تفسير سورة آل عمران ــ الدرس (48)
من الآية (175) إلى (184)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } آل عمران: ١٧٥
فكنا قد توقفنا عند قوله تعالى { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } الآية
بعد أن ذكر حال النبي عليه الصلاة والسلام ومن استجاب معه في الآيات السابقات { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ١٧٢ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ١٧٣ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ }
ومن ثم فإن هنا لطيفة :
وهي تبين فضل من جاهد في سبيل الله فإن من جاهد في سبيل الله كحال النبي عليه الصلاة والسلام فإنه لما ذكر عز وجل حال الشهداء بعد الموت ماذا قال عز وجل { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ } وهنا لما جرى ما جرى مما ذكرنا في الدرس الماضي بعد رجوع النبي عليه الصلاة والسلام ماذا قال { فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ } فنعمة الله وفضل الله لمن جاهد في سبيله سواء كان حيا أو ميتا بعد ذلك قال عز وجل { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } يعني يخوفكم بأوليائه كما صنع أبو سفيان لما أزه الشيطان إلى أن يقول لنعيم بن مسعود أرعب محمدا ، فقال الله عز وجل { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } يعني يخوفكم بأوليائه وهذا هو الصحيح خلافا لمن قال من أن الشيطان يخوف أولياءه فالشيطان لا يحب أن يوقع الخوف في قلوب أوليائه ، وإنما يعطيهم من التزيين والتسويف والوسوسة بحيث يقويهم على أهل الإيمان
ومما يدل على ذلك أنه عز وجل قال بعد ذلك { فَلَا تَخَافُوهُمْ } يعني لا تخافوا أولياء الشيطان { وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فدل هذا على أن الخوف من الله يكون من مقتضيات الإيمان بالله عز وجل
ومن ثم فإن بعض الصوفية يقولون إن الإنسان لا يصل إلى التوكل إلا إذا انتزع الخوف من قلبه فلا يخاف من سيل ولا من أسد ولا من سبع ولا من غير ذلك
وهذا ولاشك أنه ضلال مبين ؛ لأن الخوف الطبيعي يجري حتى على الأنبياء ، ولذا قال عز وجل عن موسى { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى }
فإذن الخوف من الله هو يدعو إلى الإيمان ، ومن مقتضيات الإيمان أن يخاف العبد من الله ، ولا يكون في قلبه خوف من المخلوقين
ولذلك يقول شيخ الإسلام ــ ناقلا عن بعض العلماء ــ ” من عرف الناس استراح “
من عرف أن الناس لا يملكون نفعا ولا يدفعون ضرا استراح لأن النفع والضر إنما هو من الله عز وجل
{ وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } آل عمران: ١٧٦
{ وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ } الخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام ، ولذا قال في سورة المائدة { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ }
قال هنا { وَلَا يَحْزُنْكَ } أي لا يصيبك حزن يا محمد على مسارعة هؤلاء إلى الكفر ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يحب أن يؤمن الناس ، ولذلك كان يحزن عليه الصلاة والسلام فقال الله عز وجل { فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ }
{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ } أي مهلك { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ٣ }
{ وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ } بمعنى أن هؤلاء وصلوا إلى مرحلة من أنهم يسارعون إلى الكفر
{ وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا } إنما الضرر يعود إلى أنفسهم { إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا } أي نصيبا { يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وقال هنا { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وذلك لأن المسارعة إلى الكفر تدل على ماذا ؟
تدل على عظم الذنب الذي وقعوا فيه فكان جزاؤهم أن يكون لهم هذا العذاب العظيم { وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
{ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }آل عمران: ١٧٧
{ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا } ذكرهنا حال من يبيع الإيمان ويشتري الكفر ، وهذا على وجه العموم ، فأولئك السابقون يسارعون في الكفر أيضا من لم يسارع في الكفر وإنما اشترى الكفر فإن له عذابا أيضا ولذا قال { إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ } وسبق معنا من أن كلمة اشترى أو كلمة البيع إذا كانت الكلمة أتت بحرف الباء دل هذا على أن ما كان متصلا ومتعلقا بالباء فهو الثمن وهنا الثمن ما هو ؟
الإيمان
{ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ } الكفر سلعة اشتروها ، الثمن الإيمان والذي يشتري الشيء إنما يشتريه من رغبة ومن دافع قوي لمحبته لهذا
{ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا } كحال أولئك السابقين ، لم ؟ لأن من كفر إنما يضر نفسه
قال تعالى { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ } وقال تعالى { وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ }
{ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي مؤلم
وسبحان الله ! قال عن السابقين فيما يتعلق بالعذاب وصفه بأنه عظيم لعظم الذنب الذي اقترفوه ، هنا وصف العذاب لهؤلاء الذين اشتروا وصف العذاب بأنه أليم أي مؤلم ومعلوم أن من يشتري الشيء إنما يشتريه ليتلذذ به ، فكان الجزاء من جنس العمل بمعنى أنه يأتيهم عذاب مؤلم يتألمون به نظير اللذة التي حصلت لهم ، وهي لذة وهمية حصلت لهم بسبب هذا الاشتراء
{ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
{ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } آل عمران: ١٧٨
{ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ } { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } بمعنى أن من كفر بالله ووسع الله عليه لا يظن أن ذلك خير له وإنما هو استدراج { حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ٤٤ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ٤٥ }
وقال تعالى { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ ٥٥ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ ٥٦ }
والآيات في مثل هذا المعنى كثيرة جدا
فقال عز وجل { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } وهم من تقدم سواء اشترى أو سارع في الكفر أو لجميع من كفر كفرنفاق كفر شك كفر إباء كفر إعراض
كل أنواع الكفر
{ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ } من الإملاء بمعنى الإمهال يمهلهم الله ، ولذا فالله عز وجل يمهل ولا يهمل
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام كما ثبت عنه : ( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ }
{ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا } ” أن ” تنصب الاسم واسمها ما الموصولية بمعنى الذي ، وترفع الخبر وخبرها { خَيْرٌ }
ولذا إذا قيل لماذا رفعت كلمة { خَيْرٌ } هنا ؟ لأنه خبر ” أن “
{ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا } فإنه وإن وسع عليهم في الدنيا وأعطوا من النعم فإن ذلك وبال عليهم ، ولذا كما سيأتي قال تعالى { لَا يَغُرَّنَّكَ } في نفس السورة { لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ ١٩٦ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ }
{ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا } ولذا ثبت عند الترمذي وغيره قوله عليه الصلاة والسلام ( خير الناس من طال عمره وحسن عمله وشر الناس من طال عمره وساء عمله )
وجاء في صحيح مسلم قوله عليه الصلاة والسلام ( لا يتمنى أحدكم الموت ولا يدع به قبل أن يأتيه فإن المؤمن لا يزيده عمره إلا خيرا )
قال هنا (المؤمن) فدل على أن هؤلاء الكفار إطالة العمر لهم إنما هي شر لهم
ولذا ثبت في المسند وغيره قوله عليه الصلاة والسلام ( إذا رأيت الله يعطي العبد من النعيم وهو مقيم على معاصيه فاعلم بأنه استدراج )
{ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } أي هذا العذاب يهينهم وذلك انظر قال في العذاب السابق { عَذَابٌ أَلِيمٌ } والذي قبله { عَذَابٌ عَظِيمٌ }
هنا إهانة لهم باعتبار ماذا ؟ باعتبار أنه إذا مد لهؤلاء ولم يراعوا الله في هذه النعم فإنهم يصبحون أهل كبر وغطرسة وبطر ، ومن ثم فالذي يناسب هؤلاء هو العذاب المهين الذي يهينهم ويذلهم ،ولذا قال { وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ }
{ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } آل عمران: ١٧٩
{ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ } ليترك المؤمنين { عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ } أنتم يا أهل الكفر وأهل النفاق وهذا هو ما عليه أكثر المفسرين وقيل إن الضمير عائد على أهل الكفر والنفاق وعلى كل حال دلت هذه الآية على ماذا ؟ على أن الله يمحص ، ولذا ماذا قال عز وجل ؟ قال عز وجل كما مر معنا قال { وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ١٤١ }
ومن ثم قال هنا { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ } في نفس السورة { وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ١٦٦ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا ۚ }
