بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة الأنفال من الآية 36 إلى الآية 54
للشيخ زيد البحري حفظه الله
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين ، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين ، أما بعد :
فكنا قد توقفنا عند قول الله ﷻ : ﴿ إِنَّ الَّذينَ كَفَروا يُنفِقونَ أَموالَهُم لِيَصُدّوا عَن سَبيلِ اللَّهِ ﴾ هذا فيما يتعلق بمن ؟ بما جرى من الكفار إما في غزوة بدر وإما في غزوة أحد كما قال بعض المفسرين ، وعلى كل حال فالآية عامة في حق كل كافر أو في حق كل شخصٍ أراد أن يصد عن دين الله عن طريق بذل الأموال ﴿ إِنَّ الَّذينَ كَفَروا يُنفِقونَ أَموالَهُم لِيَصُدّوا ﴾ أي : من أجل أن يصدوا أو أن عاقبة فعلهم هو الصدود عن سبيل الله ﴿ لِيَصُدّوا عَن سَبيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقونَها ﴾ أي تلك الأموال ﴿ ثُمَّ تَكونُ عَلَيهِم حَسرَةً ﴾ وذلك يكون ألمًا في قلوبهم لأنهم لم يحققوا ما أرادوه ﴿ ثُمَّ تَكونُ عَلَيهِم حَسرَةً ثُمَّ يُغلَبونَ ﴾ أي ينهزمون (ثم يُغلبون) ﴿ وَالَّذينَ كَفَروا إِلى جَهَنَّمَ يُحشَرونَ ﴾ فإن هذا هو العقاب لهم يوم القيامة كما أن الحسرة والهزيمة تكون لهم في الدنيا
﴿ لِيَميزَ اللَّهُ الخَبيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجعَلَ الخَبيثَ بَعضَهُ عَلى بَعضٍ ﴾ ﴿ لِيَميزَ اللَّهُ الخَبيثَ
مِنَ الطَّيِّبِ ﴾ : هذا متعلق بما مضى من أن هؤلاء هُزِموا و مصيرهم إلى النار وذلك ؛ ﴿ لِيَميزَ اللَّهُ الخَبيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾ ولا شك أن أهل الإيمان أهل طيب ، وأهل الكفر أهل خبث ﴿ لِيَميزَ اللَّهُ الخَبيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجعَلَ الخَبيثَ بَعضَهُ عَلى بَعضٍ فَيَركُمَهُ جَميعًا فَيَجعَلَهُ في جَهَنَّمَ ﴾ بمعنى أنه يجمع هؤلاء الكفار وهم الخبثاء ، يجمع هؤلاء الذين هم خبثاء والجمع وهو كما قال ﷻ : ﴿ وَيَجعَلَ الخَبيثَ بَعضَهُ عَلى بَعضٍ فَيَركُمَهُ ﴾ والمتراكم هو الشيء الذي يكون بعضه على بعض ﴿ وَيَجعَلَ الخَبيثَ بَعضَهُ عَلى بَعضٍ فَيَركُمَهُ جَميعًا فَيَجعَلَهُ في جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الخاسِرونَ ﴾
﴿ قُل لِلَّذينَ كَفَروا ﴾ أي بعدما ذكر ﷻ التهديد لهؤلاء من العقوبة في الدنيا وفي الآخرة ، هنا أمر الله ﷻ نبيه ﷺ أن يحث هؤلاء الكفار على الإسلام ﴿ قُل لِلَّذينَ كَفَروا إِن يَنتَهوا يُغفَر لَهُم ما قَد سَلَفَ ﴾ إن ينتهوا عن هذا الكفر يغفر لهم ما قد سلف وهذا يدل على أن الكافر متى ما أسلم فإن ذنوبه كلها تُكَفَّر عنه ، فقال هنا ﴿ قُل لِلَّذينَ كَفَروا إِن يَنتَهوا يُغفَر لَهُم ما قَد سَلَفَ ﴾
﴿ وَإِن يَعودوا ﴾ يعني إلى الكفر و إلى محاربة أهل الإسلام ﴿ وَإِن يَعودوا فَقَد مَضَت ﴾ يعني خَلَتْ ﴿ سُنَّتُ الأَوَّلينَ ﴾ عقوبة الله ﷻ التي أنزلها بالأولين ممن كفر وحارب دينه ، فقال ﷻ هنا : ﴿ فَقَد مَضَت سُنَّتُ الأَوَّلينَ ﴾ .
