التفسير المختصر الشامل ( 8 )
تفسير سورة البقرة
من الآية (84) إلى الآية (100)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بِسْم اللهِ الرَّحمٰنِ الرَّحيم الحمدُ للهِ ربِّ العالمين ، وأُصلِّي وأُسلِّم على خاتم الأنبياء وإمام المُرسلين نبيّنا مُحَمَّدٍ وعلى آلهِ وأصحابهِ وَسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدِّين
أمّا بعد :
فَكُنَّا توقّفنا عند قَوْل الله عزّ وجلّ { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ } هذا المِيثاق من بَيْن المَواثيق التي أخَذَها الله عزّ وجلّ على بَني اسرائيل في التَّوراة
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ } :
ما هُوَ هذا المِيثاق ؟ { لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ } أي لا تُرِيقُون دِماءَكم
وقَوْلُه { لَا تَسْفِكُونَ } { لا } نافية بِمَعنى النَّهي
وَقِيل كما سَبَق في قَوْلِه تَعالى { لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ } الأصْل بِألّا تَسْفِكوا دِماءَكم فَحُذِفَت ( أن ) فَارتَفَعَ الفِعلُ
والأوّل هُوَ الأقْرب ، بِاعتِبار مَجيء النَّهي في صُورَة الخَبَر ، يَكُون أبْلَغ
{ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ } :
{ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم } :
{ وَلَا تُخْرِجُونَ } معطوفة على { لَا تَسْفِكُونَ } والإنسانُ لا يُخرِجُ نفسَه وإنّما لمّا كان الأخ مع الأخ بِمَثابةِ النَّفْس نُهِيَ الإنسان عن أن يُريقَ دمَ أَخِيه و أن يُخرِجَه مِن أرضِه ومِن دارِه
{ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ } :
أي أَقْرَرتُم على أنفُسِكم واعتَرَفتم بِذَلك ، والإقرار هو مِن أعْظَمِ الأدلّة التي يُحْتَجُّ بها على الإنسان ؛ ولِذا يُقال ( الإقرارُ سيِّد الأدِلَّة )
{ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } :
تَشهدون على أنفسِكم بِهذا الإقرار ، فَالحُجَّة قائمةٌ عليكم .
{ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ } :
قِيل { ثُمَّ أَنْتُمْ } معناها : ثُمَّ أَنتُم يا هؤلاء { تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ } يعني : خالَفتُم ما أُخِذَ عليكم مِن ذَلِكم المِيثاق
{ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ }
{ تَظَاهَرُونَ } أي تتعاوَنونَ { عَلَيْهِم }
{ بِالْإِثْمِ } وهوَ ما يفعلُه الإنسان في حقّ نفسه
{ وَالْعُدْوَانِ } هو التَّعَدِّي على الآخرين .
فهذه المظاهرة منكم ، إنّما هي بِسَبَب الإثْم والخَلَل الذي عندكم و كذلك الاعتِداء على حقّ الآخرين .
{ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى } :
أي : إذا حَصَل بينكم قِتَال ووَقَعَ أحدٌ مِن اليهود في الأَسْر ، فإنّ المُتَعَيِّن عليكم في التوراة أن تُفادُوه بِأَن تَدفَعوا المال ، لِكَي تَفُكُّوه مِن هذا الأسْر .
{ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ } مِن حيث الأصْل في قَوْلِه تعالى { لَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ }
{ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } :
نعم ، هُـمْ آمنُوا بِبَعْض ما جاءَ في التوراة ، وَهُوَ أنّهم يَدفَعونَ الفِداء ، وذلك لأنّه أُخِذَ عليهم في التوراة ، أُخِذَ عليهم – ماذا ؟ – ألّا يَسفِكوا دِماءهم ، وألّا يُخرِجوا أنفسَهم مِن دِيارهم ، وألّا يتَعاونوا على بَعضهم بِالإِثم والعُدوان ، وأنّ مَن وَقَعَ في الأسْر أنّهم يُفدونَه بالمال حتّى يَفُكّوه مِن الأسْر ، فَهُمْ تَرَكوا الثلاثةَ الأشياء الأُولى ، وأخَذوا فقط بِفِكاك الأسير ،
وهذا هوْ شأنهم قَبْلَ مَجِيء النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ كانوا يَسكُنون مع الأوْس والخزرج . والأوْس والخزرج كان بينَهم عِداء وشِقاق قَبْلَ مَجيء النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ولذلك قال عزّ وجلّ في سورة آل عِمْران { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا }
وكان طائفة مِن اليهود مع الأوْس حُلَفاء ، وكانت طائفة مِن اليهود مع الخزرج حُلَفاء .