هنا قال { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ } يعني أن يختلط أهل النفاق بأهل الإيمان لابد من محن ، ومن تلك المحن ما جرى في غزوة أحد ، فأخرج الله أهل الإيمان وأخرج أهل النفاق استبان للناس ومن ثم قال { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ }
{ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } وأهل النفاق وأهل الكفر خبثاء وظهر خبثهم كما ذكر عز وجل في هذه السورة من الكلام المشين ، ومن الظن السيء بالله
{ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } والطيب من هم ؟ هم أهل الإيمان الذين يشكرون الله عند النعماء ويصبرون عند المحن والضراء
{ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } ولذا ماذا قال عز وجل { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ٣٦ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ }
ولا يستوي الخبيث ولا الطيب لا في الأقوال ولا في الأعمال ولا في البشر ولا في المخلوقات لا يستويان
ولذلك ماذا قال تعالى { قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ١٠٠ }
فقال هنا { حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ } فالغيب استاثر الله به ، ومن ثم فإنه لو لم تأت هذه المحن ما علمتم المؤمن من المنافق ، فأجرى الله هذه المحن ومن ذلك ما جرى في غزوة أحد حتى يستبين أهل الإيمان من أهل النفاق ، ولذا قال { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ } وهذا يدل على ماذا ؟ يدل على أن الغيب قد استاثر الله به ، ولذا قال عز وجل { قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ }
{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ }
{ يَجْتَبِي } أي يصطفي { مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ } حسب علمه وحكمته كما قال تعالى { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ }
وقال هنا { وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ } من باب ماذا ؟
من باب أن هذا الغيب قد يظهر الله شيئا منه للرسل قال تعالى { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ٢٦ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ }
{ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ } إذن ما الذي عليكم حتى تكونوا من أهل الإيمان الطيبين ؟
المعين عليكم والواجب عليكم الإيمان بالله وبرسله عليهم الصلاة والسلام ومن أعظم هؤلاء نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام { فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ }
وتأمل ما مضى في السورة { قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ٨٤ }
{ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ } هذا هو الواجب عليكم أما الأمور الأخرى فلا تبحثوا عنها لأنك يا عبد الله ما خلقت إلا لعبادة الله وبالإيمان بالله وبما أنزل الله من الكتب وبما أرسل الله من الرسل قال تعالى { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ٥٦ } وقال تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ }
{ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } قال هنا { فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ }
أهل الكفر الذين مر ذكرهم
{ وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ١٧٦ } سبحان الله ! أولئك لهم عذاب عظيم وهؤلاء لهم أجر عظيم لأن هؤلاء أتوا بالإيمان وأولئك أتوا بالكفر وسارعوا إليه ولذا قال { وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } وتأمل فوائد الإيمان والتقوى في نفس السورة قال تعالى { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } فأصحاب الإيمان والتقوى لهم الأمن والسعادة والخير في الدنيا وفي الآخرة
وتأمل معي ما ذكر في نفس السورة { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ١٣٣ }
فقال عز وجل هنا { وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ }
{ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } آل عمران: ١٨٠
{ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ } أي لا يظن أولئك الذين يبخلون فيمنعون الزكاة الواجبة التي فرضها الله عليهم { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ } هنا نصبت كلمة { خَيْرًا } هناك { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ } لم رفعت هناك ؟ لأنه خبر أن ، هنا لأنها هي المفعول الثاني لقوله { وَلَا يَحْسَبَنَّ } المفعول الأول يدل عليه سياق الآيات { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } أي لا يحسبون بخلهم خيرا لهم فالمفعول الأول مقدر هو البخل
{ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ } فليس خيرا لهم { بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ } فلما قال هنا { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ } نفى عنهم الخيرية ثم أكد أيضا فقال { بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ } من أجل ألا يطمعوا ولو بنسبة يسيرة من أن ذلك البخل به نسبة خير بل كله شر { بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ }
{ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } معنى هذه الآية ما جاء في الصحيح قوله عليه الصلاة والسلام ( من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع ) يعني ثعبانا أقرع قد انحت شعر رأسه من كثر السم ( له زبيبتان ) الزبيبة فيها أقوال اكثيرة ، لكن يكون منها من أن فمه يكون به زبد ( يأخذه بلهزمتيه ــ يعني بشدقيه ــ يقول أنا مالك أنا كنزك )
{ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وقد قال بعض المفسرين إن هذه الآية تصدق على من بخل بالعلم الشرعي لأن العلم الشرعي إنما هو زكاة فمن منعه فإنه يوم القيامة يحمل ، فيكون معنى { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ليس هو التطويق على هذا القول وإنما هو بمعنى الطاقة يعني أنهم يحملون يوم القيامة أوزارا على أوزارهم لأنهم منعوا العلم الشرعي
وظاهر الآيات في المال لورود النص الثابت عنه عليه الصلاة والسلام ولا مانع من دخول العلم الشرعي بدليل ما سيأتي بعد ذلك في نفس السورة { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ١٨٧ }
{ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } سبحان الله ! كيف يبخل الإنسان بالزكاة الواجبة التي فرضها الله عليه مع أن المال إنما هو بيد البشر وديعة ، ولذا قال عز وجل { وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ } { وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ }
قال تعالى { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ٤٠ }
فقال هنا { وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } فالجميع يعود إلى الله كما أتوا إلى الدنيا { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ }
ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام كما ثبت عنه ماذا قال ( يتبع الميت ثلاثة أهله وماله وعمله فيرجع اثنان ويبقى واحد يرجع أهله وماله ويبقى عمله )
{ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }
قدم هنا كلمة { تَعْمَلُونَ } وأخر الاسم { خَبِيرٌ } لعله والعلم عند الله كالمفارقة في الآيات السابقة { فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } قدم الاسم { خَبِيرٌ } من باب تذكير هؤلاء بأن الله عالم بما في قلوبهم مما يكون من حزن وهم وغم وما شابه ذلك
هنا لما ذكر ما يتعلق بالعمل وهو أداء الزكاة ماذا قال { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } { وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }
{ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ } آل عمران: ١٨١
{ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } لما نزل قوله تعالى { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } هؤلاء اليهود ماذا قالوا قالوا إن الله وهذا قول فظيع منهم وقول شنيع ، وأيضا بهذا القول يلبسونه التمويه كحالهم فيما ذكر عز وجل في أول السورة { وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ }
فهذا تدليس منهم عن طريق العمل ، أيضا عن طريق القول فهم يقولون كيف يأتي محمد بهذا القرآن الذي يقال فيه على زعمهم من باب التشكيك إدخال الشك في قلوب أهل الإيمان بهذا القرآن وبهذا النبي فيقولون كيف يقول في القرآن الذي أتى به من أن الله يقول { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } إذن نحن أغنياء والله فقير
{ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ } وهنا إثبات صفة السمع لله بما يليق بجلاله وبعظمته والأدلة كثيرة منها ما ذكر في هذه السورة كما قال عز وجل { ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ٣٤ }
{ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } وانظر إلى فظاعة تلك القلوب وتلك الألسن التي اعتقدت هذا الاعتقاد ونطقت بهذا النطق كحالهم إذ قالوا كما سيأتي معنا في سورة المائدة { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ }
{ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } ويكفي ذكر صفة السمع لقول هؤلاء تنذر بماذا ؟ تنذر بالوعيد الشديد والعذاب الأليم في حق من يقول هذا القول في الله عز وجل
{ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا }
إذ قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء
{ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ } المخاطبون هم من في عصر النبي عليه الصلاة والسلام ومع ذلك قال { سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ } أيضا هؤىلاء سيعذبون على هذا القول الشنيع بما رضوه من صنع أسلافهم الذين أقدموا على قتل الأنبياء لأنهم ارتضوا بفعل آبائهم
{ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ } ومر الحديث عن هذه مفصلا في قوله تعالى { وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ }
{ وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ }
{ ذُوقُوا } يدل على أن الذوق هو أعظم ما يكون في الإنسان مما يحس به فدل هذا على أنهم يذوقون العذاب وأي عذاب{ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ } الحريق بمعنى المحرق فهو عذاب محرق نظير ما تفوهوا به ونظير ما رضوا بما صنعه أسلافهم من قتل الأنبياء
{ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ }
{ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } آل عمران: ١٨٢
{ ذَلِكَ } وهو العذاب { بِمَا } بسبب { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ }
نفى عنه الظلم لكمال عدله ، ولذا في نفس السورة ماذا قال نافيا إرادة الظلم { وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ } وقال تعالى { وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ } وقال تعالى { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } وقال تعالى { إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا } وقال تعالى { إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ }
انتبه كلمة ظلام على وزن فعال وكلمة فعال تدل على النسبة نسبة هذا الشيء للشيء ، وتكون للمبالغة كما لو قلت مثلا : فلان قتال ، هنا نسبت إليه القتل وهو كثير القتل كثير القتل هنا ماذا قال { وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } هنا ليست للمبالغة وإنما للنسبة فكلمة فعال تكون للمبالغة والنسبة إلا إذا دل دليل على إخراج المبالغة فهنا قال { وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } لأنها لو كانت للمبالغة لنفي عنه ماذا لنفي عنه كثرة الظلم لكنه عز وجل لا يظلم أبدا لا يظلم أبدا لكمال عدله فتنبه
{ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ }
{ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } آل عمران: ١٨٣
{ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ } صفة هؤلاء { الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ }
{ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا } يعني أمرنا وأوصانا { عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ } بمعنى أنه يأتي بشيء يقربه إلى الله فتأتي نار فتحرق هذا الشيء المقرب لله فيكون لك علامة على قبول الله ، فقال الله للنبي عليه الصلاة والسلام { قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ } وهي كافية { بِالْبَيِّنَاتِ } الظاهرات الواضحات والمعجزات كافية { قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ } أي من تقدم من الرسل بعضهم أتى بالذي قلتم من القربان ولكن ليس هذا في كل نبي يأتيكم لأن الله عز وجل ذكر في نفس السورة لما أخذ الميثاق على الأنبياء وهو أخذ للميثاق على أتباعهم قال تعالى { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا } فأين ذكر القربان ؟ بمعنى أنه إذا أتاكم محمد فالواجب عليكم أن تؤمنوا به
{ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فيما تزعمونه في هذا القول من أن الله عهد إليكم ألا تؤمنوا لرسول حتى يأتي بهذا القربان فلماذا أقدمتم ؟ أتوكم بالبينات وأتوكم بهذا لكنكم لستم صادقين فيما تزعمونه
{ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} آل عمران: ١٨٤
{ فَإِنْ كَذَّبُوكَ } أي يا محمد { فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا } يعني أولئك الرسل { بِالْبَيِّنَاتِ } بالعلامات الظاهرات والمعجزات { بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ } { وَالزُّبُرِ } أي الكتب المزبورة يعني التي تكون في صحف مفرقة كما قال تعالى { صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ١٩ }
{ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ } { وَالْكِتَابِ } أي الكتب { الْمُنِيرِ } أي الواضح كتب واضحة وبينة من أنها من عند الله أي بالكتب الواضحة ولذا الله عز وجل سلى نبيه عليه الصلاة والسلام في تكذيب هؤلاء له اليهود وكذلك كفار قريش قال تعالى { وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ } وقال تعالى { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ }