بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة يوسف
من آية (77) إلى (آخر السورة)
الدرس (141)
للشيخ زيد بن مسفر البحري
قال تعالى :
﴿قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ﴾(77)
(قالوا إن يسرق فقد سرق أخو له من قبل) يقصدون يوسف.
ويوسف-عليه السلام- قد ذكر المفسرون آثاراً متنوعة من أنه سرق صنما لجده لأمه وأتلفَهُ واعتبروا هذا سرقة؛ لكن الذي يظهر: بأن الآثار ليس عليها دليلٌ صحيح، فالذي يظهر من أنهم نسبوا إليه السرقة بهتانا.
{قالوا إن يسرق} من باب أن يتخلصوا من هذا الأمر، (قالوا إِن يَسرِق فَقَد سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِن قَبلُ) يعني يقصدون يوسف (فَأَسَرَّها يوسُفُ في نَفسِهِ) أخفاها في نفسه لأنه يريد ماذا؟
أن يتوصل إلى أمرٍ آخر (فَأَسَرَّها يوسُفُ في نَفسِهِ وَلَم يُبدِها لَهُم) أي لم يُظهرها لهم.
(قالَ أَنتُم شَرٌّ مَكانًا) أي شر منزلة (قالَ أَنتُم شَرٌّ مَكانًا) : يعني في نفسه لم يسمعوه، قال أنتم شراً مكاناً (وَاللَّهُ أَعلَمُ بِما تَصِفونَ﴾ أي بما تكذبون من هذا الكذب.
﴿قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾(78)
(قالوا يا أَيُّهَا العَزيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيخًا كَبيرًا) كبيراً إما تأكيد للشيخ لأن الشيخ يُطلق على كبير السن كبيراً من باب التوكيد، أو: أنه شيخٌ كبير في السن وكبير في قومه.
(إِنَّ لَهُ أَبًا شَيخًا كَبيرًا فَخُذ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنّا نَراكَ مِنَ المُحسِنينَ﴾ يعني نراك من المحسنين فلعلك تلطُف بأبيه إنا نراك من المحسنين.
﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ﴾(79)
﴿قالَ مَعاذَ اللَّهِ) استعاذ بالله عزّ وجل (أَن نَأخُذَ إِلّا مَن وَجَدنا) لم يقل إلا من سرق، من باب ماذا؟ من باب أنه لا يتلفَّظ بهذا اللفظ لأنه ما سرق (إلّا مَن وَجَدنا مَتاعَنا عِندَهُ إِنّا إِذًا لَظالِمونَ﴾ لو أخذنا غيره لظالمون.
﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾(80)
﴿فَلَمَّا استَيأَسوا مِنهُ) دل هذا على أنهم كرروا معه الكلام، فلما استيأسوا منه يئسوا منه (خَلَصوا نَجِيًّا) نجياً : مفرد لكنه مصدر يُطلق على الجمع، خَلَصوا : يعني أنهم اختَفوا وكانوا في خُفية من باب أن تناجوا فيما بينهم (خَلَصوا نَجِيًّا).
{قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا}: وهذا للتقرير يعني: تعلمون، الاستفهام للتقرير هنا ، يعني: تعلمون.
{أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ}
(ما) هنا: مصدرية، أي: ومن قبل تفريطكم في يوسف.
{فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ} يعني: أرض مصر لن أخرج منها.
(حَتّى يَأذَنَ لي أَبي أَو يَحكُمَ اللَّهُ لي) بحكمه الكوني القدري أن أخرج من أرض مصر .
{حَتّى يَأذَنَ لي أَبي أَو يَحكُمَ اللَّهُ لي وَهُوَ خَيرُ الحاكِمينَ﴾: خير من حكم عز وجل بحكمه الشرعي والقدري والجزائي.
﴿ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ﴾(81)
ثم أرشدهم إلى أن يقولوا إلى أبيهم هذا القول: ﴿ارجِعوا إِلى أَبيكُم فَقولوا يا أَبانا) من باب التلطف (فَقولوا يا أَبانا إِنَّ ابنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدنا إِلّا بِما عَلِمنا) يعني: نحن شهدنا بالذي رأيناه وعلِمناه، ودل هذا على أن الشهادةَ لا يجوزُ أن يشهدَ أحدٌ إلا عن طريق اليقين وهو العلم.
(وَما شَهِدنا إِلّا بِما عَلِمنا وَما كُنّا لِلغَيبِ حافِظينَ﴾ ما كنّا نعلم الغيب، لو كنّا نعلم الغيب من أنه سيجري ما جرى من سرقةِ ابنك ما أخذناه معنا {وَما كُنّا لِلغَيبِ حافِظينَ} ما كُنّا نحفظ و نعلم الغيب.
﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾(82)
وإذا أردت التأكد {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ }يعني أهل القرية حُذف المضاف وجُعل المضاف إليه مكانَه (وَاسأَلِ القَريَةَ) أي القرية التي هي مصر، قد يُطلق على المنطقة على المدينة يُطلق عليها قرية، ولذلك سيأتي معنا أيضاً ما يدل على ذلك.
أو أن ما جرى من أمرٍ في قرية من قرى مصر.
(وَاسأَلِ القَريَةَ الَّتي كُنّا فيها وَالعيرَ الَّتي أَقبَلنا فيها) العير: الجماعة التِّجار التي كانت معنا والعير التي أقبلنا فيها فهم شاهدون (وَالعيرَ الَّتي أَقبَلنا فيها وَإِنّا لَصادِقونَ﴾ صادقون على ما قلناه لك.
﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾(83)
(قالَ بَل سَوَّلَت لَكُم أَنفُسُكُم أَمرًا) أي زينت لكم أنفسكم أمراً (فَصَبرٌ جَميلٌ) ومرت هذه الآية معنا (قالَ بَل سَوَّلَت لَكُم أَنفُسُكُم أَمرًا) لمَ؟ لأنه عَهِدَ منهم ماذا؟ ما عَهَدَ منهم في حقِّ يوسف.
(عَسَى اللَّهُ أَن يَأتِيَني بِهِم جَميعًا) يعني يرجو من الله أن يأتيَ بجميع أبنائه الكبير ويوسف والأخ الشقيق ليوسف.
(ِإنَّهُ هُوَ العَليمُ الحَكيمُ) هو عالم بحاله وعالم بأحوالهم وحكيم عزّ وجل فيما قدره عليّ وعليهم (ِإنَّهُ هُوَ العَليمُ الحَكيمُ).
﴿ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾(84)
(وَتَوَلّى عَنهُم) أي أعرض عنهم (وَقالَ يا أَسَفى) يعني يا حُزني على يوسف.
ولذلك قال سعيد بن جبير وغيره من العلماء قالوا: (لو كان قول إنا لله وإنا إليه راجعون كان مشروعاً عندهم أو موجوداً عندهم لقالها بدل قوله يا أسفى).
(يا أسفى عَلى يوسُفَ وَابيَضَّت عَيناهُ مِنَ الحُزنِ) السواد زال من شدةِ الحُزن (وابيضت عيناه من الحُزن) قيل: إنه كُفَّ بصره نهائياً، وقيل: إنه ضَعُف.
وعلى كل حال الذي يظهر أنه كُفَّ بصرُه لأنه قال في آخر السورة : (فَأَلقوهُ عَلى وَجهِ أَبي يَأتِ بَصيرًا).
فقال هنا: (وابيضت عيناه من الحزن فَهُوَ كَظيمٌ﴾ {فَهُوَ كَظيمٌ}: قد كَظَمَ وأخفى ما في قلبه من حزن ولذلك ماذا قال بعدها؟ قال: (قالَ إِنَّما أَشكو بَثّي) بثي يعني شدة الحزن الذي من شدته ما يستطيع أن يُخفيه الإنسان في نفسه بل يبثه وينشره للغير.
(قالَ إِنَّما أَشكو بَثّي وَحُزني إِلَى اللَّهِ) وهنا يعقوب عليه السلام لم يكن جَزِعاً في هذا الأمر لأن هذا حزن واشتد معه الحزن؛ ولذلك النبي ﷺ حتى لا يُقول قائل من أنه تسخَّطَ يعقوب عليه السلام ،لا، ولذلك قال ﴿إِنَّما أَشكو بَثّي وَحُزني إِلَى اللَّهِ) إنما المقصود من هذا إنه حزن، والحُزن لا يُؤاخذ عليه الإنسان ، ولذلك النبي ﷺ ماذا قال : (إن العين تدمع وإن القلب ليحزن وإنا بفراقك يا إبراهيمُ لمحزنون).
﴿قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ﴾(85)
(قالوا تَاللَّهِ تَفتَأُ تَذكُرُ يوسُفَ) يعني لا تزال تذكر يوسف {حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا } يعني: من أوشك على الهلاك، {أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِين} الذين هلَكوا.
﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾(86)
(قالَ إِنَّما أَشكو بَثّي وحزني) بثي: هو شدة الحزن {بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعلَمونَ﴾ أعلم من الله ما لا تعلمون من أنَّ أبنائي سيعودون وأعلم من الله ما لا تعلمون.
ولذلك لو قال قائل لماذا لم تُذكر أم يوسف؟
قال بعض العلماء: هي ماتت وإنما المقصود بالأبوين في آخر السورة المقصود هو خالته.
والصحيح : أنه ليس هناك دليل على أنه أمه ماتت، وإنما قال بعض المفسرين: لم تذكر أمُّهُ؟ لأنَّ معلومٌ أنَّ حُزن النساء عظيم فربما يكون أعظم، وحزن الآباء أقل لكن لما أشتد الحزن بيعقوب عليه السلام نُصَّ على ذلك.
والذي يظهر: من أنه يكونُ عدم ذكر أم يوسف لعدم وجود الفائدة من ذلك وإنما الفائدة في ذكر ما يتعلق بمن؟ بيعقوب، ولذلك لما أراد إبراهيم أن يذبح ابنه إسماعيل أين أمه هاجر؟
نفس الكلام، فدل هذا على أنه المقصود هو العبرة والفائدة من أن شدة الحزن وصلت بالأب إلى هذا المبلغ.
لأن بعضهم يقول إن حزن الأمهات أعظم، ليس على الإطلاق ليس مُضطردا فبعض الآباء قد يكون حزنه على ابنه أكثر من حزن الأم على ابنها.
﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾(87)
(يا بَنِيَّ اذهَبوا فَتَحَسَّسوا) الحواس حواس الإنسان.
والتحسس يختلف عن التجسس، فالتجسس: المذموم؛ التحسس: عن الخير، التجسس في الشر.
(فَتَحَسَّسوا مِن يوسُفَ وَأَخيهِ وَلا تَيأَسوا مِن رَوحِ اللَّهِ) ولذلك لم يذكر الابن الآخر قال وأخيه يعني الشقيق لم؟ لأنه والعلمُ عند الله لأنه يعلم أن أخاهم الأكبر بلغوه من أنه سيبقى في مصر فنجاته معلومة وواضحة.
(وَلا تَيأَسوا مِن رَوحِ اللَّهِ) أي: لا تقنطوا (مِن رَوحِ اللَّهِ) من فرج الله ومن رحمة الله.
(إِنَّهُ لا يَيأَسُ مِن رَوحِ اللَّهِ إِلَّا القَومُ الكافِرونَ) ولذلك قال إبراهيم – عليه السلام -قال: { قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ}.
﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ﴾(88)
(فَلَمّا دَخَلوا عَلَيهِ قالوا يا أَيُّهَا العَزيزُ مَسَّنا وَأَهلَنَا الضُّرُّ) وقالوا وأهلنا من باب ماذا؟
من باب أن يُبينوا له، مع أنهم لم يعرفوه من باب أنَّ الضُّر لم يصبنا فقط بل أصاب الأهل الضعفاء، قال: (مَسَّنا وَأَهلَنَا الضُّرُّ) هذا تأدُّب مع الله كما قال ﷺ “والشر ليس إليك” كما عند مسلم، ومر هذا معنا كثيراً.