فإذا اقتَتلَ الأوس والخزرج ، هؤلاء الطائفة مِن اليهود يُعاوِنون حُلَفاءَهم على الآخرين ، فيَحصُل بَيْن اليهود الذين هُم حُلفاء للأوس والذين هُم حُلفاء للخزرج ، يَحصل بينهم بأن يَقتُل بعضُهم بعضًا وأن يُخرج بعضُهم مِن دياره ، يُخرِجُ بعضُهم بعضًا . وإذا وقَعَ في الأسر ، فإنّهم يَفُكّونه .
فإذا قيل لهم : لماذا تصنعون هذا ؟ قالوا : إنّنا نكرَه أن تُسْتَذلّ حُلفاؤنا . فقال الله عزّ وجلّ :
{ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }
والخِزي وَقَعَ بهم ، فإنّه لما أتى صلّى الله عليه وآله وسلّم ، بعضُهم نُفِيَ كَبَنِي النَّضير ، وبعضُهم قُتِل كَبَني قُريظة .
وهذا مِن الخِزْي الذي حلّ بِهم في هذه الدُّنيا :
{ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ } فإنّ عذاب الآخرة أعظم مِن عذاب الدُّنيا
{ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } :
نَفى عن نفسه الغَفْلة ، لِكمال عِلْمِه وإحاطَتِه . وفي هذا تَهديدٌ لهؤلاء بأنّ الله عزّ وجلّ مُطّلعٌ عليهم وسُيحاسبُهم على أعمالِهم
{ أُولَئِكَ } حالُ هؤلاء في صَنيعِهم
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ } :
فإنّما وَقَعُوا فِيهِ مِن مُخالَفة هذا المِيثاق إنّما هو بِرَغبةٍ وحَظوَةٍ في هذه الدُّنيا بِحَيث يفتَخِرون بأنّهم يُسانِدون حُلَفاءهم ، ومَن يشتري الشيء إنّما يشتريهِ مِن رغبةٍ في نفسِه ،
والثَّمن الذي دَفَعوه الآخرة :
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ }
لا يُخَفَّف عنهم مِن حيثُ الــزَّمَــن ولا يَوْمًا واحِدًا ، ولا يُخَفَّف عنهم مِن حيثُ النَّوعِيَّة { فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ } ليسَ هُناك أحدٌ يَنصُرهُم مِن عذاب الله عزّ وجلّ .
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } :
أي التوراة { وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ } { وَقَفَّيْنَا } أي أتْبَعنا { مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ } فالرُّسل أَتَوا تِباعًا تِباعًا بَــعْــدَ موسى عليه السلام ، ولذلك قال العُلماء : إنّ موسى في المَرتبة الثالثة في الأفضليَّة بَعْد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ثمّ في المرتبة الثانية إبراهيم ، ثُمَّ موسى . قَالُوا لَِأنَّهُ أوّل رسول لِبَني إسرائيل . ولذلك أتَت الرُّسل مِن بَعْدِهِ
{ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ } كما قال عزّ وجلّ :
{ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا }
آتاه الله عزّ وجلّ الكتاب ، وهؤلاء الرُّسُل الذين أَتَوا مِن بَعْدِهِ يَحكُمون بالتوراة ، في سورة المائدة { إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا }
{ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ } :
ذَكَرَ عيسى عليه السلام ابنَ مريم ؛ لأنّه آخِرُ رسولٍ لِبَني إسرائيل ، وَبَعدَه أتى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم
{ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ } :
ونُسِبَ إلى أُمِّه لأنّه لا أبَ لَهُ ، وذِكْر مريم فيما يَتعلَّق بِعيسى ، ونِسبة عيسى إلى مريم مِن باب أن يُبِيِّنَ عزّ وجلّ أنّ عيسى ليس ابنًا له ، وإنّما هو ابنٌ لِمَريم
{ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ } الدلائل الواضحة
{ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ }
إلى آخر ما ذَكَره عزّ وجلّ مِن هذه البَيِّنَات التي آتاها اللهُ عزّ وجلّ لِعيسى ابن مريم ، ومِن بِيْن البَيِّنَات : الإنجيل
{ وَأَيَّدْنَاهُ } : أي عيسى ، أي قَوَّيْناه { بِرُوحِ الْقُدُسِ }
{ بِرُوحِ الْقُدُسِ } : خِلافٌ بَيْن أهل العِلم .
