التفسير الشامل ـ تفسير الجزء الثاني ـ من الآية ( 142) حتى الآية ( 252 ) من سورة البقرة

التفسير الشامل ـ تفسير الجزء الثاني ـ من الآية ( 142) حتى الآية ( 252 ) من سورة البقرة

مشاهدات: 1149

التفسير الشامل

تفسير الجزء الثاني

من الآية ( 142) حتى الآية ( 252 ) من سورة البقرة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله تعالى:

{ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ } : هُنا لمّا كان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أوّل ما حَضَرَ إلى المدينة تَوَجَّه إلى بَيت المَقدِس وهي قِبلةُ اليهود

( ستّةَ عشرَ أو سبعةَ عشرَ شهرًا )

  ثُمَّ أَمَرَهُ الله عزّ وجلّ بِأن يَتَحَوَّل إلى الكعبة

 

{ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ } :

{ السُّفَهَاءُ } : يشمل المنافقين واليهود وكفّار  قريش الذين قالوا إنّ محمّدًا يتردّد ، مرّةً يَتَوَجَّه إلى بَيت المَقدِس ، ومرّةً يَتَوَجَّه إلى الكعبة .

{ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ } أي ما الذي وَلّاهم { عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا } أي كانوا عليها وهي بَيت المَقدِس

{ قُل لِّلَّهِ } قُلْ – يامحمّد – لِهؤلاء { لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } جميع الجهات مُلْك لله عزّ وجلّ ، وَأَنتُم مُلْكٌ لله ، يُوَجِّهُكُم متى ما شاء ، وحيثما شاء وأراد

{ قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } لَكِنْ مَن يؤمن بِهذا ومَن يوفَّق لهذا إلّا مَن وَفَّقَه الله عزّ وجلّ

{ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } فالهداية بيد الله عزّ وجلّ ولِمَن شاء الله عزّ وجلّ أن يَهدِيَه . وفي هذا ردٌّ على القَدَرِيّة الذين يقولون إنّ العبد يَخْلُق الطاعة بِنَفسِه .

{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا }

{ وَكَذَلِكَ } يعود إلى أمْرٍ سابق ، الأظْهَر مِن أقوال المفسِّرين ، لأنّه يعود إلى أقرب مذكور

{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ } يعني كما أنّنا هَدَيناكم إلى القِبلة ، كَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ

{ أُمَّةً وَسَطًا } جماعةً وَسَطًا .

( الوَسَط ) العُدول الخِيار كما قال عزّ وجلّ { قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ } الأوسَط هُنا يعني الخِيار العَدل .

وفي هذا ثناءٌ مِن الله عزّ وجلّ لِهذه الأُمّة ( أُمَّة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم )

  وإذا كانت هذه الأمّة عَدلًا خِيارًا ، إِذًا ما أجمَعوا عليه يَكُونُ حُكْمًا شرعيًّا ثابِتًا ، وهذا مِن أدلّة الإجماع ( إجماع الأُمّة مِن مصادِر التشريع الإسلاميّ ) الدّليل هذه الآية .

لأنّهم إذا كانوا عُدولًا خِيارًا فَـمـا أجمَعوا عليه يكون هُدًى ولا يَكُونُ ضَلالًا ولذلك :

 النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال : ( لا تَجْتَمِعُ أُمَّتي على ضَلالَة )

{ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } لِمَ ؟

 { لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } يومَ القيامة .

ولِذلك :

كما جاءت بِذلك الأحاديث : يأتي نوح عليه السلام مع قَوْمِه ، فيقول الله عزّ وجلّ لِقَومه : هل أتاكم مِن نَّذِير ؟ قالوا : لا ، ما أَتَانَا مِن نَذِير .

فَيُقال لِنوح : مَن يَشهدُ لك ؟ قال : يشهدُ لي أُمَّة مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم . فَتقوم هذه الأُمّة وتَشهد له . فيُقال : كيف عَلِمتُم ؟ قالوا : أتانا رسولٌ وأنزَلَ الله علينا كِتابًا ، وذَكَرَ أنّ نوحًا أتى إلى قَوْمِه وأنذَرَهم .

{ لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } :

{ الرَّسُولُ } المقصود هُنا : الرسول المعهود وهو محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي أُرْسِلَ إليهم

{ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } :

يعني يومَ القيامة يَشهد بأنّه بَلَّغَكم الرِّسالة ، ويَشْهد لَكُم بَالتَّزكية ويُثني عليكم عليه الصلاة والسلام

{ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا } :

 وهي بَيت المَقدِس ثُمَّ تحوّلْتَ إلى الكعبة

{ إِلَّا لِنَعْلَمَ } هذا التَّحويل لِحِكمةٍ يريدها الله عزّ وجلّ { إِلَّا لِنَعْلَمَ } الله عزّ وجلّ عالِمٌ بكلّ شيء ، عالِمٌ بِالشيء قَبل أن يكون ، عالِمٌ بكلّ شيء ، وَلَكِنْ لِتَعلَمْ أنّ مِثْل هذه الآية كما قال عزّ وجلّ :

 { وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } يعلمُه قَبْلَ أن تصنعوه .

 فَمِثلُ هذه الآية عِلمٌ يَترتَّب عليه جزاء وحساب مِنه عزّ وجلّ لِإقامة الحُجّة على هؤلاء وإلّا فهو عالِمٌ بِكُلّ شيء

{ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ } عِلْم ماذا ؟ عِلْم يَترتَّب عليه جزاء وحساب وإلّا فهو عالِمٌ بكلّ شيء قَبْلَ هذا الشيء

{ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ } هذا يدلّ على ماذا ؟ يدلّ على وجوب اتّباع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وأنّ في اتّباعه واتّباع سُنَّتِه صلّى الله عليه وآله وسلّم يَحْصُل بها الْهُدَى ، وتَحصُل بها محبّةُ الله لِلعَبد

قال تعالى في سورة آل عِمْران :

 { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

 

{ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } أي مِمَّن يَرجِع على عَقِبَيه ويُخالِف .

 وتأمّل { مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } :

 مَن يَرجِع إلى الوراء لا يُؤتَمَن عليه مِن السقوط وهو يمشي على قَدَمَيه . فكيف إذا رجعَ على عَقِبَيه ، فإنّه هالِكٌ ومُصيبُهُ الضرَر

{ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } :

وفي هذا التحذير مِن الوقوع في الـبِــدَعِ  ، لأنّ الْـبِـدَع ليست مِن شَرْع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وليست مِن وسائل اتّباعه صلّى الله عليه وآله وسلّم .

{ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } :

 { وَإِن } ( إِنْ ) هُنا نافية ، وعلامة ( إِنْ ) النافية أن يَأْتِيَ بعدها الاستثناء

{ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } :

{ وَإِن كَانَتْ } أي التحويل مِن بَيت المَقدِس إلى الكعبة { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً} أي لَعظيمة وثقيلة { إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } أي مَن وَفَّقَه الله عزّ وجلّ وعَلِمَ أنّ لله عزّ وجلّ  مُلْك الجِهات وله أن يُوَجِّهَ عباده إلى أيّ جهة كان ، لَكِنّ هؤلاء مِن اليهود والمنافقين والمشركين عَظُمَ عليهم الأمْر ، وذلك لِخُلُوِّ قلوبهم مِن الإيمان

  ولعلّ هذه الآية تَتَوافق مع ما – مِن حيث السِّياق – مع ما حَثّ به عزّ وجلّ لِهؤلاء اليهود مِن إقامة الصلاة ، لأنّه عزّ وجلّ كما مَرّ :

{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)  }

 فكما أنّ الصلاة كبيرةٌ وعظيمةٌ عليكم أنتم ، لأنّكم لَستُم بِأهْلِ خشوع أنتم أيّها اليهود ، فكذلك الشأن في تحويل هذه القِبلة

{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } :

هُناك مَن مات مِن الصحابة رضي الله عنهم لمّا كانت الصلاة يَتَوَجَّه المسلمون فيها إلى بَيت المَقدِس ، فسأل الصحابةُ رضي الله عنهم النبيَّ صلّى الله عليه وآله وسلّم عن صلاةِ مَن مات وأيضًا عن صلاتهم السابقة التي فعلوها باتّجاه بَيت المَقدِس .

فأنزل الله عزّ وجلّ { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } :

  { إِيمَانَكُمْ } هُنا يعني الصلاة . وسُمِّيت الصلاة بِالإيمان مِن باب الردّ على المُرجِئة الذين يقولون ( إنّ العمل ليس مِن الإيمان )

 { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ }  وأيضًا وُصِفَت الصلاة بأنّها إيمان مِن باب بَيان أنّ الصلاة تزيد الإيمان .

ولذلك لو دخل فيها الإنسان بخشوع زادَته بإذن الله عزّ وجلّ إِيمَانًا غير الإيمان الذي دخل به .

ولذلك قال عزّ وجلّ :

{ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ }

 

{ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } هو رؤوف بالناس ورؤوف بِكُم أيّها المؤمنون فيما فعلتم مِن صلاةٍ سابقة

{ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } اسمان مِن أسمائه عزّ وجلّ .

( الرؤوف والرّحيم ) الرؤوف يتضمّن صفة الرأفة ، والرّحيم صفة الرحمة

قال العلماء : والرأفة أخَصّ مِن الرحمة .

{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ } هذه الآية هي أسبَق مِن الآيات السابقة ، لأنّه لَمّا وَجَّهَهُ عزّ وجلّ إلى الكعبة . ما السبب ؟

السبب أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يَطمح ويُؤَمِّل أن يُوَجَّه إلى الكعبة لأنّها قِبلة إبراهيم عليه السلام .

فقال الله عزّ وجلّ :

{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ } وهذا أسلوب يأتي في القرآن .

قد يكون السبب مُؤَخَّرًا مِن باب أنّ القارئ يقول : ما سبب هذه الآية ؟ ما الذي أتى بها ؟ { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ } فيكون الذِّهنُ حاضِرًا .

  كما مَرَّ معنا  :

{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً }

قد يقول قائل : ما السبب في ذبح هذه البقرة ؟

ما بَعدَها :

{ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ }

 

{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ } :

 أنتَ – يا محمّد – { قَدْ نَرَى } { قَدْ } هُنا ، للتحقيق ، فهو عزّ وجلّ يَراه ، وليست هنا لِلتقليل أو لِلتقريب . لا ، { قَدْ } هُنا لِلتحقيق .

كَقوله عزّ وجلّ :

{ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ }

  يعني عِلْمُه عزّ وجلّ مُحيطٌ بِهؤلاء

{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ }: التَّقَلُّب يكون بِالعيْنَيْن ، لَكِنَّه  ذَكَرَ الوَجْه ، لأنّ الوجه شريف ، وبَيان أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كان مُتَوَجِّهًا إلى ربِّه عزّ وجلّ مِن أجْل أن يُوَجَّه إلى الكعبة ، ثُمَّ هو صلّى الله عليه وآله وسلّم لَمْ يطلب مِن الله عزّ وجلّ ذلك ، وإنّما مِن باب الفِعل

{  قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا }  وهذا يدلّ على ماذا ؟

  يدلّ على أنّ للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مَنزلةً ومكانةً عند ربِّه عزّ وجلّ وليس كما زَعَمتُم أيّها اليهود مِن أنّ لَكُم مكانة ، ولذلك وَجَّهَه عزّ وجلّ إلى ما يُحِبُّه مِن هذه القِبلة وهي الكعبة

{ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } لَمْ يَقُل ( تَهواها )، لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إنّما أراد أن يَتَوَجَّه إلى الكعبة مِن أجْل أنّها قِبلةُ إبراهيم عليه السلام

{ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } 

{ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ } : يعني نحو { الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } هذا لِــمَـنْ كان بعيدًا عنها ، ولذلك قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كما ثَبَتَ عنه ( ما بَينَ المَشرقِ والمَغربِ قِبلة )

لكن مَن كان قريبًا مِن الكعبة فإنّه يتعيّن عليه أن يُصيب عَيْنَها ، أمّا إذا كان بعيدًا فإنّه يُصيبُ جِهَتَها

{ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ } :

أتى بِصيغة الجَمع ، لِجميع الأمّة ، مِن باب أنّ الأُمّة يَشمَلُها هذا الحُكم

{ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } أي جِهة المسجد الحرام

{ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } هؤلاء { لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } يَعرفون في التوراة وفي الإنجيل أنّ محمّدًا صلّى الله عليه وآله وسلّم سَيَتَوَجّه إلى بيت المَقدِس ثُمَّ يَتَوَجَّه بِأمرٍ مِن الله عزّ وجلّ إلى الكعبة

{ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } مُحيطٌ بِعَمَلِهم ، فهؤلاء كَتَموا الحقّ وعانَدوا الحقّ الذي عَرَفوه وبُيِّنَ لَهُم في كُتُبِهم

ثُمَّ قال عزّ وجلّ : { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } هذا فيه قَطْعٌ لِطمع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّ هؤلاء يَتّبعونه ؛ وذلك لِما في قلوبهم مِن الزَّيغ والضَّلال والكُفر

{ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ } علامة واضِحة على صِدقِك { مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ } { وَمَا أَنتَ } تزكِيَة لِلنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم { وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } لأنّهم أَهْلُ ضَلال وطُغيان وكُفر

{ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ } لا اليهود تَتَّبِع قِبلة النصارى ، ولا العكس ؛ وذلك لأنّهم مِن حيث الأصل كَفَّرَ بعضُهم بعضًا كما مَرَّ معنا { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ }

 وَهُمْ يَأتَلِفون إذا كان العَدُوّ بالنسبة إليهم هو الإسلام ، لكنّهم فيما بينهم في خِصام وشِجار . وَلَكِنْ إذا كان العَدُوّ بالنسبة إليهم هو الإسلام اجتَمَعوا .

 ولذلك قال عزّ وجلّ :

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ }

{ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم } ما هُم عليه هوى ليس بِحَقّ وإنّما هو { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم } ومَرَّ معَنا أنّ مِثْل هذا الخِطاب لِلنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم المقصود غَيرُه ، وذلك بِاعتِبار أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا كان يُخاطَب بهذا الخِطاب وحاشاه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يَتَّبِع هؤلاء . إِذًا غَيرُه لَو اتَّبَعَهم مِن بابِ أَوْلى

   ▪{ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ }

دلّ هذا على أنّ ما لَدَيك هو الْعِلْمِ ، وما لَدَيْهِمْ هو الجَهل .

ولِذلك مَن قَدَّمَ هَواهُ على الْعِلْمِ الذي معه فَفِيه شَبَهٌ بِمَن ؟  بِهؤلاء اليهود

{ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } فما معك هو الْعِلْم الذي هو شَرَف . وهذه الآية تَختلف عن الآية السابقة وهي :

  • { وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم }
  • { .. بَعْدَ } بدونِ أن تُسبَقَ بـِ ( مِن )
  • { بَعْدَ الَّذِي } : صرّح بِـ { الَّذِي }

 

 

▪وَهُــنــا بـِ { مَا } المَوصُوليّة : { مِّن بَعْدِ مَا }

  • { بَعْدَ الَّذِي } : التصريح بِاسم الموصول هنا الواضح ( الذي ) مِن باب : أنّه نُهِيَ عن اتِّباع المِلّة ( عن أصل مِلّتهم ).

▪ والقِبلة جُزءٌ مِن دِينهم ، فقال هُنا { مِّن بَعْدِ } مِن باب : أنّ هذا جُزءٌ مِن دينهم { مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ }

فَلعلّ هذا هو الفرق بين هذه الآية وبين تلك الآية

{ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ }

{ إِنَّكَ إِذًا } يعني إنِ اتَّبَعْتَ هؤلاء { لَّمِنَ الظَّالِمِينَ }  إِذًا اتّباع هؤلاء ظُلْم

{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } :

 يعرفون النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ويعرفون صِفَته ، لَكِنْ المُوفّق مَنْ وفّقه الله

 

{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ }:

 وهل يَجْهل الإنسان ابنه ؟  لا ؛ لأنّه يراه . وصرّح أو خصّ الأبناء هُنا، باعتِبار أنّهم دائمًا مع الآباء دُونَ البنات ، وَلَمْ يَقُل كما يَعرِفون أنفُسَهم ؛ وذلك لأنّ الإنسان قد يجهل نفسه في بعض الأحيان ، لكنّ الابن أمامه دائمًا

{ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } :  ولذلك عبدالله بن سلام يقول : لمّا أتى إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم عرَفتُه مِن حِين ما رأيتُه . لَكِنَّ الموفّق مَن وفّقه الله

ولذلك قال بعدها  :

{ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ }

ما هو الحقّ الذي كَتَموه ؟

صِــفَـــةُ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وأنّه نبيٌّ

{ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } : يعلمون صِفته ، ويعلمون مغبّة مَن أنكرَ وكتمَ ما جاء به الله عزّ وجلّ

{ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } :

{ الْحَقُّ } : خبر لِمُبتدأ محذوف ( هذا الحقّ ) أو فاعل ( جاءك الحقّ ) 

{ مِن رَّبِّكَ }  فما أنتَ عليه حقّ ، وَمِمَّن ؟ { مِن رَّبِّكَ }

 

{ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } :

أي مِـنَ الشاكّين . أي مِن الشاكّين . وَلَمْ يَقُل فلا تَمْتَري ؛ لكي يشمل أنّ هذا نوع مِن نوع أهل الشكّ { فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } هو لم يمتري صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وَلَمْ يَشُّكّ .

{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } :

{ وَلِكُلٍّ } :

أي لِــــكُـــلِّ أهــلِ مِـلَّـة { وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } وَتِلْك الوِجهة كما قال عزّ وجلّ  :

{ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ  }

 وكما سيأتي في قوله عزّ وجلّ :

{ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا  وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا  وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }

 

{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } :

أي سيتوجّه إليها ، لكنّ العِبرة ، والشيء الذي يُـرضـي الله عزّ وجلّ

{ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ }:

 هذا هو المُتعيِّن على أهل المِلَل ( فَلِكلٍّ وجهة ) سيتوجّه إليها

{ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ }

 { أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا } :

 { أَيْنَ مَا } :

{ أَيْنَ } اسم شرط { تَكُونُوا } فِعلُها ، حُذِفَ حرف النُّون ؛ لأنّه مِن الأفعال الخمسة { يَأْتِ بِكُمُ }  الجواب { يَأْتِ } لَمْ يأتِ [ بالياء ] لأنّه مجزوم باعتِبار أنّه جواب الشرط

{ أَيْنَ مَا تَكُونُوا } : أي أنتم وأصحاب هؤلاء المِلَل يأتي بكم الله جميعًا للحِساب والجَزاء

{ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } :

 قديرٌ عزّ وجلّ على كلّ شيء ، ومِن ذلك أن يجمعكم ، وَلَوْ افْتَرقْتم في البلدان ، وما شابه ذلك مِن هذا التَّفَرُّق ، فإنّ الله عزّ وجلّ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

 

{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } :

كُرِّرَت هذه الآية ثلاث مرّات

{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ }

فالأولى :

{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ }

يعني إذا كُنتَ في مكّة .

ثُمَّ قال بعدها :

{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ  وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }

إذا كُنتَ في البلدان الأخرى خارج مكّة

والثالثة :

 إذا خرجتَ لِسفر ، يعني خارج البُلدان . وهذا أولى وأظهر مِن قَوْل مَن يقول : أنّ الأولى إذا كُنتَ عند الكعبة ، والثانية إذا كُنتَ في مكّة بعيدًا عن الكعبة ، والثالثة إذا كُنتَ في سفر

 

وأولى مِن قَوْل مَن يقول : أتَتْ هذه الآيات الثلاث مِن باب التأكيد ، وذلك لأنّ أوّل ما نُسِخَ في الإسلام كما قال ابن عبّاس رضي الله عنهما أَمْــر القِبلة، فجاء التأكيد .

لكنّ الْقَوْل الأوّل هو الأظهر

 { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ } : أي في أيّ بلدٍ

 { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۖ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } :

لا تظنّ أن ما ارتضيتَه يا محمّد أنّه ليس بحقّ ، بل ما كُنتَ تصنعه

{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ }

 فأنتَ ترضاها ، وما ترضاه فهو الحقّ :

{ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } لِكمالِ عِلْمِه وإحاطته عزّ وجلّ

 { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ }: أي لِسَفر [ كما رجَّحنا ]

 { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ }: يعني حَتَّىٰ في السفر تتوجّه للكعبة

{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ } خِطاب لجميع الأُمّة { وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ }

 لِمَ أُمِرتم بالتوجّه للكعبة ؟

 

{ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ }:

 ما يكون لهؤلاء الناس حُـجَّــة وسلطان عليكم ؛ لأنّ اليهود سيقولون لو بقيتم على اتّجاه بيت المَقدِس ، سيقولون إنّ في كُتُبنا أنّه سيتوجّه إلى الكعبة، وكفّار قريش، لو بقيتم على بيت المَقدِس لقالوا كيف يزعم مِن أنّه على مِلَّة إبراهيم ، وينصرف عن قِبلة إبراهيم

{ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } :

{ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا } :

 أهل عِناد ، فهؤلاء ليس لك عليهم سبيل ، والآية تفرّع المفسِّرون فيها في تفسير { إِلَّا } وما شابه ذلك . لكنّ هذا التفسير هو الأوضح والأيسر ، والذي يدلّ عليه سِياق الآيات.

{ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ } :

لَوْ قالوا ما قالوا مِن الكلام ، وهذا يدلّ على أنّ المسلم وصاحب السنّة وصاحب الخير لا يلتفت إلى ما يُقال عنه مِن التشكيك في الدِّين أو مِن أنّه يُنْبَذ بالألقاب { فَلَا تَخْشَوْهُمْ }

ثُمَّ قال :{ وَاخْشَوْنِي } يعني الخشية إنّما تكون لله عزّ وجلّ ؛ لأنّ مَن خَشِي الله فَهُوَ العالِم :

{ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }

{ وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي } :

هذا أمر آخر ، أُمِرتم بالتوجّه إلى الكعبة { وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } فَنِعم الله تامّة عليكم . ومِن ذلك أنّه وجّهكم إلى الكعبة

{ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } :

 أي هذا التوجُّه هِداية لكم ، لكي تهتدوا . هذا يدلّ على ماذا ؟

يدلّ على أنّ العمل الصالح وفعل الخير الذي أمر الله به عزّ وجلّ هداية للإنسان .

وقال :{ لَعَلَّكُمْ } ومرّ بِنَا هذا مِرارًا ، يقول { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} مِن باب الرّجاء ، يعني إن فعلتم ذلك سيتحقّق لكم ذلك ، لَكِنْ كونوا على رجاء مِن الله عزّ وجلّ ولا تغترّوا بأفعالكم ولا بِعبادتكم ولا بِعملكم

 

{ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } :

نعم ، هداهم الله عزّ وجلّ ؛ لأنّ هؤلاء افْتَرقوا في أمر القَبلة ، ومع ذلك هدى الله عزّ وجلّ هذه الأمّة إلى الكعبة ، كما هداهم إلى يوم الجمعة ، كما أخبر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في الأحاديث الصحيحة مِن أنّ الله عزّ وجلّ أضلّ مَن كان قبلكم عن هذا اليوم ، وهداكم الله عزّ وجلّ إِلَيْهِ

{ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا } :

 { كَمَا } لها مَرجعِيّة { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا } بعضهم قال الذي بعدها

{ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا }  فهذه نعمة { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ } لكنّ الأظهر أنّ { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ } مُتعلِّق بِما قَبْلَه ، يعني كما أتمَمْنا عليكم نعمتَنا بإرسال هذا الرسول أتمَمنا نعمتَنا عليكم بالتوجّه إلى الكعبة . فهناك مِنّة ونعمة مِن الله عزّ وجلّ سابقة قبْل التوجُّه إلى الكعبة . ما هي ؟

أنّ محمّدًا صلّى الله عليه وآله وسلّم أُرسل فيكم { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ }

{ فِيكِمْ } مِن باب ماذا ؟ مِن باب أنّ هذا مِن النِّعَم :

{ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ }

 { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } :

وَلَمْ يَقُل ( إِلَىٰ )

كما في قوله تعالى { إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ } لَمْ يَقُل ( فِيكم ) { إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا } لأنّ هذه الآية في سِياق التهديد والوعيد إِذا لَمْ يستجيبوا للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم

أمّا هُنا مِن باب تِعداد النِّعَم :

{ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا }

أي يقرأ عليكم آيَاتِنَا

{ وَيُزَكِّيكُمْ } أي يطهّركم بما أنزل الله عزّ وجلّ عليكم مِن هذه الآيات التي تُتلى عليكم

{ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } :

 { الْكِتَابَ } القرآن { الْحِكْمَةَ } السنّة ، إذا اجتمعا ، كما مرّ بِنَا مُفصّلًا في قوله عزّ وجلّ :

{ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }

 وَلَكِنْ لَوْ قال قائل :

 لماذا اختلف السِّياق هُنا . قال هُنا ذاكَرًا التلاوة ثُمَّ التزكية ثُمَّ تعليم الْكِتَاب والحِكمة . هُناك  :

 { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ }

 لأنّ بِداية الشيء مِن حيث الأصل القراءة ثُمَّ التعلُّم { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } ثُمَّ التزكية ، باعتبار أنّ الدّاعي مَن ؟ إبراهيم عليه السلام قبل أن يوجد مَن ؟ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم .

 أمّا هُنا وُجِد وبُعِث فيهم . فهُنا دلّ على فضل أتباع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم . وفضل الصحابة رضي الله عنهم . فإنّه بِمُجرّد ما تَلا عليهم الآيات تَزَكّوا . أصبحوا في زكاة

 ولعلّ قول بعض الصحابة رضي الله عنهم كما ثبت قالوا  ( تَعلّمنا الإيمان قبل الْعِلْمِ ) ( تَعلّمنا الإيمان قبل الْعِلْمِ ) يعني هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم لمّا سمعوا القرآن والسنّة مِن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، صار في قلوبهم الإيمان ، وهو ما يكون مِن تعظيم الله عزّ وجلّ وتوحيده . وإذا عَظُمَ الإيمان والتوحيد في القلب ازداد الإنسانُ عِلْمًا ثُمَّ عَمَلًا .

ولعلّ هذا السِّياق في هذه الآية يدلّ على ما ذكروه رضي الله عنهم

{ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } :

 بعدها { وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } أتى بالفعل مرّة أخرى

{ وَيُعَلِّمُكُم } حَتَّىٰ لا يُظنّ أنّ هذا التعليم راجِع إلى تعليم الكتاب والحكمة ، لا . لأنّ تعليم الكتاب والحكمة أمر آخر { وَيُعَلِّمُكُم } هذه فضيلة أخرى

{ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ }

{ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } :

 هذه النِّعَم تَستَوجِب منكم أن تذكروا الله { وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ } وأن تشكروا الله { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ }

{ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } ولذلك يبيّن هذا ما جاء في الحديث القُدسيّ مِن أنّ الله عزّ وجلّ قال ( مَن ذكَرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومَن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير مِن ملَئِه { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } والجزاء مِن جِنس العمل  { وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ } الشكر لا يكون إلّا لله عزّ وجلّ . وَلـَمَّا أَمَـرَ بالشكر نهى عن نقيض الشكر . ما نقيض الشكر ؟ الكُفر

{ وَلَا تَكْفُرُونِ }

ويدخل في هذه الآية كما قال بعض العلماء أيضًا الكفر الأكبر .

فَنُهِيَ المسلم عن كُفر النِّعمة وعن الكُفر بالله عزّ وجلّ :

{ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ }

 { اشْكُرُوا لِي }:

 يجب أن يكون الشكر خالِصًا لله عزّ وجلّ . ويجوز أن يُشكر المَخلوق ، لَكِنْ يُشكر شكرًا نِسبيًّا .

ولذلك :

قال عزّ وجلّ :

{ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ }

 يعني اشكر أيضًا لوالديك ، لكنّه شكر نسبيّ ، لكنّ الشكر المُطلق الكامل الذي يستحقّه هو الله عزّ وجلّ .

ولذلك قال صلّى الله عليه وآله وسلّم كما يبت عنه ( مَن لا يشكر الناس لا يشكر الله )

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ }:

 أُمِر هُنا المؤمن بأن يستعين بالصبر وبالصلاة فإنّه لمّا ذَكَرَ الشكر

{ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ } لأنّ النعم السابقة نعم عظيمة تستوجب الشكر لله عزّ وجلّ

 

ومِن ثَمَّ فإنّ الإنسان إمّا أن يكون في نعمة فواجبٌ عليه أن يشكر ، وإمَّا أن يكون في  محنة فواجبٌ عليه أن يصبر .

 ولذا :

ذَكَرَ الصبر { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا } على تحمّل المشاق والمتاعب والآلام في هذه الدنيا ، وأيضًا على تحمّل ما أُمرتم به مِن العبادات استعينوا بالصبر وبالصلاة عليها :

{ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ  إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }

وَهُــنــا فيه تسلية وفيه حثٌّ لِــمَـنْ وقعَ فما لا يُلائمه أو وقعت به مصيبة أن يستحضر مِن أنّ الله عزّ وجلّ يعينه وهو معه ، وهذه مَنقبة للصابرين . فَــمَـــنْ وقع في كربة أو في ألم ، عليه أن يُطفِئ حرارة ذلكم الألم بالصبر ؛ لأنّ الله عزّ وجلّ معه .

 ومَن كان الله معه فَلَن يحزن { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }

ومعيّة الله عزّ وجلّ نوعان :

إمّا معيّة عامّة :

 لجميع الخَلْق ، يحيط بهم ويعلم بهم ويدبّر أمورَهم قال تعالى :

{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

وهُناك معيّة خاصّة :

بأهل الخير وبأهل الإيمان كَحال هؤلاء الصابرين يؤيِّدهم وينصرهم ويوفّقهم ويثبّتهم { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }

  وهذه الآية تختلف عن الآية السابقة ، لأنّ تِلك الآية السابقة في سِياق اليهود { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ }

 لَكِنْ هُنا قال :

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ  إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }

 في سِياق مَن ؟

  في سِياق بَيان النِّعَم التي على أُمَّة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وصحابته رضي الله عنهم مِن أصبَر الناس ، ولذلك قال بعدها

{ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }

{ وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } :

 لمّا كان أعظم المصائب الموت ، لأنّ الموت مُصِيبَة قال تعالى :

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ  تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الْآثِمِينَ }

فالموت مُصِيبَة

وَلـَمَّا كان الموت مِن أعظم المصائب ذكره هُنا

{ وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } :

{ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }:

 أي في الجِهاد لإعلاء كلمة الله ، كما قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كما ثبت عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم ( مَن قاتل لِتَكُونَ كلمة الله هي العُليا فهو في سبيل الله .

{ وَلَا تَقُولُوا }:

 نُهِيَ هؤلاء المؤمنون عن قَوْل هذا الْقَوْل :

{ وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ } يعني هُم أموات 

{ بَلْ أَحْيَاءٌ } يعني بَلْ هُم أحياء ، حياتهم لا نعرف كيفيّتها . وَلَكِنْ جاء في الأحاديث مِن أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال ( أرواح الشهداء في أجواف طير ، تسرح في الجنّة ) لأنّ أرواحهم لمّا افْتَقَدت الأجساد عوّضهم الله عزّ وجلّ بِحَواصل مِن الطَّير .

كما أنّ المؤمن الذي لَمْ يُقتل شهيدًا روحه كما ثبتَ بذلك الأحاديث ( نَسمة المؤمن في طير ، – الشهداء في حَواصِل طيْر- في طير تأكل مِن الجنّة ) لَكِنْ كيفيّة ذلك الله أَعْلَمُ به .

 ولذلك ماذا قال بعدها { وَلَكِن  تَشْعُرُونَ } بِحقيقة حياة هؤلاء الشهداء

 

{ وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ } : ولَنَخْتَبِرَنَّكم بِشيء ، ليس الكلّ ، وإنّما بشيء . فالمصيبة ما نزلت على المسلم لِتُهلِكَه وإنّما نزلت لِتَمتَحِنَ صَبرَه . لَكِنْ هُنا قال { بِشَيْءٍ } لأنّه لو أرادَ الإهلاك لكانَ كما قال عزّ وجلّ عن تلك القرية {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ }

 هُنا { وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ } خَوْف يَنْتابُكم ، خوف على أمْنِكم ، خوف على أرزاقكم ، خوف على أولادكم وما شابه ذلك ، لكنّه قليل

{ وَالْجُوعِ } بِشيء مِن الجوع الذي يحصلُ لكم

{ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ } ابتلاء واختِبار أن تنقص الأموال بحيث ينقص مِن رأس مال التجارة أو تنقص الأرباح أو تكون الأموال هِيَ هِيَ وَلَكِنْ تقلّ قيمتها الشرائيّة . هذا ابتلاء وامتحان مِن الله عزّ وجلّ .

وليس هناك شدّة دائمة ولا عسر دائم ، لا { إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا }

{ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا }

{ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ } :

 نقص بالأنفس مِن حيث مَوْتِ بعض الأقرباء ، مِن حيث المرض . كلّ ذلك مُقدَّر ومكتوب . فَــمَـــنْ صَبَر فله الأجر ، ومَن جزَع فاته الأجر وحلّ عليه العقاب .

ولذلك قال تعالى :

{ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }

 بِمَا أنّها كُتِبَت :

{ لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ  وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ }

{ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ }:

 تنقُص الثمرات . نقصان الثمرات أن تأتي عليها جائحة أو آفة سماويّة مِن جَرادٍ أو مطر وما شابه ذلك . أو أنّ الأشجار لا تُثمِر كما تُثمِر في السابق

 

{ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ }:

  { بَشِّرِ الصَّابِرِينَ } والبِشارة سُمِّيت بهذا الاسم ؛ لأنّ الإنسان إذا بُشِّر بخير تظهر الآثار على بَشرته { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } لمّا ذكر الابتلاء قال

{ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } وأعظَم هذه مِن بِشارة ؛ لأنّ الله عزّ وجلّ بشّر هؤلاء الصابرين مَن هُم ؟

{ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ } :

قال مصيبةٌ هُنا ، صرّح بها ؛ لَتَعُمّ أي مُصِيبَة ، ليست مُصِيبَة الموت فقط ، لا . أُصيب الإنسان في مالِه في أولاده ، في شيء مِن جسده ( عام )

{ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ } قَولهم ؟ هل قولهم ياويلاه ويا ثبوراه وما شابه ذلك ؟ لا

{ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ }:

 أي نَحْنُ مُلْك لله يتصرّف فينا بما يشاء وكيفما يشاء . فنحنُ مُلك لله عزّ وجلّ . نَحْنُ وما نملكه لله عزّ وجلّ . وهذا يجعل الإنسان في راحة

{ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } فالمصير والمرجع لله عزّ وجلّ .

  لأنّ ما ذهب منّا لن يكون معنا في يوم القيامة :

{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ }

 الثواب ؟

 { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ } :

 { أُولَئِكَ } أشار  إليهم  بإشارة البُعد ، لأنّ مِثْل هذه لا يُوفِّق إليها إلّا مَن وفّقه الله عزّ وجلّ كما قال تعالى :

{ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }

ولذلك :

قال صلّى الله عليه وآله وسلّم كما في الصحيحين :

( الصبر عند الصدمة الأولى ) عند حرارة الألم هذا هو الصبر المُعتَبر والذي يُثاب صاحبه .

وإلّا بعد أيّام فَإنَّك كما قال السلف ( إن صبرتَ وإلّا سَلَوت كما تسلوا البهائم )

{ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ } :

 الثواب صلوات ، لَمْ يَقُل صلاة { صَلَوَاتٌ } و( الصلاة ) الأصحّ والأظهر أنّها ثناءٌ مِن الله عزّ وجلّ

{ صَلَوَاتٌ } ممّن ؟ { مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ }

{ صَلَوَاتٌ } ثناء { وَرَحْمَةٌ } ورحمة الله عزّ وجلّ مِن آثارِهَا أنّه يحصل لكَ الخير ويندفع عنك الشرّ مع تلك الصلوات التي هي ثناؤه عزّ وجلّ عليكَ في الملأ الأعلى . فالصلاة بمعنى الثناء . وهذا أصحّ مِن قَوْل مَن يقول : أنّ الصلاة هي الرحمة . لأنّ الرحمة ذُكِرَت ، فدلّ على العَطف ، مِن أنّ هذه تُغاير ، يعني الصلاة تُغاير الرحمة

 { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } :

هُدُوا إلى أن يصبروا حَتَّىٰ ينالوا هذا الثواب ، وهُدُوا إلى الإيمان ، لأنّ مَن صَبَرَ زادَ إيمانُه . ولذلك في الآية التي قبلها :

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} صدّرها بِنِداء أهل الإيمان ، لأنّ مَن يصبِر هُـمْ أهل الإيمان ، ومَن يصبر يزيده هذا الصبر إِيمَانًا

 { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } :

قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه كما عند البخاريّ قال ( نِعْمَ العِدلان وَنِعْمَ العِلاوة ) نِعْمَ العِدلان : يعني الثواب . ما هُـمـا ؟

عند هذه الآية قال ( نِعْمَ العِدلان وَنِعْمَ العِلاوة ) نِعْمَ العِدلان : الثواب

{ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } وزادهم ، وهي العِلاوة { وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ }

 { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ } :

ذكر الصفا والمروة هُنا لَعَلَّه مِن باب أنّ الحديث لمّا كان عن التوجُّه إلى الكعبة التي في المسجد الحرام كان هُناك أمرٌ قد التبسَ وهو ما يتعلَّق بالطَّواف بينَ الصفا والمروة ، وذلك لأنّ الصحابة رضي الله عنهم لمّا أَتَوا إلى مكّة لِكَي يطوفوا بَيْن الصفا والمروة تحرّجوا ؛ لأنّه كان الصفا صنم وعلى المروة صنم ، وكانوا يطوفون لهما ، فتحرّجوا مِن ذلك . فقال الله عزّ وجلّ { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ } وهما جَبلان { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ } مِن أعلام دِين الله عزّ وجلّ ، وليسَت مِن شِعار الكُفر .

 فَكَونُكم تَتَحرّجون مِن الطواف بَيْن الصفا أو السَّعي بين الصفا والمروة مِن أجل أنّها شعائر للكفّار فقال الله عزّ وجلّ :{ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ } أي فلا إثمَ عليه { أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } ودلّ هذا على أنّ السعيَ بَيْن الصفا والمروة يُطلق عليه طواف { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } ودلّ هذا على وجوب السَّعي . وهل هو رُكن أم أنّه واجِب يُجبَر بِدَم ، أم أنّه سنّة .

خِلافٌ بَيْن أهل الْعِلْمِ .

والصواب :

أنّه رمنٌ مِن أركان الحجّ ، لقول عائشة رضي الله عنها قالت ( فما أتمّ الله حجّ مَن لَمْ يَطف بَيْنَهما ) وقول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كما ثبتَ عنه ( إنّ الله كَتَبَ عليكم السَّعيَ فاسعَوا )

 { فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } :

ولذلك :

عُروة رضي الله عنه لمّا قال لعائشة رضي الله عنها وهي خالته . قال لها : إِذًا لا إثمَ على مَن تَرَكَها . فقالت رضي الله عنها : بِئْسَ ما فَهِمتَ . لو كان كما زَعَمتَ مَن لَمْ يَطف بينهما ، مِن أنّه لا إثمَ عليه إذا تركَ ذلك في حجّ أو عُمرة لقالَ ( فلا جُنَاح عليه ألّا يطوّف بِهِمَا )

 { وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا } :

 { وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا } :

أي أيّ خيرٍ ، خير في سِياق الشرط  فتعمّ أيّ خير ، وليس المقصود كما ذهب إلى ذلك مَن ذهبَ مِن أنّه يُتطوّع بين الصفا والمروة بالطواف . لا ، مَن أرادَ أن يَتَطوّع طوافًا فَحولَ الكعبة .

 أمّا الصفا والمروة . فلا . إلّا إذا كان في حجّ أو عُمْرَة فيكون مِن ضِمْن أركان الحجّ والعمرة .

