنا الفعل يلتقطْهُ ؛ لأنه جواب الأمر : و ألقوه

  ( يَلتَقِطهُ بَعضُ السَّيّارَةِ ) أي : بعض المسافرين ، و ذُكِرت السيارة هنا ؛ مبالغة في السير ، لأنهم يبالغون يعني أهل السفر يبالغون في السير ( يَلتَقِطهُ بَعضُ السَّيّارَةِ إِن كُنتُم فاعِلينَ ﴾  إن كنتم فاعلين ما تريدون أن تفعلوا بيوسف فافعلوا هذا الفعلَ فقط .

 

﴿قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ(11)

{قالوا يا أَبانا } دل هذا على أنهم أخذو برأيِ هذا الأخ ؛ لأنهم أتوا إلى أبيهم { قالوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأمَنّا عَلى يوسُفَ } لماذا لا تأمنَّا على يوسف؟ و هذا يدل على أنهم فيما مضى قد كرروا عليه الطلب.

 و هنا قالوا : {ما لَكَ لا تَأمَنّا عَلى يوسُفَ وَإِنّا لَهُ لَناصِحونَ } يعني سننصح له ( وَإِنّا ) و أَكّدوا ذلك  ( وَإِنّا لَهُ لَناصِحونَ ﴾ أي : لناصحون فيما يتعلقُ بما يكونُ له من جلبِ خير أو دفعِ شر {وَإِنّا لَهُ لَناصِحونَ }.

 

﴿أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(12)

{ أَرسِلهُ مَعَنا غَدًا يَرتَع وَيَلعَب} يرتع : بمعنى أنه يتوسع في المطعم و في  المشرب و لا حرج فيما يتعلقُ بذلك ؛ فإن الإنسان إذا أراد أن يُذهِبَ عن نفسه السآمةَ ، فإنه له أن يذهب إلى البَرّ و يتوسع فيما أباح الله ﷻ  له، و لذا ثبت عند أبي داوود قالت عائشة رضي الله عنها : ( كان النبي ﷺ يبدو إلى هذه التِلاع ) و هي مصابِّ الأنهار بعد نزول المطر ، يخرج عليه الصلاة والسلام للبرّ حتى يرى المياه حينما تهطل من علوٍّ إلى سُفل.

 

{أَرسِلهُ مَعَنا غَدًا يَرتَع وَيَلعَب} بمعنى : أنه يلعبُ من حيثُ الرمي أو السباق أو ما شابه ذلك ﴿ أَرسِلهُ مَعَنا غَدًا يَرتَع وَيَلعَب ) يرتع : جوابُ الأمر أرسله { يَرتَع وَيَلعَب وَإِنّا لَهُ لَحافِظون}بمعنى أننا حريصون على حفظه من أيِّ شرّ .

 

﴿ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾(13)

 { قالَ إِنّي لَيَحزُنُني أَن تَذهَبوا بِهِ وَأَخافُ أَن يَأكُلَهُ الذِّئبُ} إِنّي لَيَحزُنُني أَن تَذهَبوا بِهِ لم؟ لأن مجردَ ذهاب يوسف عنه يتألم يعقوب لحبه له لمجرد أنه لا يراه فإنه يُحزِنُهُ، و قال بعدها : {وَأَخافُ أَن يَأكُلَهُ الذِّئبُ وَأَنتُم عَنهُ غافِلونَ } و أنتم عنه غافلون فيما تكونون فيه من مَرتعٍ و لَعِب.

 قال : ( وَأَخافُ أَن يَأكُلَهُ الذِّئبُ ) و لعله قال الذئب هنا باعتبار أن أرضهم أرضٌ تكثر فيها الذئاب ، لعل ما قاله بعض العلماء يُستشفُّ مما حَرِص عليه يعقوب عليه السلام ، لاسيما أنهم في جهةٍ قريبةٍ من البدو كما قال تعالى في آخر السورة: ﴿ وَجاءَ بِكُم مِنَ البَدوِ ﴾ فقال هنا : { وَأَخافُ أَن يَأكُلَهُ الذِّئبُ وَأَنتُم عَنهُ غافِلونَ} .

 

﴿قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ(14)

{ قالوا لَئِن أَكَلَهُ الذِّئبُ} أَكَّدوا له  ( قالوا لَئِن أَكَلَهُ الذِّئبُ وَنَحنُ عُصبَةٌ ) أي : جماعة { إِنّا إِذًا لَخاسِرونَ } أصابتنا الخسارة ، أفمَعَ هذا الجمع و مع هذا العدد يأكله الذئب؟ إذًا إنا لا فائدة منا بل إن الخسارة تَحِلُّ بنا .