﴿ وَقاتِلوهُم حَتّى لا تَكونَ فِتنَةٌ ﴾ هنا أُمِر أهل الإسلام بمقاتلة هؤلاء الكفار ، من أجل ماذا ؟ من أجل أن لا تكون فتنة وهو انتشار ماذا ؟ وهو انتشار الشرك بالله ﷻ ، وحتى لا يقف الظَّلَمَةُ على طريق هذا الدين وأيضًا من باب ماذا ؟ من باب أن يكُفَّ هؤلاء شرهم عن أهل الإسلام
-1-
ولذا قال هنا : ﴿ وَقاتِلوهُم حَتّى لا تَكونَ فِتنَةٌ ﴾ أي حتى لا يكون شرك بالله ﷻ في الأرض ولذا ابن عمر رضي الله عنهما لما وقع ما وقع في عهد ابن الزبير وما جرى من الفتن ، قيل له : ألا تقاتل و تشارك في القتال كما قال ﷻ : ﴿ وَإِن طائِفَتانِ مِنَ المُؤمِنينَ اقتَتَلوا فَأَصلِحوا بَينَهُما ﴾ فقال : والله لأن أُعيَّر بهذه الآية خير لي من أن أُعيَّر بقوله تعالى :
﴿ وَمَن يَقتُل مُؤمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِدًا فيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذابًا عَظيمًا ﴾ وقال رضي الله عنه : قد قاتلنا على عهد رسول الله ﷺ ، يوم أن كانت هناك فتنة ، فكان الرجل يُفتن في دينه من قبل المشركين حتى يصدوه عن دين الله ﷻ فكنا نقاتلهم من أجل ذلك ، وحتى علت كلمة الله ، أما أنتم فإنكم إنما تقاتلون من أجل المُلْك ومن أجل أن تكون فتنة ومن أجل أن لا يكون الدين لله ﷻ .
فقال هنا : ﴿وَقاتِلوهُم ﴾ مَن ؟ أي المشركين فدل هذا على أن هؤلاء المشركين يُقاتلون من أجل إعلاء كلمة الله ﷻ وليس حبًا في سفك الدماء ، وليس حبًا في زهْقِ الأرواح كلا ، لو كان الأمر كذلك لما أُخِذَت الجزية من الكفار مع بقائهم على دينهم ولذا قال :
﴿ وَقاتِلوهُم حَتّى لا تَكونَ فِتنَةٌ وَيَكونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعمَلونَ بَصيرٌ ﴾ فإن انتهوا عما هم عليه من الكفر فإن الله مُطَّلِعٌ على أحوالهم ، وعلى أعمالهم ، وعلى قلوبهم .
وهذه الجملة تحمل التهديد لهؤلاء إن لم يكن إيمانهم وانتهاؤهم إن لم يكن نابعًا من صدق قال : ﴿ فَإِنِ انتَهَوا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعمَلونَ بَصيرٌ﴾
﴿ وَإِن تَوَلَّوا ﴾ أي أعرضوا ﴿ فَاعلَموا أَنَّ اللَّهَ مَولاكُم ﴾ وإذا كان مولاهم – وهنا الولاية الخاصة وهي ولاية النصرة والتأييد والحفظ – فإنه ﷻ سيحفظكم من هؤلاء الأعداء ﴿ وَإِن تَوَلَّوا فَاعلَموا أَنَّ اللَّهَ مَولاكُم ﴾ ثم ختم الآية بالثناء عليه سبحانه وتعالى : ﴿ نِعمَ المَولى وَنِعمَ النَّصيرُ ﴾ فنِعْمَ المولى المتولي لأمور عباده المؤمنين من حيث نُصرتهم وحفظهم
ولذا أَكَّدَ ذلك بقوله : ﴿ وَنِعمَ النَّصيرُ ﴾ لأن المجال مجال ماذا ؟ مجال نُصرَة ، لأن هناك فريقين : فريق من أهل الخير وفريق من أهل الشر والكفر ﴿ وَإِن تَوَلَّوا فَاعلَموا أَنَّ اللَّهَ مَولاكُم نِعمَ المَولى وَنِعمَ النَّصيرُ ﴾
﴿ وَاعلَموا أَنَّما غَنِمتُم مِن شَيءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ﴾ لما ذَكَر ﷻ في أول السورة ﴿ يَسأَلونَكَ عَنِ الأَنفالِ ﴾ هنا بيَّن هذه الأنفال كيف تُقسَّم ، وليست هذه الآية ناسخة لما في أول السورة ؛ بل هي موضحة ومبينة ، فإنهم لما سألوا عن الأنفال وهي الغنائم في أول السورة ؛ بيَّن هنا الحكم فيما يتعلق بقِسمَتِها قال : ﴿ وَاعلَموا أَنَّما غَنِمتُم مِن شَيءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسولِ وَلِذِي القُربى ﴾ الآية ، فما غَنِمَه المسلمون فإنه يُقَسَّم خمسة أقسام ؛ أربعة أقسام ؛ يعني أربعة أخماس تكون للمقاتلين ، للراجل : يعني من يمشي على قدمه ؛ له سهم ، ولمن هو يركب على الخيل : للفارس ؛ له ثلاثة أسهم ، أما الخُمْس المُتبقي من ذلك فإنه يكون تقسيمه كما ذَكَر ﷻ هنا في هذه الآية ﴿ وَاعلَموا أَنَّما غَنِمتُم مِن شَيءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسولِ ﴾ فذكر الله ﷻ نفسه هنا من باب ماذا ؟
-2-
من باب أن يُخْلِص المؤمنون في عبادتهم وفي جهادهم ومن أجل التبرك ومن أجل التعظيم .