 

لَكِنْ يَتَطوّع الإنسان سَعيًا بين الصفا والمروة . فَـلَـيْـسَ في هذا دليلٌ على ما ذَهَبوا إِلَيْهِ ؛ لأنّه قال : { وَمَن تَطَوَّعَ } وَلَمْ يَقُل ( فَـمَنْ تطوّع ) ولذلك كما سيأتي في آيات الصِّيام :

{ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }

 { فَمَن تَطَوَّعَ } ذَكَرَ ( الفاء ) { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ } يعني مَن تطوّع وزادَ في الإطعام خَيْرٌ له . 

  لكن هُنا قال :

{ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } قال { فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } لَمْ يَذْكُرْ ثوابَه . فدلّ هذا على أنّ ذِكْر اسم الله عزّ وجلّ بعدَ الحُكْم يدلّ على أنّ الحُكْم مُترتِّب على أسمائه عزّ وجلّ .

  يدلّ هذا على أنّ ثواب العمل الصالح قد لا يُذْكَر ، وإنّما يدلّ عليه اسم مِن أسمائه عزّ وجلّ . ولذلك ماذا قال ؟ { وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا } الجواب ؟ ذَكَرَ اسمَين { فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } فَمِنْ أسمائه : شَاكِر و عليم { فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ }

ومِن شُكر الله عزّ وجلّ مِن أنّه يُثيب العَبْدَ الأجرَ الكبيرَ على الـعـمـلِ القليلِ . ولذلك ثبتَ عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : لنّ رجلًا أزاحَ غُصْنَ شوْكٍ مِن الطريق فَشكَر الله عزّ وجلّ له . وفي رواية : فأدخله الجنّة  { فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ }

 فَهُوَ شَاكِرٌ عزّ وجلّ ، بِمَعْنَىٰ أنّه عزّ وجلّ يُثيب على العمل القليل يُثيب عبده على ذلك بأجورٍ عظيمة

 { فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } عالِمٌ ومُطّلعٌ ما يعمله العِباد ويُثيبهم عزّ وجلّ .

 

{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى } :

{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ } :

هذه الآية في سِياق أهل الْكِتَاب ويَدخُل فيها علماء هذه الأُمّة إذا كَتَموا دِين الله عزّ وجلّ { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ } أتى بِصيغة الفعل المضارِع الذي يدلّ على الاستِمرار . استِمرار كِتمانهم للعِلم الشرعيّ

{ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا } :

 وهذا فيه تَعدِّي على شرع الله عزّ وجلّ ، إذ أن الله عزّ وجلّ أنزل هذا الكتاب { يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى }

 { مِنَ الْبَيِّنَاتِ } :

 أي الدلائل الواضحات والبراهين الساطِعة { وَالْهُدَى } الْهُدَى في شرع الله عزّ وجلّ .

 فَتَضمّن الدِّين أنّه دلائل وبراهين ، وهو هُدًى لِمَن وفّقه الله عزّ وجلّ ، ولذا قال عزّ وجلّ عن القرآن :

{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ }

{ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ } :

أي وضّحناه { لِلنَّاسِ } اللام : تعليليّة ، أي لأجل الناس . فَاللهُ عزّ وجلّ أنزل الكُتب مِن أجل أن يَهتَدِيَ الناس . فَفِي كِتمان هؤلاء لِهَذَا الْعِلْمِ كما أنّ فيه تعدِّيًا على حقّ الله أيضًا فيه كذلك تعدِّي على حقّ الناس

 { مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ } :

 { فِي الْكِتَابِ } جِنس يَشْمل التوراة والإنجيل والقرآن

 

 { مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ }

يَلعنهم الله عزّ وجلّ ويلعنهم اللاعِنون . واللَّعْن : هُوَ الطَّرد والإبعاد عن رحمة الله عزّ وجلّ . فَــمَـــنْ لَعَنَه الله فقد طردَه مِن رَحمتِه

{ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } :

يعني أنّ اللاعنين يسألون الله عزّ وجلّ أن يَطردَ هؤلاء مِن رحمته

  وهذه الآية في سِياق مَن كتمَ الْعِلْمِ الشرعيّ وَلَمْ يأخذْ عَلَيْهِ عِوَضًا . فكيف إذا أخذَ عليه عِوَضًا وثَمَنًا مِن هذه الدُّنيا

 { أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } :

 في مُقَابِل هذا مَن نَشرَ الْعِلْمِ وبيّنه للناس فإنّه كما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم كما ثبت عنه :

(( معلِّمُ الناس الخير يستغفرُ له كلّ شيء حَتَّى الحِيتان في البحر والنمل في جحورها ))

والجزاء مِن جِنس العمل .

{ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا } :

فهؤلاء مع أنّهم أقْدَموا على أمرٍ عظيم ، وهو كتمان الدِّين إلّا أنّ الله عزّ وجلّ فُتِحَ عليهم باب التوبة ، لكنّ هذه التوبة مُقيّدة بِشروط ليست كَتَوبةِ أيّ شخص قال : { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا } أي أصلحوا فيما يتعلّق بأنفسهم وفيما يتعلّق بِشَرع الله عزّ وجلّ { وَبَيَّنُوا } أي وضّحوا ما كَتَموه .

 

 ولذلك :

هذه الآية في حقّ كلّ مَن دعا إلى كُفر أو دعا إلى بِدعة . فَلَو أنّ إنسانًا دعا إلى أمرٍ كُفرِيّ أو إلى أمرٍ بِدعة ، ثُمَّ قال تُبتُ وَلَمْ يُبيِّن فإنّ تَوبتَه لا تُقبَل ، بل لابدّ كما أنّه دعا فيما مَضى إلى هذا الكُفر أو إلى هذه البِدعة لابدّ أن يصدع وأن يُصرِّحَ بأنّه تَبَرَّأ مِمَّا كان عليه مِن المذهب الكُفريّ أو المذهب البِدعيّ

 { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ } :

 كرّر كلمة ( التوبة ) مِن باب أن يفتحَ لهؤلاء أبواب رحمته إن هُـمْ أقدموا عليه

{ فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } :

وهذان الاسمان يجتمعان كثيرًا ( التوّاب والرحيم ) وسبقَ الحديث عنهما . وهذا يدلّ على ماذا ؟

يدلّ على أنّ مِن رحمة الله عزّ وجلّ بالخَلْق أن شرع لهم التوبة ، يدلّ على أنّ التوبة مِن رحمته عزّ وجلّ .

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ } :

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } :

 وقيّد { وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ } لأنّ مَن كفر بالله عزّ وجلّ ثُمَّ دَخَـلَ في الدِّين وتابَ قَبْلَ أن يموت فإنّه لا يدخلُ في هذه الآية

  قال هُنا :

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ } :

 { أُولَئِكَ } :

أُشير إليهم بالبُعد ؛ لأنّهم بَعُدوا عن الخير وبَعُدوا عن الرحمة والهُدى

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ }:

فالكلّ يلعنهم ، فالله عزّ وجلّ يلعنهم ويلعنهم الملائكة ويلعنهم الناس .

 وَلَوْ قِيل مَن هُمْ على طريقتهم هُمْ مِن الناس ومع ذلك لا يلعنونهم . فالجواب عن هذا : أنّ هؤلاء يلعنون الكفّار ، ويلعنون – وهذا أيضًا قاعدة – يلعنون الظالم ، وَهُمْ مِن بينِ هؤلاء الكفّار . وإذا كانوا كذلك فيدخلون .

  هذا في الدنيا . أيضًا يلعن الإنسانُ نفسَه في الآخرة باعتبار ما ذكره عزّ وجلّ :

{ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ }

{ خَالِدِينَ فِيهَا } :

{ خَالِدِينَ فِيهَا } : أي في النار أو في اللعنة لا تَعارُض بينهما

{ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ } :

لا مِن حيث الزّمن ولا مِن حيث نوع العذاب ولا مِن كَمِيَّة العذاب

{ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ } :

أي لا يُمهلون ، لا لِتَوبة ولا لاعتذار .

ولذلك :

قال عزّ وجلّ : { وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ }

 

{ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } :

جاءت هذه الآية لكي يبيّن أنّ مِن أعظم ما يجب أن يُصدع به وأن يُبيّنَه هؤلاء هو التوحيد . وأنّ على الداعية أن يبدأ أوّل ما يبدأ بنشر التوحيد وإلّا فَدَعْوَتُه لا خيرَ فيها .

{ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } :

أكّد على أنّه إلهٌ واحد ، وأكّد ذلك بقوله { لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } أي لا معبود بحقّ إلّا هُوَ.

ثُمَّ ختمَ الآية بقوله { الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } اسمان . مرّ معنا أنّه إذا اجتمع هذان الاسمان فالرحمن يتضمّن صفة الرحمة الواسعة ، والرحيم يتضمّن صفة الرحمة الواصلة .

وهذه الآية قال عنها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كما ثبت عنه : اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين :

{ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } :

وفي قوله تعالى:

{ الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) }

وقد اختلف العلماء في هذا الاسم الأعظم . اسم الله الأعظم ما هو؟

قال بعض العلماء كابن مَندهْ هو ( الله ) فالله هو اسم الله الأعظم . وذكر أدلّةً في بيان فضل هذا الاسم

 

وقال غيره كابن القيّم رحمه الله اسم الله الأعظم هو ( الحيّ الْقَيُّوم ) لأنّ  ( الحيّ ) يدلّ على صفات الله عزّ وجلّ الذاتيّة ، و( القيّوم ) يدلّ على صفات الله عزّ وجلّ الفعليّة .

  وقال غيره ما جاء في الأحاديث الصحيحة كدَعوَة يونس عليه السلام :

(( لا إله إلّا أنتَ سبحانك إنّي كنتُ مِن الظالمين ، ما دعا بها مسلم إلّا استجاب الله دعاءه ))

 وكذلك ما ورد مِن أحاديث .

  والذي يظهر لي :

 أنّ الاسم الأعظم لله عزّ وجلّ هو كلّ اسم تضمّن الصفات الذاتيّة والفعليّة لله عزّ وجلّ ، أو كان اسمَيْن كالحيّ الْقَيُّوم تضمّن الصفات الذاتيّة والفعليّة لله عزّ وجلّ أو أي دعاء فيه أسماء لله عزّ وجلّ تضمّن هذا الدعاء أسماء ، تلك الأسماء بِمَجموعها تدلّ على صفات الله عزّ وجلّ الذاتيّة والفعليّة.

 وبهذا تجتمع الأدلّة. واسم الله الأعظم يدلّ على ماذا؟

يدلّ على أنّ أسماء الله تَتَفاضَل ، كما بيّن ذلك شيخ الإسلام رحمه الله، وكذلك صفات الله عزّ وجلّ تَتَفاضَل.

ولذلك :

في حديث النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كما ثبت عنه :

( اللَّهُمَّ إنّي أعوذ برضاك مِن سَخَطِك وبِمعافاتك مِن عقوبتك وبِكَ مِنْكَ . لا أُحصي ثناءً عليكَ ..)

وقد بيّنتُ ذلك في شرحي على هذا الحديث بَيانًا واضِحًا مُفصّلًا .

 

{ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } :

هذه الآية . كُفَّار قريش لمّا قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنْسُب لنا ربَّك فذكر صلّى الله عليه وآله وسلّم هذه الآية وقرأ عليهم سورة الإخلاص { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }

{ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } قال

{ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } تعدّدت هذه الأسماء .

والقاعدة في أسماء الله عزّ وجلّ وفي صفاته أنّها إذا أتَتْ في سِياق الإثبات أنّها تُفصَّل كما في أواخِر سورة الحَشر :

{ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ }

 أمّا إذا نُفِيَ عن الله عزّ وجلّ أسماء أو صِفات فإنّه يُجْمِل :

{ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }

 { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ }

{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } :

 لمّا ذَكَرَ أنّ الله عزّ وجلّ هو الإلٰه الواحد وأنّه لا إله إلّا هو ، ذَكَرَ الدّلائل والبراهين التي تدلّ على أنّه يَجِبُ أن يُوَحَّد الله عزّ وجلّ وحدَه وألّا يُشرَك معه أحد

فالدلائل والبراهين على عَظَمَتِه عزّ وجلّ :

{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } :

في خَلْق السماوات ، في ارتفاعِها ، ما زيّنهُ الله عزّ وجلّ بها وفيها من النجوم ، والأرض وما أوْدَع الله عزّ وجلّ فيها مِن الْجِبَال والأنهار والمخلوقات.

{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ }

هذا يأتي بعد هذا ، هذا يقصرُ أحيانًا وذاك يطول ، أحيانًا يستويان

 { وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ } :

{ وَالْفُلْكِ } أي السُّفن { وَالْفُلْكِ } يأتي جَمْعًا ويأتي مُفرَدًا . إذا أُنِّثَ ، يَعني أتى بِأسلوب التأنيث فالمُراد الجَمع كما هُنا

{ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ }

أمّا إذا ذُكِّرَ فالمقصود المُفرد :

{ وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ }

 { وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي } :

علامات ودلائل { تَجْرِي فِي الْبَحْرِ } وهذه السُّفن تجري في البحر بأمر الله عزّ وجلّ :

{ وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ }

فدلّ هذا على أنّ هذه السُّفن تجري بأمر الله عزّ وجلّ ، ولو شاء الله عزّ وجلّ لأهلكها

 

 

{ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ } :

وسَخَّر الله عزّ وجلّ هذا البحر لِكَي تجريَ هذه الفُلك في هذا البحر

{ اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }

{ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ }:

 وهذه تدلّ على العُموم ، ولذلك بعض مَن طَعَن في القرآن قال : إنّ كتابكم فِيهِ مِن أنّه فِيهِ كلّ شيء ، فأينَ التّوابل ؟ فذكر له بعضُ العلماء هذه الآية

{ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ }

{ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ } :

آية وعلامة ودلائل على قدرته عزّ وجلّ إذ أنزل هذا المطر مِن السماء

{ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } :

 { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ }

 

{ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا } :

أي فرّق في هذه الأرض مِن كلّ دَابَّة . لو نظرتَ إلى هذه الأرض وما أوْدَعَهُ الله عزّ وجلّ فيها مِن دَوَابّ مُتنوِّعة مِن حيث الصِّغر من حيث الكِبَر مِن حيث المَشي مِن حيث السكون مِن حيث الذهاب والإياب . تَجِد أنّ هذا يدلّ على وجود الله وعلى عظمة الله عزّ وجلّ

{ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ } :

إذ صرّفَ الرِّياح عزّ وجلّ مَرّةً حارّة ومرّةً بارِدة ومرّةً تأتي بالعذاب ومرّةً تأتي بالرَّحمة ومرّةً جَنوبًا ومرّةً شمالًا ومرّةً شرقًا ومرّةً غربًا .

 { وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ } :

أي المُذلّل { بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } وهذا يدلّ على أنّ المطر ينزلُ مِن السَّحاب ، فإذا قال الله عزّ وجلّ عن هذا المطر مِن أنّه أنزله مِن السماء فالمقصود هو العلوّ ، لأنّ المطر ينزل مِن السَّحاب

ولذلك قال عزّ وجلّ :

{ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ } أي السَّحاب { أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ (69) } 

{ وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا } أي مِن السُّحب .

{ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } :

تِلْك الآيات التي مرّت دلائل { لَآيَاتٍ } وعلامات { لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }

{ يَعْقِلُونَ } فيحضرون عقولهم مِن أنّ مَن دبّر هذه الأشياء وخَلَقها وأجراها إنّما هو الإلٰه الْوَاحِد الذي يستحقّ العُبوديّة وَحْدَهُ عزّ وجلّ

{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } :

أتَت هذه الآية لِيُبيّن أنّه بعدَ تِلْك الدّلائل والبراهين الواضِحة الساطِعة إذا بِقَوْمٍ مِن الناس ينصرفون عن تِلك الدّلائل ويعبدون غير الله عزّ وجلّ ويشركون معه هذه الأنْداد

{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا } :

 أي نُظراء وشُبَهاء مِن الأصنام وما سِوى ذلك { يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } أي يُحِبُّون هذه الأنداد وهذه الأصنام كَحُبِّهم لله { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ }

لِمَ ؟ لأنّ حُـــبَّ أهـلِ الإيمان لله عزّ وجلّ يُحِبُّونه في السَّرَّاء وفي الضَّرَّاء ، أمّا هؤلاء فإنّهم يحبّون الله عزّ وجلّ في الضرّاء فقط لِكَي يُنجِّيهم

{ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ }

{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } :

بعض المفسِّرين يقول : يُحِبّونهم كَحُبّ المؤمنين لله . لكنّ الأوّل هو الأظهر لأنّه قال بعدها { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ }

{ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } :

هؤلاء ظلموا ، وأعظم الظُّلم أن يُشرك مع الله عزّ وجلّ { وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ } أي لأنّ

{ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ }

معنى هذه الآية :

 أنّ هؤلاء الذين صنعوا ما صنعوا لَوْ عَلِموا ما سيرونه مِن العذاب يوم القيامة وسيرون أنّ القوّة كلّها لله عزّ وجلّ يوم القيامة وأنّه شديد العذاب ما اتَّخَذُوا مِن دون الله أندادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ

{ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } :

 فدلّ هذا على أنّهم يَرَوْن العذاب يومَ القيامة ويَرَوْن النار

{ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا }

{ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ } :

 إذ تزول كلّ قوّة ، فالقوّة كلّها لله عزّ وجلّ في الدُّنيا وفي الآخرة

{ إِذْ تَبَرَّأَ } هذا بَيان لِحالِهم { إِذْ تَبَرَّأَ }

 { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا } : يعني الرؤساء مِنْهُم والأشراف { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا } وَهُمْ السَّفَلة مَن يَتْبع هؤلاء الرؤساء . تَبَرَّأ الرؤساء ممّن يتّبِعونهم

{ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ } :

رأى الجميع عذاب الله عزّ وجلّ { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ }

{ الْأَسْبَابُ } يدخلُ فيها كلّ سبب يوصِل إنسان إلى النجاة . انقطعت بِهم الأسباب ، لا شفاعة ، لا صداقة ، ولا مال ، ولا أيّ شيء

{ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ } :

بعض المفسِّرين يقول عن { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ } يعني ( عَـنْ ) والذي يظهر { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ } أنّ حالهم كَحال مَن أمْسَكَ بِحَبْلٍ لِكَي يَتَمَسَّكَ به ، فإذا سقطَ الحبلُ – وهذا السبب -سقطَ معه . فدلّ على أنّ هلاكَهم هلاكٌ مُحَقَّق .

{ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً } أي رَجْعة ، يتمنَّون { لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ } فعل مضارع منصوب بعد الفاء ؛ لأنّه أتى بعد التّمني

{ فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا } أي نتبرّأ مِن هؤلاء الرؤساء كما تبرّؤوا منّا

{ كَذَلِكَ } :

 كما أراهم العذاب { يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ } تِلْك الأعمال الخبيثة الفاسدة تكون حَسَرات عليهم بَلْ يَدْخُل في ذلك أنّهم إذا رأوْا – كما جاءت بذلك الأحاديث – إذا رأوْا أنّ أهل الجنّة يأخذون مقاعدَهم في الجنّة حَصَلَت لَهُمْ الحَسَرات.

{ كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ } :

لأنّ أهل الجنّة يَرِثون مَقاعِد هؤلاء في الجنّة لَوْ أنّ هؤلاء آمنوا وأسلَموا لَوَرِثوا تِلك المَقاعِد ، لَكِنْ لمّا لَمْ يُسلِموا فإنّ أَهْلَ الجنّة يرثونها .

قال عزّ وجلّ:

{ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) }

وأتَت الأحاديث الصحيحة الصريحة بِـذلـك

{ فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } :

 يعني أنّ ذلكم العذاب ليس مؤقّتًا بل إنّهم خالدون في نار جهنّم ، كما قال عزّ وجلّ في آيات مُبيّنًا أنّ هذه النار تبقى أبد الآباد ويبقى فيها أهل الكفر

{ إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } :

العِصيان هُنا عِصيان كُفر يُخرج مِن المِلّة

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا } :

أتَت هذه الآية يُنادي فيها كلّ الناس ، وذلك لأنّ مِن بين الناس الكفّار ، فالكفّار هؤلاء حرّموا طَيِّبَات ما أحلّ الله عزّ وجلّ لهم .

 ولذلك ماذا قال عزّ وجلّ :

{ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ }

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا } :

أمر للإباحة ، وقد يكون للوُجُوب  إذا كان الإنسان مضطرًّا للأكل ، وقد يكون على سبيل الوُجوب إذا كان الإنسان ممتنعًا عن المُباح تعبّدًا لله

{ كُلُوا } :

 { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ } أي ليس مِن البعض وإنّما مِن كلّ نوع أباحه الله عزّ وجلّ لكم

{ حَلَالًا طَيِّبًا } :

ذكر هُنا الحلال وَالطَّيِّب ، وذلك لأنّ الخِطاب موجَّه لِمَن ؟ موجَّه لعموم الناس ، المؤمن والكافر . ولذلك إذا نادى الله عزّ وجلّ كما في الآيات الآتية نادى المؤمنين

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ }

ولم يذكر الحلال .

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا } :

وَالطَّيِّب : الذي طيّب في ذاته ، طيّب إذ حكم الشرع عليه بالطِّيب ، وتستطيبه النفوس . والطَّيِّب يَستَلزِم أنّه مُباح ، لأنّه إذا كان طيّبًا دلّ على أنّه مباح .

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ }

{ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ } :

 أي طُرُق ووسائل { الشَّيْطَانِ } كما غرّ كُفَّار قُرَيش إذ حرَّموا أشياء أباحها الله عزّ وجلّ ، وأباحوا أشياء حرّمها الله عزّ وجلّ .

 ولذلك في سورة الأَنْعَام ماذا قال عزّ وجلّ :

{ وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }

قال هُنا :

{ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }

 هو عدوّ .

ولذلك قال عزّ وجلّ  :

{ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ }

قال هُنا { مُّبِينٌ } مِن ( بان ) يعني وَضُحَ ، فَعَداوَتُه واضِحة وظاهرة وجَلِيّة، ويدخل فيها – خِلافًا لِمَن ردّ ذلك – يدخل فيها أنّ كلمة { مُّبِينٌ } مِن ( أبان ) يعني أنّه أظهر عداوتَه . نعم ، أظهر عداوته لمّا عَادَ آدم عليه السلام

{ إِنَّمَا يَأْمُرُكُم } : مَن ؟ الشيطان

{ يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ } :

 وهو كلّ أمر حرَّمه الله عزّ وجلّ ، وهو الذَّنبُ الصغير { وَالْفَحْشَاءِ } أتى بكلمة ( الفحشاء ) وهو ما عِظُمَ فُحشُه ، يعني مِن الكبائر .

ثمّ قال : { وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } يأمركم بأن تقولوا على الله مالا تعلمون ، ومِن ذلك الشرك بالله عزّ وجلّ ، ومِن ذلك تحريم ما أحلّه الله عزّ وجلّ ، ومِن ذلك ما يفعله بعض الناس مَن الفُتيا في شرع الله عزّ وجلّ بدون عِلم .

 ولذا أتَت مُرتّبة { إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ } ثُمَّ الأعظم { وَالْفَحْشَاءِ } ثُمَّ الأعظم { وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ } :

ما أنزله عزّ وجلّ على نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم مِن الأحكام الحَسَنَةَ

{ قَالُوا } مُتَذَرّعين بِبَقائهم على ما هُمْ عليه { بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا } أي ما وَجَدنا { عَلَيْهِ آبَاءَنَا }

  فدلّ هذا على أنّهم أتّبعوا فيما يفعلونه أتّبعوا آباءهم . فردّ الله عزّ وجلّ

{ أَوَلَوْ كَانَ } همزة الاستفهام أتَت بعد الواو ، وقُلنا إذا أتَت الهمزة بعد الواو فَهُناك جُملة .

 كما مرّ معنا :

{ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } يعني أكفرتم وكلّما عاهدوا

كذلك هُنا { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ } يعني أيتّبعون آباءهم ولو كانوا { لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ }

{ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا } عندهم عَقل – وهو عقل إدراك – لَكِنْ العقل الذي يدعو الإنسان إلى الخَيْر والنَّفع هذا مُنْتِفٍ عن آبائهم

{ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ } أي أيتّبعون آباءهم ولو كانوا { لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ } فَنَفى عنهم الهِداية ، وذلك لأنّ آباءهم لَمْ يأتِهم نذير

 

كما قال عزّ وجلّ { لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ } ولذلك حُجَجُهم :

{ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ } يعني على عقيدة { وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ }

{ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ }

{ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا } هذه صِفة هؤلاء الكفّار

{ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ } كَصِفة { الَّذِي يَنْعِقُ } { يَنْعِقُ } النَّعق هو عِبارة عن زَجر الغَنَم

{ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً }:

 يعني حال هؤلاء لمّا يُدعَون إلى دِين الله عزّ وجلّ كَحال الرّاعي الذي يَرفعُ صَوتَه لِغَنَمِه ، وتِلْك الغَنَم وَتِلْك البَهائم لا تَسمع { إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً } الدّعاء : هو الصوت القريب ، والنِّداء : هو الصوت البعيد .

هذا إن دلّ يدلّ على أنّ هؤلاء لا يفقَهون ولا يفهَمون ، ولذلك قال عزّ وجلّ { كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً } مُجرّد السَّماع . فإذا تُلِيَت عليهم الآيات لَمْ يَنْتِفعوا بها ولذلك ماذا قال ؟

{ صُمٌّ } أي لا يسمعون الحقّ { بُكْمٌ } أي لا يتكلّمون بِالْحَقِّ { عُمْيٌ } فَلا يُبصرون الحقّ { فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } فَلَهُم حواسّ ظاهرة لكنّهم غير مُنْتَفِعين بها، كما قال تعالى :

{ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }

وأيضًا يتضمّن القول الآخر ، وهو أنّ هؤلاء في شأن دُعائهم لأصنامهم أنّهم يدعون أصنامًا ، تِلْك الأصنام حالُها إذ أنّها لا تستجيبُ لهم ، حالُها كَحال مَن يُنادي غَنَمه ، فَهِيَ لا تستجيبُ لهم . قال عزّ وجلّ { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ }

{ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } :

 { صُمٌّ } عن سماع الحقّ { بُكْمٌ } عن النطق به { عُمْيٌ } فلا يُبصِرون الحقّ

{ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } قال هُنا { فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } هؤلاء مَن ؟  الكفّار . حال أهل النِّفاق في أوّل السورة { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } وذلك لأنّ أهل النِّفاق دخلوا في الدِّين ظَاهِرًا ، فإنّهم لا يرجعون إلى هذا الدِّين ، أمّا هؤلاء كُفَّار لَمْ يدخلوا في هذا الدِّين وَلَوْ نِفاقًا فقال عزّ وجلّ  { فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ }

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } نادى المؤمنين { كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } وَلَمْ يَقُل هُنا حلالًا باعتِبار أنّ المؤمن لا يُـقـدِم إلّا على ماكان حلالًا بِخِلاف غيره { كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ممّا رزقكم الله عزّ وجلّ .

وهذا إن دلّ يدلّ على أنّ المسلم لا يجوزُ له أن يُحرِّم ما أباح الله عزّ وجلّ لهُ، وكذلك لا يجوز له أن يمتَنِع عن الحلال تعبُّدًا .

لو ترك الإنسان الطَّيِّبَات مِن أجل حِميَة مُحافظةً على صحَّته مِن غير أن يكون هُناك ضررٌ عليه أو ما شابهَ ذلك مِن الأسباب التي يحتاج إليها ، فلا جُنَاح عليه في ذلك . لَكِنْ أن يمتنِعَ كَحالِ بعض الصوفيّة يمتنعون عن الطعام وعن الحلال تعبّدًا لله ، فهذا كما قال شيخ الإسلام رحمه الله مِن البِدَع .

 ولذلك قال عزّ وجلّ كما في سورة المائدة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}

 { وَاشْكُرُوا لِلَّهِ } اشكروا : أمرهم بالشكر ، وذلك لأنّ هذه النِّعَم تستوجب الشُّكرَ لله عزّ وجلّ

{ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } فمَن كان عابدًا لله عزّ وجلّ حقّ العِبادة فإنّه يشكر الله عزّ وجلّ .

 ولذلك قال عزّ وجلّ :

{ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا }  لأنّ الشكر عملٌ صالحٌ ، وهو يُقرِّب إلى الله ويدلّ على أنّ العَبْدَ مُمتَثِلٌ لأمر الله ولشرع الله عزّ وجلّ .

{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ } لمّا ذكر أنّ الطَّيِّبَات أُحِلَّت لهم بيّن أنّ المحرّم أشياء معدودات ذُكِرَت في هذه الآية ، وذَكَرَت السنّة بعض الأشياء التي حُرِّمت على هذه الأُمّة . كحديث النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم

( نهى عن كلّ ذي نابٍ مِن السِّباع ) وبعض الحيوانات التي بيّنها صلّى الله عليه وآله وسلّم .

{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ } التي ماتَت حَتْفَ أنْفِها وَلَمْ تُذَكَّى الذَّكاة الشرعيّة بِقَطْع الحُلقوم والمَريء والوَدْجَيْن – ماتت بِأيّ وسيلة ، بِخَنقٍ أو بِرَميٍ أو بِصَعقٍ أو ما شابه ذلك .

    والمَيتة هُنا يُستثنى منها مَيتة البحر ، كما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم في الـسُّنَن كما ثبتَ عنه ( الطَّهور ماؤه الحِلّ مَيْتَته ) وكذلك أحلّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم الجَراد ، كما صحّ بذلك الحديثُ عن ابن عمر رضي الله عنهما موقوفًا وله حُكم الرفع ( أُحِلَّت لنا مَيْتَتان وَدَمان ) فَذَكَرَ المَيْتَتين وهما ( الحُوت والجَراد )

{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ } :

الدَّم : والمقصود مِن الدّم ، الدَّم المسفوح وهو الذي يَخرُجُ مِن الحُلقوم والمَريء عند ذبْح الحَيوان المأكول .

   ولذلك قال عزّ وجلّ { قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا } فَقَيّد هُنا

    لَكِنْ الدَّم الذي يبقى في عروق المُذكَّاة فإنّه حلال ، ولا يُعلَمُ خِلاف بَيْنَ أهْل العِلم في جَوازِه . فهو جائز باتّفاق . كما نَقَلَ شيخ الإسلام رحمه الله

     أُحِلَّ مِن الدَّم ما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما ( أُحِلَّت لنا مَيْتَتان وَدَمان ) فَأَمَّا الدَّمان ( فالكَبد والطِّحال )

{ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ } حُرِّم لحم الخنزير . والتنصيص على لحم الخنزير ، لا يعني أنّ ما سِواه مِن أعضائه أنّه يجوز ، بل لأنّ الغالب مِن أنّ الناس يقصدون اللحم ، و لعلّ التنصيص على اللحم أيضًا لِكَي يشمل لحم الخنزير الذي ذُكِّي والذي لَمْ يُذكَّى ، ويدخل في ذلك الشحم . لأنّ بعض العلماء يرى أنّ الشحم داخل في مسمّى اللحم .

    وعلى كلّ حال فالخنزير كلّه بجميع أعضائه محرّم

{ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } أي ما رُفِعَ الصَّوْتُ به لغير الله ، لأنّهم كانوا قديمًا إذا ذَبَحوا لأصنامهم يَرْفَعُون أصواتَهم بأسْماءِ أصنامِهم . فهذا هُوَ معنى الإهلال : وهو رَفْعُ الصَّوت . فأُطْلِق بعد ذلك على مَن ذَكَرَ اسمًا غَيْرَ اسمِ الله عزّ وجلّ على الذَّبيحة وَلَوْ لَمْ يَرفعْ صَوتَه

{ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ } أي ألْجَأتْه الضرورة ، بأن يخشى على نفسه مِن الهَلاكِ إن لَمْ يأكل مِن المَيْتَة

{ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ } قَيّد { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ } أي غير باغٍ للمُحرّم . بِمَعْنَىٰ أنّ نفسَه لَمْ تَطْمَحْ إِلَيْهِ { وَلَا عَادٍ } يعني مُتجاوِز الأَكْل ، بِحَيث يأكل أكثر مِن الضرورة

{ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ } فلا جُنَاح عليه في حالة الضرورة بهذين الشرطَين .

   بعض العلماء يقول { غَيْرَ بَاغٍ } أي غير باغٍ على الحاكم { وَلَا عَادٍ } أي مُعتَدٍ – في سَفَره – على الناس بِقَطعِ طريق أو أنّه مُعتدٍ بِفِعْل المعصية .

 ولذلك قالوا إنّ المُسافر إذا سافر سَفَر مَعصيةٍ فإنّه لا يجوز له أن يَستَبيح رُخص السَّفر مِن القَصر ومِن الإفطار حال الصيام وما شابه ذلك .

  هذا بِناءً على أنّ كلمة ( غير باغٍ ) و ( عادٍ ) راجعة إلى فِعْل المحرّم 

( غير باغٍ ) يعني على الإمام و ( عادٍ ) يعني غير عاصٍ بِسَفَرِه .

والصَّحيح :

 أنّه إذا سافر سَفَر مَعْصِيَة ، الصحيح مِن قولي العلماء أنّه له أن يترخّص بِرُخص السفر لِعموم قوله عزّ وجلّ :

{ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا}

{ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } جملة تُفيد التعليل . لمَ ؟ لأنّ الله { غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . فهو عزّ وجلّ له هذان الاسمان

( الغفور والرَّحيم )

    وذلك لأنّ ذكر اسم الله عزّ وجلّ ( الغفور ) يقتضي أنّه يغفر ويتجاوز عمّن أكلَ مِن هذا المُحَرَّم لأنّه لا يستطيع أن يضبطَ القَدْر الذي يسدّ رَمَقَه . فالله عزّ وجلّ يتجاوز عنه

    و ( رحيم ) إذ أنّه عزّ وجلّ أباح لهم حال الضرورة أن يأكلوا مِن المَيْتَة رحمةً بهم

  { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا }

  هذه الآية تختلف عن الآية السابقة .

الآية السابقة في حقّ مَن كَتَم العِلم مِن غيرِ أن يَأْخُذَ عليه عِوَضًا مِن الدُّنيا

{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ }

    هُنا كُتِمَ الـعِـلْــمُ والحـقّ مِن أجل أن يحصل الإنسان على غـرضٍ مِن أغـراض الـدُّنـيـا { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ } وصرّحَ هُنا بالكِتاب

    هُناك في الآية السابقة { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ }

   لعلّ هذه الآية ذُكِرَ فيها اسم الْكِتَاب ظَاهِرًا لأنّ هذا هو حال مَن كَتَم العِلم وبدّله وغيّره مِن أجل الدُّنيا

    كما مرّ معنا في نفس السورة :

{ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ .. }

 صرّح بالكتاب { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ }

{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ } بصيغة الفعل المضارع ، ممّا يدلّ على أنّهم مستمرّون على كِتمان العِلم

 { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ } هذا شامل ، ليس محصورًا في حال أهل الكتاب ، بل هو شامل حَتَّىٰ لعُلماء هذه الأُمّة .

    فَــمَـــنْ صنعَ كَصَنيع هؤلاء ( أهل الكتاب ) فَفِيه شَبَهٌ بِهم ، وَلَوْ كان مِن هذه الأُمّة

{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ }

{ بِهِ } بهذا الكِتمان ، ويشترون أيضًا بشرع الله عزّ وجلّ

{ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا } أي عِوَضًا من هذه الدنيا .

والدنيا كلُّها ثمنٌ قليل . كما قال بعض المفسِّرين : بل إنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كما ثبت عنه قال ( إنّ الله عزّ وجلّ خلَق هذه الدنيا قليلًا وَلَمْ يَبْقَ منها إلّا القليل )

{ أُولَئِكَ } الحُكْم عليهم ؟ { مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ } صرّح بالبطون ؛ لأنّها محلّ الأكل .

فَـتلك الأموال وذلك الثمن يكون نارًا يَغْلِي في بُطونِهم

قال عزّ وجلّ في شأن مَن أكل الحرام ولا سيّما أموال اليتامى

{ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا }

 

{ أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ } نفى أن يُكلّمَهُم الله عزّ وجلّ تَكْلِيم تشريف ، وإلّا فَهُوَ يُكَلّمُهم عزّ وجلّ كلامًا يَسُوؤهم

قال عزّ وجلّ لِأَهْل النار { قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ }

{ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ } لا يُطَهِّرُهُم ؛ لأنّهم ما أخذوا بأسباب التزكية .

قال عزّ وجلّ { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا(10) }

{ وَلَا يُزَكِّيهِمْ } أي لا يُطَهِّرُهُم . وأعظم ما يَتَزكّى به الإنسان هو توحيد الله عزّ وجلّ .

فكيف يكون لهؤلاء زَكاة وطُهُر وهم يَكْتُمُون الذي به تكون التزكية وهو شرع الله عزّ وجلّ . كما قال عزّ وجلّ { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ }

   فإذا كتموا هذا العِلم فكيف تكون لهم تزكية ؟!

{ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي مؤلم ، ووصف العذاب هُنا بأنّه مؤلم لأنّهم كانوا يتلذّذون بهذه المطاعم وبهذه المشارب على حِساب الدِّين . فكانوا يتلذّذون بها ، فعاقبهم الله عزّ وجلّ بهذا العذاب الأليم المؤلم الذي يُذهِبُ كلّ لذّةٍ مرّت بهم . بل إنّهم لا يجدون لها لذّة .

    ولذلك في صحيح مسلم قال صلّى الله عليه وآله وسلّم ( يؤتى بالرجل مِن أهل النار يوم القيامة فَيُصبَغ في النار صَبغةً [ أي يُغمس في النار غمسة ] فيقال له : يا فلان هل رأيت خيرًا قط ، هل مرّ بك نَعيمٌ قط ؟ فيقول : لا يا ربِّ )

  هذه غمسة ، فكيف بِمَن كان فيها أَبَد الآباد ؟!

{ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا } { اشْتَرَوُا } ومَن يشتري ، يشتري عن رغبة أو لا ؟ يشتري عن رغبة .

{ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ } السِّلعة التي اشتروها عن رغبة ( الضَّلَالَةَ ) الثَّمن ( الهُدى ) لأنّ الباء دخلت على الهُدى .

فَـ ( الباء ) إذا دخلت على الشيء في سِياق الشِّراء أو الاشتِراء ( في سِياق الاشتِراء يدلّ على أَنَّهُ هو الثّمن 

{ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ } اشتَروا العذاب والثَّمن

{ بِالْمَغْفِرَةِ }

{ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ }

▪ ( مَــا )  :

– قيل استفهاميّة ، يعني : أيّ شيء صَبَّرَهُم على النار حَتَّىٰ يُقدِموا على ما أقْدَموا عليه .

– أَوْ تكون تَعجّبيَّة : { فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } !

أي تعجَّبوا مِن حالهم . كيف صنعوا هذا الصَّنيع !

 

– أَوْ : وهو ظَاهِر السِّياق { فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } أيّ يتعجّب الله عزّ وجلّ مِن حالهم .

وفي هذا دليل على إثبات صِفة ( العَجَب ) لله عزّ وجلّ بِمَا يليق بجلاله وبعظمته كما دلّت على ذلك النُّصوص الشرعيّة

   ومنها قوله عزّ وجلّ { بَلْ عَجِبْتُ }  على هذه القراءة السّبعيّة { بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ } ولكنّه عَجَب يليق بِجلالِه وبعظمته { فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } !

{ ذَلِكَ } أي هذا العذاب الذي نزل بهم

{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ }  { بِأَنَّ اللَّهَ } الباء سبَبَيّة

{ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } فالكتاب نزّله عزّ وجلّ بِالْحَقِّ ، وفي هذا الكتاب الحقّ، واشتمل على الحقّ { وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا }

وَمِمَّا في هذا الكتاب مِن الحقّ أن مَن صنعَ هذا الصَّنيع فإنّ هذا العذاب عذابُه

{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ }

{ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ } يَشمَل اختلاف اليهود في التوراة ، ويشمَل اختِلاف هذه الأُمّة في القرآن

إذ قال بَعْضُهُمْ : سِحْر ، وقيل : هذا شِعْر .. ممّا قالوه

{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ } أي في مُشاقّة معك – يا محمّد – وهم بعيدون عن الحقّ . ولذلك وصف الشِّقاق بِأنّه { بَعِيدٍ }

{ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } فلا ترجو مِن هؤلاء خيرًا .