 

﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾(15)

{ فَلَمّا ذَهَبوا بِهِ وَأَجمَعوا أَن يَجعَلوهُ} فلما ذهبوا به : دل هذا على ماذا ؟ على أن أباهم أذِنَ لهم،  و لو تأملت هذه السورة، لوجدت فيها ما يسمى عند البلاغيين بإيجاز الحذف، مما يدل على أن جُمَلًا لم تُذكر؛ لأن سياق الآيات تدلُ عليها.

{ فَلَمّا ذَهَبوا بِهِ وَأَجمَعوا أَن يَجعَلوهُ } وأجمعوا : يعني أجمعوا أمرَهم أن يجعلوه في غيابة الجب أي في قَعرِ و ظُلمة البئر ( أَن يَجعَلوهُ في غَيابَتِ الجُبِّ وَأَوحَينا إِلَيهِ ) بمعنى أنهم قذفوه كما قال بعدها.

( وَأَوحَينا إِلَيهِ ) مما يُؤكد ما ذَكَرتُهُ لكم من أن الإيجاز هنا في سورة يوسف إيجاز بالجُمَل مما  يدل على عِظَم القرآن، فقال هنا : ( وَأَوحَينا إِلَيهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمرِهِم هذا ) و أوحينا إلى يوسف : إما إلهامًا و إما عن طريقِ جبريل ( وَأَوحَينا إِلَيهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمرِهِم هذا ) أي بما صنعوا بك هذا الأمر، و لذلك ذكر ﷻ  في أواخر السورة ما جرى بينه و بينهم لما دخلوا عليه و أصابتهم الفاقة و أصابهم الفقر فنبأهم عليه السلام بما جرى منهم ( وَأَوحَينا إِلَيهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمرِهِم هذا ) أي بما صنعوا هذا الصنيع { وَهُم لا يَشعُرونَ} حالَ دخولهم عليك لا يشعرون بأنك يوسف لأنهم في تلك الحال يظنون أنك قد هلَكت .

 

 ﴿وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ﴾(16)

﴿ وَجاءوا أَباهُم عِشاءً يَبكونَ ﴾  وَ جاءوا أَباهُم عِشاءً : أي تأخروا حتى أتت ظلمةُ الليل، من باب ماذا ؟ من باب أن يبينوا لأبيهم من أنهم استغرقوا وقتًا طويلًا في البحث عنه.

 ﴿ وَجاءوا أَباهُم عِشاءً يَبكونَ ﴾  أي جمعوا مع ذلك البكاء ، و لذلك قال بعضُ العلماء لا يَغُرَّنك بكاء المُتظلم حتى تتحقق من بكاءه، فلربما يبكي من يبكي و هو ظالم و لذا ماذا قال تعالى عن هؤلاء؟

﴿ وَجاءوا أَباهُم عِشاءً يَبكونَ ﴾ و أتى بصيغة الفعل المضارع، مما يدل على أنهم استمروا في البكاء حزنًا على يوسف عليه السلام﴿ وَجاءوا أَباهُم عِشاءً يَبكونَ ﴾.

 

﴿قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ(17)

{قالوا يا أَبانا إِنّا ذَهَبنا نَستَبِقُ} أي نستبق بالسهام ، أو بالأقدام ( إِنّا ذَهَبنا نَستَبِقُ وَتَرَكنا يوسُفَ عِندَ مَتاعِنا ) أي ليكون عندها و ليكون حافظًا لها ( وَتَرَكنا يوسُفَ عِندَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئبُ وَما أَنتَ بِمُؤمِنٍ لَنا ) أي لست بمصدقٍ لنا  { وَما أَنتَ بِمُؤمِنٍ لَنا وَلَو كُنّا صادِقينَ } فأنت لست مصدقًا لنا فيما يتعلقُ بيوسف و لو كنا صادقين فيما يتعلقُ بهذا الأمر .

 

﴿وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾(18)

 { وَجاءوا عَلى قَميصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } أي بدم ذي كذب ، أو الكذب مصدر وُصِف به الدم باعتبار المبالغة كأن الكذِب هو الدم { وَجاءوا عَلى قَميصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} و دل هذا على أن يوسفَ كان يلبس قميصًا ( وَجاءوا عَلى قَميصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَل سَوَّلَت لَكُم أَنفُسُكُم أَمرًا ) فتبين من حال القرائن أن أبناءه قد كذبوا عليه ، و لذلك قال بعض العلماء : إنه لم يَرَ تمزيقًا لهذا القميص و أيضًا لم يكن هذا الدم دمًا حقيقيًا آدميًا.

