التفسير الشامل سورة يونس من الآية (18) إلى (33) الدرس (128)

التفسير الشامل سورة يونس من الآية (18) إلى (33) الدرس (128)

مشاهدات: 486

تفسير سورة يونس 18-33

الشيخ زيد بن مسفر البحري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بسم الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد

فكنا قد توقفنا عند قول الله عز وجل (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ) ، هؤلاء الكفار يعبدون من دون الله مالا يضرهم، لو تركوا عبادته ولا ينفعهم لو أنهم عبدوا فلا نفع ولا ضر، عند  هؤلاء الأصنام والشركاء، (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّه) يعني أننا نجعل هؤلاء شفعاء ووسطاء لنا عند الله عز وجل حتى تقضى لنا الحوائج، وِليُعلم أن هؤلاء الكفار ينكرون البعث والنشور، فكيف يجعلونها هؤلاء شركاء لهم عند الله عز وجل، فالجواب عن هذا من أنهم يجعلونها شفعاء ووسطاء لهم في الدنيا حتى تُقضي حوائجهم الدنيوية، وأيضا هم يقولون على افتراض أننا بُعثنا على ما تقولون فإنها ستكون لنا شفعاء يوم القيامة عند الله عز وجل، وسيأتي معنا مزيد كلام حول هذا ، عند قوله عزل وجل عن هؤلاء (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، وعند قوله عز وجل وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ)، فقال عز وجل هنا عن هؤلاء ((وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّه)، قل لهؤلاء يا محمد (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ) أي أتخبرون الله وهم كما ذكر عز وجل تطاولوا على الله عز وجل فأثبتوا له شريكا ، حتى أن الكلمة أتت بهذه الصيغة (اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ)

فهو عالم بما في السموات وما في الأرض فيعلموا عز وجل أنه ليس هناك إله يعبد معه عز وجل ولذا قال تعالى (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۗ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ ۚ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ)، فقال عز وجل هنا (اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ)، ولذا نزه عز وجل نفسه فقال سبحانه وتعالى، وتعالى تدل على علوه عز وجل وسبق معنا الحديثُ عن ذلك فيما يتعلق بعلوه عز وجل، سبحانه وتعالى عما يشركون ، (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً)، وهذا فيه رد على هؤلاء من انهم جعلوا مع الله شركاء فأخبر عز وجل أن الناس من حين خُلق آدم إلى أن بُعث نوح، عشرة قرون، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما : كانوا على التوحيد، ولذا مر معنا في قوله عز وجل في تفسير سورة البقرة (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً)، فهناك شيء محذوف (فَاخْتَلَفُوا ) فدلالة هذا المحذوف هو موجود في هذه الآية (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً)، وهذا هو الأصوب والأصح من قول من يقول (كان الناس أمة واحدة على دين إبراهيم حتى أتى عمر بن لحي بالأصنام إلى جزيرة العرب فقال عز وجل هنا (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ)، (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ) من الله عز وجل بأن القضاء لا يكون في هذه الدنيا وإنما يكون في الآخرة، إذ يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، لقضي بينهم في هذه الدنيا فيما فيه يختلفون،  (وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ)، ولذا هم يقولون لو انزل عليك يا محمد آية كما أنزلت على الأنبياء السابقين، كما كانت الناقة لصالح وما شابه ذلك، ولذا مر معنا في قوله عز وجل في سوره الأنعام (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ۚ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)، فهؤلاء ما اطلبوا هذه الآيات من أجل أن يؤمنوا وإنما أرادوا العناد، ولذا قال تعالى (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ)، وقال وتعالى (وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ)، ولذا قال عز وجل مُبينا أن وظيفة النبيﷺ هو التبليغ (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ ۖ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)، فبين هنا من أن طلب الآية التي طلبها هذه الآية غيب عند الله عز وجل إن شاء أنزلها عليكم وإن شاء الله لم ينزلها فقال هنا (وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) فقال يا محمد لهؤلاء، (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ)، دل هذا على أن مجيء الآية، هو قريب عند الله، (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ)، فالغيب كله لله، ومن ذلك هذه الآيات التي طلبتموها (قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) فقال عز وجل (فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ)، فقال عز وجل عن النبي ﷺ (فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ)، انتظروا و انتظروا أن عاقبة ما سيحل بكم من عقاب بسبب كفر كم وعناد كم، (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ)، هنا ذكر عز وجل بمس الضر بالناس و مر معنا (وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ) مر معنا في هذه السورة في أولها، (وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ)، هنا تكررت هذه الآية ، لكن زيد فيها شيء وهو أن هؤلاء يمكرون بآيات الله عز وجل مع أن الله رفع عنهم هذا الضر، فإنهم يمكرون بآيات الله ، (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ)، رحمة منا غنى أو صحة، أو ما شابه ذلك، من بعد ضراء، من بعدما أصيبوا من الضر، من فقرٍ مرضٍ أو نحو ذلك، (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ)، قال مستهم ولم يقل مسهم الله، وهذا كما مر معنا الشر، لا ينسب إلى الله تأدبا كما جاء في صحيح مسلم، والشر ليس اليك ومر معنا ذلك مفصلا، عند قوله تعالى، (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) (مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آَيَاتِنَا) فهم يمكرون بآيات الله ويكذبونها ويسخرون منها، (إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آَيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا) فالله عز وجل مطلع على مكرهم، وسيعاقبهم على مكرهم، وهنا إثبات المكر لله عز وجل، مقيدا بما فعلوه من المكر بآيات الله، ومر معنا أن صفة المكر، تثبت لله عز وجل على وجه التقييد، يمكر بمن يمكر بشرعه أو بآياته أو بأوليائه، كما مر معنا ذلك مفصلا ، عند  قوله تعالى (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ)، (قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا) أي الملائكة الحفظة (يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ)، يكتبون هذا المكر، ومن ثم تعاقبون عليه يوم القيامة (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) هو عز وجل الذي يسيركم في البر والبحر، وجعل لكم من الأدوات ما تسيرون به على البحر وعلى الأرض، (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) ، وهذا من دلائل قدرة الله عز وجل فواجب عليكم أن تعبدوه وحده (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ)، أي في السفن، (وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) ، أي طيبة تناسبهم وتناسب أحوالهم وسفنهم، (وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا) ، وفرحوا بها فرحوا بهذه الريح الطيبة، (وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ) أي ريح شديدة ومن ثم فإن كلمة الريح تطلق على ما يكون في الخير وما يكون في الشر، كما ذكر هنا بريح طيبة ، وقال هنا (رِيحٌ عَاصِفٌ)، ولذا ثبت قوله ﷺ: الريح من روح الله تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب، (وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ) أتاهم موج البحر من كل مكان (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) ظنوا أنهم أحيط بهم من جميع الجوانب، وظنوا أن الهلاك محقق لهم، (دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)،  تضرعوا إلى الله عز وجل، لأنهم يعلمون أن آلهتهم لا يمكن أن تدفع ضرا أو أن تجلب نفعا ، (دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)، ولذا ثبت في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى إلى فتح مكة، وأباح بعض دماء المشركين ومنهم عكرمة بن أبي جهل ركب السفينة، فاشتد بهم الموج، وأتت الرياح، فقالوا لبعضهم إنه لن ينجيكم من هذه الريح إلا الإخلاص، وإن آلهتكم لن تنفعكم، فقال عكرمة إن كان لا ينجينا إلا الإخلاص لله عز وجل في البحر فإنه لن ينجينا في البر إلا الاخلاص لله عز وجل وحده، فقال إني أعاهدك يا الله إن نجوت أن آتي محمد فأبايعه فنجى، فأتى إلى النبيﷺ  وبايعه، ولذا قال تعالى هنا (دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ) أي من هذه الحالة العصيبة (لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي لنكونن ممن يشكرك على هذه النعمة، إذ دفعت عنا هذا الضر، (فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) ، يبغون ويعتدون في الأرض بغير الحق، وقيد بغير الحق، لأن البغي لا يكون إلا ظلما دائماً، لأنه ليس هناك بغي بحق، ومن قال من العلماء إن هناك بغياً بحق إذا اخذ المظلوم حقه من الظالم فيقال ان هذا ليس ببغي، إنما هذا انتصار، وانصافٌ للنفس وليس فيه ظلم، ومن أعظم ما يحصل من بغي هؤلاء في الأرض بغير الحق، أنهم إذا ورجعوا إلى البر أشركوا  بالله عز وجل (فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ)، وهذا يدل على ماذا ، على أن أعظم البغي أن يشرك بالله عز وجل، (إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ)، وبالُ هذا البغي على أنفسكم ولا تضرونه عز وجل شيئاً، (النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا إلى أن تقضي آجالكم، (مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، فنخبركم عن كل أعمالكم ومن ثم تجازون عليها ، ولذا مر معنا في سورة الأنعام (قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) ذكر الظلمات ظلمات البر والبحر (قُلْ) يعني يا محمد لهؤلاء (قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) ولذا والعلم عند الله ، لما كان الخطاب موجهاً من النبيﷺ لهؤلاء تغير الأسلوب ، لكن الأسلوب هنا ، (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) قال في سورة الأنعام (قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)، زيادة هنا تضرع وهو التذلل وخفية ، يعني في خفاء، تضرعا وخفية (لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَٰذِهِ) لئن انجانا قالوا هنا (لَّئِنْ أَنجَانَا) ومعنى هنا أنجيتنا، (لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)، (قُلِ اللَّهُ)، قل يا محمد لهؤلاء (يُنَجِّيكُم)، (قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ)، ولذا قال تعالى (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، وهذه الدنيا إلى زوال، ولذا ماذا قال بعدها ، (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، لما كانت همة أولئك التمتع في الحياة الدنيا بين مصير هذه الدنيا، وضرب لها مثلاً حتى يعقل الناس ولذا في هذه الأمثال فيها فائدة ، وهي التعقل ، قال تعالى (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) ، (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ) أي فاختلط بسببه (نَبَاتُ الْأَرْضِ) أي نبات الأرض اختلط بعضه ببعض بسبب نزول هذا المطر فاختلط به نبات الأرض (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ) مما يأكله البشر من البقولات وما شابه ذلك، (وَالْأَنْعَامُ) من الحشيش مما يأكل الناس والأنعام (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا)، تأمل هنا، الأرض تأخذ، وهذا أسلوب من أساليب اللغة العربية، مما يدل على أن هذه الأرض قد ارتوت وشبعت وأخذت الزخرف والزينة والجمال من حيث الخضرة ، (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا) ومع أنها أخذت هذه الأرض زخرفها يعني الزينة ، قال الزينة، قال (وَازَّيَّنَتْ) يعني أصبحت، مع أنها أخذت من كل الزخارف، أصبحت زينه تبهج أنظار الناظرين قال (وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا) قادرون على أنهم يأخذون هذه الثمار، وهذه النباتات، (وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا) ، (أَتَاهَا أَمْرُنَا) ، أي ما أمر به عز وجل من هلاكها، (لَيْلًا أَوْ نَهَارًا)، لأن الليل يكون به النوم ، والنهار تكون به الغفلة، ولذا مر معنا في سورة الأعراف (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ ، أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) ، (أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ)، جعلناها حصيدا: أي لا نبات فيها ولا أثر لها (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) كأن لم تكن غنية بالنباتات بالأمس، والأمس ليس اليوم الذي يسبق حاضرك ويومك، وإنما الزمن القريب، ولو كان قبل ذلك بأيام، كما قال عز وجل عن الغد (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) أي ليوم القيامة، ولا يكون اليوم الذي يلي حاضرك، فقال هنا، (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ)، كذلك شأن الدنيا كشأن هذه الأرض، فإن الإنسان إذا أخذ من الدنيا ما أخذ واجتمعت عنده وظن أنه سيتصرف في هذه الدنيا وسيفعل فيها، وسيتنعم فيها، إذا بالموت يأتيه بغتة، وإذا بهذه الدنيا تزول ثم يوافي عمله، دل هذا على أن بقاء الناس في هذه الدنيا، كبقاء هذه الأرض التي ازينت، وأخذت زينتها، وأخذت زخرفها، فدل هذا على أنها متاع قليل، لا يلتفت الإنسان إليها، (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) ، ولذا ماذا قال تعالى (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ) ، أي كذلك مثل ما فصلنا ذلك المثل عن الحياة الدنيا، (كذلك نفصل الآيات) أي نفصل ونبين جميع الآيات، (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، أي يتأملون، لأن مثل هذا المثل يحتاج إلى تفكر وإلى تمعن، (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ) ، هذه الجنة خير من الدنيا، ولذا لما ذكر مآل هذه الدنيا إلى الزوال، قال ذكراً للجنة والله يدعو إلى دار السلام، وأضيفت هذه الدار إليه، لأن من أسمائه السلام، ولأن بها السلام، يسلم الله عليهم، ويسلم بعضهم على بعض، وتسلم عليهم الملائكة، ويسلمون من الآفات، ومن الشرور ومن الخروج من هذه الجنة، (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، دل هذا على ماذا، على أن هذه الجنة لا تنالُ إلاَّ بهداية من الله، ليست الهداية بيد الإنسان، وإنما هي بيد الله وبتوفيق، ومن ثم، فما على المسلم إلا أن يدعو الله أن يهديه وأن يثبته إلى صراط مستقيم، إلى طريقٍ مستقيم، فالجنة لا تنالٌ إلا بالسير على هذا الصراط المستقيم، الذي فصله عز وجل كما مر معنا في سورة الفاتحة (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)، وقيد ذلك بالمشيئة وفي ذلك ردٌ على القدرية الذين يقولون إن العبد يخلق الهداية لنفسه ، (تَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا)، (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) ، ذكر الصنف الطيب وهم صنف أهل الإيمان، (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)، الحسنى : الجنة، وزيادة: هي النظر إلى وجه الله الكريم، قال تعالى هنا مبيناً أن الذين أحسنوا لهم الجنة ، وهي الحسنى، ولهم أعظم النعيم، وهو النظر إلى وجه الله الكريم ، والزيادة فسرها النبيﷺ، كما ثبت عنه ، بأنها النظر إلى وجه الله الكريم، ومن ثم فإن هذا التفسير هو المتعين ولذا فبعض المفسرين قال ، إن الزيادة هنا هي مضاعفة الثواب ، ونحن نقول لاشك أن الله عز وجل ، كما ذكر في كتابه أنه يزيد ثواب المؤمنين ، لكن لا يحصر ذلك في تفسير هذه الآية ، لما؟ حتى لا يتذرع من ينكر رؤية الله عز وجل ، فيقول بهذا القول ، منكراً رؤية الله عز وجل في الجنة، (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) ، ومر معنا ما يتعلق بالرؤية مفصلاً في قوله تعالى (لا تدركه الأبصار هو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) ، (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ) ، أي لا يغشى ، (وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ) ، والوجوه ذكرت هنا، لأنها أشرف ما يكون فتلك الوجوه لا يرهقها قتر ولا ذلة ، والقتر هو الغبار الذي به سواد ، والذلة هي المهانة والصغار ، (وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، أي باقون لا يخرجون منها ، (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ) ، هذا القسم الذي خسر دنياه وخسر أخراه ، فأشرك مع الله فكسب السيئات ، وأعرض عن دين الله ، (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا)، أي أن السيئة يجزى بمثلها، ولعل من قال بقول الزيادة من أنها مضاعفة الثواب، لدلالة هذه الآية لعله أراد ذلك، لكن كما سبق، الزيادة: هي رؤيه الله عز وجل، و لا مانع من دخول ماذا؟ زيادة ماذا؟ زياده الثواب لأهل الجنة، قال هنا (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّة) ، (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّة)، أي تغشاهم ذلة، (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّة بين هنا من أن الذلة ترهق أبدانهم، ولم يقيدها بعضو، (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ)، أي لن يعصمهم أحد في ذلك الموقف وإنما من أطاع الله عز وجل فهو الناجي (مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ) أي غطيت وجوههم (قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا) أي قطع من الليل المسود الحالك في السواد، (كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً) ، كما قال تعالى (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۚ) ، (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، ماكثون (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا)، (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ)، أي واذكر يوم أن نحشرهم جميعا يوم القيامة، ونقول لهؤلاء ولشركائهم الزموا مكانكم، (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ)، أي مزينا بين هؤلاء وبين شركائهم الذين كانوا يعبدونهم من دون الله عز وجل، فلا صلة ولا تواصل ولا تحاب بينهم، فميزوا وقطعوا فانقطعت بهم الصلات، (فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ) ، (مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ)، تبرؤوا منهم (مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ) ، ثم قالوا (فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ)، يعني الله يشهد بيننا وبينكم من أننا لم نرضَ بذلك، بل كما قال تعالى: (فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ) ، فنحن أصنام لا تسمع ولا تبصر ، ولا تعي ، فنحن غافلون ، وكذلك يدخل في ذلك إذا عبدوا من له سمع ومن له بصر، (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ) ، أي لا نعلم بعبادتكم لنا ، فنحن نتبرأ منكم (فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ)، (هُنَالِكَ) أي في يوم القيامة (هُنَالِكَ تَبْلُو) أي تختبر (كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ) أي ما قدمت من عمل صالح أو من عمل سيئ، ولذا قال تعالى في أول السورة: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ)، قال هنا: (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ)، ردوا إلى الله مولاهم ، مولى الجميع من المؤمنين والكفار، وهي الولاية العامة ومر معنا توضيح ذلك في قوله عز وجل (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۖ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ) فقال هنا (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ) أي غاب (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) أي ما كانوا يقولونه من الافتراء والكذب من أن تلك الآلهة تشفع لهم ومر معنا في سورة الأنعام مثل هذه الآية (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ ۚ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ)، فبينت سورة الأنعام من أنهم يحلفون بالله من أنهم ما أشركوا بالله عز وجل ، وقال (وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ)، ( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) ، قل يا محمد لهؤلاء ، هذه دلائل لا يستطيعون أن ينكروها ، ومن ثم فواجب عليهم أن يعبدوا الله عز وجل ، (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)، أي مما يتكون من رزق الله عز وجل من السماء من مطر، وما يترتب عليه من نعم في الأرض، وكذلك ما يكون في الأرض مما يخرج الله عز وجل من خيراتها، (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ) من يملك السمع والأبصار التي خلقها لكم، وهو قادرٌ على أن يذهبها عنكم، ولذا مر معنا في سوره الأنعام قوله عز وجل (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ) أمّن يملك والسمع والأبصار، والسمع مصدر لا يثنى ولا يجمع كما مر معنا في قوله تعالى (خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ)، وهنا جمع الأبصار فقال عز وجل (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) ومر معنا ذلك في سورة آل عمران فهو عز وجل يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، يخرج المؤمن من صلب الكافر ويخرج الكافر من صلب المؤمن، ويخرج البيضة من الدجاجة والدجاجة من البيضة وما شابه ذلك، (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) من يدبر الأمر، ولذا في أول السورة ماذا قال عز وجل (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۖ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ) ماذا قال بعدها (ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) ، هنا ماذا قال عز وجل (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ) فسيعترفون أنه الله (فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ) ، قل يا محمد لهؤلاء ، (أَفَلَا تَتَّقُونَ) والهمزة قدمت على (الفاء) حرف العطف، يعني أبعد ما تبين لكم ذلك، وأنتم تقرون بذلك تكفرون عناداً، (أَفَلَا تَتَّقُونَ) الله عز وجل (أَفَلَا تَتَّقُونَ)، (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ)، وقوله (أَفَلَا تَتَّقُونَ) يدل ماذا؟ يدل أن من أقر بتوحيد الربوبية كهؤلاء الكفار، يلزمه كما هي القاعدة، يلزمه أن يقر بتوحيد الألوهية، ولذا قال (أَفَلَا تَتَّقُونَ)، ولذا قال بعدها لما ذكر تلك الدلائل، (فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ) من له تلك الأفعال والصفات هو الله عز وجل (الْحَقُّ) وما سواه فهو باطل مما تدعونه من هؤلاء الشركاء، ولذا قال تعالى: (ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)، (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ) ، يعني إن لم تأخذوا بالحق وإن لم تستجيبوا للحق فإنكم تقعون في الضلال، ومن ثم فإن قوله فماذا بعد الحق إلا الضلال، الضلال لا يجتمع مع الحق والسنة لا تجتمع مع البدعة ، والشرك لا يجتمع مع الإسلام، ومن ثم فإن قول البعض لنجتمع على ما نحن عليه ولنتفق ولتتوحد كلمتنا ، ولو كان عندك أخطاء تتعلق بالعقيدة ، أنت تغض الطرف عني وأغض الطرف عنك، ولنجتمع على ذلك من أجل إسلام، فمثل هذا الكلام تدليس، فالواجب أن من أتى بباطل أو ما شابه ذلك، فليكف عنها، وإذا كف عنها فليكن الاجتماع، فالاجتماع إنما يكون على الحق لا أن يجتمع الناس على ما يجتمعون عليه وكل منهم عنده أخطاء في بدع أو ما شابه ذلك، ولذا قال هنا : (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ) لم؟ لأنه لا يمكن أن ينتصر الإسلام إلا بالاجتماع على الحق، ولذلك النبيﷺ لما رجع من غزوه تبوك ماذا قال لأولئك المنافقين الذين تخلفوا؟ قال (ن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَىٰ طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا ً)، ليست العبرة بالكثرة، إنما العبرة على الاجتماع على الحق، لأن هؤلاء لو خرجوا وهم أهل النفاق فكما قال تعالى: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) فقال عز وجل هنا (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) فأنى: أي كيف تصرفون عن الحق مع وضوحه وبيان دلائله، (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)، (كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ)، كذلك : (الكاف) هنا بمعنى مثل للتشبيه، مثل ما ثبت أن الله هو الحق، وثبت أنه ليس بعد الحق إلا الضلال، كذلك ثبت بأمر الله عز وجل، من أنه إذا حقت كلمته على قوم من أنهم لا يؤمنون، لن يؤمنوا لم؟ لأن الله لم يرد بهم خيرا بسبب سوء أعمالهم، فقال عز وجل هنا (كَذَلِكَ حَقَّتْ) أي وجبت وثبتت، (كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا)، ولذا قال (فَسَقُوا) مبينا أنهم أتوا بالفسق انهم لا يؤمنون.