(مَسَّنا وَأَهلَنَا الضُّرُّ وَجِئنا بِبِضاعَةٍ مُزجاةٍ) يعني بثمن مُزجاة، المزجاة يعني: الذي يُساق ويُدفع من غير رغبةٍ فيه، يعني: معهم بضاعة هزيلة لا تُقبل يعني: مسنا وأهلنا الضر أثماننا وبضاعتنا مُزجاة لا تقبل.
(وَجِئنا بِبِضاعَةٍ مُزجاةٍ فَأَوفِ لَنَا الكَيلَ) معَ أنَّ البضاعة مُزجاة (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ): يعني زِدنا (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) ودل هذا على أنَّ الصدقة موجودة في عهد الأنبياء السابقين.
فَرَقَّ لهم يوسف -عليه السلام-قال تعالى:(وَأَوحَينا إِلَيهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمرِهِم هذا وَهُم لا يَشعُرونَ).
﴿قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ﴾(89)
فقال عزّ وجل هنا (قالَ هَل عَلِمتُم) قال اللهُ عن يوسف (قالَ هَل عَلِمتُم ما فَعَلتُم بِيوسُفَ وَأَخيهِ إِذ أَنتُم جاهِلونَ) بعضُ العلماء قال: هذا من باب النكير عليهم والتشديد جعلهم جُهَّالاً، وقال بعض العلماء: من باب الترقيق، وهذا هو الأظهر لأن الآيات التي بعدها تدل على ذلك.
(إِذ أَنتُم جاهِلونَ﴾ يعني أصابَكُم الجَهل ففعلتم ما فعلتم، فهذا قد يكونُ فيه صورة من العذر لهم.
﴿قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾(90)
(قالوا أَإِنَّكَ لَأَنتَ يوسُفُ) يسألونه (قالَ أَنا يوسُفُ وَهذا أَخي قَد مَنَّ اللَّهُ علينا) بعد ما أُصِبنا بالمِحَن والبلايا (قد منَّ الله عَلَينا) العلة وهذا توجيه للأمة ما نزلت هذه السورة من أجل فقط تُقرأ! لا حتى نعتبر نحنُ.
(إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصبِر فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضيعُ أَجرَ المُحسِنينَ) [يوسف: ٩٠] قال عزّ وجل ﴿وَكَذلِكَ مَكَّنّا لِيوسُفَ فِي الأَرضِ يَتَبَوَّأُ مِنها حَيثُ يَشاءُ نُصيبُ بِرَحمَتِنا مَن نَشاءُ وَلا نُضيعُ أَجرَ المُحسِنينَ﴾ [يوسف: ٥٦] فقال هنا (إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصبِر فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضيعُ أَجرَ المُحسِنين).
دلّ هذا على أنَّ الصبرَ والتقوى وسيلة إلى الإحسان ثم ماذا؟ جمع التقوى مع الصبر، الصبر فيما يتعلق بماذا؟ يتعلق بالقدر، والتقوى فيما يتعلق بالشرع، كما قال تعالى: (فَاعبُدهُ وَتَوَكَّل عَلَيهِ) وكما مر معنا عن شعيب “عليه توكلتُ وإليه أنيب” قال تعالى: ﴿إِيّاكَ نَعبُدُ وَإِيّاكَ نَستَعينُ﴾ [الفاتحة: ٥]
﴿قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾(91)
(قالوا تَاللَّهِ لَقَد آثَرَكَ اللَّهُ عَلَينا) أي رفعك الله علينا وجعلَ لكَ مكانة علينا ﴿قالوا تَاللَّهِ لَقَد آثَرَكَ اللَّهُ عَلَينا) وخافوا (وَإِن كُنّا لَخاطِئينَ) أخطأنا وأذنبنا.
