التفسير الشامل سورة يونس من الآية (1) إلى (17) الدرس (127)

التفسير الشامل سورة يونس من الآية (1) إلى (17) الدرس (127)

مشاهدات: 534

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة يونس

من الآية1 إلى الآية17

الشيخ زيد بن مسفر البحري – حفظه الله –

سورة يونس العلماء يقولون هي مكية، وقال بعضهم: هي مكية إلا بعض الآيات، فالسورةُ إذاً هي سورةٌ مكية.

 (الر) هذه من الحروف المقطعة، ومرَّ الحديثُ عنها عند قوله تعالى في سورة البقرة (الم)

(تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) تلك للتعظيم تعظيم هذه الآيات (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) وهو القرآن (الْحَكِيم ) الحكيم بمعنى: أنه مُحكم متقن لأنه من لدن رب العالمين قال تعالى (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) فهو متقن ومُحكم ولا تَناقض فيه ولا اختلاف فيه (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) وأيضًا بمعنى: الحاكم فهو تؤخذ منه الأحكام ويحكم على الناس ولذا قال تعالى (وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ ) فقال هنا  (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ) ولو قال قائل هذه السورة مكية ولم ينزل القرآن كلُّه إنما نزلت بعضُ الآيات، فالجوابُ عن هذا ( تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ) التي نزلت والتي ستنزل على مرور السنوات والأحداث ( تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا ) أيعجب هؤلاء الناس ( أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ ) حالُ كفار قريش كحال قوم من ؟ قوم نوح كما مر معنا في سورة الأعراف قال عز وجل  (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ) قال عز وجل عن بعض الرسل أيضاً ما قاله قومهم لهم، إنما قالو هنا كيف يكون النبي من بشر وإنما يكونُ من الملائكة ولذا مر معنا في سورة الأنعام (وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ۖ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ )

 (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُم  ) ما وظيفته؟(  أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ ) أي خوِّف الناس (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا ) بشرهم بالخير (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِم  )لهم خيرٌ بما قدموه من أعمالٍ سابقة، كما يُقال فلان له قِدَمٌ في الإسلام يعني أنه تقدم بالخير، يعني من جَرَّاءِ ما قَدَّموه فيما سبق فالله عز وجل يعطيهم الخير ( أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ ) ووصف القّدَم هنا بالصدق لمَ ؟ لأن أقوالَهم وأفعالهم وقلوبهم صادقة، فصدقوا في الأقوال وفي الأعمال وفي القلوب (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ)

 قال الكافرون هذه حجتهم وهذا يدل على أن من قال أن الرسول ساحر هو كافر ( قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ ) إن هذا: يعني محمد ﷺ ( لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ ) واضحٌ من أنه ساحر وليس بنبي، وكذبوا لأنهم يعلمون أنه ليس بساحر ولذا هذه المقولةُ قيلت في كل نبي ولذا قال عز وجل (إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) فقال عز وجل هنا: (قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ ) هنا من باب ماذا إظهار دلائل قدرة الله وأشياء من ربوبيته لا يمكن أن يُنكروها فدلَّ هذا على أنَّ من له هذه الأشياء يلزَمُكُم أن تعبدوه ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ ) لأنهم يقرون بتوحيد الربوبية فيُلزمون بتوحيد الألوهية ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) مرَّ تفسيرُها في سورة الأعراف ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ )

 (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) يدبر أمور عباده، يدبر أمر هذا الكون بانتظام، لا أحد يستطيع أن ينكر ذلك لأن هذا الكون بانتظامه يدلُّ على أن هناك مُدبرا وهو الله عز وجل (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) ولا ينكرون هذا ولذا بعد هذه الآية بآيات ماذا قال عز وجل آمر النبي ﷺ  (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ )

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ) ما أحد يشفع إلا بإذنه عز وجل ومر معنا الحديث عن الشفاعة وعن شروطها في سورة البقرة (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) ( مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ) خلافا لما يزعمون من أن آلهتهم تشفع لهم فقال عز وجل(مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ) والشفاعةُ لها شرطان: إذنُ اللهِ للشّافع أن يشفع، ورضاه عن المشفوع له بأن يكون من أهل التوحيد قال عز وجل ( مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ ) أي من له تلك الأفعال والصفات ( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ) إذاً 🙁 فَاعْبُدُوهُ)

 (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ) أين عقولكم أفلا تذكرون؟ لم يقل أفلا تتفكرون لأن الآيات واضحة وبينة إنما يلزمكم مع وضوحها التذكر (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ) مرجِعُ الخلائق كُلّهِم الى الله عز وجل (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا ) هذا وعدٌ من الله عز وجل من أنَّ يوم القيامة سيكونُ لا مَحالة (وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) هو الذي يُنشئ الخلق ثم يكون أطوار بعد ذلك بعد موته يُعيده عز وجل (إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ ) يعني: بالعدل، لو قال قائل يجزيهم بالعدل وقد وعدهم بأن يُضّعف لهم الحسنات فلماذا قال هنا بالقسط ؟

الذي يظهرُ لي والعلمُ عند الله من أنه قال ( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ ) يعني: بالعدل من أن أهل الإيمان ليسوا على درجة واحدة فمنهم المقربون ومنهم أصحاب اليمين إذاً سيُعطي كلَّ صاحبِ منزِلة ما يستحقه ويزيده على ذلك، ومما يؤكد هذا والعلم عند الله من أنه عز وجل قال في هذه السورة قال عز وجل (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ) هؤلاء المجرمون قُضيَ بينهم بالقسط كل شخص له ما يناسبه من العذاب بالعدل ولذلك قال تعالى (لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ ) فقال هنا (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ ) أي مؤلم (بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ) أي بسبب كفرهم.

 ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا ) وقال عن الشمس بوصفِها بأنها ضياء يعني ذات ضياء ،والقمر من أنه ذو نور، وذلك لأن الشمس أقوى من حيث الإضاءة  ولذا ماذا قال عز وجل ( تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا ) فقال هنا (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا ) هذه دلائل تدل على عِظَمِ الله وهو الذي يستحق العبودية  (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ ) أي: القمر كما قال تعالى( وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ ) قال هنا  (وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ ) أي للقمر منازل ويستتر في ليلتين إذا كان الشهرُ تاماً ،ويستتر في ليلة إذا كان الشهر ناقصا  (وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ ) لمَ؟ (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ) لتعلموا عدد الأيام والسنوات ودخول الشهور فتنتظم بذلك أحوالُكم فتعرفون ميقاتَها، وقوله تعالى( وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ) دل هذا على أن المُعتبر هي الشهور القمرية لا الشهور الشمسية ولذا قال تعالى ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ)ومن ثّمَّ قال ﷺ كما في الصحيحين قال:  (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) فدل هذا على أنَّ من يدعو الى اعتماد الشهور بالحساب دون رؤية الهلال فإنه خالف الكتاب وخالف سنة النبي ﷺ وخالف سلف هذه الأمة، بل قال شيخ الإسلام رحمه الله لمخالفة لذلك فإنه يكون مبتدعا قال هنا : (وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ) وبعض العلماء قال: (وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ) إنما الضمير أُعيدَ الى القمر والمقصود الشمس والقمر بمعنى ( وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ ) أي: إن الشمس والقمر كلٌّ منهما له سيره المنتظم كما قال تعالى: (لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) وإن كان هذا يدخل لوجود آيات تدل على ذلك لكن الذي يظهر من أن المقصودَ هنا هو القمر ولا مانع من دخول هذا في ضمن هذا الحديث فقال عز وجل هنا (وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ) ما خلق الله عز وجل القمر على أنه نور والشمس ما خلق هذه إلا بالحق من أجل ماذا من أجل أن تعتبروا من أنها ما خُلقت عبثا وأنَّ هذا القمر وهذه الشمس سيكوران في النار يوم القيامة (  إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ) والقمر سينخسف بمعنى: أن القمر والشمس بهما يكونُ الليل والنهار ومن ثَمَّ عليكم أن تعبدوا الله ولذا قال عز وجل ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ) فقال هنا (مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ ) يفصل الآيات يبينها يوضحها ويأتي بالآيات التي بها وعيد وبها ترغيب (يُفَصِّلُ الْآيَاتِ ) لمن؟ (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) ممن يريد العلم وعندهم علم وعندهم قابليَّة للعلم.

 (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) اختلاف الليل والنهار من حيث الطول من حيث القِصَر يأتي هذا ثم يذهب هذا (إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) مما في السماء من نجوم وكواكب ومما في الأرض من جبال وما شابه ذلك ومر معنا ذلك مفصل توضيحه في قوله تعالى في سورة البقرة (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ ) الى أن قال (لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) هنا ماذا قال (إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ ) إذاً من عقَلَ هذه الآيات يدعوه هذا الى أن يتقي الله عز وجل.

 (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) لما ذكر عز وجل تلك الدلائل بين أن الناس انقسموا الى قسمين قسم ضال وقسم مؤمن قال ( إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ) وهؤلاء جمعوا بين هذه الصفات الذميمة (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ) ينكرون ماذا؟ البعثَ والنشور ( إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ) أيضاً ( وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) هذه هي الصفة الثانية (وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) وجعلوها هي المبتغى كما قال تعالى (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)  فقال عز وجل هنا (وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ومع ذلك أيضاً الصفة الثالثة ( وَاطْمَأَنُّوا بِهَا ) اطمأنوا إلى هذه الدنيا وجعلوها مبتغاهم وجعلوها في قلوبهم، واطمأنوا بها وأيضاً (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ) هم عن آياتنا الكونية وعن آياتنا الشرعية لأن ما مضى تحدث عز وجل عن ماذا عن آياته الشرعية (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) وتحدث عن آياته الكونية مما يتعلق بالشمس والقمر والسموات واختلاف الليل والنهار (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ) مصيرُهم : (أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) أي بسبب ما كسِبُوه من تلك الأعمال السيئة.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ) هذا هو الصنف الثاني الذي استفاد من الآيات وانتفع من الآيات الشرعية والكونية (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ) أي يهديهم ربهم بسبب إيمانهم بعض العلماء يقول الباء هنا للاستعانة (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ) يعني يستعينون بإيمانهم يوم القيامة إذ يكون لهم نور؛ الذي يظهر من أنها سببية

 (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ) إلى ماذا ؟ الى الجنة فهي وإن لم تُذكر فما بعدها مبينة لها (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) في جنات النعيم التي ذكر عز وجل في سورة السجدة قال عز وجل: (تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)  قال: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)

(يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ): وأتى باسم الرب لأنه عز وجل ربّى قلوبَهم بهذا الإيمان

(يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ) ولعله والعلم عند الله يظهر لي من أن هناك شيئًا يمكن أن يدخل في هذا الآية ولم أرَ أحدا تحدث عنه لكن (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ) كما أنه يهديهم ربهم بسبب إيمانهم إلى الجنة أيضاً يهديهم إيمانُهم إلى هدى وإلى خيرٍ آخر كما قال عز وجل: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى) وقال عز وجل: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) وقال تعالى (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى)

 فقال عز وجل :(فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ) دعواهم أي: دعاؤهم في الجنة وهذا لا يدل على أنه بها تكليفا وإنما هذا من باب التلذذ ولذلك يُلهمون التسبيح كما يُلهمون النَّفَس: (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ ) تنزيه لله عز وجل : ( سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ ) مما يدل على أنه دعاء قول “اللهم” ، (َعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ) تحيتهم فيها سلام من الله، قال تعالى:(تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ ) وأيضاً سلام من الملائكة (وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ) وأيضاً يسلمُ بعضُهم على بعض كما قال تعالى (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا) فقال عز وجل (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ) ماذا؟ (أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) وهذا يدل على أن ختام دعائهم هو الحمد لله عز وجل وهو الثناءُ على الله عز وجل، ومن ثَمَّ فإن الحمدَ من هذه الآية ومن ظاهرها تدل على ماذا؟ تدل على أن قول الحمد لله رب العالمين دعاء لأنه قال(وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) وثبت في الحديث الحسن عند الترمذي قولُه ﷺ : (أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله) وقال بعض العلماء إن قوله تعالى: (دَعْوَاهُمْ فِيهَا) الدعاء هنا: “القول” ، أي قولهم فيها فيما يكون أمارة بينهم وبين خدَم الجنة أنهم إذا أرادوا أن يأكلوا الطعام وأن يشتهوه قالوا هذا القول فأتت إليهم الخدم بالأكل فإذا فرَغوا منه قالوا الحمد لله رب العالمين، وعلى كل حال لا تعارض بين القولين فهذا القول الثاني قاله أكثر المفسرين، فقال عز وجل: (وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) بعض العلماء قال: هذه الآية في حق المشركين لمَ؟ لأنهم استعجلوا عذابَ الله عز وجل كما مر معنا في سورة الأنفال: (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) وقال بعضُ المفسرين: إنما هذا في حقِّ ماذا؟ في حقِّ كُلِّ شخص وليست خاصةً بالمشركين، ولا تعارضَ بينهما ، لكن على هذا القول من أنها ليست خاصةً بالمشركين يكونُ المعنى ماذا؟ يكونُ أنَّ الإنسان في حالةِ الغضب ربما يدعو على نفسه ربما يدعوا على ماله ربما يدعوا على أولاده فلا يستجيبُ الله عز وجل له رحمةً به ولُطفا به، فقال: (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ) كما يستعجلون الخير لأن الإنسان في حالة الغضب يستعجل أن تنزلَ عليه المصيبة فقال: (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) يعني لأهلكهم الله عز وجل هلاكاً عظيما (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) ولكن قال ابنُ كثير رحمه الله قال: والأَولى بالمسلم ألا يدعوَ على نفسه لحديث النبي ﷺ كما ثبت عنه : (لا تدعوا على أموالكم ولا على أولادكم ولا على أنفسكم لا توافق من الله ساعة فيستجيب لكم) فهنا قال الأَولى عدم ذلك، ومن ثّمَّ فإنه على قولِهِ من أنَّ الإنسان ليس على كل حال إذا دعا على نفسه أو على ماله أو على أولاده أنه يُستجابُ له وهذا من لطف الله عز وجل به لأنه ما دعا إلى ذلك رغبةً في نفسِ الدعاء وإنما هذا بسبب الغضب، ومع ذلك مع ما قاله ابن كثير رحمه الله إلا أن الإنسان لا يكون في مأمن فلربما يدعو على نفسه أو على ماله أو على أولاده فتوافق ساعة فيستجيب الله عز وجل لتلك الدعوة لظاهر الحديث، فيكونُ هناك ماذا؟ لا تعارض بين الآية وبين الحديث، إنما على المسلم أن يكونَ على حذر فَلْينتهِ من الدعاء على نفسه أو على ماله أو على أولاده.

(لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ) أي نترك (فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) في طغيانهم قد انغمسوا في هذا الطغيان لأن من لا يرجو لقاء الله فهو طاغية (فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي: يترددون ولذا قال: (فَنَذَرُ الَّذِينُ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) تأمل ما قبلها من آيات (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا) قال: (فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا) وهم الكفار  (فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ )

(وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ): إذا مس الإنسان الضر، الضُّر الذي لا يُلائمه مما ينزل به من مرض أو ما شابه ذلك (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ) جنس الإنسان لأن أصل الإنسان من حيث الخلقة كما قال تعالى (إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا) إلا من وفقه الله عز وجل.

 قال: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ) الإنسان إذا مر به الضر، وإذا مر به ما هو خير الواجبُ عليه أن يكون ماذا أن يكون عند الضراء صابرا، وأن يكون عند النعماء شاكرا، لكن ماذا قال عز وجل عن هذا : (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا) لماذا قال الجَنْب وذكر القعود والقيام؟ لأن الإنسان لا يخلو من هذه الحالات فتجد أنه إذا مسه الضر في جميع أحواله إن كان مضطجعا على جنبه، إن كان قاعدا، إن كان قائما فإنه والحالةُ هذه يدعو اللهَ عز وجل باستمرار أن يرفع عنه هذا الضر.

 (دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ) كشف الله عنه هذا الضر (مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ) مر يعني استمر، استمر على طغيانه وعلى كفره (مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ) سبحان الله قال: {مرَّ} المرور يدل على ماذا؟  يدل على السرعة بينما في حال الضر دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً لكن لما أتته النعمة ماذا فعل؟ {مر} أين الشكر؟ مر مروراً بسرعة، هذا يدل على ماذا على أنه ليس مُعظماً لله.

(مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ) وهذا يدل على ماذا يدل على أن المؤمن بين الضر وبين الخير يكون كما قال ﷺ كما عند مسلم: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير) قال: (وليس ذلك الا للمؤمن إن اصابته سراءُ شكر فكان خير له، وإن اصابته ضراءُ صبر فكان خير له).

 فقال هنا: (مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ) كما زينَّا لهذا هذا النُكران هذه النعمة (كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أي كل من أسرف قد زُين له عمله وهذا الإنسان من المسرفين لمَ؟ لأنه عند الضر حاله حال ماذا؟ حال المُقبل على الله عز وجل وعند النعماء إذا به يكفر ربه عز وجل فقال عز وجل: (كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)

( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) فيه تحذيرٌ لكفار قريش (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) قامت عليهم الحجة بمجيء الرسل بالآيات الواضحات (وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا) إذاً أهلك الله عز وجل الأمم السابقة بعد أن أقام عليهم الحُجة بسبب ماذا؟ أنهم ظلموا، وأيضاً عَلِم الله عز وجل أن هؤلاء لن يؤمنوا فبهذين السببين أهلكهم الله (وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا)

( كَذَلِكَ) كما جزينا هؤلاء من الأمم السابقة (نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) فكفار قريش يكونون كحال هؤلاء المجرمين، لأنكم أجرمتم كإجرامهم ولذا ماذا قال عز وجل؟

(وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ۖ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) فقال عز وجل: (كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ) أي تخلفونهم (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) لننظر، وإلا فالله عز وجل عالم ٌبما سيعملون لكن من باب المجازاة لهؤلاء (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) ولذا قال عز وجل كما مر معنا في سورة الأعراف (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ)

 فقال عز وجل (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ) إذا تليت هذه الآيات آيات القرآن التي قال عز وجل عنها في أول السورة (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) آيات بينات واضحة بينة (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا) انظر تأمل تجد أن كلمة لا يرجون لقاءنا تكررت في السورة مما يدل على أنهم لما لم يرجوا لقاء الله كذبوا بآيات الله ، (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ) يقولون: لتأتِ بغير هذا القرآن الذي لا يعيب آلهتنا، أو بدِّل شيئا منه بأن تجعل مثلاً آية عذاب محلها آية رحمة، وهم يعرفون أن النبي ﷺ ما أتى به لكن أرادوا بذلك من أجل أنهم يمكرون لعله أن يطاوعهم، فإذا طاوَعهم اثبتوا عليه أنه هو الذي اختلق القرآن، فما هو جوابه ؟

 (قُلْ مَا يَكُونُ لِي) قل لهؤلاء (مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي) لأنه من عند الله ولذا ماذا بعدها؟ (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) أي ما اتبعُ إلا ما يوحى إليّ (إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) أي معصية (إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) عظيم فكيف إذا أقدمتُ على تغيير كلام الله أو تبديل شيء منه فهي معصيةٌ أعظم.

(إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) قل يا محمد لهؤلاء لكفار قريش (قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ) أي ما أعلَمَكم به، يعني: لو شاء اللهُ عز وجل ما تلوتُ عليكم هذا القرآن، ولا أعلَمَكم به، لكنَّ الله عز وجل هو جعلني نبياً أوحى إليّ، ولذا ماذا قال بعدها؟ لما قال:(قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ) ولذا قال بعدها

(فَقَدْ لَبِثْتُ) أي مكثت (فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ) أربعون سنة، وأنتم تعرفون حالي، فكيف آتيكم بهذا من تلقاء نفسي كما زعمتم؟ لكن هذا يدل على أنه بعد تلك السنين وبعد ذلك العُمُر لما أوحى الله إليّ وتلوتُ عليكم هذا القرآن وأعلَمَكم الله بهذا القرآن دل على أنه من عند الله فأنا رسولٌ من الله.

(قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ) من قبلِ أن ينزل عليَّ هذا القرآن (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) يعني أتعلمون حالي قبل مجيء هذا القرآن ثم بعد مجيء هذا القرآن وصدقُه واضح (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) تزجرون فيرجعون الى الله عز وجل وتؤمنون بي!

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ) فمن أظلم، وأتى بالفاء هنا لأن هؤلاء ماذا ظَلَمَه، وأيضاً من يفتري على الله فهو ظالم، ولذلك لما نفى النبي ﷺ عن نفسه أنه أتى به من تلقاءِ نفسه بيَّنَ أن من يأتي ويقول هذا شيءٌ من القرآن أو أوحيَ إليّ فإنه من الظَلَمَة.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ) التي تُليَت عليكم (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) فالمجرمون لا فلاح لهم ومر معنا في سورة الأنعام: (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) فدل هذا على ماذا؟ على أن من كان ظالماً كحال هؤلاء فإنه لا فلاحَ له وهم أهلُ إجرام، ولذا قال: (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) لمَ؟ لأنه ذكر عز وجل فيما مضى من آيات: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ۙ وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) إذاً أنتم مجرمون إن لم تؤمنوا بالنبيِّ محمد ﷺ.