تفسير سورة آل عمران ــ الدرس (47)
من الآية (161) إلى (174)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } آل عمران: ١٦١
{ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } نزلت لما افتقدت قطيفة حمراء في أحد ، قال بعضهم لعل النبي عليه الصلاة والسلام أخذها ، ومعلوم أن الأخذ من الغنيمة قبل قسمتها غلول كشأن أي مال من أموال الناس العامة من بيت مال المسلمين الأخذ منه من موظف عال أو رفيع فإنه يكون غلولا
ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال كما ثبت عنه ( من كتمنا مخيطا ) يعني إبرة ( فما فوقه كان غلولا يأتي به يوم القيامة )
{ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } أي يأخذ من الغنيمة { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } يعني أن من أخذ شيئا من الغنيمة قبل قسمتها أو أخذ من مال بيت المسلمين على غير وجه حق فإنه يأتي به يوم القيامة ولو كان قليلا
ولذا النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين ( لما أرسل رجلا يقال له ابن اللتبية قال هذا لكم وهذا أهدي لي ، فقال عليه الصلاة والسلام إني أرسل الرجل والعامل منكم على الشيء فيقول هذا لكم وهذا أهدي إلي أفلا جلس في بيت أبيه أو أمه فلتأته هديته إن كان صادقا )
يعني إنه ما أعطي الهدية لسواد عينيه ولا لذاته وإنما من أجل أنه عامل أرادوا أن يتقربوا إليه
ثم قال عليه الصلاة والسلام ( والذي نفسي بيده لا يأتي أحد يوم القيامة غل بشيء إلا أت به إن كان بعيرا له رغاء ، وإن كان بقرة … )
ثم ذكر عليه الصلاة والسلام من أن الغلول يأتي يوم القيامة يحمل على صاحبه من باب الخزي والعار له
{ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ } توفى تجزى وفاء وجزاء كاملا { ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ } شامل { مَا كَسَبَتْ } أي ما عملته { وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } كما قال تعالى { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ١١٢ }
{ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } آل عمران: ١٦٢
{ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ } { أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ } من يسعى سعيا حثيثا في طلب مرضاة الله بما يرضي الله من عمل أو قول أيكون حاله كحال من اتبع ما يسخط الله بأقوال وبأفعال ؟
الجواب : لا
كما قال تعالى { أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }
{ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ } أي رجع { بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ } نظير ما عمله من سوء
{ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ } هذا الذي أتى بما يسخط الله مصيره إلى جهنم { وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } بئس فعل ذم { الْمَصِيرُ } المرجع { وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } جهنم المذكورة سابقا
{ هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } آل عمران: ١٦٣
{ هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ } أهل الجنة وأهل رضوان الله درجات كما أن أهل النار أيضا هم درجات
وكما يطلق على ما يتعلق بأهل النار دركات كما قال تعالى { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ } أيضا يطلق عليهم درجات لأنهم متفاوتون ولذا قال تعالى { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ١٩ }
{ هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }
{ بَصِيرٌ } بما يعمله العباد ولو كانوا في خفاء { وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ٧ } لقمان ماذا قال { يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ١٦ } وهذا يدعو الإنسان في ختام هذه الآية ماذا قال { هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ } ولم يذكر شيئا بعد ذلك وإنما ذكر { وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }
إذن { وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } يتضمن الوعيد الشديد فيمن اتبع سخط الله ، والوعد الشريف الكريم لمن اتبع رضوان الله
{ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} آل عمران: ١٦٤
{ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا } هنا يبين فضيلة النبي عليه الصلاة والسلام ، ويبين أيضا فضيلة الصحابة والعرب إذ أتاهم هذا الرسول من أنفسهم كما قال عز وجل في سورة البقرة ، ومر معنا تفصيل ذلك { وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ١٥٠ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ١٥١ } هنا ماذا قال { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } نص على من ؟ على أهل الإيمان لأنهم انتفعوا بذلك وهي منة كما هي منة على الأميين لكن من لم يسلم فإنه يكون في غضب من الله عز وجل
{ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا } ولذا في نفس السورة { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ } يعني أسلموا{ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا } كما أنه عليه الصلاة والسلام رسول لجميع البشر { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا }
{ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا } وهو النبي محمد عليه الصلاة والسلام { مِنْ أَنْفُسِهِمْ } كبشر ، وأيضا هو منهم من العرب بلغتهم وأيضا من أنفسهم ، قال القرطبي في بعض القراءت الشواذ ولم ينسبها قال ( من أنفَسهم ) ولاشك أنه ذو نسب عظيم وقدر عظيم عليه الصلاة والسلام
{ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } صفاته : { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ } وهذه مر معنا توضيحها في سورة البقرة توضيحا مفصلا { وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ } أي من قبل مجيء محمد عليه الصلاة والسلام وما جاء به من هذا القرآن { وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } { لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } على عقيدة الجاهلية كما قال عز وجل { لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ٦ }
{ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } { وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ } أي من قبل مجيء النبي عليه الصلاة والسلام وما جاء به من القرآن { لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} ضلال مبين واضح وأي ضلال أعظم من أن يشرك بالله أن تعبد الجمادات أن يذبح لها أن يدعى غير الله أن يقتل الأولاد أن تقتل البنات إلى غير ذلك من الضلال المبين
ولذلك ماذا قال عز وجل { لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ٦ }
{ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } آل عمران: ١٦٥
{ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا } { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ } في غزوة أحد { قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا } في غزوة بدر قتل منكم سبعون لكن قتلتم منهم في بدر سبعين وأسرتم سبعين { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا } في بدر { قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا } أي من أين لنا هذا ؟ { قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } { مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } بسبب ما جرى منكم كما قال تعالى { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ }
وكما قال تعالى { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } وكما مر معنا { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا }
{ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ولذلك هذه الآية قال عز وجل في سورة النساء { وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ } لكن هناك ميزة { وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا }
{ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } على كل شيء قدير لا يعجزه شيء عز وجل ومن ذلك لو شاء لأتم النصر لكم في غزوة أحد ولذلك قال عز وجل { وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ٤ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ٥ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ٦ }
{ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ 166 وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ }آل عمران: ١٦٦ – ١٦٧
{ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } ذكرهم لما جرى لهم ما جرى من قتل بعضهم ومن جرح بعضهم { وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ } { وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } في غزوة أحد { فَبِإِذْنِ اللَّهِ } إذن الله هنا الإذن القدري بأمره بقضائه وبقدره بإذنه
وما كان من إذنه القدري فإنه لا يتخلف بل يقع لحكم ، لكن لو كان بأمره الشرعي لأن الإذن الشرعي هو إذن منه بأن تفعل هذه الطاعة أو تترك هذه المعصية فقد يقع وقد لا يقع
وسيأتي توضيح لذلك بإذن الله
{ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ }
{ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ } أي أهل الإيمان{ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَﭚ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا } أعاد الفعل مرة أخرى وهو عز وجل عالم بأهل الإيمان وبأهل النفاق قبل أن يقع مثل هذا لكن علم يترتب عليه جزاء وحساب وكررالفعل{ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا } من باب تحذير أهل النفاق
وهذه الآية تفسرها الآية التي ستأتي بإذن الله في آخر السورة { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } يعني ما أصابكم يوم التقى الجمعان هو من عند أنفسكم { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } ابحث عن نفسك فيما لو جرى لك ما جرى مما لا يلائمك فهذا بسببك أنت
أيضا : لما أوقع عز وجل ما أوقع بكم في أحد بإذنه القدري من أجل ماذا ؟
أن يظهر أهل الإيمان من أهل النفاق ، ولذا قال { وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ } بأمره بإذنه القدري الكوني أيضا { وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ } أهل الإيمان وقال { الْمُؤْمِنِينَ } وقال في أهل النفاق { نَافَقُوا } { وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ } يعني الذين هم أهل الإيمان بمعنى أن الإيمان اتصفوا به وأصبح خصلة لهم { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ } أتى بتصريح الاسم الموصول من باب التوبيخ والتأكيد على أن أولئك أهل نفاق { نَافَقُوا } وأهل أصحاب نفاق مستمر فالنفاق يتجدد معهم