﴿قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾(92)
(قالَ لا تَثريبَ عَلَيكُمُ) لا تثريبَ ولا عيبَ ولا ملامةَ عليكم اليوم، نَصَّ على اليوم لمَ؟
لأنه إذا لم يُؤاخذهم في مثلِ هذا اليوم الذي هو يوم الانتقام فيما يتعلق بأحوال الناس ينتقم في وقته إذاً ما بعده من أيام يكونُ أخف، ولذلك انظر لما قال الملك ليوسُف عليه السلام (إِنَّكَ اليَومَ لَدَينا مَكينٌ أَمينٌ).
أيضاً هنا انظر سبحان الله قال: ﴿قالَ لا تَثريبَ عَلَيكُمُ اليَومَ يَغفِرُ اللَّهُ لَكُم وَهُوَ أَرحَمُ الرّاحِمينَ﴾ يغفر الله لكم ما جرى منكم و(َهُوَ أَرحَمُ الرّاحِمينَ) لأنه هوَ أرحمُ الراحمين.
ولذلك قال بعضُ السلف: “ما استقصى كريم” الكريم ما يستقصي في حقة ولذلك ماذا قال (لا تَثريبَ عَلَيكُمُ اليَومَ) ولذا قال عزّ وجل عن النبي ﷺ: ﴿وَإِذ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعضِ أَزواجِهِ حَديثًا فَلَمّا نَبَّأَت بِهِ وَأَظهَرَهُ اللَّهُ عَلَيهِ عَرَّفَ بَعضَهُ وَأَعرَضَ عَن بَعضٍ) الكريم ما يستقصي.
﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ﴾(93)
(اذهَبوا بِقَميصي هذا) هذا القميص جعلَ اللهُ عزّ وجل فيه عبرة منه عزوجل كرامةً ليوسف ولأبيه هذا مِنحة من الله عزّ وجل، فلا تأتي الصوفية وتتمسح بعبايات أو بعمامات أو بألبسة الأولياء أوما شابه هؤلاء من باب طلب الخير والنفع هذا ولا شك أنه مُخالفٌ للتوحيد.
﴿اذهَبوا بِقَميصي هذا) ونصَّ عليه قال: {هذا} دل هذا على أنَّهُ به ما به من كرامةِ الله عز وجل.
(فَأَلقوهُ عَلى وَجهِ أَبي يَأتِ بَصيرًا) بمجرد الإلقاء يأتي بصيراً (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) كل الأهل لتأتونِ بهم أجمعين من باب ماذا؟ من باب أن يُؤنِّسَهُم من أنه سيجمعهم كلَّهم جميع الأهل ولو لم يكونوا أشقاءَ له.
﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ(95)﴾
( وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) فصلت: يعني خرجت العير من مصر { قَالَ أَبُوهُمْ }-سبحان الله- يعني انظر إلى عِظَمِ الله عز وجل كيف أوصل بِقدرةٍ منه ريح القميص إلى يعقوب وهو في فلسطين، من حين ما خرجت القافلة من مصر.
(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ) لم يقل لم أَشَم، يعني كأنَّ كيانَهُ كُلَّهُ بجميع ما في من بدنِه من أعضاء يجد الريح: (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ) لولا أن تُسَفِّهُوني في رأيي أو تقولوا أخطأتَ (قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ) ما كان يتوقعه وقع (إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ) يعني: في خطئك (الْقَدِيمِ)، وليس المقصود الضلال عن الدين كما بيَّنا في أول السورة.
﴿فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾(96)
(فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ) جاء البشير الذي يأتي قبل القافلة قبل وصولها (فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) قال الأب لأبنائه (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) لأنه لمَّا قال (إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله مالا تعلمون).