مَن هُوَ رُوحُ الْقُدُسِ ؟ الذي تدلّ عليه الأدلّة هو جِبْرِيل
ولذلك :
النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقول لِحسّان كما ثبتَ عنه :
( اهْجُهُم ورُوح الْقُدُس معك ) فجِبْرِيل عليه السلام مُؤيّدٌ لعيسى ابن مريم عليه السلام .
ولذلك :
قال عزّ وجلّ : { قُلْ نَزَّلَهُۥ رُوحُ ٱلْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ } ممّا يدلّ على أنّ الأدلّة تضافَرَت على أنّ روحَ الْقُدُس هو جِبْرِيل عليه السلام
{ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى } :
الخِطاب لهؤلاء اليهود { جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى } الأصل ( لا تَهْواهُ ) لكِنْ حُذِفَت مِن باب التّخفيف ؛ لأنّ السِّياق فيه طُول مِن حيث الاسم
{ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ } :
فهذا إن دلّ يدلّ على أنّهم قَدَّموا أهواءهم على شرع الله عزّ وجلّ ، وسبب ذلك الكِبْر ، ولذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله : الصِّفَة الواضِحة العُظمى في اليهود هي الكِبْر
{ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ } :
أي مِن هؤلاء الرُّسُل ، فَحالُكُم مع هؤلاء الرُّسل إمّا التكذيب وإمَّا القَتْل
{ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ }
وفرَّق بينهما قالَ في التكذيب { كَذَّبْتُمْ } وفي القَتْل { وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } قال في القتل بِصيغة الفعل المُضارع { تَقْتُلُونَ } قال بعض المفسِّرين المقصود مِن ذلك ما وقعَ منهم فيما مضى ، لكنّه أتى بصيغة الفعل المُضارع بِناءً على ما جرى منهم في الماضي .
والذي يظهر مِن أنّ الفَرْقَ في هاتين أو بَيْن هاتَين الصِّيغَتَين :
في ( التكذيب ) بذكر الفعل الماضي
وفي ( القتل ) الفعل المضارع مِن أنّ دَيْدَنَهم القتل ، ولذلك لَمْ يَدَعُوا النبيّ محمّدًا صلّى الله عليه وآله وسلّم . فإنّه أتى بصيغة الفعل المضارع الذي يدلّ الاسْتِمْرار والتَّجدُّد ؛ لأنّ مِن طبيعتهم أنّهم يَقتلون ، ولذلك حاوَلوا قتْل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لمّا وَضَعوا السُّمَّ في الطَّعام .
{ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } :
إذا قيلَ لهم آمنوا ، احتجّوا { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } يعني مُغَلّفة ، لا تَفْهم ما تقولُه يا محمّد
وكذلك يَدخلُ في { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } : يعني أنّ قلوبَنا تَعِي العِلم لكِنْ ما أتيتَ بِه ، فإنّ قلوبنا لا تَعِيه
{ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ } :
فقلوبهم ، هذا الذي حصل ما حصل مِن غِطاءٍ عليها إنّما سَبَبُه أنّ الله عزّ وجلّ { لَّعَنَهُمُ } وطَرَدَهم مِن رحمته وَلَمْ يُوفّقْهم إلى أن يُؤمنوا .
ولذلك مع لَعنة الله عزّ وجلّ لَهُم حَكَمَ عليهم بأنّهم لمّا قالوا هذا القَول كما في سورة النِّساء مِن أنّ قلوبهم طُبِعَ عليها { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا }
{ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ }:
{ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } :
المفَسِّرون قالوا { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } هذا مِن باب قِلّة الإيمان بما في أيديهم
وقيل : لِقِلّة مَن يؤمن منهم ( فَلَمْ يؤمن منهم إلّا القِلّة )
وقيل : إنّ هذا مِن باب العَدَم { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } بِمَعْنَىٰ أنّهم لا يؤمنون أبدًا ، لا بِقَليل ولا بِكثير
{ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ } :
( الكِتاب ) هُنا هو القرآن الذي أتى به النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم
{ مِّنْ عِندِ اللَّهِ } وما أتى مِن عند الله فَهُوَ خَير ، وَواجبٌ على مَن بَلَغَهُ هذا الذي أتى به الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم مِن قِبَل الله أنْ يُؤْمَن به، وأن يُصَدَّقَ به { مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ }
{ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ } وهذا الكتاب الذي هو القرآن { مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } مِمّا جاء في كتابهم الذي هو التوراة
{ وَكَانُوا مِن قَبْلُ } :
قَبْل مَجيء النبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم { يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا } يعني يَسْتَنصِرون بهذا النبيّ إذ يقولون للمشركين قبل قدوم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم : سيأتي نبيّ وسنُقاتِلكم معه
{ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ } :
كرَّرَ كلمة ( لمّا ) ، وقال { فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا } لَمْ يَنُصَّ على شيء مُعيّن ، لِكَي يَشمَل أنّه جاءهم النبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وجاءهم هذا الكتاب { فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا } عرفوه حقّ المَعْرِفة بِمَا في كتبهم وبما قَرَؤوه في كتبهم { كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ }
{ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } :
لَمْ يَقُل ( فَلعنةُ الله عليهم ) وإنّما قال { فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } لِكَي تكون هذه اللعنةُ في حقّ كلّ مَن كَفَرَ بالله عزّ وجلّ ، سَواءٌ مِن صِنف هؤلاء اليهود أو مِن غيرهم
{ بِئْسَمَا } :
( بِئْسَ ) صيغة ذمّ ، التَصَقَت بِها ( مَا ) ،
( ما ) إمّا أن تكون مَوْصوفة ، فيكون الْمَعْنَىٰ ( بِئْسَ شيئًا ) أَوْ بمعنى ( ما المَوصُوليّة ) بمعنى الذي 🙁 بئسَ الذي )
{ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا } :
الذَّمّ واقِع على الكُفر ، إذ إنّهم اشتَرَوا الكُفر عن رغبةٍ .
بعض العلماء يقول : اشتَروا هُنا بمعنى باعوا . وَلَكِنْ لِتَعلم أنّ الأصلَ في كلمة ( اشتَرَوا ) أي مِن الشِّراء ، أمّا إذا قال ( شَرَوْا ) أي باعُوا
{ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ } :
اشتَروا الكُفر ، والثَّمَن أنّهم قدّموا أنفسَهم . قدّموا أنفسهم إلى ماذا ؟ إلى الهلاك وإلى العذاب { أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ } الذي هو القرآن { بَغْيًا } السبب ؟ أنّهم بُغاة ، بِهم بَغْيٌ
{ بَغْيًا } :
مفعول لأجْله ، لِأجْل البَغي الذي هو وصف مِن أوصاف اليهود . ويتضمّن البغي الفساد ، ولذلك يُقال للزانية ( امرأةٌ بَغِيّ ) لأنّها بِفعلها فساد وإفساد
{ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ } :
أي لأجْلِ { أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } فَهُمْ كانوا { يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا } فَلَمَّا جَاءَهُم هذا الرسول ، وكان مِن الْعَرَب وَلَمْ يَكُن منهم ، هُنا كفروا بالنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم
{ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ } :
العاقِبة ( بَاءُوا ) رَجَعوا { بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ } غضبٌ سابق وغضبٌ حَاضِر . بسبب ماذا ؟
بسبب أنّهم فيما مضى كَفَروا بالتوراة وبالإنجيل ،
والغضب الثاني أنّه لمّا أتى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كَفَروا به
{ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ } قال { وَلِلْكَافِرِينَ } وَلَمْ يَقُل ( وَلَهُم ) لِكَي يَشْمل كُلَّ كافِر .
وإنّما أتى بِقَولِه في وصفِ العذاب أنّه { مُّهِينٌ } إهانةً لَهم ؛ لأنّهم ما آمنوا بالنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وتَرَكوا الإيمان به إلّا عَن كِبْر ورِفعة ، فَأرادَ الله عزّ وجلّ أن يُهينَهم .
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ } :
وهوَ القرآن { قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا } يَعْنِي نؤمِن بِمَا أُنزِل علينا ( الذي هوْ التوراة ) ، أمّا ما عَداه مِن الْكُتُب ، فَلَا .
{ وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ } أي بِمَا سِواه ( وَهُو القرآن )
{ وَهُوَ الْحَقُّ } ليس بِباطل ، حقّ ، لا مِريةَ فيه ، ثُمَّ مع أنّه حقّ في ذاتِه ، كذلك هُوَ { مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ } .
ثُمَّ قال مُسْتَفْهِمًا { قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللَّهِ }
{ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ } :
يَعني إن كُنتُم تزعُمون أنّكم لا تؤمنون إلّا بِالتوراة ، فَلِماذا أقْدَمْتم على قَتْل أنبياء الله الذين جاؤوا بَعد موسى عليه السلام ، وحَكَموا بهذه التوراة
{ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } لَكِنْ هذا ليسَ بطبيعة أهل الإيمان ، فدلّ على أنّكم لسْتُم بِمُؤمنين
{ وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ } :
أي بِالدّلائل الواضِحة على صِدقِه ، ومِن ذلك أنّه فَلَق البحر أمامكم ، وغير ذلك مِن البَيِّنَات .
وبعض المفسِّرين يقول : البَيِّنَات ( هُنا ) التوراة ، وَلَكِنْ في هذا بُعْدٌ . لِمَ ؟ لأنّ التوراة ما نَزَلَت على موسى إلّا بَـعْـدَ أنْ نُجِّيَ مِن البحر ، وَذَهَبَ ، وَعَبَدَ قَوْمُه العِجْل .
ولذلك ما الذي بَــعْــدَها ؟ { ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ } أي إلٰهًا ( اتّخذتُم العِجْلَ إلٰهًا ) { مِن بَعْدِهِ } أي مِن بَــعْــدِ ذَهابِه لِكَي يَأْخُذ التوراة { وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ } فيما فَعلتُم مِن اتِّخاذ العِجل ، وأعظمُ الظُّلم هُوَ الشِّرك بالله عزّ وجلّ . وفِعلُكُم هذا ظُلْم وشِركٌ به عزّ وجلّ
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ } يَشمَل كلّ ميثاق ممّا مَرّ :
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ } كما مرّ { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ } فَهُوَ شامِل لِــــكُـــلِّ المواثيق التي أخذها الله عزّ وجلّ على بني إسرائيل
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ } أي الجَبَل ، لمّا أَبَيْتُم أَخْذ التوراة والعَمَل بِها
كما قال تعالى في سورة الأعراف :
{ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ }
أي خُذُوا هذه التوراة بِقُوَّة بِجِدّ وعَزْم
وَهُــنــا قال : { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا }
{ وَاسْمَعُوا } اسمعوا سَماعَ قَبول ، وليـسَ مُجرّد سماع . ولذلك ماذا قَالُوا ؟ { قَالُوا سَمِعْنَا } سَمِعنا قولك { وَعَصَيْنَا } أي عَصَينا أَمْرَك
{ وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ } :
هُنا فيه حَذْفٌ ( وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ حُـــبّ الْعِجْلَ ) . ولذا – هذا مِن بَيْن الأمثلة التي يَحِلّ المضاف إِلَيْهِ مَحَلّ المُضاف ، فحُذِفَتْ كَلِمَة ( حُبّ ) لأنّه قال { الْعِجْلَ } .
