التفسير المختصر الشامل تفسير سورة آل عمران من الآية (193) إلى نهاية السورة الدرس (50)

التفسير المختصر الشامل تفسير سورة آل عمران من الآية (193) إلى نهاية السورة الدرس (50)

مشاهدات: 515

التفسير المختصر الشامل

لفضيلة الشيخ/ زيد البحري

تفسير سورة (آل عمران) من الآية[١٩٣: نهاية السورة]

الدرس: (٥٠).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بسم الله الرحمن الرحيم

{ رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ }

 

{ رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا }  كرروا الدعاء بقول ربنا من باب الثناء على الله-عز وجل- ومن باب الإلحاح في الدعاء { رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ } ؛ وذلكم المنادي قيل هو النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وقيل هو القرآن ولا تعارض بينهما فإن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وكذا القرآن يصدق عليه هذا القول؛ ولذا لما سمع الجن هذا القرآن قالوا:  { قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف : 31]

{ رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ } هذا المنادي لما أمر بالإيمان بالله -عز وجل- فنحن آمنا؛ ولذا قال عنهم  فَآمَنَّا أتى بحرف الفاء مما يدل على الترتيب والتعقيب فبمجرد ما سمعوا هذا المنادي آمنوا بالله -عز وجل- { رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا } ؛المغفرة هي الستر وكذلك التكفير بمعنى الستر ومن ثم قال بعض أهل العلم: إن قوله -عز وجل-عن هؤلاء { رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا } :فمغفرة الذنوب فيما يتعلق بينهم وبين الله وأما تكفير السيئات فهو فيما يتعلق بينهم وبين الخلق، وقيل إن مغفرة الذنوب المقصود من ذلك: الكبائر وتكفير السيئات هي الصغائر وقيل: إنما ذكروا هذا وهذا من باب الإلحاح في الدعاء وإلا فمغفرة الذنوب وتكفير السيئات واحد باعتبار أن المغفرة هي الستر وباعتبار أن التكفير هو الستر ولهذا ربما يقوي هذا القول من أن من دعاء النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من باب الثناء على الله-عز وجل- وتكرار الدعاء :” اللهم اغفر لي ذنبي كله” لو قال اللهم اغفر لي ذنبي كله لشمل كل ذنب ؛لكن قال اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، أوله وآخره، صغيره وكبيره، خطأه وعمده، هزله وجده، وكل ذلك المذكور من هذا التفصيل يدخل في مغفرة الذنب كله.

{ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} .؛ أي توفنا من جملة الأبرار والأبرار بين الله -عز وجل- من هم في سورة البقرة ، {  لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ  الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ } . كما مر معنا وتأمل هنا ماذا قالوا؟! وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ؛ طلبوا ان يكونوا في أعلى درجة من العبادة وهي درجة الأبرار ومن ثم فإن قولهم يتضمن من أنهم دعوا الله-عز وجل- أن يثبتهم على الدين حتى يتوفاهم مع هؤلاء الأبرار ولعل هذا يتوافق مع ما ذكر -عز وجل- في نفس السورة مما يدل على هذا الأمر إذ قال -عز وجل-: { يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } .

{ وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ } وتأمل هنا ماذا قالوا ؟ {  رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ  الأَبْرَارِ} .

طلبوا أن يكونوا في أعلى درجة من العبادة؛ ومن ثم فإن قولهن وتوفنا مع الأبرار يتضمن أنهم دعوا الله-عز وجل-أن يثبتهم على الدين حتى يتوفاهم مع هؤلاء الأبرار ولعل هذا يتوافق مع ما جاء في نفس السورة:   {  يٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} ،قال { وَتَوَفَّنَا مَعَ  الأَبْرَارِ } وتأمل ماذا قالوا{رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ  } ؛ توسلوا إلى الله بعمل صالح وهو إيمانهم بالله وأن يغفر لهم ذنوبهم ويكفر عنهم سيئاتهم وهذا هو حال المتقين  قال تعالى: { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَٰلِكُمْ ۚ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ  } في نفس السورة:{ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ } ومر معنا في أول السورة أنواع التوسل الجائز والذي لا يجوز. {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران : 194] كرروا النداء مرة بكلمة (ربنا) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ (على) هنا تدل على شيء محذوف ظاهره ربنا وآتنا ما وعدتنا على ألسنة رسلك مما أتوا به من الوحي الذي أنزلته عليهم {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}ولا تخزنا يوم القيامة هنا في هذا النداء ماذا قالوا؟ ربنا هذا هو النداء بقولهم ربنا وهو النداء الخامس لأنه قال -عز وجل-: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران : 191]هذا أول نداء وإذا حسبت ما بعده إلى هذه الآية وجدت أن النداء خمس مرات بقولهم ربنا ولذا قال من قال من العلماء  وممن تقدموا في أول الأمر في أول العصور السابقة قالوا -وهذا القول فيه نظر – أردت بذلك التنبيه عليه لأنه لم يرد عليه دليل صحيح عن النبي-صلى الله عليه و آله وسلم- فيما نعلم  والأدعية فيما يتعلق بترتيب الثواب أو النتائج عليها لا تؤخذ إلا من الشرع قال إن من قال في دعائه خمس مرات ربنا فإن أي شيء يريده يحصل له، وإن أي شيء يريد أن يندفع عنه اندفع، واستدل بهذه الآية ولكن كما سلف: مثل هذا لا يثبت إلا بطريق صحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم – وذلك حتى لا تفتح الأبواب للبدع، لكن هذا اجتهاد اجتهده بعض أهل العلم فيما مضى ولا يعول على مثل هذا الاجتهاد

{ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } قالوا هنا: ولا تخزنا ؛ والخزي هو الهوان والعار ولذلك قالوا قلبها: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ أَخْزَيْتَهُ } هنا قالوا ولا تخزنا يوم القيامة وأي خزي أعظم من أن يخزى في يوم القيامة {إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}.

الله عز وجل لا يخلف الميعاد وهم يعلمون بذلك؛ لكنهم أرادوا بذلك الثناء على الله -عز وجل- وأيضاً قالوا:

{ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ } من باب أنهم لا يدرون ما هو حالهم على الطريق الصحيح الذي به ينالون هذا الفضل من الله -عز وجل- فترى حالهم في ما سبق من آيات من أنهم أتوا بالعبادة ومع ذلك يخشون على أنفسهم من التقصير. {إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} كما قال تعالى { وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ } ؛ ولذا هؤلاء هم أصحاب علم في أول السورة ماذا قال الله-عز وجل- عن الراسخين في العلم؟ { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } أي المحكم والمتشابه { كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } بمعنى. ان المحكم والمتشابه هو من عند الله وما كان من عند الله فلا تناقض بينهما فهم يردون المتشابه إلى المحكم فيصير الكل محكم.

إلى أن قالوا: { رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ }  ، وفي ثنايا السورة؛ ماذا قال الله -عز وجل- عن علماء السوء علماء اليهود؟

{فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عمران : 25].

 

{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) }

 

{ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ } انظر إلى فضل الله -عز وجل- تلك الدعوات التي دعوا الله- عز وجل- فاستجاب لهم وأتى بفاء الترتيب والتعقيب مما يدل على ان إجابة الدعاء منه -عز وجل- لهم إنما هو لم يتأخر والجزاء من جنس العمل والله أكرم من عباده والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً فإنهم لما سارعوا للإيمان لما قال عز وجل-عنهم:

 {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران : 193] مباشرة آمنوا؛ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ مما يدل على ماذا؟ ذكر هنا الاستجابة مما يدل على أن من استجاب لشرع الله فإن الله-عز وجل- يوفيه أجره وأعظِم به من أجر من عند الله -عز وجل- ولذا انظر إلى ما سبق من آيات: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران : 172]

 ففضل الله -عز وجل- واسع ومن ثم فإن على العبد أن يدعو الله-عز وجل- وأن لا يكلّ ولا يمل في دعائه لله -عز وجل- فإن العبد متى ما وفق للدعاء؛ وفق للإجابة {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة : 186] ولذلك عمر -رضي الله عنه- يقول: إني لا أحمل هم الإجابة ولكني أحمل هم الدعاء فإذا وفقت للدعاء وفقتُ للإجابة.

{ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ } انظر قال ربهم لم؟

لأنهم نادوا الله -عز وجل- ودعوا الله وقالوا ربنا خمس مرات فاستجاب لهم ربهم وهذا يقتضي الربوبية الخاصة منه -عز وجل- لعباده المؤمنين ومن تلك الربوبية من أنه ربّى قلوبهم بالإيمان وبالهدى وبالتقى أيضاً هو -عز وجل – ربهم فاستجاب لهم دعاءهم { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي } أي بأني { لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم } ؛ لم يقل أني لا أضيع عملاً وإنما قال: { لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم } فصلت الكلمات من باب اطمئنان هؤلاء وتطمين هؤلاء من أن وعد الله -عز وجل- حق وأنه لا يضيع أجر من أحسن عملا كما قال – عز وجل- في الآيات السابقات التي مرت معنا { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران : 171]  وسبق مراراً -قلت لكم إذا قرأتم السورة فتأملوا في أولها وفي ثناياها وفي آخرها-  قال تعالى: { إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا }

{ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم } ولذا قال في سورة البقرة { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ }

{ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ } منكم يشمل الذكور والإناث ومع ذلك ذكر الذكور والإناث من باب أن ما ذكر مما ذكر من أوصاف لأولئك الذين يذكرون الله قياما وقعودا لا يخص الرجال وإنما كل من كان بتلك الصفات من الرجال والنساء فإنه يدخل في هذا الوصف المحمود ويحصل له هذا الأجر العظيم ولذا قال: { مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ }  ولذلك قال) أو) من باب التنصيص على  أن هذا لا يخص الرجال وإنما من عمل صالحا وجد هذا العمل له يوم القيامة .

{ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } ؛ الذكور والإناث لا يختلفون من حيث أن ألله -عز وجل- خلقهم من نفس واحدة وأيضاً من حيث النصرة، الولاية، الإيمان، إنما يفضل الإنسان  على الجنس الآخر بعمله الصالح وإيمان، ولا شك كما سبق من أن الرجال أفضل من النساء من حيث الجنس قال تعالى: { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ۗ  } لكن فيما يتعلق بالعمل الصالح قد تفوق المرأة ويفوق عدد من النساء عددا من الرجال في قضية الإيمان بالله والعمل الصالح وإن كان الرجال كما جاءت بذلك الأحاديث وتحدثتُ عن ذلك في مواطن عن قوله- صلى الله عليه و آله وسلم- عن النساء إني رأيتكن أكثر أهل النار هناك أحاديث مفصلة لا يتسع المقام لذكره لكن أردت في هذا المقام أن أبين أن الإنسان يفضُل عند الله بالعمل الصالح ولذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات : 13] ولذا قال -عز وجل- في سورة النساء {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا ۖ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء : 32]

{ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا } وهو ما جرى للصحابة رضي الله عنهم ويصدق على أي أناس في أي زمن، فالذين هاجروا تركوا أوطانهم { وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ } من غير رغبة منهم وإنما أخرجوا من أجل أنهم آمنوا بالله- عز وجل-  { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ }

فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا هاجروا وأيضا إخراج ومعلوم أن الإخراج من البلد يعد تعباً ومشقةً على العبد ولذلك قال بعدها: { وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي } أي بشتى أنواع الأذى ومن ذلك ما مر في السورة: { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران : 186] وأيضاً: { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى } فهؤلاء أوذوا في سبيل الله ومع ذلك صبروا واحتسبوا .

{ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا } ؛ قاتلوا في سبيل الله  فجرى ما جرى من أن بعضهم قُتل وهذا يشير إلى ما جرى في غزوة أحد التي ذكرت في هذه السورة ، وذكر هنا الهجرة والإخراج من البلد وما يتعلق بالقتل قال -عز وجل- {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ } ولذا قال العلماء إن إخراج  الإنسان من بلدته هو مساوٍ للقتل، فدل هذا على مشقة إخراج الإنسان من بلده وهذا يدل على أن حب الأوطان فطرت النفوس عليها -ولي حديث مطول في قضية الوطن – ممن غالى فيه وممن جفا عنه  تحدثت عنه في غير هذا الموطن الحديث عن الوطن بين الغلو والتقصير وبين الإفراط والتفريط .

{ لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } ؛ تكفير السيئات وهو زوال المكروه والأذى عنهم وأعظم أذىً إنما يكون في يوم القيامة هو أذى الذنوب لأن الذنوب موصلة للعبد إلى النار.

{ لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } ولذلك أتى بعد ذلك المطلوب { وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } هذا هو المطلوب { ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ } فما فعلوه وما صنعوه عملٌ صالح بسببه بفضل من الله أدخلها الجنة، لكن هذا برحمة من الله-عز وجل- كما قال -صلى الله عليه و آله وسلم- اعلموا أنه لن يدخل أحدٍ منكم الجنة بعمله قالوا : ولا أنت يا رسول الله قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل.

{ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) }

الثواب الحسن الذي هو ما أعده الله-عز وجل- للعبد في آخرته فإنه خير وأبقى للإنسان وهذا يذكر لأن الآيات في سياق هجرة، وأذية، وقتل، وجهاد، هذا يذكر بما جرى في غزوة أحد مبكراً لهم عز وجل  قال تعالى: { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا } لكن قال هنا: الثواب الحسن الذي هو الذي عند الله { وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ } ولذا قال تعالى: { مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ  } ولذا قال عن الربيين المذكورين في هذه السورة لما دعوا الله -عز وجل- وبينها ما جرى لهم إنما هو بسبب ذنوبهم وإسرافهم في أمرهم
{فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } .

{ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196)} [آل عمران-196]

{ لَا يَغُرَّنَّكَ } الخطاب للنبي ولمن يصح له الخطاب من أهل الإيمان ، النبي -صلي الله عليه وآله وسلم- لم يستر  بحال هؤلاء مما متعوا به في البلاد والذهاب والإياب ولذلك؛ لما دخل عليه عمر كما ثبت عنه -صلي الله عليه وآله وسلم- فرأى أن جنبه قد تأثر من الحصير ولم يرَ إلا بعض الجلود وبعض الأشياء، قال يا رسول الله  أنت رسول الله وكسرى وقيصر فيما هم فيه من النعيم فقال -صلى الله عليه وسلم- : أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟

قال تعالى: { لَا يَغُرَّنَّكَ } ؛ لا يصيب الإنسان غرور  وتطلُّع إلى ما في أيدي الكفار ولذا قال تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ} [طه : 131]

قال هنا:{ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ } لا يغرنك هذا الفعل انصبت على التقلب لأنه هو المقصود لأن النفوس البشرية مقبولة على حب المال، وحب أن يكون الإنسان ذاهبا ومسافر ويتقلب في البلاد  وتكون له المتع ولذا قال: { لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ } ؛ انتقالهم في البلدان للتجارة والسياحة وما شابه ذلك؛ ولذلك قال -عز وجل- في أول سورة غافر: { مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ } .

قال: { لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196)}

{مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران : 197]

{ مَتَاعٌ قَلِيلٌ } ؛ ثم يزول وذلك لأن هذه الدنيا مهما طالت فإنها إلى الفناء ولذلك ثبت قوله صلى الله عليه وسلم : “ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع”. في اليم : أي البحر.

{ مَتَاعٌ قَلِيلٌ } ؛ وتأمل في السورة سبحان الله ماذا قال الله عز وجل؟!

{ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران : 185]  أي ما الحياة الدنيا كلها إلا متاع الغرور ولما ذكر في أول السورة مفصلاً لما تهواه النفوس وتحبه: ، {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران :14]؛ كما أن عنده حسن الثواب ، عنده حسن المآب.

{ مَتَاعٌ قَلِيلٌ } ؛ لأنه يزول ولذلك في الآية: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ} [طه : 131] قال زهرة ؛ لأن الزهرة في أولها جميلة، نضرة، رائعة،  بعد حين إذا بها تذبل وتيبس وإذا بها تصفرّ فهذه هي الدنيا، ولذا قال هنا:

{ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } ؛ مصيرهم إلى جهنم .

{ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } ؛ بئس: فعل ذم، المهاد: الفراش كحال الطفل إذا لُفّ في مهاده،  وكذلك هؤلاء لا يأوون إلا إلى النار وبئس المهاد سبحان الله!

قال: { مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } ؛ تزول تلك النعم ولذلك في صحيح مسلم قال صلى اله عليه وسلم :  “يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغةً، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيمٌ قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغةً في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدةٌ قط؟ فيقول: لا، والله ما مر بي بؤسٌ قط، ولا رأيت شدةً قط

أي يغمس غمسة واحدة، يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيمٌ قط؟، هذه وهي غمسة!

{مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}

{لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ} [آل عمران : 198]

{ لَٰكِنِ } : حرف استدراك؛ لما ذكر حال هؤلاء الكفار الذين تقلبوا في البلاد قال: {لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا }، ومر معنا فيما يتعلق بكلمة الأنهار، تجري: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ.. ،ومر معنا في السورة قال هنا: {لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } من هم هؤلاء؟ هؤلاء هم المتقون.

وقال: { وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [133] الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} [آل عمران : 133-134] الآيات التي مرت معنا، في اول السورة { لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ  } هنا ماذا قال؟

{ لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ } ؛ النزل هو ما يعد للضيف حال قدومه .

{ نُزُلًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ } فتقدم لهم النُّزُل ويقدم لهم ما يكرمون به مما ذكر صلى الله عليه وسلم من زيادة كبد الحوت كما قال صلى الله عليه وسلم وسيأتي له حديث إن شاء الله أوسع من ذلك.

{ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ}: الذاكرين الله كثيرا ً ماذا قالوا؟

{ رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران : 193] هنا قال: { وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ}

{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۗ أُولَٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) }

{ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } ؛ هؤلاء صنف انتبه!

ذُكر الأبرار من بين هؤلاء الأبرار -الأبرار لا يحصر فقط  في أمة محمد صلى الله عليه وسلم – بل من كان في الأمم السابقة وصدق النبي صلى الله عليه وسلم وسار حيث سار أتباع محمد صلى الله عليه وسلم يحصلون على هذا الأجر، ولذا ذكر طائفة من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وغير ذلك ممن آمن.

{ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ } ؛ ليس كل علماء أهل الكتاب سوء، للتذكير بأولئك في نفس السورة: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران : 187]

لكن هناك صنف آخر من علماء أهل الكتاب: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ } ؛ أي من القرآن.

{ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ } ؛ من الكتب. { خَاشِعِينَ لِلَّهِ } ؛ وليس لغير الله، ماذا قال -عز وجل- عن أهل الخشوع لما ذكر أهل الكتاب : {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُواْ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)} [البقرة : 45-46]

ومن خشع لله أقبل على الله وخاف من الله و رجا الله عز و جل و أحب الله:  { خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا } ؛ ليسوا كأولئك الذين مر ذكرهم فبئس ما يشترون.

{ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ } : أشير باسم الإشارة الذي يدل على البعد لبعد مكانتهم وعلو منزلتهم.

{ أُولَٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } ؛ وأي أجر أعظم مما يكون عند الله -عز وجل – إنه أجر عظيم.

{ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } ؛ ومرت معنا هذه الكلمة سريع الحساب؛ فمهما طالت أيام الدنيا فإن الإنسان سيقابل الله و سيحاسب إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحساب -عز وجل – في يوم القيامة لكن ويحتاج إِلى تذكر وإلى ننظر فهو -عزوجل – عالم بكل شيء و محيط بكل شيء .

{ أُولَٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }؛ ومرت معنا كما سلف في سورة البقرة عند قوله تعالى: {أُولَٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا ۚ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة : 202]

ختام السورة نداء لأهل الإيمان؛ لأن تلك السورة بها العبر بها المواعظ التي بها يزداد الإيمان والتي بها من الأوامر الشرعية ومن الأوامر الكونية وبها من المحن والبلايا مما يجعل أهل الإيمان في منزلة صبر ومصابرة، وتقوى ، وثبات حتي يحصلوا على الفلاح ؛ ولذا ماذا قال ؟

قال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)}

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا }؛ اصبروا على طاعة الله ، اصبروا عن معصية الله فلا تقعوا فيها، اصبروا على أقدار الله المؤلمة { وَصَابِرُوا } لأن قوله وصابروا :أي يصابر غيره ما جرى فِي غزوة أحد، ومن صبر وصابر وصل إلى توفيق الله – عز وجل- ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين : “ومن يتصبر يصبره الله “

{ اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } ؛ إذن صبر ، ومصابرة، ومرابطة.

{ وَرَابِطُوا } : يشمل – وهذا هو الصحيح – مرابطة المسلم في الثغور عند حدود بلدان المسلمين حتى لا يأتي العدو؛ ولذلك أتت أحاديث كثيرة منها: قول البني صلى الله عليه وسلم “رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها” إلى غير ذلك من الأحاديث ، ولي خطبة بينت فيها فضل المرابطة في سبيل الله -عز و جل-  { وَرَابِطُوا } ، وأيضاً تشمل المرابطة في العبادة كالصلاة؛ ولذلك النبي ﷺ كما ثبت عنه قال: ألا أنبئكم بما يرفع الله به الدرجات ويمح به السيئات قالوا بلى يا رسول الله قال: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة -هذا هو الشاهد- فذلكم الرباط، ابن القيم – رحمة الله – ذكر لطيفةً قال: كما أن المرابطة تكون عند الثغور من أجل أن لا يأتي أعداء أهل الإسلام لأهل الإسلام كذلك هناك مرابطة، تخص الإنسان مع نفسه فيقول : يرابط على قلبه حتى لا يلج العدو وهو الشيطان إلى قلبه حتى لا يفسد قلبه ؛ فليكن على اهتمام بقلبه ومعاهدة لقلبه.

{ وَرَابِطُوا } قال بعدها : { وَاتَّقُوا اللَّهَ } لم؟

لأن ما مضى أفعال وأعمال حسنة، ولا شك أن تلك الأعمال من التقوى ، لكن، أمرهم بجميع ما يتعلق بالتقوى بفعل أوامره -عزوجل- ومنه ما سبق ، واجتناب نواهيه .

{ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ؛ تلك الأوصاف توصل العبد بفضل من الله – عز و جل -إلى الفلاح، والفلاح : هو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب.

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }

سبحان الله!

 ما أعظم كتاب الله!

 فهذه الآية في ختام هذه السورة تجعل العبد إذا قرأ هذه السورة أن يتذكر كل ما جاء فيها ، وبهذا ينتهي بحمد من الله -عز وجل- تفسير سورة آل عمران .