﴿قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ(97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)﴾
(قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ) هنا طلب الاستغفار من الغير (إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ) وهذه المسألة بالنسبة إلى شرعِنا “طلب الدعاء بالرحمة والمغفرة أو ما شابه ذلك من الغير”: فإنه يقولُ شيخُ الإسلام رحمه الله: “من المسألةِ المذمومة” إلاَّ أذا أرادَ الإنسانُ إذا قال لشخص ادعُ لي أن ينتفع َأيضاً الداعي، لأن النبي ﷺ قال: “دعوة المسلم لأخيه في ظهر الغيب مستجابة” كما ثبت عنه، فيقول إذا أراد أن ينتفع صاحبه بالدعوة فإنه لا بأس بذلك من باب المكافأة، ولذلك النبي ﷺ أمرنا بعد الأذان أن نسأل الله له الوسيلة لمَ؟
لأننا إذا سألنا اللهَ له الوسيلة ما الذي لنا؟ ماذا سنستفيد إذا دعونا له؟ قال: “حلت له شفاعتي له يوم القيامة”.
(قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي) قال المفسرون: يعني أَجَّلَ ذلك إلى السَّحَر -ولا أعلمُ دليلاً صحيحاً على هذا-.
وقال بعضُهم: ليلة الجُمُعَة، وورد في ذلك حديث مرفوع لكن به ضَعف، ولذلك قال ابنُ كثير: “في رفعه نظر”
(قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ) دل على أنه سوف يستغفر لهم، أما تحديد الزمن العلمُ عند الله.
(قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) هو الغفور الرحيم.
﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾(99)
(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ) فلما دخلوا، من؟ الأهل، (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ) الأهل بالأبوين وبالأخوة.
(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) يعني ضّمَّ إليه أبَوَيه (وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) ادخُلوها آمنين، ومشيئةُ الله هنا للتبرك ولتعظيم الله.
مهما كان العبدُ له تمكينٌ في الأرض إلا لن يكون هناك أمانٌ له أو لغيره إلا بمشيئة الله عز وجل.
﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾(100)
) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) يعني على سرير الملك (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا) الجميع (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا) الأبوان والصحيح أنَّ الأم معهم وليست الخالة، لأنه لا دليل على أنَّ أمَه ماتت.
(وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ) في أول السورة (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) فقال هنا :(وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا) واختلف المفسرون كم كان بينهما أربعون سنة أو أكثر؟ والعلمُ عندَ الله.
(قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) ولم يقُل أحسن بكم، قال: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) من باب ماذا؟
من باب أنَّ هذا الخيرَ الذي حصل له ولهم إنما هو بسبب إحسان الله له هوَ، فعمَّ الخيرُ الأهل (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) ولم يقل أخرجني من البئر من باب ماذا؟ أن لا يُذَكِّرَ إخوته بما جرى منهم “ما استقصى كريم”.
(وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) دلَّ هذا على أنهم كانوا يسكنون البادية.
(مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) انظر قال: (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) لم يقل من بعد أن نزغ الشيطان في أخوتي، وإنما كأنَّ الشيطان نزغ بينهم حتى لا يُكَدِّرَ خواطرَ إخوتِه، ولذلك انظُر ماذا قال له أبوه؟:
(قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ).
(مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ) اللطيف: هو الذي يأتي بالخير من حيث لا يحتسب ولا يشعر الإنسان، ويدفع عنه الشر من حيثُ لا يحتسب.
(إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ) ولذلك لَطَفَ بمن؟ بيوسف عليه السلام إذ أنقَذَهُ من أمورٍ كثيرة من حيثُ لا يحتسب، وكلُّ ذلك بمشيئةِ الله عز وجل ولمن يشاء الله عز وجل اللطف به.
(إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) عالمٌ بكل شيء وحكيم فهو عز وجل يلطُفُ بمن يريدُ أن يَلْطُفَ به حَسْبَ ما يريده عز وجل وحَسْبَ حِكمَتهِ عز وجل (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).
﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾(101)
(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) ربِّ: ثناء منه على الله عز وجل (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) ليس المُلك كُلُّهُ وإنما مِن المُلك مُلْك مِصر.