{ وَأُشْرِبُوا } يَدُلّ على التَّمَكُّن ، وَلَمْ يأتِ بصيغة الأكل ؛ لأنّ الأكلَ لا يَتشرّب في الجِسم كَتَشَرُّب الماء في الجسم ، ممّا يدلّ على أنّ هؤلاء أحَبّوا هذا العجل وعبادتَه حُبًّا تَمَكَّنَ مِن قلوبهِم
{ وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ }
القُلُوب التي هي مَحَلّ الإيمان والخير امتلأتْ بِحُبِّ عِبادة العِجل .
والسبب : لِكُفرِهم { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ } بسبب كُفرِهم
{ قُلْ بِئْسَمَا } :
{ بِئْسَمَا } أي ( بِئْسَ شيئًا ) كما مرّ ، أَوْ ( بِئْسَ الذي )
{ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ } هذا إيمانُكم وليسَ إِيمَانًا شرْعيًّا . أَنتُم تَزعُمون أنّه إِيمَانٌ ، وَلَكِنْ ليسَ بإيمان ، ولذلك أضافَ الإيمان إليهم
{ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } :
فالتوراة وما فيها لا تأْمُرُ بِعِبادة العجل ، وإنّما تأمرُ بِعبادة الله . فَفِعلُكُم هذا ليسَ مِن الإيمان في شيء .
{ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ } :
أي الجنّة { عِندَ اللّهِ }
{ خَالِصَةً } أي خاصّة { مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي إن كُنتُم صادقين فيما تَزعُمون مِن أنّ الْجَنَّةَ لكُم ، وأنّكم سَتُعذَّبون في النار أيّامًا قَلائل ثُمَّ يَخلُفُكم بعد ذَلِكَ المسلمون { فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } فَمَـنْ عَلِمَ وأيْقَنَ أنّ الجنّة مَقَرُّهُ فإنّه يحرُصُ على أن يَصِلَ إلَيْها
و ابن كثير – رحمه الله – يقول { فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } هذا مِن باب المُباهَلة ، مِن باب المُباهَلة ، يعني أنّ هُناك مُباهلةً بينَ المسلمين وبين اليهود .
بمعنى أنّ اليهود سيقولونَ أنتم يا أهل الإسلام تقولون : نَحْنُ على الإيمان وَنَحْنُ لنا الجنّة . إذن { فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } فيقول – رحمه الله – يقول هذا مِن باب المُباهَلة . يَعْنِي لِيَدْعُ كُلٌّ مِـنّــا بِالمَوت على نفسه إن لَمْ يَكُن صادِقًا .