{ وَقِيلَ لَهُمْ } تبعهم والد جابر بن عبد الله لما فر من فر من المعركة من أهل النفاق قال لهم تعالوا قاتلوا أو على الأقل ادفعوا أو دافعوا حمية إن لم تدافعوا من أجل دين الله دافعوا حمية عن أوطانكم وعن أولادكم
فقال عز وجل هنا لما خاطبهم عبد الله بن حرام وقتل في هذه المعركة { وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } لإعلاء كلمة الله { أَوِ ادْفَعُوا } على أقل الأحوال حمية أو كثروا سواد المسلمين
{ قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ } { لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ } يعني لو نعلم أن هناك قتلا صحيحا { لَاتَّبَعْنَاكُمْ } لكن لو اتبعناكم فليس هناك قتال صحيح وإنما هو الانتحار وضياع الأنفس
ويصح أيضا قول من يقول لو نعلم قتلا لاتبعناكم يعني أننا لا نحسن القتال فنحن لا نحسن القتال وهم كذبة هم يحسنون القتال لكنهم قالوا هذا القول على سبيل الاستهزاء والسخرية
{ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ } هم كفار من حيث الأصل قلوبهم ملأى بالنفاق وبالكفر ، ولكن لماذا قال { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ } لأنهم كانوا يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان فيظن أنهم أهل الإيمان مع أن في قلوبهم الكفر لكن بعد هذه المحنة { وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } هنا ما كان في القلوب ظهر على الألسن ومن ثم ماذا قالوا هنا { لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ }
{ هُمْ لِلْكُفْرِ } هم هم للكفر من حيث الظاهر؛ لأن قلوبهم ملأى بالكفر { يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } { يَقُولُونَ } القول باللسان لكن ذكر الأفواه من باب أن هذا الكلام عظيم عظيم وامتلأت به أفواههم مع أن القول باللسان ، وهذا يدل على أنهم أصحاب تبجح ، ولذا ماذا قال عز وجل { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ٢٠٤ }
وقال عنهم وأنزل فيهم سورة كاملة سورة المنافقون { وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ }
{ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } ما يكتمونه ويخفونه فالله عليم بهم ومن ذلك ما يكون في قلوبهم من الكفر والنفاق
ولذلك : قال هنا { يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } من ذلك ما مر معنا ما مر معنا { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا } فظهر ما في قلوبهم على ألسنتهم
{ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } آل عمران: ١٦٨
{ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } أيضا هذه من صفات أولئك { الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ } الإخوان هنا مر قبل ذلك والقول فيها كالقول فيما ذكرنا في قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى }
{ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا } يعني قالوا هذا القول وقد قعدوا قعدوا عن القتال والجهاد { الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } لو أطاعونا في البقاء كما بقينا نحن ما قتلوا في هذه المعركة ، فقال الله للنبي عليه الصلاة والسلام ليقل لهؤلاء { قُلْ فَادْرَءُوا } أي ادفعوا { عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } ففي أي مكان فإن الموت إذا أتاكم فلن تستطيعوا إن كنتم صادقين فيما زعمتم فادفعوا عن أنفسكم الموت ، ولذا ماذا قال تعالى قبل ذلك قال عز وجل { قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ }
وقال تعالى { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } وقال تعالى { قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ }
{ قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
{ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } آل عمران: ١٦٩
{ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا } من قتل في غزوة أحد وفي أي غزوة هذا شامل ولا تحصر بذلك على الصحيح { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا } أي لا تظن أن { الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا }
{ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ } وحياتهم الله أعلم بها لكن مما ذكر لنا قول النبي عليه الصلاة والسلام عن الشهداء كما ثبت عنه أرواحهم في أجواف طير تسرح في الجنة وذكرنا ذلك فيما يتعلق بهذه الآية مفصلا عند قوله تعالى { وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ ١٥٤ }
{ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ }
هذه الآية تختلف عن الآية التي في سورة البقرة ، هناك نهي عن القول { وَلَا تَقُولُوا } هنا نهي عن حتى مجرد الظن { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ }
هناك { وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ ١٥٤ }
هنا زاد بعض الأشياء مما لهؤلاء من الفضل ، فوضحت هنا أكثر مما هناك قال هنا { بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } كما ثبت بذلك الحديث ( أرواحهم في أحواف طير تسرح في الجنة )