وفي هذا تسلية للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم .

{ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ }

{ لَّيْسَ الْبِرَّ } { الْبِرَّ } منصوب

 { لَّيْسَ الْبِرَّ }

{ الْبِرَّ } خبر ليسَ مُقَدّم واسمها { أَن تُوَلُّوا }

{ لَّيْسَ الْبِرَّ } { الْبِرَّ } هُوَ اسمٌ جامِعٌ لِخِصال الخير

{ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ } أن توجِّهوا وجوهكم { قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } ردّ على أولئك الذين أنكروا مِن أنّ الله عزّ وجلّ نَسَخَ التَّوجُّهَ للصلاة مِن بَيْتِ المَقدِس إلى الكعبة .

فيقول : ليس هذا هو البِرّ .

وجَّهكم الله تِجاه المَشْرِق ، تِجاه المَغرِب إلى أيّ جِهة . ليس هذا هو البِرّ . وإن كان أَمرُه عزّ وجلّ بالتَّوَجُّه مِن بيت المَقدِس إلى الكعبة بِرّ ولا شكّ في ذلك .

 لكنّ البِرّ الحقيقيّ { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ } { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ }

البِرّ يعني ( ذَا البِرّ ) أو بمعنى ( البارّ )

 { وَلَكِنَّ الْبِرَّ } بمعنى البارّ . بمعنى اسم الفاعل .

وهذا يَرِد في القرآن { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ } { غَوْرًا } أي غائرًا . وهذا هو الأظهر

 

{ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } ثمّ ذَكَرَ ..

قال العُلماء : ذَكَرَ الله عزّ وجلّ هُنا ستَّ عشْرةَ قَاعِدَة . كلّ قاعدة لَوْ تُحُدِّثَ عنها لكانت في كِتَابٍ مُستقلٍّ

{ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } بِوُجودِه وبِتفرُّده بالرُّبوبيّة وبالألوهيّة وبالأسماء والصفات .

{ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } وهو يوم القيامة ، سُمِّيَ بهذا الاسم لأنّه  لا يوم بعده ، ويدخل في اليوم الآخر مِن حِين الموت ، ما بَعْدَ الموت يدخل

   كما قال عزّ وجلّ كما سيأتي مَعَنا { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ }

{ وَفِي الْآخِرَةِ } أي في القَبْر

والنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كما ثبتَ عنه قال ( الــقَــبْــرُ أوّلُ مَنزِلٍ مِن مَنازِل الآخرة )

* { وَالْمَلَائِكَةِ } أي وآمَنَ بالملائكة على وَجْه التفصيل والإجمال

* ما عَرَفْنا مِنهم مِن أسماء وما أَوْكلَ الله عزّ وجلّ لَهُم مِن أعمال ( نؤمن بذلك )

      ما لَمْ نَــعْــلَــمُ ( نؤمن به على وَجْه الإجمال ) نؤمن بِجبريل وبِإسرافيل وَبِميكائيل وغير هؤلاء ممّا ذَكَرَهُ عزّ وجلّ .

    ونؤمن بِوُجودهم ، وما ذَكره الله عزّ وجلّ عن هؤلاء الملائكة وذكره النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في سُنّته .

 

* { وَالْكِتَابِ } الْكِتَاب : بمعنى الجمع ، يعني  ( وَالْكُتُب ). جميع الكُتب نؤمن بِها ، على وَجْه الإجمال وعلى وَجْه التفصيل . ما ذُكِرَ لنا كالتوراة والإنجيل والزّبور نؤمن بذلك

* { وَالنَّبِيِّينَ } جميع النَّبِيِّين الذين ذَكرهم الله عزّ وجلّ على وَجْه التفصيل وعلى وَجْه الإجمال

▪{ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ }

{ عَلَى حُبِّهِ } الضمير يعود إلى المال أو يعود إلى الله ؟

هل هُوَ أعطى المال { عَلَى حُبِّهِ } يعني على حُبّ هذا المال . ولذلك أتَتْ كلمة { عَلَى } مِن باب أنّ حُـــبّ المال تمكّنَ مِن قلبِه ، ولا شكّ أنّ المال محبوبٌ

قال عزّ وجلّ { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } { الْخَيْرِ } هُنا هو المال

{ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } كما قال عزّ وجلّ { لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ }

ويدخل فيه أيضًا : أنّه أنفقَ المال لأنّه يُحِبّ الله عزّ وجلّ

والقولُ في هذه الآية كالقول في قوله تعالى في سورة الإنسان { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا }

{ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } يعني أعطى المالَ لِــمَـنْ  ؟

* { ذَوِي الْقُرْبَى } أي قرابة الإنسان

* { وَالْيَتَامَى } مَن مات أبوه وَلَمْ يَبْلُغ

* { وَالْمَسَاكِينَ } أي الفقراء

* { وَابْنَ السَّبِيلِ } أي المسافر

* { وَالسَّائِلِينَ } لأنّ مَن يسأل مظنّة أنّه مُحتاج

* { وَفِي الرِّقَابِ } أي وفي فكّ الرِّقاب

▪{ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ } بشروطها وبأركانها وبواجباتها

▪{ وَآتَى الزَّكَاةَ } يعني الواجبة ؛ لأنّ ما قبله { وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ } التطوّع ( صدقة التطوّع )

▪{ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا }

{ وَالْمُوفُونَ } معطوفة على قوله { مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ }

قال { وَالْمُوفُونَ } وغيّر بينهما ، لَمْ يَقُل ( ومَن أوفى ) كَقوله { مَنْ آمَنَ } مِن باب تنوّع الأسلوب ، وكذلك لأنّ قوله { مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } حقّ لله عزّ وجلّ .

وَهُــنــا { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا } حقّ للمخلوق ،

وقوله  :{ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا } قيّده بالظرف { إِذَا عَاهَدُوا } يدلّ على أنّ هؤلاء مِن حين ما يُعاهِدون يُوَفُّون بالنذر ، وفيه أيضًا دليل على أنّ الإنسان لا يُـقـدِم على العَهد إلّا إذا كان عالِمًا مِن نفسِه بأنّه سَيُوَفِّيه { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ }

▪{ وَالصَّابِرِينَ } نَصبَها لَمْ تُرفع { وَالصَّابِرِينَ } بِناءً على المَدح ، يعني ( أمْدَح الصابرين )

وهذا إن دلّ يدلّ على أنّ تلك الأعمال الفاضلة يُحتاج فيها إلى الصبر

 

قال عزّ وجلّ { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ }

 {  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }

*  { وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ } في البؤس في الضيق في الْفَقْر

* { وَالضَّرَّاءِ } في المَرض وزوال الخير

* { وَحِينَ الْبَأْسِ } أي حين القِتال

هؤلاء ما ثوابهم ؟

{ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا }

{ صَدَقُوا } لأنّ مِثْل هذه الأعمال تدلّ على صِدق الإنسان مع رَبّه

{ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } فجمعوا بين الصِّدق وبين تقوى الله عزّ وجلّ .

وهذا يدلّ على ماذا ؟

يدلّ على أنّ هؤلاء خضعت قلوبهم لله عزّ وجلّ ، وأنّ جوارحهم اتّقت الله عزّ وجلّ بفِعْلِ أوامِره واجتناب نواهيه

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى }

ذَكَرَ هُنا { الْقِصَاصُ } وذلك لأنّ تطبيق حُكم الشرع في الأرض يدلّ على أنّ ذلك مِن البِرّ ومِن الصِّدق مع الله عزّ وجلّ 

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ } أي فُرِض عليكم { الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } يعني في قَتْل القتلى

{ الْحُرُّ بِالْحُرِّ } { الْحُرُّ } يُقْتَل { بِالْحُرِّ } ولا يُقْتَل الحُرّ بالعبد كما دلّ على ذلك الحديث الصحيح عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مع خِلاف بين أهل العِلم في هذه المسألة

{ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ } العبدُ يُقتل بالعبد

 { وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى } يعني أنّ الأُنثى تُقتل بالأُنثى ، وكذلك بيّنت السنّة أنّ الرجل لو قَتَل الأُنثى أنّه يُقْتَل بها

{ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ } أي مَن عُفِيَ لهذا القاتل { مِنْ أَخِيهِ } أي مِن دَم أخيه { شَيْءٌ } مِن دَم أخيه . دلّ هذا على أن كلمة { أَخِيهِ } تدلّ على الاستعطاف . يعني أنّه مازال أَخًا لك ، وَلَوْ قَتَل قريبك أو قَتَل ابنك ، فإنّه مازال في دائرة الإيمان

  وهذا فيه دليلٌ وبُرهانٌ صريحٌ في الردّ على الخوارج الذين يقولون إنّ صاحب الكبيرة خالِد مُخلَّد في نار جهنّم وأنّه مِن الـكُــفّـــار . فكيف ؟

  والقَتْل مِن أعظم ما يَكُونُ مِن الذُّنوب ، ومع ذلك سمّى الله عزّ وجلّ القاتِل أخًا للمَقتول

{ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } كلمة ( شَيْء ) تدلّ على أنّ أيّ شخص مِن الوَرَثة عفا عَـن القِصاص فإنّ القِصاص يسقُط ، وَلَوْ لَمْ يَرْضَ الجميع . لَوْ رَضِيَ شخصٌ واحدٌ فإنّ القِصاص يَسقُط . ثُمَّ تأتي بعد ذلك الدِّيَة

{ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } يعني أنتَ ياوَلِيّ المقتول اتّبع هذا القاتِل لِأخْذ الدِّيَة بالمعروف بِمَا تُعورِفَ عليه مِن غير ضَرَر بالقاتِل 

 

{ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } أنتَ أيّها القاتِل تؤدّي ما عليك بإحسان . ولذلك قال في شأن أولياء المقتول { فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } بكلمة ( المعروف ) وفي شأن القاتِل { وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } فكما أحسنوا إليك وأسْقَطوا عنك القِصاص فأحْسِن إليهم بِدَفعِ الدِّيَة مِن غير مُماطلة

{ ذَلِكَ } أي الحُكْم السَّابِق { تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } خَفَّفَ عليكم ، ورحمةٌ بِكُم .

وهذا يدلّ على أنّ ما شرعَه الله عزّ وجلّ رحمة بِالخَلق ، وذلك لأنّ اليهود كما جاء في صحيح البخاريّ مِن أنّ اليهود في دينِهم ما كان في شأن القِصاص ماكان عندهم إلّا القتل ، ولا يجوزُ لهم أن يأخذوا الدِّيَة .

 فخفّفَ الله عزّ وجلّ عن هذه الأُمّة

{ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ } يعني بعد الرِّضا بالدِّيَة { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ } يعني أَقْدَمَ شخصٌ مِن أولياء المقتول بعد أن أخذوا الدِّيَة فقَتَلَ القاتِل { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } شديد في الآخرة . بل قال بعض العلماء { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } بمعنى أنّ الحاكم يَقتُلُهُ مِن غير أن ينظرَ إلى رضا أولياءِ هذا المقتول ، دون إن ينظر إِلَيْهِ .

ودلّ على هذا حديث ، لَوْ صحّ لكان فَيْصلًا

وهو حديثٌ عند أبي دَاوُدَ ، لكنّه ضعيف . وهو قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم ( لا أُعفي مِن القَتْل بعدَ أخذِ الدِّيَة )

إِذًا  فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في الآخرة . عذاب مؤلِم .

وأيضًا على رأي بعضِ العلماء مِن أنّه لَوْ أقدمَ فإنّه يُقتَل دون أن يُنْظرَ إلى رِضا أولياءِ المقتول .

 

{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } هذا القِصاص قد يُظنّ في ظاهره كما يَذكُرُ مَن يذكر ممّن تأثّرَ بالغَرب مِن أنّ هذا فيه وَحْشِيّة .

لا ، بَلْ إنّ القِصاص حُكمُه حياةٌ { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ }

هذه الآية كما قال العُلماء أعظم مِن قَولِ الْعَرَب قديمًا ( القَتْل أنفى للقَتْل ) يعني يقولون قديمًا ( القَتْل أنفى للقَتْل ) يعني : إذا قُتِلَ القاتِل فإنّ القَتْلَ ينتفي. هذه أعــظــم

 { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } كيف ؟

لأنّ مَن أرادَ أن يَقدُمَ على القَتْل ، فَعَلِمَ أنّه سَيُقتَل . هُنا لن يُـقـدِم على القتْل وسَيَسْتَبْقِي حياةَ مَن أراد قتلَه ويستبقي حياتَه أيضًا هوَ

إذن فَهُوَ حياة لِــمَـنْ أراد القتل ، وحياة لِــمَـنْ أُريد به القَتْل

{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } يا أصحاب العقول .

لأنّ خِطاب الله عزّ وجلّ لأصحاب العقول { هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ }

{ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } فهذا القِصاص بهِ تَحْصُلُ لَكُم التقوى ، وأيضًا تُتّقى المَحارِم ، فلا يعتدي أحدٌ على أحد .

لكنّه إذا لَمْ يُطبَّق القِصاص هُنا يكثرُ الموت وتَنْتَفي الحياة

{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ } أي فُرِضَ عليكم { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } أي أسباب الموت ، لأنّه إذا عاينَ الموت فإنّ وصيّتَه لا تُـقْـبَــل كما ثبتَ في الصّحيحين ( ولا تُمِلْ حَتَّى إذا بَلَغَت الحُلقوم قُلتَ لِفلان كذا ولِفلان كذا ) لا ، وإنّما الوصيّة تَنْفَع في حال الحياة أو عِنْدَ الموت عِنْدَ حُضورِ أسبابِه . لَكِنْ لَوْ أنّ الرُّوح بَلَغَت الحُلقوم هُنا أيّ قَوْل مِمّن حَضَره الموت فإنّه لا يُقبَل ولا يُعتدّ بهِ

{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا } يعني إن تركَ مالًا ، وسُمِّيَ المالُ خيرًا باعتِبار تَصْرِيف الإنسان لهُ ، إذا صَرَّفه الإنسان فيما يُـرضـي الله عزّ وجلّ وأنفَقَهُ على نفسِه وعلى أهلهِ فإنّه يَكُونُ خيرًا بهذا الاعتِبار

  ولذلك قال صلّى الله عليه وآله وسلّم كما ثبتَ عنه عند أحمد ( نِعْمَ المالُ الصَّالِح لِلْمَرْءِ الصَّالِح )

{ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ } يعني فُرِضَت عليه الوصيّة وكُتِبتْ عليه { إِن تَرَكَ خَيْرًا } يعني مالًا

{ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } قال بعض العُلماء هذه الآية مَنْسوخَة بآيات المَواريث لأنّه ذَكَرَ هُنا أنّ الوصيّة مفروضةٌ على الإنسان لِوالِدَيه . والوالدان يَرِثان بآيات المَواريث . فيقولون هذه منسوخة ، وذلك لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال ( إنّ اللهَ قد أعطى كلّ ذي حَقٍّ حقّه فلا وَصِيّةَ لِوارِث ) والصحيح أنّها لَيْسَت مَنْسوخة وإنّما الوصيّةُ يُؤمَرُ بها الإنسان لِوالِدَيه اللذين لا يَرِثان ، كَأَن يكونا رَقِيقَيْن أو أن يكونا كافِرَين

{ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ } { بِالْمَعْرُوفِ } دون أن تكونَ هُناك زِيادة على الثُّلُث ؛ لأنّ الوصيّة لا تكون إلّا مِن الثُّلُث فأقلّ

{ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } فَــمَـــنْ يقوم بهذا الأمر هُـمْ أصحاب التقوى .

{ فَمَن بَدَّلَهُ } أي مَن غيّره { فَمَن بَدَّلَهُ } الضمير هُنا مُذكَّر والأمر راجع إلى الوصيّة . كان مِن ظَاهِر السِّياق ( فَمَنْ بَدَّلَها )

{ فَمَن بَدَّلَهُ } الضمير ذُكِّرَ باعتِبار الإيصاء ، فمَن بدّل الإيصاء أَوْ مَن بدّل قَوْل المُوصي

 

{ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ } هذا يؤكِّد ما سَبَقَ مِن أنّه أمّا الإيصاء أو قوْل الموصي

{ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ } ولَــيـْـس على الموصي شيء ، وذلك لأنّ الموصي قد يوصي بشيء واجبٍ عليه ، قد يوصي بِدَّين ، فإنّ مَن غَيّره مِن الوَرَثة ( وهذا واجبٌ للغَيْر ) فلا يَتَحمّل هذا الميّت الذي أوصى ، لا يتحمّل وِزْرَه ، وإنّما يتحمّله مَن بدّله

{ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } { سَمِيعٌ } لكلّ قَوْل {عَلِيمٌ} وأحاطَ عِلمهُ بكلّ شيء . ومِن ذلك يسمع عزّ وجلّ ما نطقَ به هذا الموصي ، ويعلم عزّ وجلّ حالَ مَن بدّل هذه الوصيّة

{ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا }

{ خَافَ مِن مُّوصٍ } يعني مَن كان عِنْدَ مُوصٍ وخافَ مِنه أن يُوصِيَ بِوَصِيّة فيها جَنَف أو إثم

{ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا } أي أخطأ ، لَمْ يتعمّد { أَوْ إِثْمًا } يعني تعمّد . فَسَمِعَه ، فَعَليْهِ أن يوصِيَه أن يَعدِلَ في وصيّته .

أو مَن خافَ مِن مُوصٍ جَنَفًا أو إثمًا { فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ } يعني بعد الموت أصلحَ بَيْنَ المُوصَى له وبَيْنَ الوَرَثَة ، لأنّ هذا التعديلَ تعديلٌ و تبديلٌ لِحقّ وبِحقّ { فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ } لِمَ ؟

  لأنّ هذا التبديل ليس تبديلًا لحقّ❗ ، وإنّما هو تبديل لكي تكون هذه الوصيّةُ على وِفْق الشرع

 { فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }  غفور ورحيم ، رحيمٌ بِعِباده ، إذ شرعَ لهم الوصيّة ، وغفور عزّ وجلّ فيمَن أخطأ في وصِيّته مِن غير عَمْد ، أو أنّه تعمّدَ ثُمَّ رجعَ بعد أن ذَكَرَ أو ذُكِّرَ . فإنّ الله عزّ وجلّ غفور رحيم

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } :

لمّا ذَكَرَ عزّ وجلّ مِن أنّ مَن قام بالبِرِّ فَهُوَ مِن المُتَّقِين بل هو مُتّقِي ، وَلـَمَّا ذَكَرَ أنّ القِصاص مَن قامَ به أَوْصَله ذلك إلى تقوى الله ، وكذلك لمّا ذَكَرَ مَن قام بالوصِيّة فَهُوَ مِن المُتَّقِين – ذَكَرَ هُنا أنّ مِن بَيْن الوسائل التي تُوصِل إلى تقوى الله عزّ وجلّ الـصِّـيـام

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ } أي فُرِضَ عليكم

{ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } :

أي كما فُرِضَ على الذين مِن قبلكم .

والكاف : تدلّ على أنّ الصيام كُتِبَ على مَن قبلنا ، لَكِن أَهَذا الصيام الذي أُمِرنا به وقد كُتِبَ على الذين مِن قبلِنا أهوَ يُشابِههُ مِن حيثُ الزّمن ، أي مِن حيث الأيّام ؟ أو مِن حيث القَدْر بِمَعْنَىٰ مِن حيث القَدْر اليوميّ ؟ أو مِن حيث وَصْف الصيام مِن حيث المَطعم والمَشرب ؟

أَقْــوَال :

فَعلى كلّ حال ، فهذا الصيام سواء قيل بأحد هذه الأقوال أو بالثاني أو بالثالث . فإنّ هذا الصيام الذي أُمِرنا به قد كُتِبَ على الذين مِن قَبلِنا .

  وذلك لأنّ الصيام فيه نوعٌ مِن المشقّة وهي مَشقّةٌ ظاهرة ، وإلّا فكلُّ شَرْعِ الله عزّ وجلّ خَيْرٌ لِـلْـعِبَـاد . فَفِيه نوعٌ ظَاهِرٌ مِن المَشقّة .

  فَهُنا تَسليةٌ مِن الشرع إذ بَيَّنَ مِن أنّ هذا الصوم قد كُتِبَ على الذين مِن قَبلِنا

 

{ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } :

 أي مَن صامَ هذا الصَّوْم فإنّ هذا الصوم يُوصِل إلى تقوى الله عزّ وجلّ

 ولا شكَّ أنّ مَن صامَ – وهذا أمرٌ محسوسٌ – يَجِدُ أنّ الصومَ يُقرِّبَه إلى الله عزّ وجلّ ، وَيُبَعِّدَه عن المنكرات .

{ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ } :

 قِيلَ : { أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ } تَعودُ إلى صِيَام عاشوراء وإلى صيام ثلاثة أيّام مِن كلّ شهر ، لَكِنْ السِّياق يدلّ على أنّ المقصود مِن الأيّام المعدودات شهر رَمضان ؛ لأنّ الآيات تُبيِّن وتوضِّح ذلك

  وقد كان صوم يوم عاشوراء كان فرضًا على الأُمّة ، ثُمَّ نُسِخَ بِصيام رمضان

{ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ } :

نُصِبَتْ إمّا لأنّها مفعول ثاني لِكُتِبَ أو لأنّها منصوبةٌ على الظَّرفيّة بِمَعْنَىٰ أنّ الأصل ( في أيّام معدودات ) فَحُذِفَ الحرفُ الجارّ فانتَصَبت الأيّام

{ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ }  :

والأيّام جمعُ تكسير قِلّة . وَوُصِفَ بأنّه معدودات . وهذا الوصف معدودات جَمْعُ قِلّة ليس جَمْعُ كثرة ممّا يُهوِّنُ على المسلمين مِن أنّ هذا الصوم إنّما هو مجرّد أيّام معدودات .

{ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا } :

أي مَن كان مريضًا ، وهو المرض الذي يُضْعِفُ الإنسان أو يُتْعِبه ، وليـسَ كلّ مرض ؛ لأنّ مِن بَيْن الأمراض – وهذا على الصحيح – لأنّ بعض أهل العِلم قال : أنّ الإنسان متى ما أصابه أيّ مرض فَلَه أن يُفطِر .

   ولكن الذي يظهر أنّ المقصود مِن المرض هو المرض الذي يُتعب الإنسان أو يُضعِفُه ، أو مِن باب أولى الذي يُتلِفُه أو يُتلِفُ عُضوًا مِن أعضائه .

   وهذا مِن رَحمة الله عزّ وجلّ بالعِباد إذ أنّه خَفّفَ عليهم ، فأباح لهم الفِـطْـر حالَ المرض

{ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ } :

أي مَن كان مُسافِرًا . فإنّ الإنسان متى ما سافَر ، وَلَوْ كان السفرُ لَمْ يَجِد فيه العَبْدُ مَشقّة فإنّ لهُ أن يُفطِرَ ولهُ الأحَقِّيَّة في الفِـطْـر ، حتى لَوْ سافرَ آلاف الكيلوات على مَتْن طائرة وَلَمْ يشعر بِمَشقّة ولا بِتَعَب فإنّ لهُ أن يُفطِر  فأجاز له الشرع الفِـطْـر .

ثُمَّ لِيُعلَم :

أنّ المرض وكذلك السفر إذا كان الصومُ يشقُّ بالإنسان فإنّه يُكرهُ لهُ الصوم حالَ المرض وحال السفر ، وإن كان يصرّ به فَيَحرُم عليه ؛ لأنّه لا يجوز أن يضرّ بِنَفسِه . قال تعالى :

{  وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا }

   لَكِنْ إن استوى الأمران عنده فالأفضل أنّه – والمقصود مِن ذلك السَّفر – الأفضلُ في حَقِّه أن يُفطر ؛ لأنّه أسرع في إبراء ذِمَّتِه . ولذا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كما ثَبَتَ عنه قال :

( ليسَ مِن البِرّ الصيام في السفر ) وذلك إذا أضرّ بالمسلم أو شقّ عليه .

  لَكِنْ إن لَمْ تَكُنْ هناك مَضرّة ولا مَشقَّة فإنّ الأفضلَ في حَقِّه أن يصوم ؛ لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يصومُ في السفر.

   لأنّ السفرَ ما كان يُتعبُ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا صامَ .

 

     { أَوْ عَلَى سَفَرٍ } أَتَىٰ بِحرف { عَلَى } ممّا يدلّ على أنّ السفر الذي تُستباحُ بهِ رُخَص السفر إذا كان على سفر ، يعني قد خرجَ مِن بَلدَته وتركها وراء ظهره .

   ولذلك فالقول الصحيح :

 أنّه لا يُستباح له أن يُترخّص بِرُخَص السفر وهو في مدينته حتى يَـخْـرُجَ منها . وهذا ما عليه جماهير أهل العِلم

{ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } :

 يعني فأفْطَرَ ، فعَلَيْهِ عِدّةٌ مِن أيّامٍ أُخَر . وأطلقَ هُنا . ممّا يدلّ على أنّه لا يلزم حالَ قضائها أن تكونَ مُتتابعة ، أي مُتتالية مُتَواصِلة .

وهُناك رأيٌ لبعضِ أهل العِلم ونَصَره الدار قُطنيّ ، إذ أَخْرَجَ الدار قُطنيّ عن عائشةَ رضي الله عنها أنّها قالت :

( أنّ هذه الآية لمّا نزلت { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } نزلت مع كلمة

 ( مُتَتابِعات ) لكنّها سقطت ) وصحّحَ إسناده الدار قُطنيّ .

ووَرَدَتْ أحاديثُ أيضًا في هذا الباب ، لكنّها أحاديثُ ضعيفة .

ولا شكّ أنّ الأفضلَ التتابُع .

  وَلَكِنْ القول الصحيح أنّ التَّتابُعَ لا يلزم ؛ وذلك لأنّ هذه الكلمة

( مُتتابعات ) لَوْ كانت ثابتةً وأخذت بها الأُمّة لأخذَ بها العُلماء .

  فدلّ هذا على أنّ إطلاق { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }

   للإنسان إذا أفطرَ في رمضان لِعُذرٍ ، لهُ أن يقضيَ تلك الأيّام مُتفرِّقة . وإن كانت متتابعة فهذا أفضل وأحسن

 

{ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ  وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ }

    هذه الآية قال بعضُ أهل العلم أنّها منسوخة

{ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } :

 قالوا هذا في أوّل الإسلام ، كانَ في أوّل الإسلام الإنسانُ مُخيّر بينَ أن يصوم وبينَ أن يُفطر . وبدلَ هذا الفِـطْـر يُطْعِم عن كلّ يَوْمٍ مسكينًا ، ولو كان قادرًا .

    ثُمَّ نُسِخَ بعد ذلك هذا الحُكْم .

وقال بعضُ أهل العِلم : هي مُحكمة . باعتِبار ماذا ؟

{ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } يعني كانوا في أوّل أمره يطيقونه ثُمَّ حَصَلَ معهم عَجْز أو كَبُرَت سِنُّه . فهنا : لَــه أن يُفطِرَ وأن يُطعِم .

 وَلَكِنْ الذي يظهر أن الآية :

 { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ }

هو القول الأوّل { فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ }

{ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } صَرَّحَ هُنا بالإطعام مع أنّ الفِدية هي الإطعام .

   وَلَكِنْ لمَ نصّ على الإطعام ؟

 نصّ على الإطعام ؛ لأنّ الفِدية قد تكونُ بِمال ، وقد تَكونُ بِإطعام . فَلَمَّا ذَكَرَ الإطعام دلّ على أنّه لا يُجزِئ في هذا الأمر إلّا الإطعام ، ولا يُجزئ النقود .

{ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } :

 وإطعام المسكين يدلّ في ظاهره على أنّ تخصيص المسكين مِن باب أن يتذكّرَ الصائم أنّه حينما يُمسكُ عن الطعام والشراب يتذكّر حال إخوانه الذين لا يجدون في غير حالة الصيام لا يجدونَ طعامًا يَقتاتون به

{ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ } :

{ فَمَن تَطَوَّعَ } يعني مَن زادَ وأطعمَ أكثر مِن مسكين – ولذلك أتى بِحرف الفاء ؛ لأنّها مُرتّبة على ما سبق ، لَكِنْ في آيات السعي بين الصفا والمروة – كما سبق – { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ }

{ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا }:  وَلَمْ يأتِ بالفاء . ممّا يدلّ على أنّه ليس المقصود أن يتطوّعَ بالسعي بين الصفا والمروة

{ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا } : فزادَ في الإطعام ، فهو خَيْرٌ له ، خَيْرٌ له مِن أن يكتفي بإطعام مسكين وَاحِد أو بِإطعام الجزء المُتَعيِّن عليه 

{ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ }: بِمَعْنَىٰ أن تصوموا خَيْرٌ لكم مِن الفِـطْـر

 { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } : إن كُنتُم تعلمون أنّ هذا هو خير لكم فاحرصوا عليه فصوموه . وهذا كما سَبَقَ في أوّل الإسلام .

{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ }

{ شَهْرُ رَمَضَانَ } :

شهر رمضان : سُمِّيَ بهذا الاسم قيل لأنّه يقع في الرّمضاء ، وقيل إنّه يَرمضُ الذُّنوب، بمعنى أنّه يُحرِقها .

  وشهر رمضان : وردَ حديث مِن أنّ رمضان اسمٌ مِن أسماء الله . لكنّه حديث لا يصحّ عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم .

شهر رمضان : مِن مزايا هذا الشهر { الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } ودلّ هذا على أنّ القرآن منزَّلٌ غيرُ مخلوقٍ

{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ } : وَلَمْ يَقُل نزَّل { أُنزِلَ } لأنّ كلمة 

{ أُنزِلَ } تدلّ أنّه نزل جملةً واحِدة في رمضان . نزل مِن اللوح المحفوظ إلى السماء الدُّنيا في رمضان

كما قال القُرطبيّ رحمه الله : ولا نَــعْــلَــمُ خِلافًا في ذلك .

ثُمَّ لمّا نزل إلى السماء الدنيا نزل مُفرَّقًا على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم حَسْبَ الأحداث .

وقولُه : { الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } مع قوله عزّ وجلّ : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ }

 { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } يدلّ على أنّ ليلة القَدْر إنّما تَكونُ في شهرِ رمضان ؛ لأنّ القرآن أُنزِل فيها .

وقال هُنا : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ }

ودلّت الـسُّـنَّـة الصحيحة مِن أنّ ليلة القَدْر إنّما تكون في العشر الأواخِر مِن شهر رمضان

{ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ } : هذا القرآن

{ هُدًى لِّلنَّاسِ } وهو كما سَلَف في أوّل السورة { ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } نصّ على المُتَّقِين لأنّهم هم المنتفعون به  مع أنّه مِن حيث الأصل أُنزِل هُدًى للناس ،لكنّ الموفّق مَن وفّقه الله عزّ وجلّ فاهتدى به مَن ؟

المتّقون .

{ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } :

بيِّنات : هذا القرآن بيّنات دلائل واضحة وبراهين

{ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } مَن أرادَ الهداية ففي آيات الله ، مَن أرادَ أن يُفرِّق بينَ الحقّ والباطل ففي كِتَاب الله ، مَن أرادَ أن يُحارِب أهل البِدع وأن يُبْطِلَ حُجَجُهم وشُبَههم فذلك موجودٌ في القرآن .

{ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } :

 مَن شَهِد منكم الشهر . مَن شِهدَ : بمعنى مَن حَضَر ، وليس معناه مَن رأى لأنّ لو كان كذلك لَتعذَّر على الناس أن يَرَوْه ، ومِن ثَمَّ يتعذّر عليهم أن يصوموه

{ فَمَن شَهِدَ } أي مَن حضرَ { مِنكُمُ الشَّهْرَ } والشهر هو ما استهلّ واشتهرَ بينَ الناس ، فمَن رَآه مِن المسلمين وكانت شهادتُه مُعتبرة ، فإنّه يلزم جميع المسلمين أن يأخذوا بِشهادته ، وعليهم أن يصوموه .

{ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } هذا أمرٌ بالوجوب ينسخ الحُكْم السابِق .

 ما هو الحُكْمُ السابق؟

{ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }

{ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ } :

كرَّرها مرّةً أُخرى حَتَّىٰ لا يُظنّ وحتّى لا يُتوهّم أنّ حالة المرض وأنّ حالة السفر قد نُسِخَت مع الحُكْم السابق

قال هُنا : { وَمَن كَانَ }

لَمْ يَقُل ( منكم ) لعلّ ذلك مِن باب الاكتفاء بما سَبَقَ

{ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } أي فأفْطَرَ فعليه عِدّةٌ مِن أيّام أُخَر

{ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } :

{ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ } في جميع الأحوال . ومِن ذلك أنّه أباح لكم الفِـطْـر حالَ المرض وحالَ السفر .

 وأكّد ذلك بقوله مع أنّ قولَه { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ } ينفي الْعُسْر . ومع ذلك كرّره { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ }

ومِن ثَمَّ لِيُعلَم أنّ قَوْلَ بعض مِن الناس – الذي يريد أن يفتح لنفسه الوُلوج في الذنوب – قال : الدِّينُ يُسر . إذا نُهِيَ عن فِعْلِ ذنبٍ .

  يُقال له :

الدِّينُ يُسر هو ما جاء به الـشَّـرع . الدِّين يُسر باعتبار أنّه خفّفَ على المسافر فأباحَ له الفِـطْـر وخفّفَ عليه وأرخصَ لهُ أن يقصُرَ الرُّباعيّة إلى رَكعتين وهكذا ممّا جاءت به الأدلّة الشرعيّة التي بها تخفيفٌ على المسلمين

{ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ } :

أي لِتُكمِلوا عِدَّة رمضان إمّا بإتمامه ثلاثين أو بِرؤية هِلال شوّال . كما ثبتَ بذلك الحديث عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته )

أيضًا { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ } أنتم يا مَن أفطرتم لِعذر عليكم القضاء حَتَّىٰ تُكمِلوا العِدّة .

{ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } :

 { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّه } أي لِتُعظِّموا الله على ما هداكم . فهداية الله للعبد تقتضي منه أن يُعظِّمَ اللهَ إذ وفّقه الله عزّ وجلّ فهداه

ويدخل في ضِمْن التكبير هُنا { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّه } التكبير المُطلق ليلة عيد الفِـطْـر كما هو معروف مِن حيث الآثار

{ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } وهذا إن دلّ يدلّ على أنّ الْعِبَادَاتِ فيها خَيْرٌ للمسلم ، وهي سبيلٌ إلى تعظيم الله عزّ وجلّ .

  في قضيّة البُدن وفي قضيّة البهائم في سورة الحجّ { لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ }

{ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } :

فَمِن أعظم النِّعَم أن تُوفَّق للعِبادة . ومِن ذلك ما ذُكِرَ هنا مِن الـصِّـيـام . فالمسلم عليه أن يشكُرَ الله عزّ وجلّ ، وليس الشكرُ محصورًا فيما يتعلّق بالأمور الدُّنيويّة ، بل إنّ أعظم الأُمور التي يُشكَرُ الله عزّ وجلّ عليها أن شرعَ هذه الْعِبَادَاتِ وأن وفّقَ عِبَادَه إلى فِعلِها .

   ومِن ثَمَّ يدلّ هذا على ماذا ؟

   يدلّ على أنّ العبادات وسيلةٌ إلى شُكر الله عزّ وجلّ .

ولذلك قال قبل آيات – كما مرّ معنا – { وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ }

{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } :

 ذَكَرَ هذه الآية والمتعلِّقة بالدعاء بين آيات الصيام مِن باب أنّ الدُّعاء مقبولٌ حال الصيام ، وقد ثبت بذلك الحديث عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ( ثلاثةٌ لاتُردّ دعوتهم : ذَكَرَ منهم الصائم حَتَّى يُفطِر )

   فالدّعوةُ مأمورٌ بها ومُستَجابة حال الصيام .

{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } :

لمّا قالوا يا رسول الله – كما ذكر ذلك كثيرٌ مِن المفسِّرين – قالوا يا رسول الله – بل إنّ السِّياق يدلّ عليه – قالوا : يا رسول الله ، أقَريبٌ ربُّنا فَنُناجِيه أم بعيدٌ فَنُناديه ؟

  فأنزلَ الله عزّ وجلّ هذه الآية { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ }

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا }

وهِنا : لَمْ يَقُل ( قُلْ ) ممّا يدلّ على ماذا ؟

  يدلّ على أنّ تَرْك كلمة ( قُلْ ) – والله أعلم – يدلّ على أنّ ليس هُناك حواجز بين العبد وبين رَبِّه ، فَعَليه أن يسأل الله .

ولذا ثبت عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله ( مَن لَمْ يَسألِ اللهَ يغضب عليه )

فَوا عجَبًا لأناس يستغيثونَ بِغَيْرِ الله ، ويَدعونَ غَيْرَ الله . ويقولون هؤلاء شفعاء لنا عند الله . فهذا هو الشِّرك . نسأل الله السلامة والعافية

    إنّما على العبد أن يدعوَ الله عزّ وجلّ

ولذا قال تعالى :

{ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ }

{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } اللهُ عزّ وجلّ قريب

وهذه الصفة المأخوذة مِن هذا الاسم ( قريب ) هل هو قُرْب الله عزّ وجلّ مِن جميع العِباد قُرْب يدلّ على إحاطتِه وعلى عِلْمِه كالمعيّة ، المَعِيّة نوعان :

{ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } 

  مع جميع خلقِه بِعِلمهِ وبإحاطته وبتصرّفه عزّ وجلّ .

مَعِيّة خاصّة بالمؤمنين بالصابرين كما مرّ معنا :

{ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } إلى غير ذلك من الآيات

هل قُرْب الله عزّ وجلّ عامّ وخاصّ كالمَعِيَّة

بعض أهل السنّة قالوا بذلك ، واستدلّوا بقوله عزّ وجلّ :

{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ }

  وبقوله عزّ وجلّ { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُم } يعني الميّت المُحتضَر {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ }

   هذا قول لبعض أهل السنّة . ولا يُنكَر على هذا القَول .

لكنّ الجماهير – جماهير أهل السُّنَّة – كما نصّ شيخُ الإسلام رحمه الله : إنّما قُرْب الله عزّ وجلّ خاصٌّ بِمَن عِبَدَه بِعابِديه وبمن دَعاه

  وقال رحمه الله :

 قوله عزّ وجلّ :

{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ }

المقصود قرب الملائكة ؛ لأنّه قال : { إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ } 

ولأنّه ذكر في صَدْر الآية العِلم { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ } دلّ على أنّ العِلم غير القُرب

وَأَمَّا قوله عزّ وجلّ { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُبْصِرُونَ } فالمقصود أيضًا مِن هذا القُرب قُرْب الملائكة ؛ لأنّه قال

{ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ } وَاللهُ عزّ وجلّ إنّما يُرى يوم القيامة .

{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ  أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } 

{ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ }

ولذا قال عمر رضي الله عنه ، قال : مَن وُفِّقَ للدُّعاء وُفِّقَ للإجابة ؛ لأنّ الله عزّ وجلّ يقول { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ }

لكن قد يقول قائل : بعض الناس يدعو الله عزّ وجلّ ولا يُستجاب له .

  وهذه الآية فيها { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } فبعض الناس يدعو الله عزّ وجلّ ومع ذلك لمْ يُستجبْ له . فالجواب عن هذا .