والذي يظهر مِن السِّياق أنّ الآية لا تدلّ على المُباهَلة ، وإنّما قَوْلُه عزّ وجلّ { فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي فيما تَزعُمون أنّ الجنّة لَكُم
ولا يَرِد قَول اليهود لِلمسلمين ( تمنّوا الموت لأنّكم تزعمون أنّ الجنّة لكم ) ، فنقول : المسلمون لَمْ يَدَّعوا أنّ الجنّة لهم خاصّة، وإنّما هُـمْ يَحكُمون بِالجنّة لِكُلّ مَن آمَنَ بالله عزّ وجلّ سواءٌ مِن أُمَّة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم أو لَمْ يكونوا
{ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا }
{ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا }
والسبب : { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } مِن الأعمال الخبيثة { وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ } فَهُوَ مُحيطٌ وعالِمٌ بِحال هؤلاء الذين هُم ظَلَمة ، وعالِمٌ بِكُلِّ حالِ ظالِمٍ
{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ } قَسَمٌ هُنا ( اللام مُوَطِّئة لِلقَسَم ) وأُكِّدَت بِنون التوكيد
{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ } أي هؤلاء اليهود { أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ } أيّ حياةٍ ، أهمّ شيء عندهم أنّهم يَبقَون في هذه الحياة ، سواءٌ كانت حياة كرامة أو حياة ذُلّ ؛ لِحُبِّهم للدُّنيا فإنّهم { أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ }
{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا } :
( هُنا ) اخْتُلِف :
يعني هُـمْ { أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ } وأحْرَص مِن الذين أشركوا ، لأنّ الذين أشركوا هُـمْ لا يؤمنون بِيَوم القيامة ، فيريدون البقاء أكثر ، لَكِنْ أنتم تَزعُمون أنّ الجنّة لكُم ، فهؤلاء مع هذا كُلِّه هُم أحرص الناس على حياة ، وأحرص مِن الذين أشركوا { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ }
{ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ } : الضمير قد يعود إلى اليهود ، وَلَكِنّ الأظهر أنّه يعود على الذين أشركوا ؛ لأنّهم أقرب مذكور ، لأنّهم أقرب مذكور .
فيكون الْمَعْنَى :
{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا }
يعني أحرص الناس على حياة وأحرص مِن الذين أشركوا { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ } أي المُشرك { لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } إذن يكون اليهوديّ يتمنّى أن يُعَمَّر أكثر ممّا تمنّاه المُشرك ، أكثر مِن ألف سَنَة { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ } { لَوْ } هُنا مَصدريَّة ، إذا أتَت بَــعْــدَ كَلِمَة الوُدّ ( لَوْ ) تكون مَصْدَرِيَّة ، بِمَعْنَىٰ أنّها وما بعدها تكون مَصْدرًا يعني { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ } أي أن يكونَ تَعميرُه في الدُّنيا أَلْفَ سَنَة
{ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ } :
يَعْنِي أنّ تَعمِيره لَنْ يُزَحزِحهُ عن النار ، فإنّ مصيره إلى النار لا مَحالَة ولوْ طالَ عمُرُه
{ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } :
{ بَصِيرٌ } :
وفيهِ تَهديد لِهؤلاء الذين قَدَّموا الدُّنيا على الآخرة ، فالله بصيرٌ ومُحيطٌ بِكُلّ أعمالهم ، وليـسَ هذا الأمر ، بل مُحيطٌ بِكُلّ ما عَمِلُوه .
{ قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ } :
قالوا يا محمّد إن كان الذي يَنْزِلُ عليك – وهذا مِن التَّعَنُّت ومِن الطُّغيان – قالوا إن كان الذي يَنْزِلُ عليك جِبْرِيل فلا نؤمن ، فَهُوَ يأتي بالعذاب ، وإن كان ميكائيل الذي يأتي بالخير ومُوَكَّل بالمطر فنؤمنُ به ، أمّا جِبْرِيل فَهُوَ عدوٌّ لنا
فقال الله عزّ وجلّ للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم { قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ } نزَّل ماذا ؟ ( القرآن )
{ عَلَى قَلْبِكَ }
ويَدخُل ضِمنًا – وإن كان الأظهر لِلآخَر – يَدخلُ ضِمنًا { فَإِنَّهُ } أي الله نَزَّل ( جِبْرِيل ) { عَلَى قَلْبِكَ } يا محمّد
لَكِنَّ السِّياق { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ } أي القرآن { عَلَى قَلْبِكَ } لأنّ القَلْب مَحَلّ التَّلقّي ، ولذلك النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول كما في الصّحِيحَين :
( إنّ في الجَسَدِ مُضْغَة إذا صَلَحَت صلَح الجَسَدُ كلُّه ، وإذا فسَدَت فَسَد الجسدُ كُلُّه ، أَلا وَهِــيَ القَلْب )
وليـسَ معنى ذلك أنّه يُنَزِّلُهُ على قلبِه مُباشرة ، وإنّما يَقْرَأ ، ثُمَّ بعد ذلك يتلقَّى صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ولذلك قال تعالى :
{ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) }
قال تعالى : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ }
{ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } :
بِأمْر الله ، ليسَ مِن أمْر جِبْرِيل ، ولا مِن رأي جِبْرِيل تِلقائيًّا ، لا .
وإنّما ما نزَل جِبْرِيل بهذا القرآن على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلّا بإذن الله عزّ وجلّ { قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي مُصَدِّقًا هذا القرآن لما بينَ يَدَيْه مِن الكُتُب السابقة { وَهُدًى } هِداية
{ وَبُشْرَى } بُشرى خِير . لِــمَـنْ ؟ { لِلْمُؤْمِنِينَ } لأنّهم هُــمُ المُنتَفِعون ، فَهُوَ هِداية لهُم ، في قلوبهم ، في جَوارِحهم { وَبُشْرَى } بُشرى لَهُمْ ، فالسعادة لهمْ ، والبُشرى لَهُمْ في الدنيا وفي الآخرة { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ } كما قال عزّ وجلّ
{ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } :
نَصَّ على جِبْرِيل ومِيكال ، مع أنّهم مِن ضِمْن الملائكة ، كما في مُقَدِّمة الآية ، مِن باب بَيان شَرَف هَذَيْن المَلَكَين ، ومِن باب بَيان أنّ الاختِلاف لمّا قالوا: إن كان ميكائيل فَنحنُ نؤمن ، وإن كان جِبْرِيل ، فَلا ؛ فإنّه عدوّ لنا.
{ وَمِيكَالَ } :
جِبْرِيل فيه لُغات ، مِن بيْنِها جَبرائيل ، مِيكال ، فيه لُغات ، مِن بيْنِها مِيكائيل
{ فَإِنَّ اللَّهَ } الجواب ؟
{ مَنْ } شَرْطِيّة { مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ }
الجواب :
ثُمَّ قال { عَدُوٌّ } فَاللهُ عدوٌّ لِــمَـنْ عادى هؤلاء ، وَلَمْ يَقُل ( فإنّه عدوٌّ لَكُمْ أو لَهُمْ )
{ وَلَقَدْ أَنزَلْنَا } :
تَسْلِية للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لمّا كَذّبَه هؤلاء { وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } آيات واضِحات ( القُرْآن ) كما قال تعالى :
{ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
آيات واضِحات ، وهوَ أعظم المُعجِزات للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم
{ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا } أي بِالآيات { إِلَّا الْفَاسِقُونَ } وَهُم أصحاب الفِسق الأكبر الذين خَرَجُوا عن مِلَّة الإسلام ، كما قال عزّ وجلّ عن إبليس { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ }
{ أَوَكُلَّمَا } همزة الاستفهام أتَتْ بعدَ الْوَاو ، ويكون ما بينَ الهمزة وحرف العطف جُملة .
{ أَوَكُلَّمَا } أي التقدير : أَكَذّبوا ( وكُلّما عاهدوا أكذّبوا )
وَكُلَّمَا { عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ } أي طرَحَهُ { فَرِيقٌ مِّنْهُم } فَـهُــمْ أصحاب غدْر وخِيانة وعَدَم وَفاء ، فالعُهود والمَواثيق عليهم كثيرة ، ولكنهم أخلَفوها ، ولذلك قال عزّ وجلّ في سورة الأنفال :
{ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) }
{ نَّبَذَهُ } طَرَحَه ، طَرَحوا عهدَ الله عزّ وجلّ ، والطَّرح الذي هُوَ النَّبذ ، يدلّ على أنّهم يَستَخِفّون بهذه العهود ، ولا يَرَوْن لها قَدْرًا { نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } وهذا حال مَن لا يؤمن ، وذلك لأنّ العَبْدَ كُلَّمَا عصى الله ، وتكبّرَ على شرع الله كُلَّمَا زادَ معه الطُّغيان ، فَتَنْسَدُّ عنه أبوابُ الخير وأبواب الإيمان { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } وقد آمَنَ بعضُهم كَعبد الله بن سلام رضي الله عنه