 ( قالَ بَل سَوَّلَت ) أي زينت لكم أنفسكم أمرًا ، و قال هنا: {أمرًا } نكَّرهُ لأنهم ما أرادوا ما أرادوه إلا بتسويل من الشيطان ( قالَ بَل سَوَّلَت لَكُم أَنفُسُكُم أَمرًا  فَصَبرٌ جَميلٌ ) أي فصبري صبرٌ جميل، و الصبرُ الجميل هو الذي لا شكوى معه و لذلك ماذا قال تعالى في آخر السورة عن يعقوب:  ﴿ إِنَّما أَشكو بَثّي وَحُزني إِلَى اللَّهِ ﴾ ( فَصَبرٌ جَميلٌ وَاللَّهُ المُستَعانُ عَلى ما تَصِفونَ ﴾ المستعان : يعني أنه يعينني على ما تصفون ، يعني على ما تكذبون .

 

﴿ وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾(19) 

{ وَجاءَت سَيّارَةٌ } أي : جاء مسافرون { وَجاءَت سَيّارَةٌ }: قافلة ( فَأَرسَلوا وارِدَهُم ) أي أرسلوا أشخاصًا يتقدمونهم إلى البئر ليستقوا لهم من مائه ( فَأَرسَلوا وارِدَهُم فَأَدلى دَلوَهُ ) يعني: أرسل دلوه  في البئر، فَأَدلى دَلوَهُ فتعلقَ به يوسف.

 ( قالَ يا بُشرى ) قال يا بشرى ؛ يعني هذا أوان البشرى ، فرحوا به ( قالَ يا بُشرى هذا غُلامٌ ) هذا غلام ، ولما رأوا من جماله ما رأوا ( قالَ يا بُشرى هذا غُلامٌ وَأَسَرّوهُ بِضاعَةً ) و أسروه بضاعة : قيل : و أسروه بضاعة ، راجعٌ إلى من ؟ راجعٌ إلى أصحاب هذه القافلة ( وَأَسَرّوهُ بِضاعَةً ) أخفَوه حتى لا يعلمَ أحدٌ ممن حوله فيأخذه منهم ، و قيل (وَأَسَرّوهُ بِضاعَةً ) بمعنى أن إخوة يوسف قالوا : هذا عبدٌ لنا و أسروه بضاعة، قال : (وَأَسَرّوهُ بِضاعَةً ) بمعنى أنهم باعوه على هذه القافلة.

 { وَأَسَرّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَليمٌ بِما يَعمَلونَ} و الله عليمٌ ﷻ بأعمالهم التي عمِلوها مما جرى منهم مع يوسف عليه السلام ، و في هذا تسلية للنبي ﷺ  ( وَاللَّهُ عَليمٌ بِما يَعمَلونَ ) أي: ما يعمله قومك  مما صنعوه معك  .

 

﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾(20)

{ وَشَرَوهُ بِثَمَنٍ } شروه يعني باعوه  ( بِثَمَنٍ بَخسٍ ) يعني: ناقص عن حقه و عن قدره ( بِثَمَنٍ بَخسٍ دَراهِمَ مَعدودَةٍ ) بدراهم معدودة ؛ و الذي يُعَد قليل.

{ وَكانوا فيهِ مِنَ الزّاهِدينَ } لم؟ على القول الأول من أنهم هم أصحاب القافلة يعني: باعوه في مصرَ بثمنٍ زهيد حتى لا يتفطن أحد أنه مسروق.

 و قال بعض العلماء ولعل هذا هو الأظهر وهو: أن إخوة يوسف باعوه على هذه القافلة بثمن زهيد قليل لأنهم يريدون فقط ماذا؟ أن يبتعد عنهم يوسف، و هذا يدل على أنهم كانوا قريبين يتحسسون أمر يوسف بين الفَينَةِ و الأخرى.

و من ثم فإنه لو كان الأمر يتعلق بأصحاب القافلة لما باعوه بثمن بخس في مصر ، لم ؟ لأن المسافة بعيدة و لن يتفطن لهم أحد، لو باعوه في فلسطين التي هي موطن يوسف و يعقوب لكان الأمر كذلك، مما يدل على أن هذا هو الأظهر، فقال هنا : {وَكانوا فيهِ مِنَ الزّاهِدينَ } .