 الله عزّ وجلّ يُجيبُ مَن دعاه ، ووعدُ الله عزّ وجلّ حقّ . ولكن ربّما أنّ الداعي يدعو اللهَ عزّ وجلّ وَلَمْ يأتِ بالأسباب التي بها يستجاب دعاؤه من حيث الدعاء في أوقات الإجابة أو أنه لا يحضر قلبه أو أنه يأتي بموانع إجابة الدعاء كأن يأكل الحرام إلى غير ذلك من موانع الدعاء التي من بينها ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام :

(( أنه ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يقول يارب يارب ومطعمه حرام وملبسه حرام فأنى يستجاب لذلك ))

وإذاً من دعا الله وأتى بالأسباب وانتفت الموانع أجاب الله دعاءه

إن أتى بالأسباب وانتفت الموانع ولم يجب له دعاء فإن الأحاديث الصحيحة أثبتت أن من دعا الله استجاب الله له أو أنه يدفع عنه من السوء نظير ما دعاه أو أنه يدخر هذه الدعوات ثوابا له يوم القيامة

{  فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي }

{  فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي } بالطاعة

{ وَلْيُؤْمِنُوا بِي } :

هذا يدل على أن من أسباب إجابة الدعاء أن من تقرب إلى الله،  وأن من عبد الله وأن من أطاع الله وأن من آمن بالله فإنه حري بأن تستجاب دعوته ، ولذلك قال  : { فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي }

ذكر الاستجابة التي تدل على العمل الصالح وذكر الإيمان مما يدل على أن من أعظم العبادات التوحيد

وكذلك الطاعة لله

{ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }

الرشد : هو حسن التصرف

فطاعة الله والإيمان به وسيلة إلى أن يكون الإنسان راشدا يكون تصرفه تصرفا حسنا

وهذا يفهم منه ماذا ؟

يفهم منه أنه إذا كان ذا رشد يدل على أنه من أصحاب العقول الصحيحة

ولذلك خطاب الله عز وجل إنما هو لأصحاب العقول

{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }

ويدل على أن  من لم يستجب لله ومن لم يقم بشرع الله فإنه سفيه

ويدل لذلك ما مر معنا :

{ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ }

{ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ }

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ } :

ذكر هنا ما يتعلق بالصيام

وبعد ماذا ؟

بعد الدعاء للعلل التي  ذكرناها من أن الدعاء حري بأن يستجاب حال الصيام

{ أُحِلَّ لَكُمْ }  أي أبيح لكم

{ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ } يعني الجماع

{ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ }  أي مجامعة النساء

وذلك لأنه في أول الأمر كان الفطر من الغروب إلى العشاء ، فإذا نام الإنسان قبل صلاة العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع ، وإذا لم ينم وجاء بعد العشاء فإنه يحرم عليه

فبعض الصحابة رضي الله عنهم:

وهذه طبيعة الإنسان ضعف فجامع زوجته بالليل بعد العشاء وفي هذا ما فيه من المشقة الظاهرة وإلا كما سلف فأحكام الشرع أحكامه خير للقلوب وللعباد

فقال عز وجل :

{ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ } :

{ هُنَّ لِبَاسٌ } : حال الجماع إذا تعرى الرجل مع زوجته وجامعها فإنه بمثابة اللباس لها وهي بمثابة اللباس له

ولذلك :

ما ورد من حديث :

(( لا تتجردوا كما يتجرد العيرين ))

 فإنه حديث ضعيف لا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام

وأيضا :

{ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ } بمثابة اللباس الذي يستر الإنسان فكل منكما يستر الآخر عن الوقوع في الفاحشة

وكذلك  :

{ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ }

بمعنى :

أن كل واحد ستر للآخر بحيث لا يفضح أسراره

ولذلك :

 النبي عليه الصلاة والسلام كما ثبت عنه قال :

(( ولا تهجر إلا في البيت ))

بمعنى أنه إذا وقع بين الزوجين ما يقع لا يخرج هذا الأمر خارج البيت وإنما يكون في البيت لأنه أستر ؛ ولأن الأمور ستصلح بإذن الله قبل أن يدخل الوشاة في أمر الزوجين

{ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ }  :

{ عَلِمَ اللَّهُ }  وهذا يدل على ماذا ؟

على إحاطة علم الله بكل شيء ومن ذلك ما يحتاج إليه العبد

بالنسبة إلى النساء ولذلك :

قال عز وجل : { وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا }

فالإنسان ضعيف

{ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ } وذلك بالجماع  قبل أن يباح لكم 

ودل هذا على أن من خالف أمر الله عز وجل ولو كان ما كان من ذنب سوءا كان صغيرا أو كبيرا فإنه خان نفسه

لأنه قال هنا :

{ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ } :

 من رحمته عز وجل

{ فَتَابَ عَلَيْكُمْ } : فأباح لكم { وَعَفَا عَنْكُمْ } ما مضى مما وقع منكم

{ فَالْآنَ } :هذه تدل على النسخ لأن هذا تخفيف من الله

{ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ } : ولم يقل : ” كلوا ” لأن المقصود هنا مع أنهم نهوا عن الأكل والشرب بعد العشاء لكنه خصص هنا المباشرة أو ذكرها من تخصيص مما يدل على أن هذا هو المقصود

{ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا } أي اطلبوا { مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } من الولد في ثنايا هذا الجماع

{ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } من الخير ومن ذلك ليلة القدر

فهذا الجماع وهذه الإباحة من الله لكم بهذا الجماع لا ينسيكم ليلة القدر ولا ينسيكم الخير والعبادة

{ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ }

فدل هذا على أن الليل  كله محل للأكل والشرب والجماع بخلاف ما كانوا عليه في السابق فإنه إلى العشاء

{ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ }

 كان بعض  الصحابة كان بعضهم يضع حبلا أبيض وحبلا أسود فإذا ظهر النور وتبين له لون هذا من لون هذا أمسك عن المفطرات

فأنزل الله  { مِنَ الْفَجْرِ }

{ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ }

 فدل هذا على أن المقصود ليس الخيط المعروف وإنما المقصود بالخيط الأبيض بياض النهار وبالخيط الأسود سواد اليل

{ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ } يتبين : بمعنى أنه عن يقين

ولذلك :

لو أن الإنسان أكل شاكا في طلوع الفجر عنده شك ثم لما أكل تبين له أنه قد أتي النهار فصومه صحيح

لو أنه غلب على ظنه أن النهار قد طلع لكن ليس عنده يقين هنا أكل ثم لما مضت عليه بعض الساعات تبين أنه قد أكل في النهار فصومه صحيح

لابد من اليقين فالأصل بقاء الليل

{ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } 

دل على أن هذا الوقت كله محل وزمن للمفطرات

لذا من هذه الآية وهو يدل عليه فعل النبي عليه الصلاة والسلام من قوله :

{ مِنَ الْفَجْرِ  } يدل على أنه لو جامع قبل الفجر بثوان ثم بعد ذلك طلع عليه الفجر وقد فرغ من الجماع يدل على أن صومه صيحح وأنه يغتسل ولو طلع الفجر

ويدل لهذا ما جاء في الصحيحين :

” كان النبي عليه الصلاة والسلام كان يصبح جنبا من جماع من غير احتلام فيصوم عليه الصلاة والسلام “

ومن ثم :

لو أن المرأة طهرت قبل الفجر بثوان فإن عليها أن تغتنم هذا الوقت بالسحور ولو بما تيسر ، وتغتسل وتؤخر الاغتسال إلى بعد طلوع الفجر

{ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ }

يعني من طلوع الفجر الثاني يبدأ الصوم إلى الليل

والليل :

قال هنا { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } يعني أول ما يدخل الليل هنا يباح لكم الفطر

ويدل لذلك قوله عليه الصلاة والسلام كما ثبت عنه

{ إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم }

{ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ } أي الجماع ودواعيه { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ }

لما ذكر أن المباشرة تجوز في الليل ذكر هنا ما يتعلق بالاعتكاف لأن الغالب من أن الاعتكاف يكون معه صوم ولا يلزم على الصحيح ذلك لقول عمر رضي الله عنه كما ثبت عنه قال :

(( إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال عيله الصلاة والسلام : أوف بنذرك))

{ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ }

جملة قيدت وهي جملة حالية بمعنى أنه إذا كان الإنسان معتكفا فإنه لا يخرج لكي يجامع زوجته أو أنه يباشرها ويداعبها

{ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ }  وذكر الاعتكاف وذكر محله

مما يدل على استحباب الاعتكاف مع الصوم

وذكر محله ومكانه وهو المسجد

مما يدل على أن غير المساجد كالمصليات في الدوائر الحكومية فإنه لا تعتبر مساجد

ولذلك لا يصح فيها الاعتكاف

إلا إذا كانت هذه المساجد مفتوحة وتصلى فيها الصلوات الخمس فتعتبر مساجد ولو أطلق الناس عليها مصليات

وليس العبرة بالمسجد :

المسجد الذي يكون محاطا بجدران أو ما شابه ذلك لو كان مسجدا من خيام وكان الناس يصلون فيه ويؤذنون فيه ويصلون فيه الصلوات الخمس فيعتبر مسجدا

فلا عبرة بنوعية البناء

{ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ } ما مضى

{ حُدُودُ اللَّهِ } فدل هذا على أن تلك العبادات وتلك المنهيات حدود الله

{ فَلَا تَقْرَبُوهَا } نهى هنا عن القرب { فَلَا تَقْرَبُوهَا }  من باب الاحتياط

{ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ }  كذلك يعود إلى ما سبق { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }

يعني كما بينا ما مضى لكم بينا لكم تلك الأحكام المتعلقة بالصوم وما يكون فيها من جماع وأكل وشرب وما يكون من اعتكاف كذلك نبين لكم كل الآيات التي تحتاجون إليها في حياتكم

{ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } :

وتأملوا هنا ذكر في أول الصيام التقوى وذكر في الختام التقوى ، وذكر قبل آيات الصيام ما يتعلق بالوصية وذكر التقوى ، وذكر قبل الوصية ذكر القصاص وذكرالتقوى ، وذكر قبل  القصاص ما يتعلق بالبر { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ } إلى أن قال { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }

مما يدل على أن العبد مأمور بتقوى الله ، وأن التأمل في آيات الله وأن عبادة الله تزيد العبد تقى { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى }

{ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) }  :

نهى عز وجل عن أن يأكل المسلم مال أخيه بالباطل بأي نوع من أنواع الباطل بالغصب بالسرقة بالرشوة بالميسر بالتزوير

فكلمة ( الباطل ) تدل على أن العبد لا يجوز له أن يأكل مال أخيه المسلم

{ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ }  :

ولذلك قال { أَمْوَالَكُمْ } لأن مال أخيك هو مال لك يجب عليك أن تحافظ عليه

ولذلك :

النبي عليه الصلاة والسلام كما ثبت عنه في الصحيح

(( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ))

{ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا }  أي تتوصلوا بها

ما هي ؟

الأموال لا تتوصلوا بهذه الأموال إلى الحكام إلى القاضي فتقع منكم الرشوة من أجل أن يحقوا لكم باطلا أو يبطلوا حقا

{ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ } أو تدلوا بالحكومة لعذوبة ألسنتكم فتدلوا بهذه العذوبة وبهذه الحكومة إلى الحكام

فإن حكم القاضي لا يغير من حقيقة الأمر

ولذلك :

النبي عليه الصلاة والسلام كما ثبت عنه قال : (( ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فمن قضيت له قضاء فإنما أقضي له جمرا من النار ))

{ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا } : فإنه وإن حكم لك القاضي بهذا المال أو بهذا الحق وهو ليس حقا لك فإنه يعني حكم القاضي لا يبيح لك محرما

 { لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا }  أي لتأكلوا نصيبامن أموال الناس

 { لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ } ما أكلتم هذا المال إلا عن طريق الإثم

لكن لو أن الإنسان أكل مال الآخرين بالتراضي و بالمعاملات الحلال فإن هذا جائز

ولهذا قال تعالى :

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ }

{ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ }  ووصف الجزء من المال بأنه فريق باعتبار أنه لو أخذ جزءا يسيرا فإنه لا يجوز له

{ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } :

 وأنتم تعلمون خطورة ما تفعلونه

وأنتم تعلمون أن هذا ليس بحق لكم وإنما توصلتم إليه إما بالرشوة

ولذلك قال بعض العلماء : إن الرشوة تفقأ عين القاضي

وإما لعذوبة السنتكم لفصاحتها

 

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ } :

قالوا ما بال الهلال يبدو في أول الأمر صغيرا ثم يكبر ثم بعد ذلك يكون صغيرا

وذكر هذه الآية والعلم عند الله وهي ذكر الأهلة إنما ذكرت بعد الصوم لأن الصوم إنما يثبت برؤية الهلال (( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ))

وما يذهب له الآن من تطبيق الحساب الفلكي في ثبوت دخول الشهر فإن هذا ليس من شرع الله

وقد نص شيخ الإسلام من أن هذا الأمر لم يكن معهودا من السلف ومن حث عليه أو أمر به فإنه يكون من ضمن من ابتدع في شرع الله عز وجل

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ } يا محمد جوابا لهم : هم يسألون لماذا تبدأ صغيرة ثم تكبر ثم تصغر

{ قُلْ }  جوابا لهم وهو جواب أنفع من سؤالهم { قُلْ هِيَ } أي الأهلة

{ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ }  بمعنى أنهم يعرفون الأوقات من أجل ما يكون بينهم من المعاملات ما يكون من الديون ما يكون من عدد النساء وما يتعلق بهذا الأمر

{ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } نص على الحج لأهمية الحج ولأن الحج لأنه قال { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } ولأن الحج إنما يكون لعموم الأمة فتجد أن الأمة فيما بتعلق بهلال ذي الحجة يحرصون على أن يعرفوا متى يدخل شهر ذي الحجة

فهو يتعلق بعموم الأمة

{ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } ومن ذهب من ذهب من بعض العلماء إلى أن الحج يصح في كل زمن باعتبار هذه الآية فإن مثل هذا القول ترده الآية لأن الآية إنما ذكرت مواقيت للناس والحج

ولذلك كما سيأتي { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } فدل على أن الحج لا ينوى بالحج إلا في أشهره { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ }

{ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ } :

{ وَلَيْسَ الْبِرُّ } في الآيات السابقة { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ }

لأن البر خبر ليس قدم هنا لم يقدم فكان مرفوعا { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا }

كانوا يعتقدون من أنهم إذا أحرموا من أنهم لا يكون لهم تقوى إذا دخلوا من أبواب بيوتهم وإنما ينقبون أو يفتحون باب من الخلف فيدخلون منه

فقال تعالى : { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا }

البر من اتقى الله وهذه الآية تعود بنا إلى الآيات السابقة التي  يرد بها على أولئك الذين ظنوا أن البر محصور في استقبال المشرق أو المغرب

{ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ }

وانظر إلى هذه الآية تجد أن في ختامها { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }

وهنا ذكر التقوى { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى }

لو قال قائل : ما صفة هذا المتقي ؟
نقول ارجع إلى قوله تعالى { ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} الآيات

وارجع إلى قوله تعالى { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} الآية

{ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } فليس هذا هو البر وليس هذا هو التقوى { وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } جملة عامة بمعنى أن الإنسان إذا أراد أن يأتي إلى الشيء فليأت إليه من بابه

لو أن الإنسان أراد أن يخطب امراة مثلا فليأت لخطبتها من الباب الشرعي بأن يأتي إلى ولي أمرها

{ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } من أراد أن يطلب العلم الشرعي فليطلبه من بابه الذي يوصله إلى هذا العلم الشرعي الذي ينتفع به

{ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ }  كرر التقوى لأهميتها ولأنه يترتب على التقوى حصول المرغوب وزوال المكروه

{ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } لأن الفلاح حصول المرغوب وزوال المكروه

فتقوى الله وسيلة إلى أن ينال الإنسان وأن يظفر الإنسان بكل خير وأن يجنب بإذن الله كل شر

{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }

{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } أمروا هنا بالقتال

{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } بعض أهل العلم قال هذه الآية منسوخة

وخذها قاعدة :

إن أمكن أن يجمع بين الأدلة سواء كانت الأدلة في القرآن أو في السنة أن يجمع بينها من غير أن نقول بالنسخ فهو أولى لأن الأصل عدم النسخ

ولأن القاعدة الأصولية تقول : [ إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما ]

قال بعض أهل العلم هذه منسوخة بالآيات التي أمرت بالقتال في كل الأحوال

{ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ }

ولكن الذي يظهر وهو رأي ابن كثير من أن هذه الآية ليست منسوخة وإنما قوله تعالى { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ }

 معنى ذلك الذين يقاتلونكم بمعنى أنه حث لهم أن يقاتلوا من يقاتلهم ، وليس  معنى ذلك أنهم يقاتلون من قاتلهم وإنما فيه حث من أن هؤلاء الكفار حريصون على قتالكم فقاتلوهم أيضا ، الجزاء  من جنس العمل

{ وَلَا تَعْتَدُوا }  :

أمروا بالقتال ولكن القتال هنا يكون بضوابطه الشرعية

ومما يدل على أن الإسلام ليس دين سفك دماء أو إرهاب أو ما شابه ذلك كما يقال

{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } بشروطها بشروط هذه العبادة وهي عبادة الجهاد { وَلَا تَعْتَدُوا } أي لا تتجاوزوا وهي كلمة عامة لا تعتدوا في جميع أموركم ومن ذلك إذا قاتلتم الأعداء

ولذلك في صحيح مسلم :

النبي عليه الصلاة والسلام إذا أرسل جيشا أو سرية وأمر أميرا عليها قال (( اغزوا بسم الله قاتلوا من كفر بالله لا تغلو ولا تغدروا ولا تمثلوا ))

لأن هذا من الاعتداء

{ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } وكفى بهذا النهي من أن ينزجر المسلم عنه من أن الله نهى عنه وهو عز وجل لا يحب المعتدين

مما يدل على أنه عز وجل يحب المحسنين العادلين

{ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) }

{ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ } : أي حيث وجدتموهم { وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } أخرجوكم من دياركم

أخرجوكم من مكة

{ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ }

الفتنة : الكفر وإرادة هؤلاء منكم أن تعودوا إلى الكفر أشد من القتل أشد من قتالهم هم يقولون إن قتالنا عظيم لكن حرص هؤلاء الكفار على أن يترك المسلمون الدين وأن يكفروا بالله أشد من القتل

{ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ }

بعض أهل العلم قال : هذه الآية منسوخة

بمعنى أنه يقتل هؤلاء في الحل وفي الحرم لقوله عز وجل { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ }

والتي تدل عليه الأدلة كما سبق من حيث إن الأصل عدم النسخ تدل على أن الأصل في هذا من أن المسلم لا يقاتل في المسجد الحرام إلا إذا ابتدأ الكافر بقتاله

وذلك :

لأن الآيات التي تدل على النهي عن قتال هؤلاء في المسجد الحرام هي مخصصة لتلك الآيات التي تدل على عموم قتلهم

{ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ }  فإن ابتدأوكم بالقتال فقاتلوهم

{ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ }

{ فَاقْتُلُوهُمْ } ولم يقل فقاتلوهم فاقتلوهم لأنه يترتب على قتال هؤلاء لكم أن يحصل منكم قتل فلو حصل منكم قتل لهؤلاء لأنه قد يحصل قتال ولا يحصل قتل لكن لو ترتب على ذلك قتل فإنه لا جناح عليكم لأنهم هم المعتدون اعتدوا في المسجد الحرام وفي الأشهر الحرم

{ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ } هذا الجزاء السابق جزاء الكافرين وهؤلاء كفار وأرادوا منكم أن تعودوا إلى الفتنة ، والفتنة ما هي ؟ الكفر

بعض الناس يظن أن الفتنة هي عامة

بعض الناس يقول : إذا حصلت فتنة والفتنة أشد من القتل وهذا خطأ

المقصود من الفتنة الكفر أن يريد هؤلاء بكم أن تكفروا بالله عز وجل

{ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) }

إن انتهوا عن الكفر ودخلوا في الدين فإن الله غفور رحيم سيغفر لهم ما مضى وسيرحمهم

ولذلك :

قال عز وجل : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ }

{ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) }

{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ } حتى لا يقع كفر وشرك وحتى لا يرتد من يرتد فإن خطر هؤلاء الكفار خطر عظيم

ولذلك مما يدل حتى لا ينسب إلى الإسلام من أنه دين يحب سفك الدماء

لو كان كذلك لما قال النبي عليه الصلاة والسلام ( لا تمثلوا بالكفار ) لكان القول منه مثلوا بهم

ولما نهاهم عن قتل الصبيان والنساء

فدل هذا على أن الدين دين رحمة ، ولذلك حتى لو أن الكافر لو أراد أن يدفع الجزية حتى لا يدخل في الإسلام فإن الشرع أجاز ذلك كما سيأتي بإذن الله

(وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) دين الإسلام

ولذلك قال عز وجل في سورة الأنفال :

(وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) أكد ذلك

( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )

فإن انتهوا فالله مطلع عليهم ( وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) )

وسينصركم وسيتولى أموركم

(فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ) إن انتهوا فلا عدوان عليهم لأن العدوان إنما يكون على الظالمين

وقال هنا { عُدْوَانَ } مع أنه حق لأنه نظير المجازاة كما قال عز وجل :

{ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا }

فقال : { عُدْوَانَ } من باب المشابهة لأن أولئك اعتدوا فوصفت المجازاة من المسلمين لهؤلاء الكفار بالعدوان نظير المشابهة

{ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا }

 { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ }

(فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ) فمن اعتدى فهو ظالم فبفعلهم هذا هم الظلمة

الذين اعتدوا على شرع الله

 { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ } يعني الشهر الحرام الذي قاتلوكم فيه فقاتلتموهم فيه نظيرالمجازاة { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ }

 أو { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ } الشهر الحرام الذي قضيتم فيه العمرة التي صددتم عنها في الحديبية بالشهر الحرام

{ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ }

عممها { وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } حتى لا يحصر الأمر في قضية اعتداء أو في قضية في الأشهر الحرم

{ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ }  سماه هنا ووصفه بأنه اعتداء من باب المقابلة فقط وإلا فليس اعتداء لأ نه أخذ حق

{ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ }

بمثل ما اعتدى عليكم وليس بالأكثر

{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } لأن تقوى الله مانعة العبد من أن يعتدي على الآخرين أو أن يعتدي على حق الله

{ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }  :

{ وَاعْلَمُوا }  أمروا بأن يعلموا من باب التنبيه من أن الله مع المتقين وأن من لم يعتد ومن قام بالأحكام السابقة فهو من المتقين

وإذا كان الله مع المتقين فإنه لا يحزن لأن الله معيته الخاصة مع المتقين تقتضي النصرة والتوفيق والتيسير والتأييد منه عز وجل ، الحفظ والإعانة

( وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) )

( وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) : أمروا بالإنفاق في سبيل الله ، وسبيل الله عام في كل سبيل من سبل الخير لكن من ذلك الجهاد في سبيل الله

{ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } فلا يجوز للإنسان أن يلقي نفسه إلى التهلكة ولذا قال عز وجل { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}

{ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}

ومن التهلكة : كما قال بعض العلماء عدم الإنفاق  في الجهاد في سبيل الله

ومن التهلكة : أن الإنسان يهلك نفسه فيما يتعلق بشرع الله

من ذلك أن الإنسان قد يذنب الذنب  فيقول إن الله لن يغفر لي فيقنط من رحمة الله فإذا به يفعل الذنب تلو الذنب ويترك الخير من باب أنه يقول إن الله لن يغفر لي فهذا من التهلكة

فهذه الآية وهذه الكلمة من الآية عامة { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ }

{ وَأَحْسِنُوا }  لما نهاهم عن التهلكة أمرهم بالإحسان وأطلق { وَأَحْسِنُوا } أحسنوا في القول أحسنوا في الفعل

أحسنوا حتى مع الأعداء لأن الإحسان إليهم يجعل هؤلاء يحبون الإسلام

ولذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام قال (( عجب الله من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل ))

بمعنى أنهم يؤسرون وإذا رأوا سماحة المسلمين ورأوا يسر المسلمين دخل الدين في قلوبهم

ولذلك قال عز وجل :

 { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا }

والأسر الحقيقي إنما يقع على الكافر وليس على المسلم

ومع ذلك أمر المسلم بأن يحسن فيحسن إلى الإنسان

وهذه مطلقة

{ وَأَحْسِنُوا }  العلة { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }

وهذا فيه إثبات صفة المحبة لله على ما يليق بجلاله وبعظمته

فإذا علم العبد أنه متى ما أحسن في عمله حتى في عمله الدنيوي الذي يأخذ  عليه أجرة

إذا علم الإنسان أنه متى ما أحسن في عبادته علم أن الله يحبه فإنه في مثل هذه الحال يكون حريصا على الإحسان

ولذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام قوله: (( إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملا أن يتقنه )) يعني أن يحسنه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) }

 

{ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } :

هذه الآية نزلت في السنة السادسة من الهجرة لما صد كفار قريش النبي عليه الصلاة والسلام عن البيت لكي يؤدي العمرة وليست دليلا على وجوب الحج لأن هذه في السنة السادسة

أما الدليل الذي يدل على أن الحج لم يأت وجوبه من هذه الآية وإنما وجب في السنة التاسعة قوله تعالى في سورة آل عمران { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } وذلك في السنة التاسعة من الهجرة

{ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ }  هم أحصروا عن ماذا ؟

أحصروا عن العمرة ولم يحصل هناك فرض حج

مما يدل على ماذا ؟

مما يدل على أنه متى ما وجب على العبد إذا نوى ودخل إذا دخل في نسك العمرة يجب عليه أن يتم نسك العمرة ويجب عليه إذا دخل في الحج أن يتم حجه

وأما ما يفعله البعض من أنه يحرم بالعمرة ثم يذهب وإذا رأى زحمة أو ما شابه ذلك رجع

فإنه لا يزال محرما { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ }

 وليعلم :

أن العبد متى ما دخل في حج أو في عمرة فإن ذمته لا تبرأ إلا بواحد من ثلاثة أمور :

ـــ إما أن يكمل هذا الحج أو هذه العمرة وينتهي منها

ـــ وإما أن يحصر منها بعدو أو مثلا بضياع نفقة أو بأمر منعه من إتمام الحج

ـــ أو إذا استثنى بمعنى أنه قال عند إحرامه : ”  إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني “

وإلا فإنه لا تبرأ ذمته

{ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ }  ونص هنا على كلمة لله مما يدل على أن العمرة والحج ، وكذلك سائر العبادات لا تكون مقبولة إلا إذا أخلص العبد فيها لله عز وجل

{ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ }

فإن أحصرتم هل نص على نوع معين من الإحصار هل قال فإن أحصرتم بعدو فإن أحصرتم بضياع نفقة فإن أحصرتم بمرض

فإن أحصرتم بحادث ، لم ينص على شيء مما يدل على العموم

وهذا هو القول الصحيح

خلافا لمن حصره بالعدو لأن بعض العلماء يقول لا يتم إحصار إلا إذا منعك شخص من الدخول بناء على سبب نزول هذه الآية من أن المشركين صدوا النبي عليه الصلاة والسلام

ولكن الصحيح من أن الإنسان متى ما أحصر بأي نوع من أنواع الحصر فإن له أن يتحلل من إحرامه

لكن متى ؟

إذا كان معه هدي يذبح الهدي ثم بعد ذلك يحلق رأسه ثم يتحلل من إحرامه ويعود ولا شيء عليه

{ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } عمم هنا وخذها قاعدة :

 [ حذف المعمول يدل على العموم ]

قال: { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } لم يقل فإن أحصرتم بعدو أو بضياع نفقة

كما قال تعالى: { فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا } يعني فصلوا فإن خفتم حال الخوف ووجبت عليك الصلاة

فإن خفتم في حال الخوف من سبع من عدو مما يشابه ذلك فلك أن تصلي على حسب حالك

{ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ }

أقل الهدي شاة شروطها كشروط الأضحية

فإن ذبح بقرة هذا أفضل

فإن ذبح بعيرا أو ناقة فهذا أفضل

 { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ }

لا تحلق رأسك ولا تتحلل من إحرامك حتى يبلغ الهدي محله

هم أحصروا محل الهدي الذي سيذبح في مكة لكنهم منعوا فيكون محل الهدي هنا وهو هدي الإحصار في المكان الذي أحصرت فيه

{ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ }

دل هذا على أنه مع وجوب ذبح الهدي إذا كان معه هدي فإنه يحلق رأسه ثم يتحلل وينصرف إلى أهله

{ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ}

{ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا }  أحل به المرض وهو في نسك عمرة أو في نسك حج أو به أذى من رأسه

الأذى : لا يلزم أن يكون مرضا ، ولذلك قال : { أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ }  قد يكون الأذى في الرأس قد يكون مرضا وقد لا يكون مرضا

لكن إن تأذى الإنسان بشيء فإنه والحالة هذه ماذا يصنع ؟

{ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ } ويريد أن يحلق رأسه

أو كان مثلا مريضا لابد أن يغطي رأسه حال الإحرام هنا فله أن يفعل المحظور بأن يغطي رأسه

أو إذا كان به أذى من رأسه له أن يحلق رأسه

كما حصل لكعب بن عجرة لما كثر القمل في رأسه وتناثر على وجهه أمره النبي عليه الصلاة والسلام أن يحلق رأسه وأن يدفع فدية محظور

{ أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ } عليه فدية  ، فعليه فدية حال فعل هذا المحظور ، ولا يكون عليه الإثم لكن من اعتدى على محظور من محظورات الإحرام من غير عذر فإنه يكون آثما وعليه الفدية

لكن :

إن كان لعذر كما هنا في هذه الآية وكما حصل لكعب بن عجرة فإنه لا إثم عليه لكن عليه الفدية

فإن فعل المحظور ناسيا أو جاهلا فإنه لا إثم عليه ولا فدية

{ أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } على باب التخيير

أو هنا للتخيير

{ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ } مطلق { أَوْ صَدَقَةٍ } : مطلق

{ أَوْ نُسُكٍ } مطلق

بينها حديث النبي عليه الصلاة والسلام لكعب بن عجرة لما أمره أن يحلق رأسه وكثر القمل عليه لما أمره أن يحلق رأسه أمره بأن يختار إما أن يذبح شاة وإما أن يطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع أو يصوم ثلاثة أيام

قال هنا  { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ } كم يوم ؟

ثلاثة ايام أطلقها ولو لم تكن متتابعة ولا يلزم أن تكون في مكة

{ أَوْ صَدَقَةٍ } كم ؟ إطعام ستة مسكين لكل مسكين نصف صاع

المساكين هؤلاء مساكين الحرم

{ أَوْ نُسُكٍ } أو ذبح شاة وهذا يدل على ماذا ؟

يدل على أن قوله عز وجل { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي }  النسك هنا : النسك يطلق على العبادة ويطلق على الذبح

ولو قال قائل : من أين لكم من أن الذبح نسك ؟

نقول هذه الآية : { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ }

{ فَإِذَا أَمِنْتُمْ }  زال الخوف الذي به حصل الإحصار ولم تستطيعوا أن تكملوا  العمرة أوالحج (فَإِذَا أَمِنْتُمْ ) حال الأمن { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } يعني في حال الأمن الأفضل في حقكم نسك التمتع ونسك التمتع هو أن الإنسان يحرم في أشهر الحج في شوال أو في ذي القعدة أو في ذي الحجة يحرم بالعمرة ثم ينتهي منها من نفس السنة ويبقى في مكة ولا يعود إلى أهله ثم يحرم بالحج في اليوم الثامن

فهنا إذا أحرم بالعمرة تحلل وجاز له من المحظورات ما كان محرما عليه فيستبيح المحظورات إلى أن يأتي اليوم الثامن ويدخل في الحج

هنا من أجل هذا التمتع الفاصل بين العمرة والحج هنا تمتع حصل له نسكان حج وعمرة وهناك فاصل نظير هذا الفاصل عليه أن يذبح هدي المتمتع

 { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ }

أقل الهدي : ذبح شاة إن ذبح بقرة فأفضل إن ذبح ناقة أو بعيرا فأفضل

ويشترط في هدي التمتع أن يأتي بالشروط التي هي شروط الأضحية

{ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ }

والقران مثله

لو أن الإنسان قرن بين الحج والعمرة بمعنى أنه يقول : لبيك عمرة وحجا فيأتي بالحج كصفة الإفراد

والفرق بين القارن والمفرد :

لا فرق من حيث الصفة

الإفراد مثل القران لكن الفرق أن على القارن أن عليه هديا

{ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ }

بعض أهل العلم قال : لو أنه أخذ العمرة في أشهر الحج وبقي في مكة ولو لم ينو من أن العمرة عمرة حج فحج فإنه يلزمه هدي التمتع لأنه متمتع ولو لم ينو

هذا قول يختاره شيخ الإسلام

وهناك قول آخر من أنه لابد من النية لقوله عليه الصلاة والسلام (( إنما الأعمال بالنيات )) كما في الصحيحين

فإنه إذا لم ينو حال العمرة من أنها عمرة تمتع فإنه لا يكون له حج تمتع

واستدلال شيخ الإسلام لظاهر هذه الآية فلم يذكر نية { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ }

{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} : هذا الهدي هدي التمتع { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ }

أطلق ولو لم تكن متتابعة بأن يصوم في أيام الحج إن لم يستطع فأباح له النبي عليه الصلاة والسلام كما عند البخاري أن يصوم أيام التشريق

{ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } الحديث دل على إذا رجع إلى أهله يعني في بلدته

بعض أهل العلم قال : { وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } بمعنى أنه إذا فرغ من أعمال الحج وتهيأ للخروج فإنه لا إشكال في ذلك

لكن التقيد بالحديث يكون أولى

هل قال سبعة أيام متتابعة ؟  أطلق

دل على أنها لو كانت متفرقة فلا حرج في ذلك

{ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ }  أي إلى أهليكم

{تِلْكَ} الأيام {عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } هي عشرة لكن لماذا قال { كَامِلَةٌ } من باب التأكيد ومن باب الحرص على أنه لا ينقص منها كأنها في سياق الأمر يعني أكملوا هذه الأيام العشرة

{ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ }  أي هذا الهدي { لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ } أي

{ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ } أي لمن لم يكن نفسه { لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } يعني أهل مكة لو تمتع الواحد منهم  فإنه لا هدي عليه { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ }

 من هم حاضروا المسجد الحرام ؟ هل هم أهل مكة هل هم من في الحرم هل هم من دون الميقات ؟

الصواب :
أنهم أهل مكة وأهل الحرم

لأنهم في الحقيقة هم حاضروا يعني هم قريبون من المسجد الحرام أما من دون الميقات فإنه على هذا القول يلزم أن من دون ذي الحليفة أنه لا هدي عليه وكيف والمسافة بعيدة جدا

{ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ }  وأهله بمعنى إن لم يكن نفسه

دل هذا على أن النفس يطلق عليها أهل كما أنه يطلق على الزوجة أهل

 { فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ }

 ويطلق على القوم أهل :

{ وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ }

{ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ }  فلا هدي عليهم

{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } سبحان الله ! في الآيات وفي الأحكام يأمر الله عز وجل بتقوى الله لأن تقوى الله وسيلة إلى الفلاح وسيلة إلى الخير وسيلة إلى زيادة الإيمان { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }

{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } أمروا بالتقوى وأمرهم بأن يعلموا { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }  لمن خالف تلك الأحكام وهي عامة لمن خالف شرع الله فهناك عذاب شديد له ، وكذلك الشأن في من خالف تلك الأحكام السابقة

{ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)}

{ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } :

ذكر الله هذه الآية لما ذكر الأمر بإتمام الحج والعمرة ذكر ما يتعلق بالحج ، وذلك لأن زمن الحج زمن مؤقت بخلاف العمرة ، فإن العمرة تكون في أي يوم من أيام السنة إلا في حالة واحدة فيما لو كان الإنسان متلبسا بحج

أما بالنسبة إلى الحج فله زمن معين :

{ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } :

تلك الأشهر المعلومات : شوال وذو القعدة وذو الحجة على القول الصحيح لأنه قال { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } ولم يقل ( في أشهر معلومات) خلافا لما قال : ” إن زمن الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة “

ومما يقوي ما ذكرناه :

 من أنهم قالوا عشر ذي الحجة ومعلوم أن الرمي يكون في أيام التشريق وهي بعد عشر ذي الحجة

ويترتب على هذا الخلاف تترتب عليه أحكام فيما لو أن الإنسان حلف فقال والله لا أدخل بيت فلان في أشهر الحج فإن دخله في اليوم الحادي عشر أو في اليوم العشرين من شهر ذي الحجة فإنه حينها على ما رجحنا تكون عليه كفارة يمين

أما على القول الآخر فلا كفارة عليه

ومما يستدل به ممن يقول من أنها تنتهي بعشر ذي  الحجة قالوا إن قوله عز وجل { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } من باب التغليب كقوله عز وجل

{ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ } ومعلوم أنه لا يبقى يومين

ولكن الصحيح ما ذكرناه

وهذا يدل على أن الحج على القول الصحيح لا يصح إلا إذا عقد في زمنه فلو أن الإنسان نوى بالحج في رمضان أو في شعبان فإنه لا يعتبر حجا

وهل يعتبر هذا الإحرام لاغيا ؟

خلاف بين أهل العلم ، والصحيح أنه يكون إحرام عمرة يلزمه أن يأتي بعمرة

إذاً :

 الحج لا يكون إلا في زمانه

 { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } أي من ألزم نفسه في هذه الأشهر بالحج مما يدل على أنه يلزمه أن يتم ذلك أنه قال { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } وهذا يؤكده ما سبق من قوله تعالى في الآية السابقة

{ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ }

{ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } أي في أشهر الحج ( فَلَا رَفَثَ ) الرفث يشمل كل ما يتعلق بالجماع وبدواعيه

فالرفث : ينهى عنه الحاج بمعنى أنه لا يجامع بمعنى أنه لا يداعب المرأة ولا يباشرها

بمعنى أنه لا يعدها كما لو قال : إذا فرغنا من الحج فعلنا وفعلنا يدخل ما يتعلق بالنكاح

فإذاً نهي الحج عن الرفث بجميع أنواعه التي ذكرنا

{ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ } الفسوق شامل لكل ما حرمه الله عز وجل ويدخل في ذلك ما قيل من أنه السباب لقوله عليه الصلاة والسلام

(( سباب المسلم فسوق )) كما ثبت عنه

ويدخل فيه أيضا ( التنابز بالألقاب ) كما قيل

{ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ }

فهذه أنواع من أنواع الفسوق

{ وَلَا جِدَالَ } نهي الحاج عن الجدال

بعض أهل العلم قال ينهى عن الجدال مطلقا

والصحيح أن الجدال قد  يكون واجبا في الحج لبيان الحق وقد يكون مستحبا

فهو يختلف باختلاف أحواله وبتنوع مقاصده

ويدخل في ذلك الجدال في أحكام الحج

فإن أحكام الحج قد بينها الله وبينها النبي عليه الصلاة والسلام بيانا شافيا فلا يجادل المسلم فيها فهي واضحة وبينة

{ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ }

 [ ما ] هنا شرطية جوابها { يَعْلَمْهُ اللَّهُ } جزم لأنه جواب الشرط

{ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ }

 وهذا العلم علم كما سبق في قوله عز وجل { إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ}

الله عالم بكل شيء وقبل أن يفعل العباد فهو عالم بكل ما سيفعلونه لكنه لما ذكر هنا العلم تبين هنا أن المقصود من هذا العلم هو العلم الذي يترتب عليه الجزاء والحساب

{ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ }

وإذا كان يترتب عليه الجزاء والحساب فكلمة الخير تدل على أن كل خير يحبه الله فيكون حينها من صرف هذا الخير أو أي عبادة من العبادات  فإنه أشرك بالله عز وجل

{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى }

وذلك لأن بعضهم إذا ذهب إلى الحج قالوا نحن نذهب إلى هذه الشعيرة ولم يتزدوا من الطعام ومن الشراب فنهوا عن ذلك

{وَتَزَوَّدُوا } من الطعام

{ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ }

لما ذكر الزاد وهو زاد الدنيا من الطعام والشراب نبه على أن التزود به خير ، وذلك ما يتقي به الإنسان من أن يسأل غيره وأفضل ما يتزود به الإنسان أن يتزود بالتقوى

كما قال عز وجل :

{ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ }

{ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ } أمرهم بالتقوى والتقوى فعل أوامره واجتناب نواهيه

 { وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } لأن الخطاب إنما هو لأصحاب العقول