{ يُرْزَقُونَ } رزق الله أعلم بحقيقته لكنه رزق عظيم لأنه من عند الله ولذا قال في سورة البقرة { وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ }
{ فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ 170 يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ171 الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ 172 الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ 173 فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ 174 } آل عمران: ١٧٠ – ١٧٤
{ فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } فالفرح لهم بسبب ما آتاهم من ذلك الأجر العظيم
{ وَيَسْتَبْشِرُونَ } أي بشرى بينهم لمن سيأتي من إخوانهم الذين سيقتلون في سبيل الله كما قتلوا من أن لهم هذا النعيم وهذا الرزق وهذا الخير { وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ } أي بألا خوف { عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } لا خوف عليهم فيما يستقبلونه بعد الموت في سبيل الله { وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } أي فيما تركوه من أمر الدنيا
بل جاءت الأحاديث الصحيحة ( ما من أحد يرى فضل الله عز وجل عليه في الجنة فيتمنى الرجوع في الدنيا إلا الشهيد فإنه يتمنى أن يعود فيقتل في سبيل الله ثم يحيى ثم يقتل ) الحديث
{ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﯗ يَسْتَبْشِرُونَ } قال هنا { وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } من ذلك النعمة والفضل { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ } نعمة من الله وفضل زيادة وخير عظيم { وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } وهو ذو فضل عظيم كما أنه صاحب الفضل كما ذكر عز وجل في هذه السورة فيما جرى من الرماة وعفا عنهم { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }
كما أن فضله على المؤمنين فأيضا له فضل عظيم على الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله
{ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ } أي وبأن الله { لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ } كما قال تعالى { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } { إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا } وتأمل { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ } ثم أتى التعميم { وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ } أي مؤمن
{ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } هنا استئناف ليس تابعا لما سبق استئناف لحال من خرج مع النبي عليه الصلاة والسلام لما قيل له إنا أبا سفيان ندم لأن أبا سفيان لما جرى ما جرى في غزوة أحد انطلق فلما كان في الطريق قال كيف نرجع ولم يبق منهم إلا الشريد لو رجعنا فأبدناهم كلهم فندم فأراد أن يعود فما الذي جرى ؟
أرسل أبو سفيان أرسل رجلا يقال له ” نعيم بن مسعود ” من أجل أن يخوف النبي عليه الصلاة والسلام بأن أبا سفيان قادم له بجموع فماذا فعل عليه الصلاة والسلام لما سمع بالخبر ؟
قال عليه الصلاة والسلام ( ليخرج معي من كان في الغزوة ) وفيهم الجراحات والتعب والنصب فأثنى الله عليهم فخرجوا معه { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ } قال تعالى { إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ } أصابهم القرح الجراحات التعب
{ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ }
وانظر { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا } دل على أن الإحسان أعلى درجة من التقوى ، ودل هذا على أن مراتب الدين تكون على ثلاثة أقسام الإسلام ثم الأعلى الإيمان ثم الأعلى الإحسان ، والإحسان ( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لكم تكن تراه فإنه يراك ) وسيأتي لها تفصيل إن شاء الله فيما سيأتي من آيات في بعض السور
{ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ }
{ أَجْرٌ عَظِيمٌ } عظيم من حيث القدر من حيث النوع من حيث العدد من حيث الكم ؛ لأن هذا من الله
{ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ }
{ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ } نعيم بن مسعود ، يطلق على الشخص الواحد يطلق عليه جمع يصح في اللغة العربية كما مر معنا في نفس السورة عن زكريا { فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ } أي جبريل فهنا يطلق على الواحد جمع
{ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ } وهو نعيم بن مسعود أعطاه أبو سفيان شيئا من المال من أجل أن يقول هذا القول للنبي عليه الصلاة والسلام ، ولذلك قال له قال : لقد أتاك أبو سفيان بجمع عظيم
{ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ } يعني إن أبا سفيان { قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ } الجموع { فَاخْشَوْهُمْ } والخشية تختلف عن الخوف ، الخشية تكون من أمر مستقبل ومن أمر عظيم { فَاخْشَوْهُمْ } بخلاف الخوف ، الخوف قد يكون لأمر قادم ولأمر مضى ولا يلزم أن يكون من شيء عظيم ، بعض الناس قد يخاف من أي شيء
{ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا } انظر الأعداء يرعبون ويخوفون أهل الإسلام لكن أهل الإيمان أصحاب الإيمان الكامل لا ينظرون إلى مثل هذه الأراجيف { فَاخْشَوْهُمْ } فما الذي جرى { فَزَادَهُمْ إِيمَانًا } زادهم ذلك إيمانا لأنهم مؤمنون بالله من أن الله قال قبلها بآيات { إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ }
ولذلك في غزوة الأحزاب كما قال عز وجل { إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا } اختلفت الظنون ظنون أهل الإيمان من ظنون أهل النفاق
{ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } بعدها بآيات { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ } تجمعوا عليهم { قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا }
{ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا } وهذا يدل على أن الإيمان يزيد وينقص وهو مذهب أهل السنة والجماعة يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية
قال تعالى { لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا } { فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا } والنصوص والآيات في مثل هذه كثيرة والزيادة تدل على النقصان لأن الشيء لا يزيد إلا من وجود نقصان
وأيضا دلت على ذلك السنة : قوله عليه الصلاة والسلام في شأن النساء ( ما رأيت من ناقصات عقل ودين )
أثبت من أن هناك نقصانا يكون في الدين
فالشاهد من هذا :
{ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا } في القلب وأيضا في أقوالهم وفي جوارحهم حتى نطقوا بذلك { فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ } أي يكيفنا الله { وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } { وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } ثناء على الله { وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } المتوكل لأمورنا الذي يتولى أمورنا { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }
وهذا يدل على ماذا ؟ يدل على عظم التوكل على الله عز وجل وعلى عظم هذه الدعوات وهذا الذكر { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } وقد تحدثت في خطبة بينت فيها بتفصيل فيما يتعلق بفوائد عظيمة عن هذه الكلمة
{ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ١٧٣ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ } سبحان الله !
انتبه لما قالوا { فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } دل هذا على ماذا ؟ قد قال شيخ الإسلام قول حسبنا الله ونعم الوكيل يقولها العبد إذا أراد أن يدفع عنه السوء ، ويقولها أيضا إذا أراد أن يحصل له خير تبتغي شيئا تريد شيئا من الله تريد أن يتحقق لك شيء قل حسبي الله ونعم الوكيل ، يكرر يأتيك الخير ، أردت أن يصرف عنك سوء أو شر
كرر : حسبي الله ونعم الوكيل
ولذلك هنا { فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } لما قالوا { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } قالوها لما كان هناك خوف سيأتي فما الذي جرى جرى لهم ؟ بأن زال المكروه وحصل المطلوب { فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ } وأعظم بنعمة من الله نعم الله عظيمة { وَفَضْلٍ } خير وزيادة خير على خير
{ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } لم يصبهم أي سوء { وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } تأمل قلنا هنا قول حسبي الله ونعم الوكيل لما قالوا { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } حصل لهم المطلوب وزال عنهم المكروه
دليل آخر { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ } ذكر لضر { هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ } بخير { هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ } إذن في سياق دفع الشر وفي سياق تحصيل الخير والمرغوب
والنصوص في هذا كثيرة
{ فَانْقَلَبُوا } أي رجعوا لأن أبا سفيان خارت قواه فإن النبي عليه الصلاة والسلام لما انصرف من المدينة إلى مقابلة أبي سفيان كما قال عز وجل في أول الآيات السابقات { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ } مر على قبيلة خزاعة وكانوا محبين النبي عليه الصلاة والسلام المسلم منهم والكافر فقالوا : والله ومنهم معبد الخزاعي والله إنه أساءنا ما أصابك يا محمد ، فقام معبد الخزاعي قبل أن يسلم وذهب إلى أبي سفيان وقال له إن محمدا قد جمع لك جموعا عظيمة فارجع إلى مكة إن أردت السلامة
سبحان الله ! هيأ الله لما قالوا { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } هيأ الله لهم كافرا آنذاك فرجع الرعب في قلوب كفار قريش ومنهم أبو سفيان فرجع
فالنبي عليه الصلاة والسلام أتى ولم يلق عدوا وهذا هو الظاهر من سياق الآيات ، وليس القول الذي قيل من أن أبا سفيان واعدهم في السنة القادمة في موضع بدر ويقال عنها بدر الصغرى إنما السياق مازال في غزوة أحد في نفس السنة
فما الذي جرى ؟
رجع النبي عليه الصلاة والسلام { فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ } مروا على تجارة واشتروا منها وباعوها وربحوا فماذا جرى؟{ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ } سبحان الله ! { لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ } يكفي في ذلك { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ } هذا يدل على عظم الإيمان ، ولذلك قبلها بآيات { أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ }
{ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } صاحب فضل عظيم