(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) يعني: يا فاطرَ السموات و الأرض، يعني: من أبدعَهُما على غيرِ مثالٍ سابق.
فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) وليي: ولاية خاصة، ولاية النصرة والحِفظ والإنقاذ والتأييد.
(أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ): ليس هذا كما قال بعضُ المفسرين أنه طلبَ أن يموت لأن النبي ﷺ ولو كما قالوا ولكن في شرعِنا لا ، ولذلك قال ﷺ كما ثبتَ عنه: “لا يتمنينَّ أحدُكم الموتَ لِضُرٍّ نَزَلَ به، فإن كان لا محالة فليقل: اللهم أحييني ما كانت الحياةُ خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاةُ خيرا لي”.
ولكنَّ معنى هذه الآية على الصحيح: من أنه إما هو قال ذلك عند وفاته أو أنه قبل وفاته بمعنى أنه إذا َختمَ له يَختُمُ له بماذا؟ بالخير، ويدل هذا على ماذا؟ على أنَّ الأنبياء إذا كانوا بهذه الحالة فما أحوجَنا إلى دعاءِ الله عز وجل حتى يختمَ اللهُ لنا بالخاتمة الحسنة (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) بمن أكرمتهم من الصالحين.
﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾(102)
(ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ) يا محمد قصة يوسف وما جرى له من أنباء الغيب (نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ) يعني أخوة يوسف (إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) بيوسف.
﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾(103)
(وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) يعني تَسَلَّى بما جرى ليوسُف، فقومُكَ لمَّا كَذَّبوك، أكثر الناس لو حرصتَ على هدايتهم ليسوا بمسلمين، الهداية بيد الله {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى}الأنعام-35 و{َلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا}يونس-99، فقال هنا:
﴿وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾(104)
فقال هنا (وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر) أنت ما تسألهم عليه من أجر دنيوي (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ) هذا القرآن ما هو إلَّا ذِكْرٌ ليس لهم فقط بل للعالمين، يدل على أنك مبعوث لجميع الأمم، وأنت لم تأتِ من أجل أجر، إنما أتيتَ من أجل تبليغ ذِكْر الله.
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾(105)
(وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ) للتكثير، كم من آية تمر على قريش؟! (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا) دلالة على قدرة الله وعلى عَظمة الله (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) لا يُقبلون بقلوبهم ولا يَتعظون.
﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾(106)
(وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) هم يؤمنون بأنَّ الله هو الخالق الرازق (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ) الآية ، وقال تعالى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهم لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) وكذلك يقولون: لبيك اللهم لبيك، لكن يقولون: إلا شريكا تملكُه وما مَلَك.
هنا قال: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) يؤمنون بتوحيد الربوبية لكنهم يشركون بتوحيد الألوهية فيذبحون لغير الله وينذرون لغير الله.
﴿أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾(107)
(أَفَأَمِنُوا) إنكار وتوبيخ لهؤلاء (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ) يعني عذاب يغشاهم (أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) يعني: ما ينتظر هؤلاء إلا عذاب يغشاهم ويُغطيهم في الدنيا أو قيام الساعة بغتة وهو لا يشعرون.
﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(108)
قل يا محمد لهؤلاء (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ) يعني على علم (أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) يعني أنا ومن اتبعني يدعون إلى الله وأيضاً يدعون إلى الله على بصيرة، دلَّ هذا على أنَّ الدعوةَ من غير علم ضَرَرُها أكثر من نفعِها.
(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) نَزَّهَ الله عز وجل عن شرك هؤلاء، ثم تبرأ من الشرك (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾(109)
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) ومر معنا ما يتعلق بنبوة النساء في سورة آلِ عمران (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) من أهل القرى لأنَّ أهل البادية بهم ما بهم من الجفاء والغلظة (الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ على رَسُولِهِ).
لكن لو قال قائل: قال يوسف عن أهله وجاء بكم من البدو، فنقول: لا تعارضَ بينهما لمَ؟
لأنهم كانوا في قرية لكنَّها قريبة من البدو وليسوا من ماذا؟ من البدو الذين هم بعيدون عن القرى فلا يكونُ منهم تَعَلُّم للدين، فلا تعارضَ بينهما.
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ومرَّ معنا هذا معنا في تفسير سورة آل عمران وفي غيرها من السور، يعني أمرهم أن يسيروا في الأرض للعبرة والاتعاظ.
(وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) لمن اتقى (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) استفهام إنكاري(أَفَلَا تَعْقِلُونَ) لمَ؟
يوسف -عليه السلام- ما جرى له ماذا قال تعالى لمَّا مَكَّنَه في الأرض؟ (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ).
﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾(110)
(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) يعني حتى يئسَ الرسل (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ) هنا فيه قراءتان:
﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا}
(قَدْ كُذّبوا): يعني استيأس الرسل من إيمان قومهم وكُذِّبوا، ولذلك عائشة -رضي الله عنها- كما في صحيح البخاري لمَّا حاوَرَها عُروة أَكُذِّبُوا أم قراءة كُذِبُوا؟
قالت: معاذَ الله أن يقعَ شيءٌ من الرسل في هذا الأمر وإنما (كُذِّبوا) وأنكرت قراءة (كُذِبُوا ) مع أنَّ (كُذِبوا ) قراءة حفص وعلى كل حال فهي -رضي الله عنها- لم يُبلغها ما بلغها من هذه القراءة.
وأيضاً الإشكال هنا بسبب الضمائر ولذلك هي فسَّرَت قالت: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبوا) يعني لما استيأست الرسل من إيمان قومهم ظنت الرسل لمَّا تأخر النصر أنَّ أتباعهم سَيُكَذِّبُوَنهم، فيكونُ الضمير هنا للرسل.
أما على القراءة التي معنا:(كُذِبوا) (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) يعني: يئسَ الرسل من إيمان قومهم (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) يعني: قد ظنَّ الكُفار وظَنَّ المعارضون من أنَّ الرسل قد كُذِبُوا فيما وَعدوا به من العذاب (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا).
وأيضاً قد يصح أن يكون الضمير راجعا إلى من؟ راجعا إلى الرسل.
(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) يعني: من إيمان قومهم (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) بمعنى أنهم من كَثرة طغيان قومهم وتوالى الطغيان والإعراض ظنّوا ظناً لا محيصَ عنه من أنَّ طغيانهم زاد فزاد فلن يؤمنوا.
وقد يكونُ الضمير للرسل (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) يعني الرسل ظَنُّوا في أنفسهم أنهم كُذِبُوا لما استبطأ النصرُ لا لشكٍ فيما يتعلق بوعد الله، وإنما ما تخلف النصر إلا من شيءٍ حصل من نفوسهم فهم يُحاسبون أنفسَهم من أن النصر ما استبطأ إلا بسببِ ماذا؟ بسبب أنفسِهم.
ولذلك ماذا قال تعالى: (فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ) مَن؟ هم أهلُ الإيمان.
(وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا) يعني العذاب (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ).
﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾(111)
(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ) أي جميع الأنبياء المذكورين ليست فقط لقصة يوسُف، لمَ لجميع الرسل؟ لأنه قال: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) قال هنا : (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) عبرة وعظة لأولي الألباب أصحاب العقول لأنهم ينتفعون بها.
(مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى) فيما ذَكر عزّ وجل لأن هذا القرآن من لدن حكيم عليم، ومر معنا في تفسيرها بتفصيلٍ في سورة يونُس: {مَا كَانَ هَٰذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ}.
قال هنا : (مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) يعني: الكتب السابقة (وتفصيل كُلِّ شَيْءٍ) فيه تفصيل لكل شيء مما يحتاجُهُ الناس.
(وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) هدى: من الضلالة، ورحمة لمن؟ (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لأنهم هم المنتفعون بهذا القرآن.
وبهذا ينتهي الحديث عن تفسير سورة يوسف.