ولذلك سمي العقل لبا لأن اللب هو خلاصة الشيء ومعلوم أن أفضل ما لدى الإنسان هو عقله ، وعقله في قلبه كما سيأتي خلاف أهل العلم في ذلك { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا }

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) }

{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ }  أي ليس عليكم إثم { أَنْ تَبْتَغُوا } أن تطلبوا

{ فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } الفضل هنا هو التجارة ، وذلك لأنهم سألوا لو أننا حججنا وتاجرنا أيكون في ذلك حرج وإثم ؟

 فخفف الله عليهم فبين أن من حج وأضاف إلى حجه المتاجرة فإنه لاجناح عليه

ولاشك أن تخصيص الحج دون أن يصحب معه مثل هذا الغرض لاشك أنه أرفع منزلة

{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ }  وهذا الفضل وهذه التجارة وهذا الخير إنما هو من عند الله والإنسان فقط مأمور بفعل الأسباب

{ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ }

{ فَإِذَا أَفَضْتُمْ } أي دفعتم

(فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ) والمشعر الحرام هو الجبل الذي في مزدلفة ، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام إذا صلى الفجر أتاه وذكر الله عز وجل ودعا الله عنده حتى يسفر جدا ثم ينطلق عليه الصلاة والسلام إلى منى

(فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) وهو مشعر لأنهم كانوا في أول الأمر جعلوه علامة لهم لمعرفة مزدلفة

(فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ )

( وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ) وقد مر معنا قول الله عز وجل { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } فهداية الله للعبد من أفضل ما يكون وتلك الهداية من الله تستوجب على العبد أن يذكر الله وأن يعظم الله ومن أعظم ما يذكر الله به التوحيد

(وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ) أي من قبل هذا الهدى ولا تعارض بينه وبين من قال (مِنْ قَبْلِهِ) الضمير يعود إلى القرآن أو إلى النبي عليه الصلاة والسلام فهي أقوال متلازمة

(وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) قال الله عز وجل { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) }

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)}

{ ثُمَّ أَفِيضُوا } أي  من عرفة { مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ }

وذلك أن قريشا يقولون : نحن أهل الحرم فلا نخرج من الحرم يقولون نبقى في مزدلفة ؛ لأن مزدلفة من الحرم ، ولا نخرج إلى عرفات ؛ لأن عرفات من الحل فقال الله { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ }

و( ثم ) هنا أتت بعد ذكر مزدلفة ، ومعلوم أن الوقوف بعرفة أسبق من الوقوف بمزدلفة ثم هنا ليست للترتيب الزمني

الترتيب الزمني كما لو قلت : جاء زيد ثم عمرو أي جاء زيد أولا ثم هناك وقت بين مجيء زيد ثم جاء عمرو لكن هنا ترتيب ذكري لا يستلزم منه الزمن ، وهذا يكثر وهو الترتيب الذكري يكون في العطف بين الجمل

{ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ }

وهذا نظيره من باب التقريب { فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) }

أخَّر الإيمان ليس تأخيرا زمنيا لأن الإيمان مطلوب لأن تلك الأعمال لا تصح إلا بالإيمان وبالتوحيد

 { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ}

وبعض العلماء يقول  { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } أي ثم أفيضوا من مزدلفة إلى منى لكن القول الأول هو الأقرب

{ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أمروا بالاستغفار ، وذلك بعد الفراغ من العبادة

وذلك نحن نقول بعد السلام من الصلاة : ”  أستغفر الله أستغفر الله أستغفر الله “

وذلك لأن العبد قد لا يقوم بهذه الشعيرة وبهذه العبادة على أكمل الوجوه فأمر بالاستغفار من باب أن يرقع ما يكون من خلل في تلك العبادة

لكن ليعلم أن هذا الاستغفار لا يكون بعد أي عبادة إلا إذا نص عليها الشرع حتى لا يقع العبد في البدعة لقوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ))

{ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } :

اسمان من أسمائه عز وجل :

(غفور ورحيم ) فهو عز وجل يغفر الذنب وهو يرحم وإذا اجتمع هذان الاسمان فإن الغفور يدل على مغفرة الذنوب وإزالة الذنوب والرحمة تأتي بالخير

ولذلك نحن نقول بين السجدتين : ” رب اغفر لي وارحمني “

فالمغفرة إذا أتت وحدها تتضمن مغفرة الذنب وحصول الخير

وكذلك الشأن في الرحمة لكن إذا اجتمعتا فيكون هذا التفريق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) }

{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ } أي فرغتم من مناسك الحج

{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ } ولم يقل : ” منسككم ” مما يدل على أن المشاعر في عبادة الحج متعددة ، ويطلق عليها من أن هذا نسك كذا وهذا نسك كذا نسك الطواف نسك السعي ونسك الرمي وما شابه ذلك

{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا }

هذا من باب تنبيه أولئك الذين كانوا في الجاهلية يذكرون آباءهم ذكرا عظيما من باب بيان مكانة آبائهم

ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام كما ثبت عنه في خطبته في عرفة بين عليه الصلاة والسلام أنه لا تفاخر بالأحساب ولا بالأنساب وحذر من ذلك في أحاديث  كثيرة منه عليه الصلاة والسلام

{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا }

ليكن ذكركم لله عز وجل كذكركم لآبائكم أو أشد ذكرا بمعنى أنه يكون أشد ذكرا أو أنه لا ينقص من أن يكون كذكركم لآبائكم

بل قال بعض العلماء : { كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ } من باب ماذا ؟

من باب أن الطفل لا يذكر على لسانه إلا أباه فدل هذا مع هذا دل على أن الذكر لا يكون إلا لله عز وجل وحده ويكون العبد في هذا الذكر مخلصا لله

{ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } ثم ذكر عز وجل ما يكون فيه أحوال الناس إذا انقسموا إلى قسمين

{ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) }

{ آتِنَا فِي الدُّنْيَا } ولم يقيد يريد أي شيء من الدنيا ولو كان هذا الشيء  في  الدنيا ولو كان ذميما ولو كان قبيحا أهم شيء أن يتحصل على أغراض

{ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) }

أي من نصيب لأن غرضه فقط الدنيا

كما قال عز وجل :

{ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ }

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)}

{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ } وهذا هو الصنف المؤمن الذي أراد الخير وأراد وجه الله وأراد الآخرة

{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً }

 

 قيد  بالحسنة ، والحسنة تشمل كل حسن من زوجة صالحة من مال طيب من علم نافع ينتفع به فهو شامل وتتضمن أيضا هذه الحسنة التي طلبوها في الدنيا تتضمن دفع المكروه كما أنها في ظاهرها تكون للشيء المحبوب أيضا تتضمن دفع الشر عنه

ولذلك ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه دخل على رجل من أصحابه رضي الله عنهم وإذا به كالفرخ من المرض فقال :

(( يا رسول الله إني قلت يارب أي عذاب ستعذبني في الآخرة فعجل به لي في الدنيا ، فقال عليه الصلاة والسلام : إنك لن تستطيع ذلك ألا قلت ربنا آتنا في الدنيا حسنة ))

هذا يتضمن دفع الشر بدلالة هذا الحديث { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }

 { وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً }

وحسنة الآخرة أعظمها دخول الجنة وأعظم من ذلك أن يرى الله

وأيضا يتضمن ما يكون من حسنة في الآخرة أنه يجنب تلك الأهوال

{ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ } في يوم القيامة

{ وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }

{ وَقِنَا } أي نجنا ونحنا من عذاب النار

وأما ما ذكره بعض العلماء في تخصيص قوله : { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً } يعني الزوجة الصالحة { وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً }  يعني : الحور العين

{ وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }

يعني المرأة السيئة في الدنيا فإنه ولا شك أنه بعيد عن المقام

وإنما الصحيح ما ذكرناه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{  أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) }

{ أُولَئِكَ }  من ؟ الذين طلبوا الحسنة في الدنيا وفي الآخرة
{ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ }  أي حظ { مِمَّا كَسَبُوا } { مِمَّا } أي لأجل ما كسبوا وهذا يدل على ماذا ؟

يدل على أن العبد له مشيئة وله كسب خلافا للجبرية الذين يقولون إن العبد مجبور على فعله فإنه لما حرك يده كاتحريكي ليدي قالوا إنما هذا يكون بمثابة الرعشة ويكون بمثابة تحرك الأشجار وليس للعبد إرادة ، كلا

أنا أردت أن أرفع يدي لكن لا يمكن أن أرفع يدي إلا إذا أراد الله

ولذلك :

ذلكم الرجل الذي في صحيح مسلم لما أكل بشماله فقال عليه الصلاة والسلام: (( كل بيمينك ))

قال : لا أستطيع

قال : (( لا استطعت ))

فما رفعها إلى فيه

أراد أن يرفعها لكن لم يستطع لأن الله لم يرد ذلك

{ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } فيحاسب الناس بأسرع ما يكون وذلك لأنه عز وجل لا يكون كالمخلوق يحتاج إلى استذكار أو أنه ينسى بل هو الكامل عز وجل الذي أحاط بكل شيء علما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) }

{ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } أمروا بالذكر في هذه الأيام المعدودات وهي أيام التشريق 

أما قوله عز وجل  : { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ }

 فهذا على رأي الجمهور كما سيأتي معنا في الحج هي عشر ذي الحجة

أما هنا { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } المذكور منها أيام التشريق  ومن الذكر في أيام التشريق التكبير

ولذلك :

 قال عليه الصلاة والسلام كما عند مسلم :

(( أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل ))

{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}  بمعنى أنه رمى اليوم الثاني عشر ثم خرج قبل غروب الشمس خرج من منى

{ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ } فلا حرج عليه

{ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ } : أيضا من تأخر فلا إثم عليه

ولا شك أن التأخر أفضل لفعله عليه الصلاة والسلام ولأنه أكثر عبادة ولكن قيد ذلك كله بالتقى { فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى } فالعبرة بالتقوى متى ما تحققت التقوى تحقق  كل خير سواء كان الإنسان متعجلا، إن تعجل مع التقوى وتأخر بدون التقوى فالتعجل أفضل

وإن حصلت التقوى في التعجل في  يومين أو في ثلاثة أيام فلا شك أن التأخر أفضل

ثم قال { لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ } أمروا بالتقوى في جميع أحوالهم ليست التقوى محصورة في قضية عبادة معينة

{ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا } أمروا بأن يعلموا لأن هناك أمرا عظيما كما يقال لإنسان تنبه لأن هناك أمرا عظيما يجب أن تستحضر القلوب له وأن تحضر القلوب له

{ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }  أي تجمعون وذكر الحشر هنا للتذكير بالحشر يوم القيامة ؛ لأنهم انصرفوا من مكان اجتمع الناس فيه وذلكم المكان ، وذلكم الزمن ذكرهم بالحشر إذ إنهم ما كانوا يلبسون ، وكلهم في لباس وعلى لباس واحد الإزار والرداء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) }

 تلك الأحكام السابقة الناس انقسموا فيها على قسمين
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ } وهذا هو حال أهل النفاق

{ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ }

{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ } :

 الخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام أو لكل من يصح له الخطاب له ممن هو حريص على الإيمان ، فالعجب ليس من أجل فصاحته ، لا ، العجب أو التعجب والخيرية في هذا التعجب أو الاستحسان في هذا التعجب إنما لأنه أظهر الخير بلسانه

{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }  فقط قوله إنما هو حسن في الحياة الدنيا لكنه إذا أتى إلى الله عز وجل يوم القيامة فإن قوله يكون وبالا عليه
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ } انظر إلى عظم الطغيان وعظم الذنب وعظم الظلم إذ إن الإنسان إذا بعد عن شرع الله عز وجل طغى وتكبر وتقول على الله { وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ } يشهد الله أن ما في قلبه هو نفس ما يقوله بلسانه من الحق وقد كذب

{ وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ } وهذا يدل على أن هذا الرجل لم يعظم الله لأنه لو عظم الله ما نسب إلى الله هذا القول الذي قاله
{وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}

{ أَلَدُّ } أي شديد الخصام فهو شديد الخصومة وهو بغيض عند الله

بغيض عند الله من هو  شديد الخصومة فكيف بمن أشهد الله كذبا يظن أن الله لا يعلم

وهذا يدل على أنه ما عظم الله

ولذلك النبي عليه الصلاة السلام كما ثبت عنه في الصحيح قال :

(( إن أبغض الناس عند الله الألد الخصم ))

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) }

{ وَإِذَا تَوَلَّى } : المفسرون يقولون هذه نزلت في الأخنس بن شريق قال هذا القول 

وعلى كل حال سواء نزلت فيه أو في غيره فإنها وعظ وتذكير لمن اتصف بصفته

{ وَإِذَا تَوَلَّى } يعني انصرف عنك أو تولى يعني تولى ولاية

{ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ } انطلق في الأرض { لِيُفْسِدَ فِيهَا } يفسد في الأرض  التي أمر الله عز وجل بإصلاحها (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا)

{ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ } يعني الزرع

{ وَالنَّسْلَ } يعني البهائم لأنه لما انصرف عن النبي عليه الصلاة والسلام مرعلى زروع قوم بينهم وبينه خصومة فأحرق زرعهم وقتل بهائمهم

{ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ }

 وقد قال عز وجل { إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ } وإذا كان لا يحب الفساد فإنه يحب الصلاح والإصلاح وأهل الصلاح

{ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } وهذا الرجل جمع بين سيئتين بين سيئة القول لما تكلم بالكلام الحسن على أنه من أهل الإيمان وجمع مع ذلك سيئة الفعل { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ }

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) }

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ }  يعني مع تلك الأفعال وتلك الأقوال المشينة إذا قيل له اتق الله حتى ينصرف عن هذا الفعل السيء وعن هذا القول السيء

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ } أي أخذته العزة على العمل بالإثم وكذلك لما في قلبه من العزة التي دعته إلى أن يقع في الإثم وقيد هنا { أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ } لِمَ ؟

لأن هناك عزة محمودة عزة أهل الإيمان فهم أعزاء بمعنى أنهم يحبون أهل الإيمان وهم أعزاء على أعداء الله

ولذلك قال تعالى { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ }

وقال تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ }

يعني ليطلبها من الله وقال تعالى : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ }

ولذا :

من أبغض الكلام أن يقال للإنسان اتق الله فيقول عليك بنفسك

ثبت في الحديث حديث ابن مسعود أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:

(( إن أبغض الكلام عند الله أن يقال للرجل اتق الله فيقول عليك بنفسك ))

{ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ } أي كافيه { جَهَنَّمُ } جهنم تكفي هذا الذي تكبروأفسد بقوله وبفعله

ولذا قال عز وجل :

{ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ 5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) }

أمثال هؤلاء تحطمه النار

ولذلك النار أخبر النبي عليه الصلاة والسلام من أنها احتجت مع الجنة فقالت : (( يدخلني المتكبرون ))

{ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ } بئس فعل ذم المهاد يعني الفراش كالمهد الذي يلف فيه الطفل فهو بحاجة إلى المهد فهؤلاء مهادهم ومقرهم النار

وبئس المقر وبئس الفراش وبئس المهاد النار

{ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ } ولذلك قال عز وجل { قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) }

{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ } هذا الصنف الآخر الذي هو خلاف الصنف السيء

{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي } يبيع لم يقل يشتري { مَنْ يَشْرِي } بمعنى كما مر معنا يشري يعني يبيع

{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ }  يبيع نفسه لغرض { ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ } يرجو ما عند الله

المفسرون يذكرون أنها نزلت في صهيب الرومي رضي الله عنه لما أراد أن يهاجر قالوا أتيتنا وأنت فقير فلا تخرج

فقال : أدع لكم أموالي وتتركونني فأخذوا الأموال وتركوه

{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ } وهذا لا يخص صهيبا وإنما هوعام في كل مسلم

فمن باع نفسه ابتغاء مرضات الله عز وجل دخل في هذا الأمر

من باع نفسه فجعل وقته كله للعلم ولنشره ولبيانه ولتوضيحه فإنه يدخل ضمن هذه الآية

من جعل نفسه لله عز وجل وأوقف نفسه لله من أجل أن يدافع عن دين الله وأن يصد البدع وأن يترك ما يفعله غيره من الحرص على الدنيا فإنه يدخل ضمن هذه الآية

من أنفق أمواله ابتغاء وجه الله كل ذلك يدخل

{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ } يبيع نفسه

{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}

مع هذا كله فمن باع نفسه لله فالله عز وجل أرحم به من نفسه ومن والدته { وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }

اسم الرءوف يتضمن صفة الرأفة ، وصفة الرأفة أخص كما قال العلماء  من الرحمة ولعل ما ذكروه من أنها أخص دلالتها كما يظهر لي من قوله تعالى في قضية إقامة الحدود :

{ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } ولم يقل رحمة بمعنى أنه لا يقع في قلوبكم أخص ما يكون من الرحمة

{ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }

رءوف ليس بهذا وحده بل هو عز وجل رءوف بالعباد فمن أقبل على الله ومن أطاع الله ومن جعل قصده لله ولو فاته ما فاته مما يكتسبه الناس من الدنيا أو ما يناله ما يناله من التعب والنصب ابتغاء مرضات الله فإن الله سيكافئه

ولذا ختم الآية بقوله { وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }

هنا أثنى عليه ولم يذكر ثوابه وإنما ذكر اسما من أسمائه عز وجل

مما يدل على أن الاسم إذا ذكر في الآية اسم الله إذا ذكر في الآية فإن له ارتباطا

{ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }

فرحمته عز وجل ستكون لهذا ولغيره

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) } :

ـ أمر لجميع أهل الإيمان { ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ } يعني في الإسلام

{ كَافَّةً } إما أن تعود إلى الضمير في { ادْخُلُوا } يعني : ليدخل كلكم في الإسلام

أو { كَافَّةً } تعود إلى الإسلام يعني : ادخلوا في جميع شرائع الإسلام والقولان لا يناقض أحدهما الآخر

وإن كان الثاني هو الأظهر

 { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً } لأنه قال : { وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } أي طرق الشيطان فإن مما يصرف العبد عن الدخول في شرع الله ، وعن الدخول في شعائر الله ، والأخذ بشعائر الله إنما هو الشيطان { وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ } أي الشيطان { لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } أي بين ، تبينت عداوته ، وأيضا أبان هو عداوته لما عصى فلم يسجد لآدم عليه السلام

ومر معنا الحديث عن هذه الجملة بتفصيل عند قوله تعالى :

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ }

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

{ فَإِنْ زَلَلْتُمْ } وقعتم في الزلل وتركتم شيئا من هذا السلم الذي هو الإسلام من شعائره

{ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ } :

فالبينات أتتكم وقامت الحجة عليكم فلستم بجهال { فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } وهذا كما سبق ذكر هذين الاسمين بعد هذ الحكم مما يدل على أن هناك أثرا لهذين الاسمين على ما ذكر :

من أنه عز وجل عزيز ، والعزيز : هو القوي الغالب الذي لا ينال بسوء ، فهو قوي وغالب ، ولا ينال بسوء ، وسيعاقب الله من زلّ بعد ما جاءته البينات وهو حكيم وضع الأمور في مواضعها المناسبة ، ومن ذلك أنه جعل العذاب لمن عصاه ولمن زل

 { فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

وأيضا من حكمته عز وجل أنه شرع التوبة لمن أراد أن يعود فالتوبة مفتوحة أبوابها

{ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) }

{ هَلْ يَنْظُرُونَ } أي هؤلاء هل هنا استفهام بمعنى النفي أي لا ينتظر هؤلاء ( هل ينظرون )

 أي هل ينتظر هؤلاء ( إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ ) في ظلل من الغمام

الظلل : مجموعة القطع

الغمام : هو السحاب الأبيض

{ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ }

أيضا وتأتي الملائكة وهنا كثر الحديث من المفسرين حول هذه الآية

كيف يأتي الله في ظلل من الغمام والله لا يحيط به شيء ولا يقله شيء وهو في العلو عز وجل ؟

فالجواب عن هذا :

بأخصر ما يكون وبأوضح ما يكون وتدل عليه الآيات الأخرى :

{ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ } أي مع ظلل من الغمام

كما قال عز وجل في سورة الفرقان { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) } فالله لا يحيط به شيء وهو في العلو عز وجل علو الذات وعلو الصفة

له علو الذات وعلو الصفة وعلو القهر

{ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ } وهذا الإتيان من الله عز وجل إتيانا يليق بجلاله وبعظمته

وليس المقصود كما ذهب المعطلة من أن الإتيان هو إتيان أمره ، لا ، هو إتيانه هو عز وجل وليس الإتيان إتيان أمره

ولذا قال ابن القيم قال : ” إذا أتى الإتيان مطلقا فالمراد من ذلك إتيان الله عز وجل كما هنا “

وكما قال عز وجل

قال عز وجل في أواخر سورة الأنعام :

{ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ }

فعطف إتيان الله عز وجل على إتيان الملائكة مما يدل على أنهما يختلفان

ولذلك :

إذا أتت مطلقة ، فالمقصود إتيانه عز وجل إتيانا يليق بجلاله وبعظمته

أما إذا قيدت فعلى ما قيدت :

إتيان عذاب إتيان رحمة فعلى ما قيدت

{ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا }

هنا مقيدة وكذلك الشأن في المجيء

{ وَجَاءَ رَبُّكَ } مجيء يليق بجلاله وبعظمته لأنه مطلق

لكن لو قيد فعلى ما قيد { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ }

فهذا هو الفرق بين مجيء الله عز وجل ، وإتيان الله عز وجل وبين مجيء أمره أو رحمته أو ما شابه ذلك

ولذلك في سورة النحل ماذا قال عز وجل ؟

{ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ }

لكن إذا أطلق فالمقصود من ذلك :

المقصود : إتيان الله إتيانا يليق بجلاله وبعظمته

{ وَقُضِيَ الْأَمْرُ } :

قضي الأمر وهو أن هؤلاء دخلوا الجنة وأن هؤلاء دخلوا النار قضي الأمر قضي الحساب

وقيل : قضي الأمر بإهلاك هؤلاء والأول أظهر

{ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ } :

الأمور كلها ترجع لله عز وجل في الدنيا وفي الآخرة

لكن :

في الآخرة { وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ } كل الأمور تزول إلا أمر الله عز وجل

ولذلك قال تعالى :

{ وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } فمُلك الملوك وأوامر الملوك كلها تزول كما مر معنا في قوله تعالى { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ }

{ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ } :

ومن بين هذه الأمور الجملة التي قبلها { وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ } :

بمعنى أن هذا الأمر الذي  قضي ليس خاصا ، وإنما كل الأمور وليس هذا الأمر كله يرجع إلى الله

{ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }

وفي هذا إنكار على بني إسرائيل الذين في عصره عليه الصلاة والسلام

{ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ }

كم من الآيات والدلائل الواضحة التي جاءتهم

سل بني إسرائيل كم جاءهم موسى من البينات من فلق  البحر ، من تفجير الحجر فأصبح اثنتي عشرة عينا 

كم جاءتهم البينات

جاءهم بالتوراة

{ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ } :

 فبنو إسرائيل بدلوا نعمة الله ، ولذا لم يقل بدلوا نعمة الله قال

{ وَمَنْ يُبَدِّلْ } :

ليشمل بني إسرائيل ومن حذا حذوهم من هذه الأمة

{ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ }  ومن أعظم النعم ما ذكر نعم الدين نعمة الدين من أعظم النعم

{ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } :

شديد العقاب لمن عصاه قال { مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ } في الآيات السابقة

{ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ } تأمل جاء وجاء

المجيء هنا والمجيء هنا

البينات هنا والبينات هنا

{ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }

ولذا قال تعالى عن كفار قريش :

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا }

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) }

{ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا }

{ زُيِّنَ } : المزين هو الله لأنه لا يكون إلا ما أمر به الله عز وجل وقضاه وقدره { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا 

لكن هؤلاء  البشر لما رأوا زينة الدنيا استحسنوها أكثر مما هي عليه فتوغلت في قلوبهم وذلك بتزيين الشيطان لهم { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا }

وهذا يدل على أن الإنسان كلما ازدانت الدنيا في نظره ، وتحصل عليها إذا لم يتق الله عز وجل فيها فإنه سيكون طاغيا ؛ لأن هؤلاء زينت لهم الحياة الدنيا فطغوا وتجبروا على الفقراء  فقراء المسلمين { وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا }

وهذا الاستهزاء وهذه السخرية ليست مرة واحدة ولذا أتى بالفعل المضارع مما يدل على أن هؤلاء كثير السخرية

{ وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا } :

كما قال تعالى في أواخر سورة المطفيفين :

 { كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) }

{ وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا } :

في الدنيا لكن العبرة { وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ثم إن هذه السخرية لن تستمر فإنهم يريدون الاستمرار لكن لا يمكن

قال تعالى : ــ لأن الغلبة لأهل الإيمان ـ : { وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا }

قال تعالى : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا }

{  إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ }

{ وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا } :

ولذلك قال عز وجل عن عيسى عليه السلام :

{ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ }

من اتبع عيسى وأدرك النبي عليه الصلاة والسلام واتبعه لأنه قال { إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } لأن من كان كذلك ، ولم يكن متبعا للنبي عليه الصلاة والسلام فإنه والحالة هذه يكون ليس من أهل التقى

{ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } لأنهم في الدرجات العالية في الجنة وهؤلاء في النار في أسفل سافلين

{ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وهذا يؤكد على ماذا ؟

يؤكد على عظم التقوى وأن الإنسان لو خلت يده من الدنيا لكن الله أعطاه التقوى فإنها أعظم من الدنيا كلها

{ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}  يرزق من يشاء يوسع على هذا لحكمة ويضيق على هذا لحكمة

{ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }

بغير مقدار لأنه واسع العطاء واسع الفضل الغني الوهاب يرزق من يشاء بغير حساب بغير مقدار ويرزق عباده المتقين من حيث لا يشعرون

ولذلك قال عز وجل :

{ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ }

 ولذا لما ذكر التقوى { وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }

قال :

{ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } ورزقه عز وجل لإنسان بأن وسع عليه لا لأنه له منزلة عند الله وتقتيره عز وجل على عبد لا يدل على أنه بغيض عند الله { فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا }

ليس المعيار على ما ذكرتموه وإنما المعيار التقوى { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ  }

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) }

{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً }

هؤلاء الذين سبق ذكرهم في الآيات أعرضوا عن دين الله ، وأعرضوا عن شرع الله فذكرهم الله عز وجل بحال أبيهم آدم وما أتى بعده إلى قوم نوح

 { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } :

اي جماعة واحدة على التوحيد من بعد وفاة آدم إلى أن حصل الشرك في قوم نوح فبعث الله عز وجل نوحا إليهم

ولذك قال ابن عباس : ” بين آدم وبين نوح عشرة قرون ، { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } ” وهذا هو الصواب

الذي يدل عليه سياق الآيات ، وليس المقصود كان الناس أمة واحدة على الكفر ثم بعث إليهم نوحا ، لا ، كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين

هنا فيه حذف كان الناس أمة واحدة على الدين فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين كما قال عز وجل مصرحا بهذا الفعل في سورة يونس

{ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا }

 { فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ } :

أول النبيين الذين أرسلوا إلى الأرض هو نوح عليه السلام لما عبد قومه ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا

{ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ } لمن أطاع الله { وَمُنْذِرِينَ } أي مخوفين من عصى الله

{ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ } أي الكتب

{ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } تلك الكتب نزلت بالحق ما نزلت بالباطل ومن أعظم الحق الذي في هذه الكتب التوحيد ، ولذلك كل نبي يأتي يدعو قومه إلى التوحيد  { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ }

{ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ }

 لِم ؟

{ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ } أي ليحكم به بين الناس { فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ }

من بعد ما جاءتهم الحجج

ومن أعظم هذه الحجج هذه الكتب

فهذه البينات في هذه الكتب

وذكر البينات هنا :

لأن هذه السورة ذكرت البينات في الكتب { فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ }

{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ }

{ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ } السبب { بَغْيًا بَيْنَهُمْ } البغي هو التطاول كان من المفترض أن يكون هذا الشرع وأن تكون هذه الكتب يفترض أن تجمعهم لكنهم اختلفوا وهذا يدل على ماذا

على البغي

والبغي يتضن الفساد ولذك يقال عن الزانية ” امرأة بغي ” لأنها فاسدة ومفسدة

فهؤلاء أرادوا الإفساد ، والله أرسل الرسل وأنزل الكتب من أجل أن تصلح الأرض  { وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا }

{ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا }

الموفق من وفقه الله { فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ } ليس بقوة الإنسان ولا بحوله وإنما عليه أن يلجأ إلى الله إذ إن الله وفقه وهداه لما اختلف فيه من الحق

ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام في دعاء الاستفتاح في قيام الليل يقول  كما ثبت عنه في الصحيحين :

 (( اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ))

{ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } إلى الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه

{ والله يهدي من يشاء } وفي هذا رد على القدرية الذين يقولون : إن العبد يخلق الهداية والخير بنفسه ، فالهداية لا تكون إلا من الله هداية التوفيق والإلهام من الله ، أما البشر فلهم هداية وهي هداية البيان والتوضيح والإرشاد

كما قال عز وجل عن النبي عليه الصلاة والسلام { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) }

{ أَمْ حَسِبْتُمْ } ( أم ) هنا المنقطعة بمعنى بل والمتضمنة للاستفهام بل أحسبتم أن تدخلوا الجنة

الجنة سلعة الله غالية

{ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ } وفي هذا تسلية لهم من أن المصائب والضر والبؤس حصل لمن كان قبلهم { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا }

المس يدل على شدة الألم { مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ } البؤس من الفقر والضيق  ونحو ذلك { وَالضَّرَّاءُ } من المرض وما شابه ذلك

{ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا } :

{ وَزُلْزِلُوا }  أي حركوا بأنواع المصائب والبلايا { وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ }

{ حَتَّى يَقُولَ } قال المفسرون : حتى قال لأنه عن شيء ماض { حَتَّى يَقُولَ}

والصحيح :

{ يقول } بصيغة الفعل المضارع يدل على استمرار الدعاء

{ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى  } { متى }

 استفهام استبعاد استبعدوا { مَتَى نَصْرُ اللَّهِ } فقال الله { أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ }

{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا } حركوا بأنواع الزلازل وهذا يدل على أن الإنسان المؤمن مبتلى ولا ينفك عن الابتلاء فمن مقل ومستكثر حسب قدرة الله وحسب ما أراده الله عز وجل

ولذلك :

قال هنا { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ } ليذكرهم بالآيات التي مرت معنا { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ }

ومن هنا على المسلم إذا قرأ القرآن وقرأ السورة التي يقرؤها سورة البقرة أو سورة آل عمران أو أي سورة من السور ينظر إلى ترابط الآيات وإلى تناسق الآيات وإلى ترابط هذه الآيات

{ وَزُلْزِلُوا }  أي حركوا بأنواع الزلازل كما حصل للصحابة في غزوة الأحزاب { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا }

كما قال عز وجل { إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) }

اختلفت الظنون ظنون المنافقين وظنون أهل الإيمان لكن أهل الإيمان

 { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا }

بعدها بآيات :

 { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) }

إذاً لو أن الإنسان ابتلي ببلايا عظيمة واشتد عليه فإن فرج الله عز وجل قريب

ولذلك يقول ابن القيم يقول : ” إن الملذات والراحة إنما تكون من البلايا ” { حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ }

والموفق من ثبته الله وصبر على الابتلاء

ولذلك :

فإنه ما تكون هناك شدة دائمة ولا بؤس دائم ولا مرض دائم :

{ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا }

{ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا }

لكن المؤمن :

عليه أن يصنع كما صنع النبي عليه الصلاة والسلام وأتباعه إذ دعو الله لأن المؤمن مبتلى { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ }

{ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } وهذا هو المعنى الصحيح للآية خلافا لمن قال من أن القول { حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا }

يعني حتى يقول المؤمنون متى نصر الله

والرسول يقول { أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ }

لكن :

المعنى الذي تدل عليه الآية وسياق الآية ما ذكرناه

{ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ }

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)  }

{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ }  أجابهم فبين لهم الشيء الذي ينفق وعلى من ينفق عليه

{ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ } أطلق خير بل عمم خير ولو بما قلّ

{ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ } وهذه الآية إنما هي في صدقة التطوع ؛ لأنه ذكر الوالدين ولا حاجة إلى أن يقال كانت فرضا ثم نسخت { فَلِلْوَالِدَيْنِ } إذاً ما تعطيه لوالديك من مصروف  كما يسمى عندنا في هذا الزمن من مصروف شهري أو من عطايا أو من هدايا فإنه من أعظم الصدقات ولذلك قدم الوالدين

{ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ }  ولم يقل الأقرباء

الأقربين بصيغة أفعل التفضيل يعني كلما كان الإنسان أقرب كلما كانت الصدقة والهدية له أفضل وكلما كان القريب لك شديد العداوة ويبغضك ولا يريد لك الخير فالصدقة منك عليه أفضل

ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال :

(( أفضل الصدقة الصدقة على ذي  الرحم الكاشح )) يعني المبغض

 { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا } هذه صعبة إلا من وفقه الله أن  تحسن إلى عدوك { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }

{ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى } اليتيم الذي مات أبوه قبل أن يبلغ لأنه بحاجة إلى أن يدخل السرور على قلبه لأنه فقد أباه { وَالْمَسَاكِينِ } أي الفقراء

{ وَابْنِ السَّبِيلِ } وهو المسافر

وقال  { وَابْنِ السَّبِيلِ }

السبيل الطريق ويختلف باختلاف الأعراف لأنه قد يكون الإنسان مسافرا في هذا الزمن ولا يحتاج لأن أمواله موجودة في الصرافات البنكية وما شابه ذلك وعلى كل حال هي عامة في كل زمن حتى في زمننا فإنه يحسن إلى المسافر

{ وَابْنِ السَّبِيلِ } ولما ذكر هؤلاء عمم { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ } أي خير

 { فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } وذكر اسم الله عز وجل العليم كما ذكرنا يترتب على ذلك الثواب والجزاء فإن الله به عليم

وسيكافئ الله عز وجل وسيجزي هذا المنفق أحسن الجزاء

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) }

{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ } أي فرض عليكم القتال { وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ } كره لكم لا لأن الله أمر بذلك لأن الإنسان لو كره دين الله كان هذا مما يخل بالتوحيد

كما قال عز وجل : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} لكن هنا  { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ }  أي من حيث كره النفس من حيث المشقة الذي يكون على النفس وعلى البدن مما يكون من ذهاب الأنفس أو ذهاب الأموال أو التعب والنصب

{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا } عمم ليس المقصود فقط ما يتعلق بما تكرهونه في الجهاد ، هذا عام

{ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ }

كم من إنسان كره أمرا فيما يتعلق بزواج أو مثلا بتجارة أو بنقصان ربح في تجارة أو كساد في عقار أو في تجارة ما وإذا بهذا الكره له ينقلب إلى خيرات إذ  تتحسن الأمور وكما سبق ما فيه شدة ولا بلاء يدوم

ولذلك قال ابن القيم قال :

 ”  إن الملاذ في المحن لكن الموفق من وفقه  الله “

الدليل على ما قال هنا { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا } أي شيء تكرهه

ما تدري

ولذلك المؤمن يقول كحال أهل الإيمان الذين دعوا الله كما مر معنا في آيات الحج { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ  }

فأنت ملك لله وما تملك لله عز وجل { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ }

بل ليس خيرا فقط بل يكون خيرا كثيرا

ولذلك لما ذكر ما يتلعق بالشقاق بين الزوجين : 

{ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا }

لا تكره شيئا لم يلائمك وإنما إذا نزل بك ما يلائمك قل : (( إنا لله وإنا إليه راجعون ))

ربما تكره أن تفوتك رحلة في طائرة أو ما شابه ذلك لا تردي ربما هذه الطائرة يجري لها ما يجري

فإذاً كرهك لهذا الأمر تقول : الحمد لله إذ إن الله لم ييسر هذا الأمر :

{ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ  } ربما تحب شيئا من هذه الدنيا وما يتعلق بها

وإذا بهذا المحبوب ينقلب عليك حسرات ومصائب

ولذلك ختم الله الآية بقوله { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }  الله يعلم الذي يصلحكم والبلايا

كما قال السلف : ” ما أتت لتهلكك وإنما أتت لتمتحن صبرك “

 { وَاللَّهُ يَعْلَمُ }  الذي هو خير لك وإذا كان الله هو الذي يعلم فتضرع إلى الله 

ادع الله إذا فاتك خير أو حصل لك شر

{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }  لأنك لا تدري ما هو الصالح هل الصالح في هذا الأمر أو في هذا الأمر

ولذلك إذا التبس الأمر على الإنسان كما جاءت السنة بذلك أمر بماذا ؟

بالاستخارة

ما مقدمة الاستخارة ؟

 (( اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسالك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب ))

ما تدري

{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } 

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) }

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ }  هم لا يسألون عن ذات الشهر الحرام وإنما يسألون عن القتال فيه

ولذا :

أتى البدل الذي يسمى بدل اشتمال كما لو قلت : ”  يعجبني زيد كرمه “فالإعجاب وقع على كرم زيد

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ } بدل اشتمال :

 يسألونه صلى الله عليه وسلم عن حكم القتال في الأشهر الحرم وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام بعث سرية في أواخر شهر رجب فلقوا رجلا من المشركين فقتلوه فقالت كفار قريش تعيرهم من أنهم قتلوا هذا الرجل في الأشهر الحرم والتبس عليهم الأمر :

هل هو آخر يوم من رجب  ؟

فسألوا النبي عليه الصلاة والسلام فأمره الله عز وجل أن يجيبهم قائلا (قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ) يعني القتال في الأشهر الحرم كبير الإثم

 

ومن ثم :

فإن بعض أهل العلم رأى أن هذه الآيات منسوخة بآيات السيف

{ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } سواء كان في الأشهر الحرم أو لم يكن

 

ولكن الصحيح :

أنه لا يجوز القتال في الأشهر الحرم إلا إذا ابتدأ الكفار بقتال المسلمين كالشأن في المسألة السابقة التي هي القتال في المسجد الحرام

 

وقد قال عليه الصلاة والسلام كما ثبت ( إن الله حرم هذا البلد يوم خلق الله السموات والأرض )

 

فالصحيح :

أنه لا يجوز أن يبدأ الكفار بالقتال في الأشهر الحرم إلا إذا بدأوا المسلمين بالقتال

 

( قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ) ثم استأنف ( وَصَدٌّ ) هذا استئناف (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ ) أي بالله ( وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) أي وصد عن المسجد الحرام

( وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ ) إخراج المهاجرين من هذا البلد الحرام ، (وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ )

 

( وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ ) يعني هو أعظم من إثم قتال هؤلاء  في الأشهر الحرم

ثم قال بعد ذلك (وَالْفِتْنَةُ ) أي الشرك وإرادة هؤلاء بالمسلمين أن يشركوا

( وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ) في الأشهر الحرم

 

وهنا قال (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) لأن السؤال واقع على حكم القتال في الأشهر الحرم

بينما الآية السابقة في هذه السورة :

{ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } بمعنى أنه عظيم وفظيع الشرك بالله عز وجل أعظم من قتال هؤلاء

{ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ }

 { وَلَا يَزَالُونَ } : بيَّن عز وجل من أن هؤلاء الكفار إنما يريدون بالمسلمين أمرا تطمح نفوسهم إليه

{ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ }  وكلمة { وَلَا يَزَالُونَ } تدل على الاستمرار

{ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا }

أتى بإن التي لا تدل على التأكيد

بمعنى :

 أن صنيعهم لن يضركم أبدا بإذن الله لمن ثبته الله

 

{ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ }

 قيد الموت هنا بأنه يموت وهو كافر

{ وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ }

 بمعنى :

أن هذه الآية تقيد ما جاء في الآية الأخرى { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} لكن هذه الآية قيدت

بمعنى :

أن الإنسان لو ارتد ــ نسأل الله السلامة والعافية ــ ثم رجع إلى الإسلام قبل أن يموت فتلك الأعمال الصالحة التي عملها حتى الحج على القول الراجح فإنه لا يبطل لأن الآية قيدت هنا

{ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا } :

 أعمالهم في الدنيا المتعلقة بالنصرة بأخوة الإسلام ، المتعلقة بالتكفين بتكفين من مات على الإسلام ، بالإرث

 

{ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } فإنهم إذا ماتوا على هذه الحال حالة الكفر فإنهم لا يغسلون ولا يكفنون ولا يصلى عليهم ولا يرثون ولا إخوة لهم في الإسلام

 

{ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ }

 كما قال عز وجل : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا }

 

{ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

وهذا الخلود خلود تأبيد لأنهم ماتوا على الكفر

قال هنا :

{ وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ }

قال عز وجل في سورة المائدة :

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }

فمن كفر فإن الخاسر هو ، والله عز وجل لا يضيره شيء قال تعالى

 { وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ }

وقال عز وجل :

{ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ }

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) }

 

هؤلاء الذين حصل منهم في هذه السرية لما قتلوا ذلكم الرجل وهو ” ابن الحضرمي ” لما نفي عنهم الإثم في الآيات السابقة ربما أنهم توهموا أن أعمالهم قد حبطت أو نقصت فجاءت هذه الآية :

{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا } :

 هم مؤمنون الذين قتلوا هذا الرجل ” ابن الحضرمي “

{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا } :

أعاد اسم الموصول للجهاد والهجرة باعتبار التأكيد على أهمية هاتين العبادتين وأهمية ما فعله هؤلاء من هذين العملين الصالحين ، ولم يظهر اسم الموصول في الجهاد باعتبار أن الهجرة والجهاد مشتركان ومتفقان من حيث خروج الإنسان فهذا يخرج من بلده من أجل أن يفر بدينه ، وهذا يخرج من بلده من أجل الجهاد في سبيل الله

 

{ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ } أتى بكلمة الرجاء ، وأتى بصيغة الفعل المضارع بمعنى أنهم في رجاء مستمر 

وهذا يدل على أنه مع الرجاء لابد من العمل فهؤلاء آمنوا وهاجروا وجاهدوا ، مع هذه الأعمال الطيبة العظيمة مع ذلك يرجون رحمة الله

 

ولذا :

قال الحسن البصري : ” إن قوما قالوا : نحسن الظن بالله وكذبوا لو أحسنوا الظن بالله لأحسنوا العمل “

فالرجاء لابد له من عمل

 

{ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

{ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } اسمان من أسمائه عز وجل يدلان على سعة مغفرته وسعة رحمته عز وجل ورحمتي وسعت كل شيء

{ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ }

{ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ }

فمغفرته عز وجل ورحمته وسعت كل شيء

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) }

هذه الآية قبل أن تنسخ وذلك لأن الخمر حرم في آخر الأمر كما في سورة المائدة { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ }

 فقال بعض العلماء : أول آية تعرض بتحريم الخمر هذه الآية

وقال بعض العلماء  : إن أول آية هي الآية التي في سورة النحل { وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا }

لكن آية النحل كما سيأتي تتعلق بالأخبار ، والأخبار لا تنسخ لكن من قال إنها أول آية قالوا : هي خبر تتضمن الأمر ثم بعد ذلك { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ }

ولذلك :

قال كان عمر يقول : ” اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانا شافيا “

فنزلت هذه الآية

ثم بعد ذلك نزل قوله تعالى :

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } فأبيح لهم شرب الخمر إلا إذا قرب وقت الصلاة فإنه محرم

وهذه أيضا التي في سورة النساء منسوخة

فجاءت آية المائدة { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ }

لما نزلت آية النساء قال عمر رضي الله عنه مع ذلك قال : اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في سورة المائدة { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ }

فقال عمر وقال الصحابة رضي الله عنهم: ” انتهينا انتهينا “

 

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } الخمر كل ما خامر العقل وغطاه فإنه يدخل بقطع النظر عن نوعية هذا الشيء على الصحيح من قولي العلماء

والميسر :

الميسر يختلف عن القمار

سمي الميسر بهذا الاسم لأنه من اليسر أي السهولة أو من اليسار

يعني : من الغنى ؛ وذلك لأن من يقامر إنما يحصل له ما يحصل له من المال ويغتني بسهولة

ولذلك :

هذا الميسر الذي ذكر هنا ولم يذكر القمار لأن الميسر يختلف عن القمار

الميسر أعم

ولذلك :

 قال الإمام مالك : الميسر نوعان : ميسر لهو وهذا حرام

وميسر على مال وهذا قمار

وسمي القمار بهذا الاسم لأنه مأخوذ من القمر إذ يبدو ضعيفا ثم يكبر ثم ينقص

وهذا هو شأن المقامر يأتي إليه المال سريعا ثم يزول

 

إذاً :

القمار يعد نوعا من أنواع الميسر

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ }

إذاً :

من يلعب بالنرد أو بالنردشير الذي حرمه النبي عليه الصلاة والسلام ولو لم يكن على سبيل المعاوضة والمال فإنه حرام

ولذلك :

ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه كما في الأدب المفرد قال : ” إياكم وهاتين الكعبتين الموسومتين ” يعني المعلمتين

قال : ” اللتان يزجران بهما زجرا ” قال : ” فإنها من الميسر “

ميسر ماذا ؟

ميسر اللهو

ولو كان معها معاوضة فإنه يعد قمارا

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ }

وصف الإثم بأنه كبير بينما المنافع أطلقها إشارة إلى أن هذه الخمر مفاسدها أعظم من منافعها { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا }

قال بعض العلماء : إن هذه الآية هي الآية التي حرمت الخمر تحريما قاطعا

لم ؟

قال : ” لأن الله قال { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ }

وهنا قال { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } ويرد عليه من أنه قال

 { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } الإثم فيهما ولم يصف الخمر بأنها إثم

{ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } ما النفع الحاصل في الخمر ؟

اللذة والطرب وربما تحصيل الأموال وهذا كما سلف في أول الإسلام فجاء ما جاء في سورة المائدة من تحريم ذلك تحريما نهائيا

{ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ } هذا سؤال آخر { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قل العفو } يعني أنفقوا العفو

العفو هو ما تيسر

 

ولذلك :

جاء في صحيح مسلم قوله عليه الصلاة والسلام :

(( خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ))

 بمعنى :

أن الإنسان إذا تصدق مع تلك الصدقة تبقيه غنيا ولا يحتاج إلى الناس

{ قُلِ الْعَفْوَ } يعني أنفقوا العفو أي ما تيسر

كما قال عز وجل في الآية التي قال عنها العلماء هي قاعدة في الأخلاق :

{ خُذِ الْعَفْوَ } يعني خذ ما تيسر من الناس مما يكون من أقوال ومن أعمال ومن أموال ولا تدقق

{ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ } 

{ كَذَلِكَ } : يعني كما بين لكم هذه الأحكام السابقة في الآيات السابقة

{ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ } كل الآيات يبينها عز وجل

لم ؟

{ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } والتفكر في الآيات يزيد من الإيمان والنظر في آيات الله عز وجل يزيد من التفكر ، والتفكر يزيد العبد إقبالا على الله عز وجل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) }

{ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } أي بمعنى أنه بيَّن لكم الآيات ، ومن ضمن ذلك هذا الإنفاق { لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } في زوال الدنيا وفي إقبال الآخرة

{ فِي الدُّنْيَا } بمعنى أنكم تبقون ما تحتاجون إليه من هذه الأموال ، وما يتعلق بالآخرة تنفقون هذه الأموال لكي تكون لكم ذخرا يوم القيامة

وهذا ما ذكرهنا في هذه الآية وفي قوله عز وجل :

{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى }

هذه تدل على الإنفاق ثم سيأتي بإذن الله في أواخر السورة ما يدل على الإنفاق حتى يعود المسلم بالتأمل وبالتفكر إلى أول الآيات في أول سورة البقرة

{ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)}

 

{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى } هذا سؤال آخر

واليتيم : من مات أبوه قبل أن يبلغ

ولذلك  : إذا بلغ زال عنه وصف اليتم

ولذا بعض الناس وعمره في العشرين أو في الثلاثين يقول : ” أنا يتيم ” وهذا خطأ

قال عليه الصلاة والسلام كما ثبت عنه (( لا يتم بعد احتلام ))

ولذلك :

قال عز وجل كما في أول سورة النساء قال { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا }

دل على أنه بعد البلوغ يزول عنهم وصف اليتم

{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ }

لم يقل قل إصلاح في أموالهم

قال : { لَهُمْ }

بمعنى :

أن من تحته أيتام يتعين عليه أن يبحث عما هو أصلح لهم في أخلاقهم في دينهم في مروءتهم في أموالهم

{ قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ } وأطلق الخير مما يدل على أن من قام على اليتامى ولو على يتيم واحد فإن له بذلك خيرا عظيما

يكفي في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : (( أنا وكافل اليتيم ))

له أو لغيره

حتى لو كفلت يتيما من أقربائك كأن يكون لك ابن فمات مثلا عن أبناء وأنت جدهم فكفلتهم تدخل في هذا الثواب (( أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين))

{ قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } :

 لأنه لما نزل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) }

تحرجوا من ذلك حتى كما ثبت حتى إن أحدهم ليعزل طعامه عن طعام يتيمه فلربما لم يأكل هذا اليتيم كل الطعام فيفسد هذا الطعام فحصل ما حصل من المشقة والعنت فقال تعالى : { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ }

 

وشأن الأخ مع أخيه أنه يأكل معه وقوله { فَإِخْوَانُكُمْ } من هوأخ لك أنت حريص على ماله كما تحرص على مالك

ولذلك ثبت قوله عليه الصلاة والسلام ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )

 فقوله : { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ  } يدل على التسامح في مخالطة هؤلاء اليتامى ويدل على أنك تحرص على ماله فلا تقرب هذا المال إلا بالتي هي أحسن كشأن الأخ مع ماله أخيه

{ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ }

يعلم المفسد من المصلح في جميع الأحوال

ومن ذلك المفسد الذي يريد من أموال اليتامى يريد أن يأكلها ويعلم هذا المفسد من المصلح الذي ما أراد إلا الخير والصلاح لهؤلاء اليتامى

فإنكم وإن خالطتموهم يعلم عز وجل من أراد منكم الإفساد ومن أراد منكم الإصلاح

{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ }  ولم يذكر ثوابا

مما يدل على أن الأسماء والصفات تأتي تعليلية في كتاب الله تعليلية للأحكام

بمعنى أن الحكم إذا أتى تتأمل في هذا الحكم من أن الله عز وجل قد اطلع عليك في هذا الحكم

وإذا اطلع الله عليك فإن عملت خيرا أثابك ثوابا عظيما وإن عملت شرا عاقبك الله

{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ } لأنزل بكم المشقة لأن العنت هو المشقة

كما قال تعالى : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ }

{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ } فهو رحيم بكم

 { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

{ عَزِيزٌ } : قوي غالب لا ينال بسوء فهو قوي يعلم حال من يريد إفساد أموال اليتامى

ومن يريد الإصلاح لها

وحكيم عز وجل إذ شرع لكم  تلك الأحكام التي بها تخفيف عنكم وفيها إصلاح لحياتكم وإصلاح لهؤلاء اليتامي

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) }

 

{ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ }

نهي عن أن تتزوجوا ولا تنكحوا أي لا تتزوجوا ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن

هذا تقييد

تقييد بالإيمان فإن آمنت فهنا يجوز أن يتزوج بها

وهنا قال بعض أهل العلم : قال يستثنى من ذلك من ؟

نساء أهل  الكتاب

والدليل قوله عز وجل :

 { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ }

حتى إن بعض أهل العلم قال : إن الآية أصلا وهي الآية التي هنا في سورة البقرة لم يدخل فيها أصلا أهل الكتاب ، فالآية التي في سورة المائدة واضحة وبينة ، وهنا أيضا لم يدخل من باب التأكيد على الحكم الذي دل في سورة المائدة على الجواز مما يؤكد ذلك هذه الآية

فالآية لم تنص على أهل الكتاب

بدليل :

أن الله إذا ذكر المشركين ذكر معهم أهل الكتاب { مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ }

لم يكن الذين كفروا

والآيات في مثل هذا المعنى كثيرة

وقد وصف الله أهل الكتاب بأنهم مشركون وصفهم بالفعل وليس بالاسم

{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ } إلى أن قال : { سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }

فوصفهم بالشرك

 

وعلى كل حال :

نساء أهل الكتاب يهودية أو نصرانية إذا كانت عفيفة فيجوز للمسلم أن يتزوج بها

أما ما جاء من أن عمر رضي الله عنه أنكر على عثمان وعلى حذيفة رضي الله عنهم وأمرهم أن يطلقوا هؤلاء النساء فمقصود عمر مقصوده :

من أنه لا يرغب بهؤلاء نساء أهل الكتاب عن ماذا ؟

عن نساء المؤمنين

ولربما :

وقعوا في ما يخص نساء أهل الكتاب فيمن ليست بعفيفة

ولذلك  :

قال عمررضي الله عنه لحذيفة لما تزوج يهودية قال طلقها فإنها جمرة

قال : أهي حرام ؟

قال : هي جمرة

قال حذيفة  : أهي حرام ؟

قال : إنما هي جمرة

قال : أعلم أنها جمرة ، ولكن ليست بحرام

فلما مضى زمن طلقها حذيفة

فقيل له : لِمَ لَمْ تطلقها لما أمرك عمر رضي الله عنه ؟

قال : خشيت أن يظن أني فعلت شيئا محرما

أما قول ابن عمر رضي الله عنهما قال : ” ولا أرى أعظم شركا ممن تقول إن المسيح ابن الله “

فهذا تورع من ابن عمر

 

فخلاصة القول :

إذا كانت المرأة يهودية أو نصرانية فيجوز للمسلم من باب الجواز وليس من باب الاستحباب أو الحث من باب الجواز يجوز له أن يتزوجها بشرط أن تكون عفيفة

{ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ } أي أمة رقيقة (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ ) لكنها مؤمنة ولأمة مؤمنة خير من مشركة

{ خَيْرٌ } : أطلق كلمة خير ، وذلك لأن الإيمان تأتي معه الخيرات والشرك تأتي معه الشرور كلها

{ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ }

ولو أعجبتكم تلك المشركة بجمال أو بمال أو بحسب أو بما شابه ذلك

وليعلم :

أن قوله  : { وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } لا يجوز للمسلم أن يتجوز بأمة مسلمة إلا بشرطين

قال تعالى كما سيأتي  معنا في سورة النساء :

{ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ }

 بمعنى :

 أنه لم يجد مالا يتزوج به الحرة

الشرط الثاني : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ } يعني إذا خشيتم الوقوع في الزنا وإلا فالأصل أنه لا يجوز للمسلم أن يتزوج بأمة مسلمة إلا بهذين الشرطين

{ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ }

بل حتى الإعجاب فيما يتعلق بالمسلمة الحرة

النبي عليه الصلاة والسلام مع أن المسلمة فيها أصل الإسلام والإيمان لكن قوله عليه الصلاة والسلام (( تنكح المرأة لأربع لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك ))

مما يدل على أن زيادة الإيمان والتقى لدى المرأة حتى وهي في دائرة الإسلام أفضل ممن ليست كذلك ، ولو كانت تلك الأخرى قد فضلت بحسب أو بمال أو بجمال

{ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ }أي لا تزوجوا الخطاب لمن ؟

للأولياء

مما يدل على أنه لا يتم زواج إلا بولي

كما قال عيله الصلاة والسلام كما ثبت عنه (  لا نكاح إلا بولي )  خلافا لمن أجاز زواج المرأة من غير ولي

 

{ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا } ولا تنكحوا أي لا تزوجوا المشركين بتاتا فلا يجوز لمسلمة أن تتزوج بأي مشرك سواء كان يهوديا أو نصرانيا أو وثنيا بجميع أنواع أهل الكفر فلا يجوز أن تزوج المرأة المسلمة  كافرا

{ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ } لأنه اتصف بوصف الإيمان ، مما يدل على فضيلة الإيمان

{وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ } : أطلق الخيرية في الإيمان وفي الدين { خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ } ولو أعجبكم هذا المشرك الذي هو حر أعجبكم بمال أو بجمال أو بحسب

{ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ}  التزوج بهؤلاء يدعو إلى النار

وذلك لأن الزوجين قد يتأثر أحدهما بالآخر

 ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام كما ثبت عنه قال (( لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي ))

{أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ }

قد يقول قائل أولئك يدعون إلى النار

هذا ربما يحصل فيما لو أن المسلم تزوج بيهودية أو بنصرانية

فالجواب عن هذا :

من أن المقصود من ذلك وإن كان في أهل الكتاب وإن كان فيهم شر لكن المقصود هنا هم أهل الأوثان والشرك وذلك لأنه من حيث الأصل اليهودية والنصرانية أصل الدين عندهم هو الإيمان بالله ، والتوحيد لكن حصل التغير من جراء ما حصل من علمائهم وما شابه ذلك من هذه التغيرات

لكن المشركين من حيث أصلهم هم كفار

{ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو }  يدعو بما شرع وبما أمر

{ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ } وذكر المغفرة هنا لأن المسلم بحاجة مستمرة إلى مغفرة الله عز وجل

ولذلك في سورة آل عمران جمع بين الجنة والمغفرة { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ }

في سورة الحديد { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ }

{ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ }

يبين آياته للناس ومن ذلك ما سبق

{وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }

فتبيين الآيات وتوضيح الآيات والعلم الشرعي والتأمل في كتاب الله وفي آيات الله يدعو الإنسان إلى التذكر

ولذلك :

ماذا قال عز وجل مبينا فضل التذكر التذكر يدعو إلى الخير { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ }

 

{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) }

{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ } أتى السؤال الآخر سؤالات متتابعات

{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ } المحيض يعني زمن الحيض ومكان الحيض الذي هو الفرج

{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى }

الجماع في المحيض الذي هو الفرج أذى وذلك لسيلان الدم النجس الذي يخرج منه ، وإذا كان أذى وهو نجس مؤقت بأيام إذاً دلت هذه الآية على أن اللواط من أشد ما يكون باعتبار ماذا ؟

باعتبار أن الدبر لاصق به الأذى لصوقا مستمرا

{ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ }

اعتزلوهن من حيث الجماع ( وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ ) نهى عن قرب الحيض

لو قال قائل :

ألا يجوز أن يستمتع الرجل بزوجته ما عدا الفرج حال الحيض

فالجواب : نعم

فالسنة بينت ووضحت أن الذي ينهى عنه هو الجماع حال الحيض

فالنبي عليه الصلاة والسلام ثبتت أحاديث كثيرة من أنه كان يستمتع بزوجاته حتى في بعض الأحاديث إذا أراد أن يستمتع بها ألقى على الفرج شيئا واستمتع بها

واليهود :

كانوا إذا حاضت المرأة كما ثبت كانوا لا يقربونها ولا يجامعونها في البيوت

يعني لا يجلسون معها في البيوت

يحكمون عليها بأنها نجسة فسئل النبي عليه الصلاة والسلام فقال :

 (( اصنعوا كل شيء إلا النكاح ))

استمتع بها إلا النكاح الذي هو الجماع

فدل هذا على أنه يجوز للإنسان أن يستمتع بزوجته في حال الحيض ما عدا الفرج

ولذلك :

بعض الصحابة لما قالت اليهود ما قالت قالوا : ” يا رسول الله أفلا نجامعهن في الحيض “

من باب ماذا ؟

من باب مخالفة اليهود

فالنبي عليه الصلاة والسلام رئي الغضب في وجهه

لم ؟

لأن الخطأ لا يعالج بخطأ ، وإنما يعالج الخطأ بالحق

( وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ) يعني انقطاع الدم (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ) فإذا تطهرن : بمعنى اغتسلن

بعض أهل العلم قال: لو انقطع حيض المرأة قبل أن تغتسل فلها أن يجامعها ؛ لأن قوله (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) يشمل انقطاع الدم ويشمل الاغتسال وإذا كان كذلك فلماذا يمنع

فالجواب عن هذا :

من أنه يحرم عليه على الصحيح أن يجامع قبل أن تغتسل

لأن قوله ( فَإِذَا تَطَهَّرْنَ ) : إذا كان يشمل انقطاع الدم ويشمل الاغتسال فالنهي هنا لا يمكن أن تبرأ ذمتك إلا بأن تطبق أقل ما يكون حتى تبرأ ذمتك وذلك لا يكون إلا باغتسالها

( فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ) الذي أمرهم الله هو موضع الحرث وهو الفرج

( فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ) يحب التوابين ، التواب هنا من هو كثير التوبة

يعني يحب من يتوب إليه باستمرار

 ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ )

( الْمُتَطَهِّرِينَ ) : من الأنجاس الحسية ومن الأنجاس المعنوية كالذنوب

فالتطهر يشمل أيضا التوبة من الذنوب لكنه ذكر التوبة هنا ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) نص على ذلك فيما لو أن الإنسان أضعفته نفسه فأقدم فإن الله يتوب عليه ويحب المتطهرين

وهذا يدل على إثبات صفة المحبة لله بما تليق بجلاله وبعظمته

خلافا لمن أنكرها أو خلافا لمن حرفها ممن قال إن محبة الله المقصود ثواب الله أو إرادة ثواب الله للعبد

فهي محبة تليق بجلاله وبعظمته

{ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) }

( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ) أي محل الحرث ومحل النسل ومحل الولادة

( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ )

 ( أَنَّى شِئْتُمْ )  أي كيفما شئتم من الأمام من الخلف من الجنب على وجه الاستلقاء أهم شيء أن يكون في موضع الفرج (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ) وليس معنى ذلك أنه يجامعها في الدبر

وإنما المقصود في موضع الحرث ومعلوم أن موضع الحرث والنسل والولادة الدبر أم الفرج ؟

الفرج

وهذا أيضا يدل على ماذا ؟

لما قال ( فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ) يدل على تحريم الجماع في الدبر

كما دلت عليه أيضا الآية السابقة وهي قوله ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى )

وجاءت الأحاديث  الصحيحة من أن الجماع في دبر المرأة من أنه لا يجوز

منها : (( ملعون من أتى امرأة في دبرها ))

أحاديث كثيرة بمجموعها تدل على الصحة

خلافا لمن قال بتضعيفها فأجاز له أي للرجل أن يجامع زوجته من دبرها

ويستدلون بما قاله ابن عمر رضي الله عنهما في بعض الروايات من أنه أباح ذلك

والصحيح الذي ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما بصريح اللفظ من أنه قال هي اللوطية الصغرى

فحرمها

إذاً أي كلام أتى عن ابن عمر رضي الله عنهما مما هو مشتبه فيحمل على هذا النص الصريح منه رضي الله عنه

( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ  ) فأتوا حرثكم أنى شئتم

وذلك أن اليهود كانوا يجامعون المرأة على حرف من جانب وكانوا لا يجامعونها من الخلف

قالوا : لأنه لو جامعها من الخلف في القبل يعني في الفرج جاء الولد أحول

فكان الأنصار يأخذون من اليهود لأنهم يعلمون أن عندهم علما فلما أتى النبي عليه الصلاة والسلام وهاجر من هاجر معه تزوج بعض المهاجرين امرأة أنصارية وكان الحي من قريش يشرحون النساء شرحا يعني يأتون المرأة في قبلها من الخلف ومن كل مكان

لكن من جهة الفرج

من جهة الفرج

فتزوج هذا المهاجري بهذه المرأة الأنصارية فأراد أن يجامعها كما عهد في حاله السابق فرفضت قالت : لا تأتني إلا من حرف أي من جانب

فاشتكوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال عليه الصلاة والسلام لا بأس بذلك واتق الدبر والحيضة

وهذا يدل على ماذا ؟

يدل على أن استمتاع الرجل بزوجته له ذلك مطلقا إلا ما جاء الشرع بتحريمه من جهة الدبر ومن جهة الحيض من القبل

ولذلك :

انظروا في هذا العصر تغير حال اليهود يأتون النساء بشتى أنواع الإتيان من الممارسات الجنسية ، في السابق كان الأمر يختلف

إذاً مجامعة المرأة بالطريقة الشرعية الحلال لا يمنع المسلم منها ما دام الجماع في الفرج ولا يقال والله مثلا إن هذا صنيع اليهود أو صنيع النصارى وما شابه ذلك

فإن حالهم تغير

إذاً الاستمتاع لا يخضع لعادة الناس

والناس معتادون كل على حسب عادته لكن لا يحرم شيء أباحه الله عز وجل إلا ما يفعله هؤلاء في مثل هذا العصر ، هؤلاء الكفار من فعل هذه القاذورات وماشابه ذلك فإن مثل هذا لا يجوز ولا يشك أحد في تحريمه

وإنما المقصود مطلق الاستمتاع

لأن بعض البلدان قد تمنع من أن يجامع الرجل زوجته من الخلف في القبل

ومع هذا لا يقال : إنه محرم باعتبار عادة بلدك التي أنت فيها وإنما هو أمر مطلق

يجوز إذاً للرجل أن يستمتع بزوجته بما شاء ومن أي جهة من غير ما أن يأتيها في الدبر وفي حال الحيض

والمقصود من الدبر المقصود من الدبر حلقة الدبر

ولذا :

 لو أن الرجل استمتع كما نص الفقهاء استمتع بالمرأة بين أليتيها ولم يصل إلى الدبر فإنه لا حرج في ذلك لكن مع ذلك نقول من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن حام حول الحمى يوشك أن يرتع فيه

لكن أن يقال بالتحريم لا

حتى إن بعض الفقهاء ونصوا على ذلك من أن للرجل أن يقبل فرج امرأته تقبيلا

لكن كما سلف ليس معنى ذلك ما يصنعه الغرب من التوسع في مثل هذه الأمور التي هي قاذورات

فإن مثل هذا يمنع

فالنص صريح واضح

( فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ )

(وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) الخير ومن ذلك الولد بأن تقولوا الدعاء الذي  ورد عنه عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح :

(( إذا أراد أحدكم أن يأتي امرأته فليقل بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن قدر بينهما ولد لم يضره الشيطان ))

(وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ)

لما ذكر تلك الأحكام قال (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ)

بمعنى :

( وَاتَّقُوا اللَّهَ )  أي خافوا عذابه وخافوا مخالفة أمره وخافوا أن تقعوا فيما حرمه

(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا) أمرهم بأن يعلموا من باب التنبيه

(وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ) وقال بعدها (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بمعنى أن هذه اللقيا تتضمن ماذا ؟

تتضمن لقيا تكريم

لقيا تكريم المؤمنين

ولذلك قال (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) والبشارة للمؤمنين بشارة كلها خير

وعد بنفسك وبذاكرتك إلى أول السورة

{ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا }  انتبه  نص هنا على الأزواج وهنا الحديث عن الأزواج ( وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ )

فإذا اتقيت الخبث الذي يكون حال الحيض والدبر فاعلم بأن لك أزواجا مطهرة يوم القيامة

( وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )

{ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) }

( وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً ) أي لا تجعلوا الحلف بالله عرضة أي مانعة

{ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ }

لا تجعلوا الحلف بالله مانعا لكم من فعل هذه الخيرات

{ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا } وهو اسم جامع لخصال الخير

( أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا ) لو ذكر البر لحصل كل ما بعده من التقوى والصلاح لكن إذا اجتمعت ( أَنْ تَبَرُّوا ) أي أن تفعلوا الطاعة

{ وَتَتَّقُوا } أي تتركوا المعصية

وتصلحوا بين الناس كنفع الآخرين وإيصال الخير إلى الآخرين

كما قال تعالى { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } البر فعل المأمور

التقوى : ترك المحرم

لكن لو أفردت كلمة البر وكلمة التقوى دخل هذا في هذا

{ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ } مما يدل على عظيم ماذا ؟

الصلح بين الناس

قال تعالى (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ)

{ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ }

ولذا أبو بكر رضي الله عنه لما فعل ما فعل مسطح لما كان ينفق عليه في حادثة الإفك وتكلم في عائشة رضي الله عنها حلف ألا ينفق عليه فقال الله

{ وَلَا يَأْتَلِ } أي لا يحلف { وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ـ كمثل أبي بكر ـ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}

فقال أبو بكر رضي الله عنه والله إني لأحب أن يغفر الله لي

فأعاد عليه النفقة

{ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ } بل حتى في الأمور المستحبة

في الأمور المستحبة إذا رأى الإنسان أن هناك أمرا حلف عليه ورأى أن الخير من حيث الاستحباب لا من حيث الوجوب رأى الخير من أنه يأتي هذا الشيء ويكفر عن يمينه فليفعل

ولذا قال عليه الصلاة والسلام :

(( إني لأحلف على يمين فأرى غيرها  خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير ))

{ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ } ختم الآية { وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}

 لم ؟

لم يذكر الثواب لكي ترتبط وتربط وتتمعن وتتفقه في معاني أسماء الله عز وجل إذ إن لها ارتباطا بالأحكام ( أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )

سميع لكل قول

عليم بكل الأحوال ما يكون في السموات وما في الأرض

من بين ذلك سميع لقولكم إذا حلفتم في كونكم تمتنعون عن هذه الخيرات

عليم بحالكم

عليم بحالكم

إذا عدتم إليه وأصلحتم وكفرتم عن يمينكم

{ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) }

لما ذكر ما يتعلق من اليمين التي قد تمنع الإنسان من أن يفعل البر والتقى والإصلاح بين الناس بين أن هناك نوعا من أنواع اليمين لا كفارة فيه وإنما هو لغو

{ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } هو كقول كما قالت عائشة رضي الله عنها كقول الرجل بلى والله لا والله يقولها في في بيته

كما لو أتى إنسان وقال والله مثلا لو قال هل رأيتم فلانا قلنا والله ما رأيناه

هذا لغو يمين لأننا لم نقصد اللغو في اليمين

اللغو في اليمين ليس ما قصده الإنسان

ويدخل ضمن اللغو  :

لو أن الإنسان حلف على شيء يظن في نفسه أنه كذا فبان خلاف ما في ظنه

تصور كمثال والأمثلة كثيرة :

تصور لو أن إنسانا قدم فقال شخص لما رأى مشية فلان ورأى تقاسيمه من بعد قال والله إن هذا فلان

فلما قدم هو حلف بناء على غلبة ظنه فلما قدم إذا به ليس بفلان

فإنه لا كفارة عليه

وهذا هو القول الصحيح

{ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } في الأيمان  فهذا من اللغو لكن اللغو على إطلاقه مذموم

{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) }

{ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا }

{ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ }

ولذلك انتبه قيد هنا { فِي أَيْمَانِكُمْ }  من باب أن هذا اللغو لا تحاسب عليه باعتبار أنه في اليمين وقيد هذا اللغو بالصورتين اللتين ذكرتهما قبل قليل

{ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } ما كسبت قلوبكم يؤاخذكم به

تفسيرها في آية المائدة { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ }

ما انعقد في القلب بمعنى أن يحلف الإنسان على أمر مستقبل يريده

يعني هو حلف على أمر مستقبل أراده فهنا لو خالف يمينه فيكفر كما قال عز وجل { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ }

{ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } ويدخل أيضا في هذا ما تكسبه القلوب

فالقلوب يجب أن يتعاهد الإنسان قلبه لأن قلبه ربما يكسب شيئا يحاسب عليه يوم القيامة فلو أن القلب فتح أبوابه للشبه وللشكوك وما شابه ذلك وليست الشبه والشكوك الطارئة التي لا يسلم منها أحد لقوله عليه الصلاة والسلام كما ثبت عنه (( إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت بها أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم )) لا

المقصود الشبه والشكوك التي تستقر في القلب فليتنبه المسلم من خطورة ذلك

ومن ذلك ما يصغي به المسلم بقلبه وبسمعه إلى أهل الأهواء وأهل الشبه

{ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ }

{ غَفُورٌ } : يغفر الذنب ويتجاوز

{ حَلِيمٌ } : إذ إنه لم يعاجل بالعقوبة فمن حلمه عز وجل أن الناس يعصونه بالليل وبالنهار ومع ذلك يؤخر عقوبته لهؤلاء ولهؤلاء لعلهم أن يتوبوا

وأتت هذه الجملة تتضمن هذين الاسمين (وَاللَّهُ غَفُورٌ) لما يصدر منكم من اللغو في اليمين أو ما تكسبه قلوبكم على وجه المرور لا على وجه الاستقرار

{ حَلِيمٌ }: لم يعاجلكم بالعقوبة فيما لو أخطأتم

{ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) }

{ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ }  سبحان الله !

القرآن هذا عظيم من تأمل وتأمل ما يكون فيه من آيات في السورة الواحدة في أولها وفي أوساطها وفي آخرها والارتباط الذي يكون بين الآيات تزيده إيمانا وتزيده خيرا

ولذلك قال هنا { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ  }  هذا نوع آخر من أنواع اليمين

لما ذكر اليمين التي بها يمتنع الإنسان من البر والتقى والإصلاح ثم ثنى بذكر ما يتعلق باللغو في اليمين

ثم ما يتعلق باليمين المنعقدة التي يكسبها القلب ذكر نوعا من أنواع اليمين وهو ما يتعلق بالنساء { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} يعني يحلف أنه لا يجامع زوجته أكثر من أربعة أشهر أما ما دون أربعة أشهر فلا يدخل ضمن الإيلاء المذكور هنا

ولذا ثبت في الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام آل من نسائه شهرا

لكن المقصود هنا :

أن يحلف على أنه يمتنع من وطء من جماع زوجته أكثر من أربعة أشهر أما من أربعة أشهر فما دون فلا يدخل في ذلك 0

 { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ }  يعني يحلفون { مِنْ نِسَائِهِمْ } أي من زوجاتهم

{ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } يعني ينتظرون أربعة أشهر { تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} التنصيص على أربعة أشهر لما جاء في الآثار من أن المرأة لا تصبر على زوجها أكثر من أربعة أشهر كما جاءت بعض الآثار عن عمر رضي الله عنه

 وهذه الآية تؤيد قول عمر رضي الله عنه

 في مثل هذا الحكم

لكن :

ليعلم :

أن المرأة لو تضررت بترك الرجل لجماعها ولو في شهر أوفي أقل من شهر فإنه لا يجوزله

لأنه كما يجب عليه أن يعطيها من الطعام والشراب ما تحتاج إليه وتسد بذلك جوعتها فكذلك ما يتعلق بالجماع لأنه أعظم

ولذلك :

المرأة تعطى من الجماع ما تحتاج إليه بشرط ألا يتضرر الرجل في بدنه وفي ماله وفي معيشته أو في دينه

{ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} يعني ينتظربهم أي بهؤلاء الزوجات والأزواج أربعة أشهر { فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يعني رجعوا عن هذا الحلف وجامعوا زوجاتهم

ويشترط مع الفيء أن يكفر عن يمينه على القول الصحيح لأنه حلف

{ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } انظر علل هذا الحكم بهذين الاسمين {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

غفور يغفر لما صدر من هؤلاء من هذا الأمر

ورحيم إذ إنه جعل لهم هذا الحكم

وقوله { تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}

يدل على ماذا ؟

يدل على أنه لو حلف ألا يجامع زوجته بأن يعلق ذلك على أمر مستحيل أو ما شابه ذلك فإنه يدخل ضمن الإيلاء أو أنه مثلا لم يحلف لكنه ترك زوجته إضرارا بها أو لم يكن إضرارا ترك زوجته أكثر من أربعة أشهر فإنه يؤاخذ بهذا الحكم

{ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

وقوله ( تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ) يدل على أنه بمضي أربعة أشهر لا تطلق منه وإنما قال { فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ولا تطلق منه إلا إذا طلبت المرأة بعد ذلك فأبى ولم يجامع فهنا إذا طلبت المرأة الطلاق فلها ذلك

لو قالت سأبقى معه فلها ذلك

فهذا هو حقها

{ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) } يعني أرادوا الطلاق (فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) انظر قال في الآية التي قبلها { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } هنا قال { وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)} أتى بهذين الاسمين

وقلت لكم :

لابد أن تفقه معاني هذه الأسماء والصفات وارتباط هذه بالأحكام لم يذكر حكما ( وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ ) قال معللا { فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } سميع لكل الأقوال

عليم بكل الأمور ومن ذلك يسمع قول المولي لما حلف

عليم : بالقلوب بقلب هذا المولي وعالم بكل شي { فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } فرق بين هذه الآية وبين الآية السابقة هنا ذكر السميع العليم وذكر في الآية التي قبلها { غَفُورٌ رَحِيمٌ }  مما يدل على أن الطلاق من الأفضل ألا يقدم عليه الإنسان

ولذلك قول الفقهاء إن الأصل في الطلاق الكراهية الدليل هنا

أما ما يستدلون به (( أبغض الحلال عند الله الطلاق ))

فهو حديث ضعيف من حيث السند ومن حيث المتن لأنه قال أبغض الحلال والبغيض عند الله ليس بحلال

لو قال قائل أين الدليل لهم ؟

الدليل لهم هنا ؟

{ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)} سميع لقول هذا المولي إذا طلق عليم بحاله

{ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) }

ولِمَ كان الطلاق مكروها ؟

لأن به تشتيتا للأسرة وتفريقا بين الزوج وزوجته وبين الأولاد لكن إذا استعصت الأمور قال تعالى (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ)

 

{ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) }

( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ) سبحان الله ! ذكر الله هذه الآية لأنه ربما يقع طلاق من المولي فإذا وقع الطلاق ما حال هذه المرأة في العدة ؟

( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ) يتربصن خبر يراد منه الأمر لأنه أبلغ مما يدل على أن العدة متعينة كأنها واقعة لا محالة أي ليتربصن

( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثلاثة قروء ) جمع قرء

وهل هذه القروء هل العدة بالحيض أو بالأطهار ؟

قولان مشهوران الأقرب من أن القرء المقصود منه هو الحيض وذلك بأن تعتد المرأة بالحيض

ولذلك قال عليه الصلاة والسلام للمستحاضة كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام (( امكثي قدر ما تحبسك أقراؤك )) يعني بقدر ما تحبسك الحيضة

((وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ )) يعني ينتظرن بأنفسهن

وأكد (بِأَنْفُسِهِنَّ) بمعنى : أن أنفسهن يجب أن تبقى هذه العدة لأن لهذه العدة لأن لها وبها حقوقا للزوج السابق وأيضا حتى لا يقع اختلاط بين ماء هذا الرجل وماء هذا الرجل

{ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ }  المطلقات عام فدل هذا من حيث الظاهر أن كل مطلقة تعتد بثلاث حيض لكن :

هذه الآية بينت ووضحت فالمرأة التي طلقها زوجها وعقد عليها ولم يدخل بها ولم يخلو بها فإنه لا عدة عليها

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا }

المطلقة التي لا تحيض ، وإنما امتنع عنها الحيض إما لأنها كبيرة آيسة أو أنها لم تحض أصلا فعدتها ثلاثة أشهر { وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ }

المرأة إذا طلقت وهي حامل لا تعتد بالحيض وإنما تعتد بوضع الحمل

 { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } أن تضع جميع الحمل فلو كانت حاملا مثلا بثلاثة فلابد أن تضع الأخير منه

(وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)

إذاً هذه العدة في شأن من ؟

في شأن المطلقة التي طلقت وهي حائل يعني ليست حاملا ويأتيها الحيض

{ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } وذلك إذا مرت عليها ثلاث حيض فإذا مرت عليها ثلاث حيض فهنا أصبحت محرمة يعني أصبحت بائنة بينونة من زوجها كما سيأتي معنا :

إن كانت طلقها ثلاثا أو طلقها أقل من ثلاث

فإذا طهرت من الحيض فإنه حينها تنتهي عدتها

والأفضل أن تبقى فلا تتزوج حتى تغتسل خروجا من الخلاف الذي وقع بين أهل العلم

 (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ )

أي المطلقات (أَنْ يَكْتُمْنَ) أي يخفين (مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) من ماذا ؟

من الحمل إن كان هناك حمل

من الحيض فلا تأتي المرأة وتقول انتهت عدتي ولا يقبل قولها في مرور ثلاث حيض إلا إذا لم يكذبها الواقع

يعني إذا غلب على الظن من حيث الواقع أنها طهرت فبها

لكن لو أتت امرأة بعد عشرة أيام أو بعد خمس عشرة يوما وقالت حضت ثلاث حيض فإن مثل هذا لا يكون ولا يقبل قولها

والقول قولها لأن الله قال ( وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ ) فالقول قولها ويقبل قولها بانتهاء عدتها إذا أمكن أن العدة بمعنى أن الحيض قد مرت عليها

( إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) ليس هذا الشرط فقط للمسلمات بل من كانت ذمية وطلقها زوجها فإن هذا الحكم يشملها

لكن أكد هنا أو أتى بجملة ( إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) من باب التأكيد والحث حث أهل الإيمان فأنتم أهل الإيمان بالله وباليوم الآخر

فاحرصوا على هذا الحكم كما في أحاديث ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ) هذا شامل للمسلم وغير المسلم

لكن أكد هنا من باب الحث بمعنى أنتم أهل الإيمان فاحرصوا على هذا الحكم

( إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ ) يعني الأزواج أزواج هؤلاء ( أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ )

أحق بردهن ممن ؟

ليس هناك أحد ينازعه في العدة لأنها رجعية
( أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ) يعني أحق بهن من أنفسهن

لأنه قال في مطلع الآية ( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) بمعنى أنه صاحب العدة ومازالت رجعية

والرجعية يعني بمعنى أنه لو طلقها فمضت حيضة أو حيضتان فمازالت رجعية له أن يراجعها في هذه العدة

( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) أي في هذه العدة ( إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا) قيد

بعض أهل العلم قال : لو أنه أراد أن يراجعها من غير ما يريد الإصلاح فإن له ذلك وإنما هذه الجملة من باب الحث

والصحيح أنه لا تصح الرجعة إذا كان مقصوده ليس مقصودا صالحا فإن كان المقصود الإضرار فإنه لا تصح منه الرجعة ولا يحق له أن يراجعها

ولذلك من عادة أهل الجاهلية كما سيأتي معنا من أنهم كانوا يطلقون المرأة فإذا أوشكت أن تنتهي عدته راجعوها إضرارا بها يطلقون ويراجعون

ولذلك قال تعالى كما سيأتي معنا (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ) يعني من له  أن يراجع زوجته  له في المراجعة أن يطلق مرتين ، الثالثة (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ)

وقال عز وجل (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ)

وسيأتي في هذا مزيد حديث

{ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ }  أحق بردهن من أنفسهن

هذا الدليل يدل على ما قاله الفقهاء من أنه من لا يشترط رضاه لا يشترط علمه

بمعنى :

أن الرجعية لو شاء زوجها إذا طلقها أن يراجعها من غير علمها ومن غير رضاها فله ذلك بشرط الإصلاح

لم ؟

 لأنه صاحب العدة

ولذلك قال ( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ )

(وَلَهُنَّ)  سبحان الله !