 

﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾(21)

{ وَقالَ الَّذِي اشتَراهُ مِن مِصرَ لِامرَأَتِهِ } إذًا بيع أين ؟ في مصرَ ( وَقالَ الَّذِي اشتَراهُ مِن مِصرَ لِامرَأَتِهِ أَكرِمي مَثواهُ ) و هذا الرجل هو العزيز، قيل هو صاحب الشرطة ، و قيل هو الوزير ، المهم أنه عزيزٌ في مصر و له مكانة في مصر.

  ( وَقالَ الَّذِي اشتَراهُ مِن مِصرَ لِامرَأَتِهِ أَكرِمي مَثواهُ ) يعني أحسني النعامل معه، و مثواه: يعني مقامه، ليكن عندك له مكانة حسنة.

 (أَكرِمي مَثواهُ عَسى أَن يَنفَعَنا) فيما يتعلق بالخدمة ( أَو نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ) دلَّ هذا على أنه ليس عندهم أولاد فأرادوا أن يتبنوه ، و هنا فيه ماذا ؟ فيه أن هذا الرجل و هو الذي اشتراه، عنده فِراسة، لم؟ لأنه لما رأى يوسف قال هذا القول (عَسى أَن يَنفَعَنا أَو نَتَّخِذَهُ وَلَدًا )

(وَكَذلِكَ مَكَّنّا لِيوسُفَ ) يعني ما جرى ليوسف مما جرى له في البئر و ما شابه ذلك ثخلَّصه الله ﷻ  من البئر ، أيضًا هو مكَّنه ﷻ في أرض مصر، و كذلك عند هذا الرجل ( وَكَذلِكَ مَكَّنّا لِيوسُفَ فِي الأَرضِ ) يعني: في أرض مصر.

 ( وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأويلِ الأَحاديثِ) وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأويلِ الأَحاديثِ: حتى إنَّ بعض العلماء قال إن الواو زائدة، أي : مكناه لنعلمه من تأويل الأحاديث و هذا يدل على ماذا ؟

يدل على أن صاحبَ العلم يحتاج إلى أن تكونَ أحوالُه الدنيوية  فيها شيء  من السَّعَة حتى يتمكن من ماذا؟ من طلب العلم و من نشره.

 ( وَكَذلِكَ مَكَّنّا لِيوسُفَ فِي الأَرضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأويلِ الأَحاديثِ) أي من أحاديث الكُتُب و أيضًا من ماذا؟  من تفسير الرؤى.

  ( وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأويلِ الأَحاديثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمرِهِ ) فأمر الله ﷻ  نافذ و لا أحد يستطيع أن يردَّهُ و لا أن ينازعه أحد و لذا قال ( وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمرِهِ ) و يدخل في ذلك من أن الضميرَ راجعٌ إلى يوسف، وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أمر يوسف فيحفظُهُ و يرعاه ، و بالفعل حفِظَهُ و رعاه.

 ( وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمرِهِ وَلكِنَّ أَكثَرَ النّاسِ لا يَعلَمونَ ﴾ لكنَّ أكثرَ الناس لا يعلمون عِظَم الله ﷻ و أن الأمر هو أمر الله، و التدبير هو تدبير الله، و التقدير هو تقدير الله و أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروا شيئًا لن يستطيعوا أن يضروه إلا بأمر الله ﷻ  .

 

﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾(22)

{ وَلَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ }أي قُواه ، و ذلك فيما يقرب من سنِّ الأربعين ( وَلَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيناهُ ) أي أعطيناه ( حُكمًا وَعِلمًا ) حُكمًا وَعِلمًا : والحُكم هو : الفَهْم  و الإصابة في القول و في العمل مع العلم و يتضمن ذلك النبوة ، و هذا يدل على ماذا ؟ على أن الحُكُم يتضمن الحكمة.

 و من ثم فإن العالم يحتاج إلى حكمة لا بد أن يكون مع العلم حكمة ؛ حكمة في وضع الأمور في ما يتناسب من القضايا وما يكون للناس ( آتَيناهُ حُكمًا وَعِلمًا ) و لذلك بعض الناس قد يكون عالمًا  لكنه ليس صاحبَ حكمة و بعض الناس حكيم في بعض الأشياء و لكن لا علم عنده  فالتمام و الكمال الحكمة و العلم {آتَيناهُ حُكمًا وَعِلمًا وَكَذلِكَ نَجزِي المُحسِنينَ } أي : كما جزينا يوسف على إحسانه نجزي كلَّ محسن إلى قيام الساعة  فإن الله ﷻ سيكون مع المحسنين ويثيب المحسنين كما صنع بيوسف عليه السلام  .