ما أعظم القرآن (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) أثناء النزاع والطلاق كل يريد حقه فلربما قال الزوج أنا صاحب العدة وحقي لابد أن تقومي به فيظن كما هو حال أهل الجاهلية من أن المرأة لا حق لها حتى كانت تحرم من الميراث حتى إن الرجل إذا مات عن زوجته أتى أقرب قريب له ووضع ثوبه أو ما شابه ذلك عليها ومنعها من الزواج ولذلك قال تعالى كما سيأتي معنا في سورة النساء ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا )

ولذلك قال هنا ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) مثل ما لكم من الحقوق عليهن كذلك لهن حقوق عليكم فالحقوق مشتركة

ولذلك بعض الناس قد يفهم الأحاديث التي أتت ببيان فضل حقوق الزوج ويغفل عن حق الزوجة

ومن ثم :

فإن للزوجة مثل ما للرجل  (( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ))

ما عرف في الشرع

ما عرف في الشرع يجب أن تعطي المرأة حقوقها

وكذلك ما عرف من حيث العادة ولم يخالف ما جاء به الشرع

( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ  ) الحقوق مشتركة لكن الرجل له درجة أعلى :

درجة بسبب ماذا ؟

بسبب أنه قائم عليها

بسبب أنه ينفق عليها { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ }

أيضا من حيث إنه ينفق عليها من حيث التفضيل من أن الإرث له أكثر

المهم :

هي وهو في الحقوق مشتركة لكن يزيد عليها

{ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } حتى إن ابن عباس يقول والله إني لأتعطر لزوجتي كما أحب من زوجتي أن تتعطر لي

{ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

عزيز : غالب قوي لا ينال بسوء

حكيم : إذ وضع الأمور في مواضعها اللائقة بها وضع كل الأمور في مواضعها اللائقة بها

ومن ذلك أنه عز وجل قوي غالب

من هضم حق المرأة فليتذكرعزة الله وقوة الله

من خالف هذه الأحكام فليعلم أنه أراد بذلك أن يخالف ما حكم الله به عز وجل وما أراده لعباده

قال (وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) وكما سبق  انظر تأمل وأكرر :

ما أتى حديث النبي عليه الصلاة والسلام الثابت عنه في الصحيح ( إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة ) إلا ليدل على عظم ماذا ؟

عظم التفقه في أسماء الله وفي صفاته

آية الكرسي لماذا كانت أعظم آية ؟

لأنها تضمنت أسماء الله وصفاته

سورة الفاتحة لماذا هي أعظم سورة ؟

لهذا الشأن

سورة الإخلاص { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ثلث القرآن لأنها تتعلق بأسماء الله وصفاته

تأمل 

والله من تأمل أسماء الله وتفقه فيها وتفقه في صفات الله زاده ذلك إيمانا

ومن أعظم ما يتدبر كما قال عز وجل { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ  } أعظم ما يتدبر آيات الأسماء والصفات

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله تعالى :

{ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)}

{ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ }  :

أتت هذه الآية بعد تلك الآية التي بيَّن فيها الله أن المطلقات أن عدتهن ثلاثة قروء فقال عز وجل :

{ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا }

وكانوا في الجاهلية كان الواحد منهم إذا طلق زوجته فله أن يطلقها بما شاء فإذا قارب انتهاء عدتها راجعها فبين عز وجل هنا فقال { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ }  بمعنى أن الزوج إنما يملك من هذا الطلاق يملك رجعة الزوجة مرتين فإن طلقها الثالثة فانتهت عدتها فإن طلقها الثالثة فإنها لا تحل له

{ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ }  :

ولذلك قال عز وجل بعد هذه الآية { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ }

 { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } بأن تمسك الزوجة وتمسك بالمعروف على ما جاء في الشرع ، وعلى ما تعارف عليه الناس بحيث  لا يخالف أحكام الشرع

{ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } التسريح بمعنى الفراق ، أي تفارقوهن بإحسان

كما بين عز وجل :

{ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ }

{ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } :

وصف التسريح بالإحسان لأنه في الغالب أن الرجل إذا طلق زوجته ربما يظهر عيوبها ، وربما يظهر ما كان منها ،  ولربما زاد على ما ليس فيها من تلك العيوب فبين عز وجل أن الفراق يكون بإحسان

ولذا خالف بين الوصف في الإمساك وفي التسريح

فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان

{ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ } أي لا يباح لكم { أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا } : يعني من المهر

فلا يجوز للزوج إذا طلق زوجته أن يأخذ من مهرها ولو كان كثيرا

ولذلك قال عز وجل :

{ وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا }

فلا يجوز له أن يضر بها أو أن يعضلها من أجل أن تفتدي ليعود إليه مهره

ولذلك قال عز وجل { وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ } إلا في حالة واحدة { إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } كزنا أو ما يشابهه كما سيأتي معنا إن شاء الله في سورة النساء

{ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } :

 فبين هنا أن العلاقة الزوجية من ضمن حدود الله وأنه لا يجوز للإنسان أن يستهين بها فإذا كرهت المرأة زوجها فقط تكون الكراهية منها  أما إذا كانت الكراهية منه أو كانت الكراهية مشتركة بينهما فإنه لا يجوز له أن يأخذ شيئا إنما يأخذ في حالة واحدة وهي متى ما كرهت المرأة زوجها يعني الكراهية من قبلها هنا يأتي ما يسمى بالخلع

ولذلك :

النبي عليه الصلاة والسلام قال لتلك المرأة (( أتردين عليه حديقته ؟ ، فقالت : نعم يا رسول الله ))

{ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا } ففي حالة الخلع في حالة الخلع هنا قال { إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ }

{ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ }

الحدود كما سلف ما يتعلق بالنكاح

مما يدل على أن أحكام الشرع هي حدود الله ويجب على المسلم ألا يتعداها

ولذا قال : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ }  أي فيما افتدت به هذه المرأة لكي تخلص نفسها

ولا يلزم الزوج إذا كان الرجل يحب هذه المرأة وهو يعشقها ولا يستطيع أن يتخلى عنها فهنا لا يلزمه من حيث الشرع كما قال العلماء لا يلزمه من حيث الشرع وإنما عليها أن تصبر

هذا قول لبعض أهل العلم ولربما أن يكون في هذا محل نظر باختلاف الأحوال والأزمان وما شابه ذلك

لأن بعض النساء قد تقول : أموت ولا أمكث مع هذا الرجل

وعلى كل حال فالمسألة تحتاج إلى نظر من حيث المحاكم لأنها تتعلق بالمحاكم

{ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } أطلق والأفضل له أن يطلقها من غير أن يأخذ منها شيئا هذا هو أعلى ما يكون من الإحسان

فإن رغب أن يأخذ شيئا فإنه يأخذ أقل من مهره

وهذه هي المرتبة الثانية

فإن لم فيأخذ مهره

أما إذا أخذ أكثر من مهره فالآية تدل على أنه يجوز له أن يأخذ أكثر من ذلك لأنه قال { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ }

وبعض أهل العلم يقول : لا يجوز له أن يأخذ بناء على زيادة لما قال عليه الصلاة والسلام : (( أتردين عليه حديقته ))

فيه رواية قال : (( أما الزيادة فلا ))

وهذه لو صحت مع أن بعض أهل العلم يحسنها هذه لو صحت فإنه لا يجوز له أن يأخذ أكثر من مهره

لكن يدل على الجواز إطلاق هذه الآية مع ضعف الحديث

والإمام مالك رحمه الله قال : ” ليس هذا من أخلاق أهل المروءة ” ولم يحرمه رحمه الله

فدل هذا على أنه يجوز له أن يأخذ أكثر من مهره

نعم في بعض الأحيان قد يحتاج الزوج أن يأخذ أكثر من مهره

لم ؟

لأنه ربما دفع إليها مهرا في زمن كانت المهور قليلة وهو يريد أن يتزوج فلو أخذ مثل مهره فإن هذا المهر يحتاج إلى أن يزيد عليه أضعافا مضاعفة وعلى كل حال :

مع هذه الأحوال كلها فينبغي للمسلم أن يتذكر تلك العلاقة التي بينهما وعليه أن يسقط شيئا من هذا المهر

وإن أحسن فإنه لا يأخذ شيئا

{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا } أي لا تتجاوزوها

في الآيات السابقة فيما يتعلق بالصيام ، وما يتعلق بالجماع في ليلة الصيام ماذا قال تعالى ؟

{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا } بعض أهل العلم يقول : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا } المقصود من ذلك المحرمات

وهنا { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا } يعني الواجبات

ولربما أن يقال من أنه عز وجل نهى في الآية السابقة عن قرب الحدود فإن أبى الإنسان فإنه لا يجوز له أن يتعدى حدود الله عز وجل

{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ } وهذا شامل ومن ذلك ما سبق آنفا

{ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } ظالمون لمن

ظالمون لأنفسهم

ولذلك قال عز وجل { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ  } إلى أن قال { وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ }

ولذلك :

قال عز وجل بعدها في الآيات { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ }

{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) }

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) }

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 { فَإِنْ طَلَّقَهَا } يعني الطلقة الثالثة لأنه قال قبلها { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } الذي يستحق فيه الزوج أن يراجع زوجته هنا { فَإِنْ طَلَّقَهَا } يعني الطلقة الثالثة ودل هذا لما ذكر ما يتعلق بالخلع دل هذا على أن الخلع ليس بطلاق ، وهذا هو القول الصحيح فإنه لو خالع زوجته فإنه لو شاء أن يعود إليها له أن يعود إليها بعقد جديد وبمهر جديد وبرضاها هنا فإن الخلع السابق  لا يعد طلاقا

حتى على قول شيخ الإسلام لو أنه بدلالة هذه الآية لو أنه خالعها وصرح بلفظ الطلاق حال الخلع قال : طلقتك وهو يريد الخلع فإن مثل هذا لا يعد طلاقا ولا تحسب عليه طلقة

{ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} يعني من بعد هذه الطلقة الثالثة {حَتَّى تَنْكِحَ} أي تتزوج ومع الزواج لابد أن يجامعها لأنه إنه لم يجامعها صار التيس المستعار الذي حذر منه النبي عليه الصلاة والسلام بل لعن التيس المستعار

{ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } لابد وهنا لفظة النكاح

 لفظة النكاح قد يكون لها أكثر من معنى لكن هنا { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } يعني حتى يتزوج بها ويجامعها في قبلها

ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام كما ثبت قال لتلك المرأة قال :

(( أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ))

قالت : نعم يا رسول الله

قال : (( لا ، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ))

والعسيلة كما جاء في الحديث الآخر مصرحا كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام العسيلة هي الجماع

{ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ }

{ زَوْجًا غَيْرَهُ } : دل هذا على أن السابق كان زوجا ، وهنا يدل على ما يذكر من أن لفظة الزوج في القرآن إذا أطلقت تطلق حينما يكون هناك وفاق بين الزوج وبين زوجته

أما إذا لم يكن هناك وفاق فإنه لا يطلق عليها زوجة إنما يطلق عليها امرأة وهذا الكلام ليس صحيحا على إطلاقه

لم ؟

لأنه قال هنا { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وهنا فراق ، الله عز وجل قال

{ وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ } فتلك المقولة التي تقال ليست صحيحة على إطلاقها

{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}

{ فَإِنْ طَلَّقَهَا } : يعني الثاني بعد أن تزوجها وجامعها { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } يعني على هذه الزوجة وعلى زوجها الأول { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } بشرط أن يكون هناك غلبة ظن ومن باب أولى أن يكون هناك يقين { إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ }

وهذا يدل على أن المراد من الزواج المراد منه الرحمة والرأفة والمودة وقد دلت على ذلك الآيات الكثيرة منها قوله عز وجل { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً }

 

وهذا يؤكد أيضا ما قاله العلماء الذين رجحوا القول الذي لابد في الرجعة أن يريد الإصلاح قال تعالى : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا }

أما إذا لم يرد الإصلاح في الرجعة فإنها يعني الرجعة لا تصح

كذلك هذا يؤكد ما سبق لأنه قال عز وجل { إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ}

{ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } : لقوم عندهم علم

وأيضا يدل على ماذا ؟

يدل على فضيلة أهل العلم لأنهم يعلمون حدود الله

وفيه فضل من الله عز وجل على أهل العلم إذ بين لهم حدوده عز وجل

{ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } وأتى بكلمة ( قوم ) وتلك حدود الله يبينها لمن يعلم

يعني : يمكن أن يكون الأسلوب لو كان في غير القرآن لمن يعلم

لكن لما قال { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } دل على أن العلمية متمكنة في هؤلاء

فهذا يدل على ماذا ؟

على أن من راعى حدود الله فإنه يكون من أهل العلم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) }

{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } :

{ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } : يعني قارب على انتهاء العدة لأن البلوغ يطلق على مقاربة الشيء كما هنا ويطلق على الوصول للشيء للآية التي ستأتي ؤبعدها { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ }

{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } البلوغ هنا قبل انتهاء العدة

{ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ }

سبحان الله !

هنا قال : { أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ }

وصف التسريح هنا بالمعروف في الآية السابقة { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ }

بعض أهل العلم يقول { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } هذا اسم لكن لما كان الأسلوب تغير وأتى بصيغة الأمر { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } هنا تغير الوصفان

والذي يظهر : مع أن ذلك له وجهة الذي يظهر لي :

أنه قال هنا { أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } بمعنى أنك إذا لم تستطع أن تأتي بالمقام الأعلى وهو الإحسان أثناء الفراق فالواجب عليك :

أن تفارقها بمعروف ولا تنقص عن هذا القدر لأن هذا هو الواجب فإن زدت فهو خير

{ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا }

{ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا }  كما يفعل أهل الجاهلية فإنهم كما سلف يطلقون المرأة فإذا قارب انتهاء عدتها راجعوها وهكذا

{ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا }  وهذا يدل على ماذا ؟

يدل على أن هذا الصنيع إضرار بهذه المرأة

ومن ثم :

فإنما يصنعه بعض الناس من أنه يدع زوجته كالمعلقة التي كأنها لا زوج لها فإنه يكون بهذا الصنيع قد فعل أمرا محرما

{ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ }

الظلم هنا على النفس حالة ماذا ؟

حالة ما إذا طلقها وقارب انتهاء عدتها راجعها إضرارا بها فهذا ظلم للنفس

أيضا ما سبق لما ذكر ما يتعلق بالخلع قال { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }

{ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا }

يعني كحالة من يستهزأ هم لا يستهزءون لأن الاستهزاء بآيات الله كفر

{ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ }

والصحابة رضي الله عنهم :

أو من في عصره عليه الصلاة والسلام لا يستهزءون بالآيات وإنما المقصود لا يكون حالكم في قضيتكم مع المرأة من حيث الطلاق ومن حيث الرجعة والاستهانة بالطلاق لا يكون كحال من يتخذ آيات الله هزوا  { وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } وهذا يدل على ماذا ؟

يدل على أن أحكام الشرع يجب على المسلم أن يأخذها بقوة وبعزيمة

{ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ }  اذكروا كل نعم الله عليكم من النعم الدينية والدنيوية

ثم ذكر بعد ذلك ما يتعلق بالنعم الدينية التي هي أعظم ما يكون { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ }

الكتاب : القرآن

الحكمة :  السنة

إذا اجتمعا وقد مر معنا فيما مضى من آيات  { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ }

{ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ }

دل هذا على ماذا ؟

دل على أن شرع الله أن الشرع كله وعظ خلافا لما يتصور انظروا فيما يتعلق بأحكام الطلاق هنا بين الوعظ

مما يدل على أن الوعظ ليس كما يتصوره البعض بحيث يحصره في قضية قبر أو في قضية جنة أو نار

ولاشك أن هذه وعظ لكن الوعظ الشرع كله

ولذلك قال عز وجل عن قوم هود عليه السلام { سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ }

أيضا التوحيد وعظ وسيأتي معنا أدلة كثيرة فيما يتعلق بهذا الأمر

{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } أمرهم بتقوى الله

{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } واتقاء الله عز وجل ذكره هنا يدل على ماذا ؟

يدل على أن الإنسان مأمور بتقوى الله في كل الأحوال

وأيضا فيه تذكير لأن بعضا من الناس يظن أن ما يكون بينه وبين زوجته يظن أنها من الأمور المباحة أو التي لا يترتب عليها ثواب ولا يترتب عليها عقاب ، لا

ولذلك قال { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا } من باب التنبيه وهو تحذير

{ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فهو عالم بكل شيء

ومن ذلك ما يجري بين الزوج وزوجته في البيت لأن بعضا من الناس ربما أنه يتسلط على زوجته ويرى ضعفها وقد لا يكون لها أهل أو ما شابه ذلك

فقال تعالى : { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) }

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعُروفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232) }

{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } هنا البلوغ كما سبق { فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ }  يعني : { فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } يعني انتهت عدتهن

{ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ } أي لا تمنعوهن مَن ؟

الخطاب للأولياء أولياء المرأة فلربما أن الرجل يطلق زوجته الطلقة الأولى أو الطلقة الثانية ثم تنتهي عدتها هنا لا حق له في الرجعة لأن العدة قد انتهت لكن له وتسمى هذه البينونة الصغرى تختلف عن البينونة الكبرى

البينونة الكبرى كما في قوله تعالى { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } البينونة الكبرى لابد فيها من زوج آخر كما سبق ومع عقد النكاح لابد أن يجامعها

هنا :

ربما أنه يطلق المرأة ثم تنتهي عدتها ولم يراجعها في العدة

هنا بينونة صغرى

تعود إليه بعقد جديد وبمهر جديد فقال عز وجل هنا { فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ } الخطاب للأولياء ، الخطاب للأولياء لأن سبب هذه الآية :

أن معقل بن يسار زوج أخته لرجل فطلقها فلما انتهت عدتها أراد أن يتزوج بها بعقد جديد وبمهر جديد فغضب معقل بن يسار

قال : أكرمتك وزوجتك وإذا بك تصنع بأختي ما تصنع إلى أن نزلت هذه الآية وكانت ترغب فيه ويرغب فيها فقال عز وجل { فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ } وهذا يدل على ماذا ؟

يدل على أن هذا الفعل من أولياء النساء محرم

لأنه يمنع النساء حقهن

إذاً هذا فيما يتعلق ببينونة صغرى

فما ظنكم بأب أو بولي من عم أو أخ إذا به يمنع المرأة من حيث الأصل من الزواج

فهذا من أعظم ما يكون من العضل

ولذلك قال { فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ } يعني أن يتزوجن

بعض أهل العلم ممن يرى أن عقد النكاح أنه يكون من غير ولي قال أضاف النكاح ونسب النكاح إليها

أن ينكحن لكن يقال المقصود هنا { أَنْ يَنْكِحْنَ } لأنهن أردن الزواج بهذا الزوج الذي هو كان زوجها في السابق  ، وليس معنى ذلك أن عقد النكاح تبرمه المرأة بنفسها أو أن يزوجها امرأة أخرى ، لا

{ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ } لأنها راغبة في الزواج به فأسند لفظ النكاح إليها هي وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام ( لا نكاح إلا بولي )

{ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } مع أنه ليس بزوج لها لكن باعتبار ما مضى لكي يذكر الأولياء من أن هذه المرأة وذلك الرجل كانت بينهما ما بينهما من عشرة زوجية

ولذلك :

وصف الرجل بأنه زوج مع أنها بانت منه بينونة صغرى

{ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعُروفِ} أي ما كان بينهم من رضا بالمعروف

المعروف الذي أتى في الشرع ، وذلك أيضا برضا هذه المرأة

لكن لو أن المرأة رفضته فإن لها الحق

{ ذَلِكَ } أي هذا الأمر الذي مر  { يُوعَظُ بِهِ } وصفه بأنه وعظ ، وعظ للأولياء

دل هذا على أن الشرع كله وعظ

{ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ }

هذا من باب الحث حث هؤلاء من باب تذكيرهم بأنهم من أهل الإيمان بالله وباليوم الآخر حثهم على أن يتلطفوا مع هذا الزوج وأن يزوجوا موليتهم بهذا الزوج الذي كان زوجا لها

{ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ }

فيما قبله قال { ذَلِكَ يُوعَظُ } قال العلماء { ذَلِكَ يُوعَظُ } لأنه في معنى الجمع وهو أولى من قول { ذَلِكَ } بمعنى أنه راجع إلى النبي عليه الصلاة والسلام

{ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ }

ذلكم بمعنى أنكم إذا رضيتم بتزويج هذه المرأة من زوجها السابق

{ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ }

أزكى بمعنى أن نفوسكم تزكو وتقبل على الله وتنفذ شرع الله وتزداد إيمانا

فهنا هذا الأمر إذا فعلتموه وهو تزويج هذه المرأة بزوجها { ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ } أطلق أزكى لكم جميعا { وَأَطْهَرُ } أتى بكلمة { وَأَطْهَرُ } لأن في هذا الفعل في هذا الصنيع إذا امتثلتم أمر الشرع هنا تكون فيه زكاة لقلوبكم ويكون هناك خير لكم

أيضا { وَأَطْهَرُ } تبتعد عنكم الشرور والشكوك والوساوس

لم ؟

لأنه إذا رفضتم هذا الأمر ربما يقع في قلوبكم أيها الأولياء من أن هناك علاقة سرية بين المرأة وبين زوجها السابق

ولربما مع وساوس الشيطان ربما تكون هناك علاقة سرية بين هذه المرأة وبين زوجها الأول

ولذلك قال { ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }

أثبت العلم له عز وجل وهي صفة من صفاته عز وجل

{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } وإذا كان هو عز وجل يعلم وعلمه محيط بكل شيء { وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } لأن أصلكم الجهل والنقص وما شابه ذلك

فهنا عليكم أن تلتزموا بما أمركم الله به

 وهذا يفيدنا بفائدة وهي أن كل أمر من أمور الشرع يكون خيرا ولو جهلت ما جهلت من عواقبه

ولذلك قال { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } وهذا شامل لكن من بين ذلك ما ذكر في هذه الآية

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله تعالى :

{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)  }

{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ }

ذكر هنا ما يتعلق بالرضاعة

لم ؟

لأنه ربما أن الطلاق يقع ولا يكون هناك زواج ولا وفاق فهنا قد يكون هذا الطلاق الذي أعقب النكاح قد يكون بينهما ولد

فقال تعالى { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ } خبر في سياق الأمر يعني ليرضعن

والوالدات يرضعن

وهل هو على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب ؟

قولان لأهل العلم

ولكن الصحيح :

أنهن يرضعن أولادهن على سبيل الوجوب فيما لو أن هذا الطفل لم يرتضع من ثدي غيرها وخشي عليه الهلاك فيلزمها أن ترضعه وإلا فالأصل كما سيأتي في سياق الآيات يدل على أن هذا على سبيل الاستحباب

{ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ }

حولين : يعني سنتين

كاملين : من باب التأكيد والحث على أن تكملوا هذين العامين

وإنما ذكر هنا الحولين مع أنه يجوز أن يحصل الفطام قبل الحولين إذا حصل نزاع بين الرجل وبين المرأة في إرضاع هذا الطفل فإن المتعين ماذا ؟

المتعين يكون هذين الحولين

{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } :

فتمام الرضاعة بسنتين

فإن حصل نزاع فيعاد إلى هذين الحولين

وأخذ أهل العلم من هذه الآية من أن الرضاع المحرم بمعنى أن امرأة أرضعت طفلا ليس طفلها أرضعت طفلا أجنبيا فيقولون : الرضاع لا يكون محرما يعني تثبت الحرمة به لا يكون إلا في الحولين

{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } :

ومسألة إرضاع الطفل في السنتين قبل الفطام أو بعد الفطام خلاف بين أهل العلم مع أن شيخ الإسلام يقول متى ما فطم الولد ، ولو قبل سنتين فإنه حينها إذا أكل الطعام وفطم عن الرضاع فإنه لو أرضع فإنه لا يكون محرما ، والمسألة محلها في الفقه ، ومن أراد التوسع فليعد إلى ما شرحناه في كتاب الفقه

{ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ }

 { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ } يعني على الأب { رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } رزق من وكسوة من ؟

المرضعة المرضعة

يعني إذا طلقها فيلزمه أن يعطيها الأجرة الرزق والكسوة بناء على هذا الرضاع

لكن لو كانت المرأة في حبال الزوج

يعني :

هي زوجة قد تكون مثلا رجعية أو أنه لم يطلقها فبعض أهل العلم يقول : لها أجرة

ولكن شيخ الإسلام يقول : الصحيح أنه لا أجرة لها

لم ؟

لأن النفقة عليها تكون عوضا عن هذا الإرضاع بدليل هذه الآية  { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أي ما تعورف عليه

وهذا يختلف باختلاف الأحوال وباختلاف الأزمان

وهذا يدل على ماذا ؟

يدل على أن النفقة مع وجود الأب ، إنما تجب على الأب ولا تجب على الأقارب

ولذلك :

قال عليه الصلاة والسلام لهند لما قالت إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وولدي ما  يكفيني

قال : (( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ))

لكن لو أن الأب ليس موجودا وهنا النفقة تكون على من ؟

تكون على الأقرباء

على كل حال :

{ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا }

{ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا } يعني إلا طاقتها وقدرتها

ومن ثم :

فإن بعضا من الناس ربما يطلق على العبادات ، وعلى الشرع من أنه تكليف ، وقد قال شيخ الإسلام بعضهم يطلق على العبادات وعلى الشرع بأنه تكليف

وهذا خطأ

بل إن بعضهم يقول إنما أمر الله الناس بالعبادة من أجل أن يختبرهم

وبعضهم قال : من أجل أن يثيبهم

قال :

والصحيح أن أوامر الشرع وما جاء به الشرع ليس تكليفا وإنما هي غذاء للقلوب وللأرواح

قال وأما ما ذكر هنا { لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا }

وكقوله تعالى { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } فهذا نفي ، نفي أن يكون هناك تكليف في أحكام الشرع

قال : وإن كان بعض العبادات قد تكون فيها بعض المشقة كقوله تعالى

 { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ } لكن تلك المشقة نادرة وفي عواقبها الخير والراحة والسرور والغذاء

فخلاصة القول :

 أن أحكام الشرع لا يطلق عليها تكليف وإنما الشرع أمر بهذه العبادات كما أن الإنسان سيثاب عليها إن ائتمر بها وسيعاقب عليها إن تركها أيضا هي غذاء للأرواح وللقلوب

لكن لو قيل : بعض العلماء علماء السلف يطلقون التكليف أحيانا

فنقول إطلاق التكليف من باب الرد على أهل الكلام الذين أتوا بهذه المصطلحات

{ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ } من بين ذلك : المضارة { لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } لا تضار والدة يعني الأم

{ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ } يعني الأب { وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ }

{ لَا تُضَارَّ } : هذا الفعل إذا أتى وما يشابهه يسمى الفعل المضعف

{ لَا تُضَارَّ } : قد يكون على وزن اسم المفعول

يعني : لا تضارر

بمعنى : لا يوقع الضرر بهذه الأم

إذ إن هذا الولد ربما أنه ارتضع من غيرها فلا يشق عليها

وأيضا :

لا يضارر هذا الأب بحيث يطلب منه نفقة أكثر

أو بمعنى :

اسم الفاعل لا تضارر

يعني : لا يقع الضرر من الأم بالأب

ولا يقع الضرر من الأب بالأم

{ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}

{ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } من هو هذا الوارث ؟

بعض أهل العلم قال هو الصبي

بمعنى أن الصبي إذا كان الأب غير موجود فإن نفقة هذه المرضعة ، إنما هي من مال الصبي يتولى ذلك وليه لكن الأشهر والأظهر { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } يعني على وارث الصبي

على وارث الصبي

إذا لم يكن الأب موجودا قلنا إذا كان الأب موجودا فالذي يتكفل بالنفقة الأب

{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } بدلالة حديث هند الذي مر معنا

هنا قال { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } :

بمعنى :

 أن الوارث لهذا الصبي فيما لو قدر أن لهذا الصبي مال وورثه أناس فإن النفقة تكون عليهم على حسب إرثهم

حتى لو كبر

بمعنى :

 لو أن الإنسان مثلا في غير قضية الرضاع

مثلا كان فقيرا وكان أقرباؤه الذين لو مات كانوا سيرثونه وكانوا أغنياء فإن النفقة تقسم عليهم

فالنفقة تقسم عليهم

تصور :

مثلا لو أن له أختا شقيقة وله عم الأخت كم لها ؟

لو مات ؟

النصف

الباقي للعم

إذاً :

النفقة مشتركة بينهما

تصور :

لو أن الوارث أم مثلا وأخ هنا :

الأم كم عليها ؟

الثلث

ثلث النفقة

الباقي على الأخ الذي هو أخ لهذا الصبي

{ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا } أي الأب مع الزوجة { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا } يعني فطاما

الفصام هنا هو الفطام

{ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا }

{ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا } اتفقا وتشاورا لابد أن يتشاورا وأن يسأل أهل الخبرة هل في فطامه قبل السنتين فيه مصلحة أم لا ؟

فإن كان فيه ضرر فلا يلتفت إلى تراضيهما ولا  إلى مشورة أحد

{ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا }

لا إثم عليهما

{ وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ } أي أن تبحثوا عن مرضعات لهن

{ وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ }

يعني إذا سلمتم الأجرة لهؤلاء المرضعات

{ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ }

أمر بتقوى الله في جميع الأحوال ، ومن ذلك ما يتعلق بأمر الرضاع وما يتعلق بحال هذا الصبي وما يتعلق بالمضارة التي ربما تكون بين الزوجين

 { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا } من باب التنبيه

{ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فالله عز وجل محيط وعالم وهنا إثبات اسم البصير لله عز وجل

ومنه صفة البصر

كما تليق بجلاله وبعظمته

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْروفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) }

{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ } :

لما ذكر ما يتعلق بالفراق حال الحياة ذكر ما يتعلق بالفراق بعد الموت

{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ } :

لما بين حال الفراق في حال الحياة بين الفراق بعد الموت { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ } يعني يموت أحدكم ( وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا ) ويذرون أي يتركون أزواجا ، وأطلق هنا الأزواج فدل هذا على أن المرأة متى ما مات عنها زوجها ولو كانت صغيرة

فتلزمها العدة

ولو عقد عليها ومات بعد العقد ولم يدخل بها ولم يخل بها فإن العدة تلزمها ولها الميراث كما حكم النبي عليه الصلاة والسلام في امرأة وهي ” بروع بنت واشق “

لما مات عنها زوجها ولم يدخل بها فهو عليه الصلاة والسلام جعل لها الميراث ولها الصداق وعليها العدة

{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا } مطلقة ، انتبه أي امرأة مات عنها زوجها فإن هذه العدة تلزمها

{ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ } أي ينتظرن

أي عليهن أن ينتظرن

{ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا }

هذا إذا لم تكن حاملا

فإن كانت حاملا فكما قال عز وجل { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ }

بمعنى أنها لو كانت حاملا في الشهرالتاسع فمات عنها زوجها وبعد دقيقة وضعت حملها فهنا انتهت عدتها ولها أن تتزوج كما في قصة ” سبيعة الأسلمية “

فدل هذا على أنه متى ما مات عنها زوجها ولم تكن حاملا لأنها إذا كانت حاملا فلابد أن تضع الحمل سواء طالت المدة أم قصرت لأن مدة الحمل قد تزيد على أربعة أشهر وعشر ليال فدل هذا على أن الحكم متعلق بماذا ؟

متعلق بوضع الحمل ولو تعدد لابد هذا المتعدد من الحمل أن ينزل كله

فلو كانت حاملا في ثلاثة فلا تنتهي عدتها إلا بوضع الحمل الثالث

وهذا هو الراجح

خلافا لذلك القول الذي يجمع بين الآيات يقول { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } 

نجمع بينها وبين قوله { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ }

من أنها تعتد أطول الأجلين فعلى حسب الأطول تعتد به

ولكن الصحيح :

ما ذكر هنا ، لأن الآية فصلت فيما يتعلق بالحامل وفيما ليست بحامل

{ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } وذكر الأنفس من باب أن هذا حق للزوج فلا يجوز لها قبل هذه العدة أن تتزوج

{ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا }

{ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا }

لماذا هذا التنصيص على هذا العدد ؟

لأن أربعة أشهر يتخلق فيها الجنين وينفخ فيه الروح كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه حدثنا الصادق المصدوق من أن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعون يوما نطفة ثم علقة مثل ذلك ثم مضغة مثل ذلك

فهذه أربعة أشهر

وذكر العشر هنا من باب التأكيد

فلربما أن بعض الشهور قد تنقص أيامها ولا يدركها الإنسان

ومن ثم :

فإنه في مثل هذا العصر ؛ لأن المقصود بالأربعة أشهر والعشر هنا المقصود من ذلك :

أنه يكون برؤية الهلال

فهنا في مثل هذا الزمن الناس لا يتراءون الهلال إلا في رمضان ، ومن ثم فإن المرأة لو مات عنها زوجها فلا تأخذ بما يكون في التقويم فقد تكون بعض الشهور ناقصة مثلا تسعة وعشرين يوما فلا تأخذ بذلك وإنما تكمل ثلاثين يوما

لقوله عليه الصلاة السلام ( فأكملوا العدة ثلاثين ) لأنه لم ير الهلال لكن لو أن وليها تراءى الهلال وما شابه ذلك فتأخذ برؤية الهلال

إن لم يكن فلا تأخذ بالتقويم

قال هنا { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } ولم يقل وعشرة ،  { وَعَشْرًا } من باب ماذا ؟

من باب أن عدة المرأة المتوفى عنها زوجها لا يحصل إلا بدخول الليل ، ليلة الحادي عشر

بمعنى :

 لو أن عدتها مثلا في يوم الأحد ستنتهي عدتها في يوم الأحد عشرة الأيام والأربعة أشهر ستكون في يوم الأحد فلا تخرج إلا بعد أذان المغرب

فلابد من دخول الليلة الحادية عشرة

{ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } بلغن أجلهن البلوغ هنا الانتهاء

{ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } يعني أنتم أيها الأولياء

{ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْروفِ } من التزين لأن المرأة إذا توفي عنها زوجها فإنه مع العدة فإنه مع العدة ما الذي يلزمها ؟

الإحداد ، والإحداد هو ترك ما يدعو إلى نكاحها من التطيب والزينة وما شابه ذلك

والتزين يختلف باختلاف الناس وعصور الناس

فالشاهد من ذلك أنه يلزمها الإحداد ولاعلاقة من حيث انتهاء العدة بالإحداد

فلو أن المرأة قصرت فلم تحد على زوجها ومضت هذه المدة فقد انتهت عدتها لكنها آثمة لأنها تركت الإحداد لأن بعضا من الناس ، ربما يقول والله هي لم تحد على زوجها لم تنته عدتها ، لا ، بمرور هذه المدة انتهت عدتها ولو فرطت في الإحداد هي آثمة لكن العدة قد انتهت

وقوله عز وجل { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ } يدل على ماذا ؟

يدل على أن العدة تبتدئ من حين الوفاة فلو أن المرأة لما مضى على زوجها مثلا من حيث الوفاة قد يتوفى وهي لا تعلم فأخبرت بعد شهرين من أنه زوجها قد مات قبل شهرين وهي لا تعلم إذاً كم يبقى عليها شهران وعشر

تصور :

لو أنها أخبرت بعد أربعة أشهر وعشر من أن زوجها قد توفي قبل خمسة أشهر

عدتها قد انتهت

فعدة الوفاة من حين الوفاة ولو لم تعلم المرأة

وعدة الطلاق من وقت الطلاق

فلو أن زوجها طلقها مثلا قبل شهرين ومرت عليها حيضتان

فأخبرت أن زوجها قد طلقها قبل شهرين

هنا كم يبقى عليها ؟

حيضة واحدة

{ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أيها الأولياء { فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْروفِ}

{ بِالْمَعْروفِ } أي ما تعورف عليه من حيث الشرع وأيضا ما تعارف عليه الناس بحيث لا يكون هناك مخالفات شرعية لأن المرأة ربما بعد هذا الإحداد ربما تزيد عن التزين المطلوب شرعا فتسرف في ذلك

وهذا يدل أيضا الخطاب موجه للأولياء { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } من أن الولي عليه أن يكون وليا على موليته وعلى النساء اللواتي تحته بحيث يلزمهن بأحكام الشرع ولذلك الخطاب وجه إليه

 { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْروفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ  } خبير ببواطن الأمور الخفية أتى باسم الخبير وهو من أسمائه عز وجل لأن مثل هذه العدة هي خفية عن حال الناس فإنها وإن خفيت على حال الناس فأنقصت المرأة أو ما شابه ذلك أو تزينت بزينة لا تظهر للناس فإن الله خبير

ولذلك قال عز وجل { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } وهنا ذكر الخبير

فهو خبير بما يعلمه العباد من أجل أن يخاف هؤلاء عقاب الله لأن قوله

{ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } يتضمن الوعد والوعيد فوعد من الله سيثيب من طبق هذه الأحكام ووعيد من الله وتخويف من الله أن يعاقب من فرط في هذه الأحكام

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) }

{ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أي لا إثم عليكم { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ } هنا لما ذكر ما تعلق بالمتوفاة عنها زوجها في حال العدة ربما أن غيرها يطمح فيها ويطمع فيها ويريد الزواج بها وهنا { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ } كما أن هذه الآية أتت بعد ما يتعلق بحال الوفاة أيضا تشمل حال الطلاق

{ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ }

تعريض بمعنى : أنه يقول والله مثلك لا يفرط فيها بحيث يذكر شيئا من  صفاتها أو يذكر والله مثلا شيء من صفاته أنا رجل كريم أنا رجل كذا فهذا تعريض

فالتعريض لمن فارقها بوفاة أو فارقها ببينونة كبرى وهي في العدة الكبرى كم ؟ ثلاث طلقات فهنا جائز

لكن التعريض بالمرأة الرجعية حرام لا يصح ولا يجوز التعريض ولا التصريح من باب أولى

فلو أن رجلا طلق زوجته طلقة أو طلقتين له أن يراجعها قبل أن تنتهي  عدتها

لو أتى إنسان وعرض بخطبتها

فإن هذا لا يجوز

لأن المرأة الرجعية زوجة لها ما للزوجات من الحقوق وعليها ما على الزوجات من حقوق

بعض الناس ربما يظن أن المرأة الرجعية لا حقوق لها

وسيأتي بيانه إن شاء الله في سورة الطلاق

{ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ } خِطبة خِطبة النساء بخلاف خُطبة الكلام الملقى على الآخرين

{ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ } أي أضمرتم { فِي أَنْفُسِكُمْ } أضمرتم في أنفسكم الرغبة في مثل هذه المرأة

 { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ }

يعني علم عز وجل أن هؤلاء النساء ستذكرونهن وذلك لحاجتكم إلى الزواج بهن فأباح لكم التعريض

{ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا } فلا يأتي إنسان ويقول لها تصريحا : سأتزوج بك إذا انتهت عدتك وأيضا يدخل فيه ما قاله بعض أهل العلم من أنه يقول : سأجامعك وإذا انتهت عدتك أظهرت هذا الأمر

ولذلك هذا ليس بنكاح وإنما هو زنا

{ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا } 

ما هو القول المعروف ؟

التعريض فقط

{ إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا } هذا هو القول المعروف هذا هو القول  المعروف ما عدا التعريض هو التصريح ليس بقول معروف وإنما هو قول منكر { إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ } عقدة النكاح عقدة وضم وجمع لأن بين الزوجين مودة ورحمة

{ وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } الكتاب يعني العدة ووصفت العدة بالكتاب لأنها أمر مكتوب مفروض عليكم لأنه ربما في حال التعريض ربما أن المرأة تنقص من العدة ، وربما يستبقون الأمر ويتزوج بها قبل انتهاء عدتها ومن تزوج امرأة في عدتها فنكاحه باطل

لا يصح

وما يترتب على ذلك من جماع يكون زنا ويلزمه أن يطلقها بل يلزمه أن يفارقها لأنه ليس بنكاح صحيح ، يلزمه أن يفارقها

{ وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } إذا انتهت العدة فلا إشكال في ذلك

{ وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ }

يعلم كل ما يجول في النفس فعلى المسلم أن يحذر من عقاب الله عز وجل

لأنه ربما يعزم الإنسان عزما يريد الفعل { وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) } فهو يغفر الذنب ربما أن الإنسان يصرح مثلا فيقع تضعفه نفسه فيقع في الذنب هنا الله غفور ، وحليم : حليم لا يعاجل عباده بالعقوبة بل إنه يمهلهم عز وجل ليتوبوا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) }

{ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً }

هذا صنف من صنف المطلقات ما الذي يترتب على الطلاق من حقوق للزوجة على زوجها

{ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } لا إثم عليكم { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ــ يعني الجماع ــ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً } أي لم تفرضوا مهرا بمعنى أن الرجل طلق زوجته قبل أن يجامعها ولم يفرض لها ومع قوله عز وجل  { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } يعني الدخول

لكن لو خلا بها تأخذ هذا الحكم على الصحيح قد قضى الخلفاء بأن من أرخى سترا وأغلق بابا فقد وجبت العدة ولها المهر

لكن هنا لم يجامعها ولم يخلو بها ولم يفرض لها صداقا

ولذلك :

انظر { أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً } دل هذا على أن الصداق فريضة وواجب على الزوج ولا يصح نكاح من غير صداق إلا فيما يخص النبي عليه الصلاة والسلام

كما قال عز وجل {  خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ }

ولذا قال عز وجل عن ما يتعلق بهذا المهر { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً }

{ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً } عقد عليها لكن لم يفرض لها ماذا ؟

لم يفرض لها صداق ولم يجامعها ولم يخلو بها هنا يمتعها بما تعورف عليه على حسب غناه وعلى حسب فقره

{ وَمَتِّعُوهُنَّ } أي تعطى ما تستمتع به حسب المعروف وحسب حالة الزوج { وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ } يعني الفقير {قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ } ما يتعارف عليه في كل زمن وفي كل عرف حسب حالة الغني وحسب حالة الفقير

{ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ  } قال هنا { حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ } أي هذا واجب على أهل الإحسان وصفوا بالإحسان لأن هذا فرض عليهم وهذه المتعة واجبة في حق هذا الصنف من المطلقات لأنه لا صداق لها

لكن ليعلم :

ليعلم :

أنه لو لم يفرض لها صداقا وخلا بها أو جامعها فلها صداق أمثالها فلها صداق أمثالها

{ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ }

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) }

{ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } هذا صنف آخر { مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } وأيضا قبل الخلوة كما مر معنا كلام الخلفاء الأربعة من أغلق بابا وأرخا سترا فقد وجبت العدة ووجب الصداق

ولذلك :

 بعض الناس ربما أنه يعقد على امرأة ويعقد عليها ما يسمى بالملكة ثم إذا به لم يدخل بها يأتي إلى بيت أهلها ويجلس معها مثلا وحده في المجلس أو في المكان ويغلق الباب فهنا لو طلقها فالمهر كامل في حقه

لكن :

إذا لم يخلو بها وطلقها هنا لها نصف المهر وهو ما ذكر هنا { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } ومعه الخلوة { وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } لأنه لم يحصل جماع ولم يحصل خلوة

لو حصل جماع أو خلوة وجب المهر كاملا { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ } من ؟ أي الزوجة  { أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } وكما سلف عقدة النكاح يدل على ماذا ؟

يدل على أن النكاح أنه عقد وثيق وتواصل بين الزوجين

{ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } الصحيح الذي هو الزوج لأنه هو الذي يملك عقدة النكاح يملك الطلاق خلافا لمن قال إنه هو الأب أو إنه هو الولي { إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } سبحان الله !

مع الفراق يحصل الشح ولربما النزاع ولربما الخصام ولربما التطاول فذكرهم بالعفو من الجانبين بمعنى أن المرأة تعفو عن هذا النصف أو تعوف عن شيء منه

أو أن الرجل يكمل لها المهر كاملا أو يزيدها بمعنى أنه يزيدها على النصف { إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } لما ذكرهم بالعفو ذكرهم بفضيلة هذا العفو وهذا شامل ليس في ما يتعلق بالزوجين شامل ومن ذلك يدخل الزوجان { وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } فالعفو يوصل إلى تقوى الله عز وجل

ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم قال (( وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ))

{ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } وقال { أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } رجاء التقوى

بمعنى أن الإنسان يعمل العمل الصالح من العفو ومن غيره ويرجو ثواب الله فلا يتكل على عمله من عفو أو غيره

{ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ }

لا تنسوا يعني تذكروا  { وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } الفضل بأن يتفضل بعضكم على الآخر فإن هناك علاقة سابقة بينكما

{ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }  فهو عالم بكل شيء ومن ذلك ما يكون بين الزوجين مما ذكر من أحكام

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) }

{ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى }  ذكرت هذه الآيات المتعلقة بالمحافظة على الصلوات من أجل أن يتذكر العبد أن أعظم الوسائل ، ومن أعظم ما يجمع شتات الأسرة ، ومن أعظم ما يجمع بين الزوجين الصلاة

فمن حافظ على الصلاة فإنه سيكون في استقرار

ولذلك أتت هذه الآيات بعد ما يتعلق بالطلاق

وأيضا قال  { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى  } لأن بعضا من الناس قد تشغله بعض هذه الأمور المتعلقة بالدنيا من النزاع أو ما شابه ذلك فيشتغل عن الصلاة فالصلاة لها أهميتها

ولذلك قال { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ } أي جميع الصلوات { وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى  } 

الصلاة الوسطى أقوال كثيرة وقد بينت الخلاف ومع أدلته في شرحي على السنن لكن الصحيح ونكتفي بالراجح هنا الصحيح أنها صلاة العصر لما ثبت في الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : (( شغلونا ــ يعني ــ المشركين في غزوة الخندق ــ شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر))

فدل هذا على أن الصلاة الوسطى هنا هي العصر

{ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ }  :

قوموا لله لوجه الله

قانتين أي مطيعين وخاشعين ومن ذلك ترك الكلام في الصلاة لأنه كان جائزا في أول الإسلام كما في حديث زيد بن الأرقم فنزلت هذه الآية قال (( فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام ))

{ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ }  وهذا يدل على ماذا ؟

يدل على أن عبادة الله وأن طاعة الله عز وجل هي سبب لكل خير

قال تعالى { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا }

{ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ }

{ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا } لعظم هذه الصلاة تصلى على أي حال ولا يجوز لأحد أن يخرج الصلاة عن وقتها لأي عذر من الأعذار مهما كان هذا العذر لو لم تكن مستقبلا للقبلة لو لم تكن مستطيعا للوضوء 

صل ولا تخرجها عن وقتها

وما يفعله بعض من المرضى يقول : والله لم أصل ثلاثة أيام أو أربعة أيام لأن سريري ليس مستقبل القبلة أو لم أستطع أن أتوضأ

صل على حسب حالك ولا يجوز أن تؤخر الصلاة

{ فَإِنْ خِفْتُمْ }  لم يقل فإن خفتم من عدو أو من سبع أو من سيل أو ما شابه ذلك شامل

فاي إنسان خاف من أي شيء ولم يستطع أن يصلي الصلاة باستقرار فهنا يصلي على حسب حاله ويأتي بما يستطيع من الأركان والواجبات { فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا } يعني فصلوا رجالا يعني تمشون على أرجلكم

{ أَوْ رُكْبَانًا } يعني على الدواب أو في السيارات كما في هذا الزمن

{ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ } حصل أمن { فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ }

{ فَاذْكُرُوا اللَّهَ } يعني صلوا هذه الصلاة { كَمَا عَلَّمَكُمْ }

{ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ } أي أدوا هذه الصلاة بأركانها وبواجباتها وبشروطها

{ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ }

 فالله عز وجل علمنا هذه الصلاة وما يتعلق بها ولم نكن نعلم من ذلك شيئا وكذل علمنا أشياء كثيرة فالآية عامة { فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } وهذا يؤكد على ماذ ا ؟

يؤكد على أن الإنسان من حيث أصله فيه الجهل ومن ثم فإن الإنسان لو أعطاه الله علما من العلوم فإنه لا يرى لنفسه قدرا أو مكانة ، فالله عز وجل هو الذي علمه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله تعالى :

{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) }

{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ }

{ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا } :

 هذه الآية قال بعض أهل العلم : ” إنها منسوخة منسوخة بالآية المتقدمة ” ولا يلزم أن يكون الناسخ متأخرا من حيث  الترتيب لا يلزم أن يكون متأخرا عن المنسوخ في ترتيب آيات القرآن

بمعنى :

أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى :

{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا }

وهذه الآية نصت على ماذا ؟

نصت على أن المرأة تعتد حولا كاملا فنسخت بتلك الآية السابقة

والصحيح :

أنه لا نسخ وهذا هو القول الراجح

لِمَ ؟

لأن العدة الواجبة على المرأة المتوفى عنها زوجها ولم تكن حاملا العدة عليها أربعة أشهر وعشر كما سبق

لكن هنا من باب الأفضلية ومن باب الإحسان

من باب الإحسان :

 أن يوصي الرجل أهله بعد وفاته أن يبقوا زوجته في البيت

قال تعالى : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا }

{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ } أي تصيبهم الوفاة

{ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا } أي يتركون أزواجا

{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً } أي فليوصوا

{ وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ } يعني لزوجاتهم { مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ } يعني أن هذه الوصية هي متعة وتمتيع لهذه المرأة

{ غَيْرَ إِخْرَاجٍ } بمعنى أن أهل وأولياء الميت لا يخرجون هذه المرأة

  { مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ } وهذا ليس بلازم على المرأة

قال تعالى : { فَإِنْ خَرَجْنَ } يعني أنهن لم يبقين إلا أربعة أشهر وعشرا

فإنها ما زاد على ذلك ليست بآثمة

{ فَإِنْ خَرَجْنَ } يعني : هؤلاء الأزواج بعد العدة بعد أربعة أشهر وعشر

{ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } لا إثم عليكم أنتم أيها الأولياء أولياء الميت

{ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

هنا :

 { فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ } : أي ما عرف في الشرع وما عرف من عادة البلد التي لا تخالف الشرع

قال هنا { مِنْ مَعْرُوفٍ } بينما الآية السابقة قال { بِالْمَعْروفِ } وختم الآية بقوله هناك { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } وهنا قال { فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

العزيز القوي الغالب الذي لا ينال بسوء

بمعنى :

أنه كما جعل للمرأة أن تبقى سنة كاملة كذلك أطلق لها أن تفعل في أنفسها ما يكون من معروف ،وختم الآية بقوله { عَزِيزٌ حَكِيمٌ } بمعنى أن من خالف هذا الحكم فإن الله عز وجل قوي وغالب وأيضا هو حكيم إذ شرع هذا الحكم ، وأيضا لتتفطن المرأة من أنها إذا خرجت إنما تخرج وتتجمل وتتزين بما أباحه الشرع فإن خالفت فلتعلم أن الله عزيز ذو انتقام

{ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَ‍قًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) }

{ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ }  :

بمعنى أن أي امرأة تطلق فإن زوجها يمتعها كما سبق يمتعها بما تعورف عليه يعطيها شيئا قال { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَ‍قًّا } أي حقه حقا على من ؟

 { عَلَى الْمُتَّقِينَ } الذين يتقون الله

ومن هذه الآية أخذ بعض أهل العلم من أن تمتيع المرأة بعد طلاقها والتمتيع يختلف باختلاف العرف كأن يعطيها مثلا قطعة ذهب أو أن يعطيها مبلغا من المال أو ما شابه ذلك على حسب عرف الناس

بعض أهل العلم قال : إن المتعة لهذه الآية واجبة لكل مطلقة بينما آخرون يقولون هي لكل مطلقة مستحبة

لكن :

إنما تجب على الزوج إذا طلق زوجته ولم يدخل بها ولم يخلو بها ولم يفرض لها صداقا  قال تعالى فيما مضى :

{ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ }

 إلى أن قال بعدها { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } فرق بين هذه وبين تلك

وعلى كل حال :

الآية محتملة للوجوب ومن ثم :

فإنه من حيث الظاهر من حيث التفريق يدل على أن المتعة واجبة في حق من لم يدخل بها ولم يخلو بها ولم يفرض لها فريضة

ومن ثم :

فإنه على ذلك القول الذي يقول بالوجوب ليحرص المسلم

لم ؟

لأنه حينها يخرج من خلاف أهل العلم لأن هناك من يقول بأنها واجبة

وإن لم تكن واجبة فمن شأن أهل الإحسان وأهل التقى أن يعطوا هذه المرأة المطلقة

بل من الاستحباب قال عز وجل :

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا }

بل حتى لو أن المرأة دخل بها الزوج وجامعها ثم أراد أن يطلقها فيستحب له أن يمتعها لقوله عز وجل { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا }

ومن ثم :

فإن مثل هذه المتعة تدل على ماذا ؟

تدل على أن القلوب قد خلت مما يكون من شحناء وبغضاء بسبب هذا الطلاق

وقال هنا : { حَ‍قًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ }

وقال هناك { حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ }

ولا يعني أن كلمة المتقين تدل على الوجوب وأن كلمة المحسنين تدل على السنية ، كلا

لأن من شأن أهل التقوى أن يمتعوا المرأة المطلقة والدرجة الأعلى من شأن أهل الإحسان أن يصنعوا ذلك ومن أعظم الإحسان أن يقوم الإنسان بالواجب الذي أنيط به

{ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) }

 { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ } كذلك مثل ما بين لكم الآيات السابقات 

{ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ }  يعني : يبين لكم جميع الآيات

{ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }  وهذا إن دل يدل على أنه عز وجل كما يخاطب أهل العقول { هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ }

{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }  كما أنه يخاطب أهل العقل كذلك من علم بآيات الله وعمل بمقتضاها وتأمل فيها تزيد من عقله لأنه قال { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) }

 { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ } هذه الآية أتت بعد الآية السابقة التي تتعلق بالوفاة مما يدل على أن الإنسان لا محيص له عن الموت

ولو فر من الموت فهؤلاء المذكورون في هذه الآية التي ذكرها عز وجل

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا } :

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى } هذه رؤية قلبية علمية فهو لم يرهم عليه الصلاة والسلام بعينيه { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ } وتلك الديار لم يأت نص صحيح فيما نعلم في تعيينها ولو كان في تعيين تلك الديار فائدة لبينها عز وجل

{ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ } وهم ألوف بمعنى أنهم ذو عدد كبير خلافا لما قيل من أن كلمة ألوف يعني أن قلوبهم مأتلفة مجتمعة بل إن الكلمة هنا { وَهُمْ أُلُوفٌ } تدل على العدد وذلكم العدد اختلف فيه المفسرون وليس هناك نص صحيح يبين هذا العدد مع أن بعض أهل العلم لأن كلمة ألوف تدل على جمع الكثرة تدل على جمع الكثرة

ولذا قال ( هم أكثر من عشرة ألاف )

لم ؟

قال : لأن ما دون عشرة ألاف لا يقال عشرة الوف 

فكونه يقول { وَهُمْ أُلُوفٌ } دل على أنهم أكثر من عشرة ألاف

وعلى كل حال : فعددهم كبير

{خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} خيفة من الموت

هل هو بسبب الطاعون الذي خرجوا منه كما قيل

أو بسبب أن الجهاد فرض عليهم ؟

ليس هناك دليل صحيح فيما نعلم في تعيين ذلك

المهم أنهم خرجوا خوفا من الموت

السبب ؟

الله أعلم

فإن كان السبب هو الطاعون فإنه جاء في شريعتنا من أنه عليه الصلاة والسلام ثبت عنه قوله قال ( إذا وقع الطاعون في أرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها وإذا وقع في أرض ولستم فيها فلا تدخلوها )

{ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ }  خيفة من الموت

{ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا } لا يغني حذر من قدر

يعني الموت مكتوب

{ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا } :

وهذا يدل على أن الإنسان مهما فر من الموت فإن أجله لن يزيد

ولذلك :

قال عز وجل { قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ }  إلى أماكن موتهم التي كتب الله عليهم فيها أن يموتوا فيها

{ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ }

وهذا هو الصنف الثالث الذي مر معنا في هذه السورة ممن أماته الله في الدنيا ثم أحياه

الصنف الثاني مر معنا :

وهو القتيل الذي في قصة موسى { فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا }

الصنف الثالث وهو الأول لما طلب قوم موسى من موسى أن يروا الله جهرة { فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) }

{ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ } :

فضل الله عز وجل على جميع واضح وظاهر وإفضاله وإنعامه على الناس عظيم

ومن ذلك :

ما حصل لهؤلاء

فإن هؤلاء خرجوا خوفا من الموت فأماتهم الله فأحياهم تفضلا منه عز وجل حتى يعرفوا ويوقنوا بأن الله عز وجل على كل شيء قدير

{ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ }  لا يشكرون نعمة الله وفضل الله عز وجل

وهذا شامل

وهذا يدل على ماذا ؟

يدل على أن الإنسان واجب عليه أن يجعل نصب عينيه نعم الله عزوجل التي أنعم الله بها عليه

{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) }

{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أمر هنا بالقتال مما يدل على ماذا ؟

يدل على أن الموت تتعدد أسبابه من لم يمت بالسيف مات بغيره

بمعنى أن جهادكم الجهاد الشرعي إذا جاهدتم فإن هذا الجهاد لا يقرب أجلا

ولذلك :

خالد بن الوليد رضي الله عنه سيف الله المسلول مع ما خاضه من المعارك الكثيرة إلا أنه مات على فراشه

فالجهاد :

لا يقرب أجلا

{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي لتكون كلمة الله هي العليا كما ثبت بذلك الحديث في الصحيحين

والجهاد إذا تحدث عنه وفي سبيل الله يجب أن يكون هذا الجهاد بضوابطه الشرعية

{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) }

{ وَاعْلَمُوا } : من باب التنبيه والتحذير من أن الله يسمع كل قول وعليم بكل شيء وإذا كان الإنسان مستحضرا لمعاني هذه الأسماء والتفقه في هذه المعاني معاني أسماء الله عز وجل وصفاته فإنها تزيده إيمانا

ولذلك :

 أسماء الله لها معنى من حيث اللغة وكذلك صفات الله أما الكيفية لها كيفية لكن نحن لا ندركها

ولذلك :

 الإمام مالك رحمه الله لما سئل كيف استوى الله عز وجل ؟

قال : ( الاستواء معلوم ( من حيث اللغة ) والكيف مجهول ( مجهول لنا وإن كان لها كيفية لكن مجهولة لنا ) والسؤال عنها بدعة )

فلها معاني

ولذلك :

المفوضة هناك طائفة تقول نحن نفوض الأسماء والصفات وهذا قد ينطلي على بعض الناس ، وبعض أهل السنة فلربما أن هؤلاء يظن بهم الخير من أنهم يقولون نحن نثبت الأسماء والصفات لكن لا نتكلم فيها لا من حيث  الكيفية ولا من حيث المعنى

وهذه الطائفة كما قال أئمة السنة من شر الطوائف لأنهم يدلسون على الناس

لم ؟

لأن الله أمر في كتابه بأن تتدبر الآيات

{ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ }

ومن أعظم الآيات التي تتدبر الآيات المتعلقة بالأسماء وبالصفات

ولذلك :

على قول هؤلاء ينسبون الجهل للنبي عليه الصلاة والسلام وللصحابة رضي الله عنهم من أنهم يقرأون القرآن ولا يعرفون معاني هذه الأسماء

ولذلك كما سلف التفقه في معاني أسماء الله وصفاته وليس الكيفية تزيد العبد إيمانا وتقربا إلى الله

{ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) }

{ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } :

لما ذكر ما يتعلق بالقتال ذكر ما يتعلق بالنفقة

الاستفهام هنا { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } استفهام يدل على الحث ، حث العباد على النفقة

ومن ما يكون من النفقة : النفقة في سبيل الله

{ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } وصفه بالحسن وهو القرض الذي تطيب به النفس والذي تعتقد النفس من أن الله عز وجل سيخلف على هذا المنفق ما أنفقه كما قال عز وجل { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ }

{ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ }

ولذلك اليهود لما سمعوا بمثل هذه الآية قال إن الله يستقرضنا فهو فقير فرد الله عز وجل عليهم { لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ }

{ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } فالله غير محتاج لهؤلاء لأن الله مالك الملك مالك للبشر وما يملكون لكنه من باب الحث من باب أن ينفق العبد لكي يحصل على الأجر { وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ } من باب أن يحسن الأغنياء إلى الفقراء

وشبيه هذا ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه عز وجل قال الله :

(( يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال يارب كيف أطعمك وأنت رب العالمين قال أما علمت أن عبدي استطعمك فلم تطعمه أما لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ))

{ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } الثواب { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } يضاعف الله عز وجل له أضعافا كثيرة  { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ }

{وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} شامل يقبض ويبسط

ومن ذلك :

أنه عز وجل يقبض فيقتر على بعض الخلق من باب الابتلاء والامتحان هل يصبر أم لا  ؟

يبسط الرزق على بعض الناس فيغنيه الله فينظر هل يكون من الشاكرين أم لا ؟

ولذلك :

المؤمن كما قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم (( إن أمره كله له خير إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ))

{ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

المرد إلى الله

إذاً :

إن أبقيت هذا المال فإن هذا المال سيرثه الله عز وجل { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ }

فكل الخلائق ستعود إلى الله عز وجل وسيتركون هذه الدنيا { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ }

{ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ }

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بَالظَّالِمِينَ (246) }

( أَلَمْ تَرَ ) رؤية هنا قلبية علمية ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَأِ ) أي إلى القوم

( مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى ) أي من بعد موت موسى مما يدل على أن الأنبياء أتت بعد ماذا ؟

بعد موسى

وهذا يوضحه قوله عز وجل

{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ } في نفس السورة

وكما أسلفت لكم :

الإنسان إذا قرأ السورة فليتأمل في أولها وفي أوساطها وفي آخرها حتى تكون لديه معلومات تفيده من حيث العلم الشرعي وتفيده من حيث عظمة هذا القرآن والإقبال عليه

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ} هذا النبي اختلف فيه

وليس هناك دليل صحيح في تعيينه

أهم شيء أنه نبي بعد موسى

وهذا الإبهام لهذا النبي لو كان في تصريحه فائدة لذكره عز وجل

{ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } نقاتل مجزومة لأنها جواب الأمر ابعث { ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }

وتأمل :

ماذا قالوا ؟ { ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا } مما يدل على ماذا ؟

مما يدل على أن الجهاد الشرعي لا يكون إلا بولي ، فأما ما يفعل من أن الإنسان يأخذ سلاحه ثم يخرج فإن هذا ليس بجهاد شرعي

فالجهاد الشرعي لابد أن يكون تحت راية ولي الأمر ولذلك قالوا { ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }

{ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ } : أي فرض عليكم القتال

{ أَلَّا تُقَاتِلُوا }

{ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ } من باب ماذا ؟

من باب أنه يتوقع من حال هؤلاء أنه ربما إذا فرض عليهم القتال أنهم يتولون

قال { قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا } هم لم يخرجوا هم موجودون فكيف يقولون { أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا }

إما من باب بيان أن بعض من هم معهم من قومهم وكذلك بعض الأبناء أخرجوا من هذه الديار فنسبوا الأمر إلى أنفسهم

أو أنهم يقولون نخشى إن لم نجاهد أن يأتي العدو فيتسلط علينا فإذا به يخرجنا من ديارنا ويأسر أبناءنا

{ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ } فرض  عليهم الجهاد { تَوَلَّوْا } أعرضوا وانصرفوا { إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ } كما سيأتي في أواخر الآيات الذين ذهبوا مع طالوت وثبتوا معه { إِلَّا قَلِيلًا }

{ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بَالظَّالِمِينَ }

هؤلاء ظلموا

فهو عز وجل عالم بكل ظالم مهما اختلف نوع ظلمه

{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بَالظَّالِمِينَ } ومن الظلمة هؤلاء الذين فرض عليهم القتال فلم يقوموا به

وفي ذكر هذه الآية { أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَأِ } بعد الآية السابقة تذكير لهذه الأمة حتى لا تقع في مثل ما وقعت فيه بنو إسرائيل

ولذلك قال تعالى في سورة النساء { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً  }

فمن كان في عافية فليحمد الله

ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال كما ثبت عنه (( لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموه فاصبروا ))

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) }

{ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا } هم قالوا

{ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }

لم ؟

لأن الله عز وجل جمع لبني إسرائيل بين النبوة وبين الملك

{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ }

فقالوا { ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }

{ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا } من باب الاستبعاد { أَنَّى يَكُونُ } أي كيف يكون { أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ }

انظر :

هؤلاء :

أولا : زكوا أنفسهم

الأمر الآخر : أنهم جعلوا مبنى الأفضلية على وجود المال ، لا ، إنما الأفضلية فيمن هو متقي لله وجمع الصفات الحميدة التي تناسب ما يولى عليه

ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام كما ثبت في الصحيح عليه الصلاة والسلام لما سئل : متى الساعة ؟

فقال عليه الصلاة والسلام : (( إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة ))

قيل  : ما إضاعتها ؟

قال : (( إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة ))

لأنه إذا ولي من ليس بأهل فسدت أحوال الناس

ولذلك قالوا { وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ } يعني من أسرة فقيرة

وذكروا من أن له صفات من حيث المهنة وما شابه ذلك ، ولكن ليس عليه دليل صحيح فيما نعلم من سنة النبي عليه الصلاة والسلام

{ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ } أي اختاره عليكم وهذه تكفي فإن الله عز وجل عالم بالذي هو أصلح لكم
{ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ } مع أنه اصطفاه اختاره عز وجل لأن يكون ملكا { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } في العلم الشرعي وأيضا العلم بأحوال القتال ، والجسم لأن مثل هذا الجهاد يحتاج إلى شخص به قوة  ، قوة من حيث الخبرة وهو العلم

ومن حيث البدن القوة البدنية

{ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ }

زاده بسطة يعني : مع أن لديه بسطة خلقه الله عز وجل أيضا زاده بسطة في العلم والجسم

وهذا يدل على ماذا ؟

يدل على أنه  إذا اختير شخص أن يختار الأكفأ

ولذلك ماذا قالت تلك المرأة لأبيها

{ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ }

قوي وأيضا هو أمين

وذلك العفريت قال لسليمان { وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ }

{ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ }

فلا أحد يعترض على أمر الله { وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }

واسع الرزق واسع المغفرة

واسع الرحمة

واسع الفضل

واسع الإنعام

واسع العلم

كلمة واسع تشمل أشياء كثيرة

وهو عليم :

ولذلك ماذا قال عز وجل { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا }

وسع علمه كل شيء

ولذلك قال هنا { وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } فهو عالم عز وجل بمن هو أصلح لكم وبمن يستحق الملك وهو عز وجل يوسع على من يشاء

فإنه وإن لم يؤت سعة من المال إلا أن الله عز وجل اختاره واصطفاه ووسع عليه

ولذلك :

مما يدل على هذا هو عز وجل وسع عليه أيضا فيما يتعلق بالصفات المطلوبة الصفات الحميدة { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ }

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) }

 { وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ } علامة لملكه { أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ }

{ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ }

التابوت معروف

{ فِيهِ سَكِينَةٌ } : أي في هذا التابوت سكينة وهي الراحة والطمأنينة والاستقرار

{ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ } أي ما تبقى { مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ } آل موسى وآل هارون { وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ}

{ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ } : موسى وهارون مما بقي منهما

وقال هنا { آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ } لأن هذه البقية التي في التابوت هي مما بقي من موسى وهارون وتوارثته الأجيال

وتوارثته الأجيال

هل هو بقايا من الألواح أو التوراة أو ما شابه ذلك

الله أعلم به

المهم أنها بقية

قال { فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ } بمعنى أن وجود هذا التابوت بأمر من الله جعل فيه إذا وجد لكم من أن السكينة تكون في قلوبكم

ومن ثم :

تقدمون على الجهاد

لأن قلوبكم مستقرة بوجود هذا التابوت الذي جعل الله فيه السكينة ،  والسكينة نعمة من الله عز وجل على العبد ، ولاسيما في حال الخوف  ولذلك :

 ماذا قال عز وجل عن نبينا عليه الصلاة والسلام في طريق الهجرة قال عز وجل { إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا }

النبي عليه الصلاة والسلام لما كان في صلح الحديبية وما جرى فيه من شروط بعض الصحابة رضي الله عنهم رأوا أن فيها غضاضة عليهم ماذا قال عز وجل في أول سورة الفتح { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ }

ولما حصل ما حصل وانتشر من أن عثمان رضي الله عنه قتل وبايعوا النبي عليه الصلاة والسلام تحت الشجرة قال عز وجل { فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا }

وقال عز وجل في أواخر السورة { إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ }

وكذلك في حنين لما حصل ما حصل وقالوا لن نغلب اليوم عن قلة ماذا قال عز وجل { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا }

قال هنا : { آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ } من أين أتاهم ؟

هناك أقوال لكن ليس هناك دليل صحيح

قيل من أن الأعداء أخذوا هذا التابوت

وقيل نزل من السماء

المهم أنه عز وجل جعل لهم آية وعلامة على صحة ملك من ؟

طالوت

 { وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ }

تأتي به الملائكة وقد حملته

وهذا ليفهم من أن هذا التابوت لا يجوز للإنسان أن يتبرك بشيء إلا بما أذن به الشرع فإن مثل هذا التابوت إنما أذن فيه الشرع في شرع من قبلنا

وكذلك الشأن لأن الأصل في التبرك طلب البركة من المخلوقات لا يجوز إلا ما أذن به الشرع

{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } آية وعلامة لكم { إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }

إن كنتم مؤمنين فاعلموا أن ملك طالون ملك صحيح وأنه يدل على صدق ملكه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله تعالى :

{ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)}

{ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ } يعني خرج ، خرج من ديارهم لمحاربة عدوهم وهو جالوت { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ } أي مختبركم  { بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ } وهذا النهر ليس هناك دليل صحيح على تعيينه

{ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ }

{ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } نهاهم عن الشرب

لم ؟

لأن الشرب إذا استساغوا الشرب ربما يركنون إلى الراحة

وإنما أجاز لهم أن يطعموا منه غرفة { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } يعني ليس على طريقتي وليس  متبعا لي { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ } اختلف

{ فَمَن شَرِبَ } وقال { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ } من باب التنويع في السياق وأيضا من باب ماذا ؟

من باب أنه يطعم فقط بمجرد ما يصل إليه من باب التقليل لأنه استثنى

{ وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ }

ومن قوله عز وجل عن طالوت :

{ وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ } دل هذا على أن المشروب طعام ، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام كما ثبت عنه فيما يتعلق بماء زمزم قال ( طعام طعم )

ومن ثم :

أخذ بعض أهل العلم من أن الماء يجري فيه الربا لأن العلة عندهم في  جريان الربا هو الإطعام ، ولكن الصحيح كما سبق معنا أن يكون مكيلا مطعوما أو موزونا مطعوما

ومن ثم فإن الماء لا يجري فيه الربا إلا إذا كان مصنعا

وسبق بيان ذلك في درسنا في الفقه لمن شاء التوسع في ذلك

{ وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي } بمعنى الماء الذي يصنع فإنه إذا استبدل إنسان قارورة ماء مصنع بقارورة ماء مصنع ، فيجب أن يكون الوزن واحدا فإن اختلف حصل الربا

{ وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً } غرفة تختلف عن غَرفة غَرفة مصدر يعني وهو الاغتراف ، أما هنا غُرفة يعني بمقدار ما يملأ اليد

{ إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ } يعني الماء الذي يكون ملئ اليد { إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ }

{ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ } :

شربوا أي شرب الأكثر ، وهذا إن دل يدل على ما قاله لهم نبيهم

{ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ } لأنهم لما شربوا هنا ستكون التولية

ولذلك قال { فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي }

{ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ }

قال البراء كما في صحيح البخاري قال : ” إن عدد من مع طالوت كعدد من كان مع النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة بدر كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر “

قال : ” ولم يتجاوز معه إلا مؤمن “

{ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا } أي قال بعضهم { لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ } ليس لنا قدرة على هؤلاء

{ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ } أي يوقنون وهم أصحاب العلم وهم أصحاب العلم

ولذلك في قصة قارون { وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا }

وهذا يدل على ماذا ؟

يدل على أنه في ثنايا المحن والفتن يجب أن يخرج أهل العلم ، وأن يبينوا للناس ، وألا يخوض في أمور الفتن الجهال أو المستعلمون فتكون هناك شرور

{ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ } وبعض أهل العلم يقول

{ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا } أي من شرب { لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ }

وعلى كل حال يحتمل هذا ويحتمل هذا
{ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ } والظن هنا بمعنى اليقين كما في قوله تعالى ومر معنا في أول السورة { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} وذكروا هنا الملاقاة  لم ؟

لأن الحال حال قتال وجهاد ومعلوم أنه في القتال سيكون هناك موت وإذا ماتوا سيلقون الله عز وجل

{ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ } كم هنا تكثيرية

{ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ }

بأمر الله لا بحولها ولا بقوتها

ولكن :

كما قال عز وجل :

 { إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ }

{ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}

والأدلة على ذلك كثيرة

وفي ذلك عبرة

انظر إلى غزوة بدر مع قلة عدد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام وكثرة المشركين إلا أن الله عز وجل نصرهم على عدوهم

{ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }

معهم عز وجل معية خاصة تقتضي النصرة والتأييد والإعانة والتسديد ومن ذلك أنتم إن صبرتم على مواجهة هؤلاء الأعداء فإن الله معكم وسينصركم

لم ؟

لأن الله عز وجل سيخذل هؤلاء الأعداء

ولذلك :

ماذا قال عز وجل :

{ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا }

{ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) }

{ وَلَمَّا بَرَزُوا } أي ظهروا { لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا } دعوا الله لأن هذا الموطن موطن يجب أن يدعو الإنسان فيه ربه لأنه محتاج إلى الله في كل حال فما ظنكم في حال الشدة ؟

ولذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام قوله (( من أحب أن يستجيب الله له في الشدائد فليكثر من الدعاء في الرخاء ))

{ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا } وتأمل حال النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة بدر كان يدعو الله حتى إن رداءه سقط من شدة دعائه لربه عز وجل

{ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا }

أفرغ : كلمة أفرغ تدل على أنهم محتاجون إلى أن يعينهم الله عز وجل بالصبر

{ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } فإن هؤلاء قوم كافرون ، وقد وعد الله عز وجل بأن ينصر أولياءه على أعدائه الكافرين

{ قالوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }

نظيره ما قاله عز وجل :

قال عز وجل في سورة آل عمران { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَومِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) }

هنا قال :

{ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) }

{ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ  } بأمر الله عز وجل { وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ }  كان من ضمن الجيش ( داود عليه السلام ) وقد ذكرت قصة طويلة من أن أبا داود أنه خرج معه أبناؤه ، وكان داود كان يصيب إذا رمى وأنه كانت السباع وما شابه ذلك تسلم عليه ، قصة طويلة لكنها لم تثبت ، بمعنى أنه ليس لها سند صحيح فيما نعلم

{ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ }  دل هذا على أن داود بعد موسى بل بين داود وموسى مسافة من السنوات

{ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ } لأن الملك في بني إسرائيل فانتقل هذا الملك إلى من ؟

إلى داود عليه السلام

في سورة النمل :

 { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) }

 الآيات التي  في سورة النمل كما سيأتي بإذن الله

{ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ } :

وهي النبوة والعلم

{ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ }

ولذلك ماذا قال عز وجل ؟

{ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) } 

ألان له الحديد

وقال عز وجل عن داود عليه السلام { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ }

علمه كيف يصنع الدروع التي تقي في الحرب

كما سيأتي في الآيات المتعلقة بداود عليه السلام

{ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ }

لولا أن يدفع الله عز وجل الناس بالناس لفسدت الأرض

بمعنى :

إذا لم يقم أهل الإسلام بمجاهدة الأعداء لفسدت الأرض

لولم يقم المصلحون بالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر لفسدت الأرض

ولذلك :

قال عز وجل :

 { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا }

بل قال بعض العلماء : إن وجود المؤمن المطيع يدفع الله عز وجل به إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر يدفع الله به الشر عن أهل المعاصي

{ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ } ومن ذلك ما يتعلق بالمدافعة المدافعة مدافعة أهل الباطل ، وأهل البدع بالعلم الشرعي الصحيح فإن هذا من أعظم الجهاد في سبيل الله ، ومن أعظم نصرة دين الله لأنه يكون في جهاد مستمر إذ دفع الشبه الواهية عن دين الله عز وجل حتى لا يغتر بها أهل الإسلام

{ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } فضل الله عز وجل على العالمين

والعالمون : كل ما سوى الله فضله عليهم عز وجل عظيم إذ شرع لهم ماذا ؟

شرع لهم ما يدفعون به الشر عن أنفسهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) }

 { تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ } :

الخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام محمد  { تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ } السابقة

{ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ } :

هي حق وهي آيات في هذا القرآن العظيم الذي نزل بحق والذي اشتمل على الحق

ومن ذلك :

ما أخبرت به عن حال طالوت وجالوت وداود وما يتعلق بهذه الآيات وفي هذا رد على كفار قريش الذين زعموا من أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يرسل من قبل الله وأن هذا القرآن قد افتراه

ولذلك أكد بقوله { وَإِنَّكَ }  يامحمد { لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } لأنهم قالوا كما في الآية الأخرى { وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ }

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