وإلا فليس له سهم ﷻ لذلك يُقَسَّم ماهنا ، وهو الخُمُس على خمسة أقسام ، خلافًا لمن قال يُقَسَّم ستة أقسام : سهمٌ يكون لله ﷻ ، سهم كما قال يكون لله ﷻ لكن الصحيح أنه يُقَسَّم خمسة أقسام ؛ وإنما ذكر الله ﷻ نفسه للعلة التي ذكرناها .
﴿ وَاعلَموا أَنَّما غَنِمتُم مِن شَيءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسولِ ﴾ أي : للنبي ﷺ وبعد وفاته ؟ يكون لمن ولي الأمر من بعده أو أنه يكون في مصالح المسلمين – خلافٌ بين أهل العلم – ﴿ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسولِ وَلِذِي القُربى ﴾ وهم قرابة النبي ﷺ هل هم قريش ؟ أو وبنو هاشم ؟ أو بنو هاشم وبنو المطلب ؟ ثلاثة أقوال ، والصحيح كما دلت الآثار : بنو هاشم وبنو المطلب قال هنا : ﴿ وَلِذِي القُربى ﴾ ذَكَر اللام مرة أخرى من باب التأكيد على أن هؤلاء القربى من النبي ﷺ لا يُشاركونه ، فله سهمه ولهم سهمهم ﴿ وَلِذِي القُربى وَاليَتامى ﴾ وهو من مات أبوه قبل أن يبلغ ﴿ وَاليَتامى وَالمَساكينِ ﴾ أي : الفقراء ﴿ وَابنِ السَّبيلِ ﴾ وهو المسافر ﴿ إِن كُنتُم آمَنتُم بِاللَّهِ وَما أَنزَلنا عَلى عَبدِنا يَومَ الفُرقانِ يَومَ التَقَى الجَمعانِ ﴾ فاعملوا بهذا الحكم ، ونفِّذوا هذا الأمر ، قال : ﴿ إِن كُنتُم آمَنتُم بِاللَّهِ ﴾ وهو حث لهم على ماذا ؟ على أن يعملوا بهذه القِسْمَة ، وبهذا الحكم ﴿ وَما أَنزَلنا عَلى عَبدِنا يَومَ الفُرقانِ ﴾ وما أنزلنا على عبدنا : وهو النبي محمد ﷺ ﴿ وَما أَنزَلنا عَلى عَبدِنا يَومَ الفُرقانِ ﴾ وما أنزلنا على عبدنا : أي يتضمن نزول القرآن ، ويتضمن نزول الملائكة في غزوة بدر ﴿ وَما أَنزَلنا عَلى عَبدِنا يَومَ الفُرقانِ ﴾ وهو يوم بدر ؛ لأن به فرَّق الله ﷻ بين الحق وبين الباطل ﴿ يَومَ الفُرقانِ يَومَ التَقَى الجَمعانِ ﴾ وهو جمع أهل الإسلام وجمع الكفار ، وقد أطلق الله ﷻ الجمعين على ماذا ؟ على ماجرى في غزوة أحد كما مرَّ معنا : ﴿ إِنَّ الَّذينَ تَوَلَّوا مِنكُم يَومَ التَقَى الجَمعانِ إِنَّمَا استَزَلَّهُمُ الشَّيطانُ بِبَعضِ ما كَسَبوا ﴾
﴿ وَما أَنزَلنا عَلى عَبدِنا يَومَ الفُرقانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ ﴾ َفهو قدير على كل شئ ، ومن ذلك هو قدير على أن يهلك هؤلاء من غير قتال ، لكنه ﷻ شرع القتال لِحِكَمٍ أرادها ﷻ ﴿ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ ﴾ َ
﴿ إِذ أَنتُم بِالعُدوَةِ الدُّنيا ﴾ هنا ذكْرٌ لحال الصحابة رضي الله عنهم وحال هؤلاء الكفار وماهي مواقفهم و أماكنهم من أجل – والعلم عند الله – أن يُبَيِّن من أن أهل الإسلام ؛ من أنهم في أرض ذات رمل ، بينما الكفار ليسوا كذلك ، ومن كان في أرضٍ ذات رمل فإن السير يكون عليها صعبًا ولذلك لمَّا أنزل الله ﷻ المطر كما قال فيما مضى ﴿ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقدامَ ﴾ فكان هنا بيان من أن أهل الإسلام كانوا في أماكن – مع قلة عددهم – مع ذلك كانوا في مكان به رمل ولذلك نصرهم الله ﷻ ولذا ماذا قال تعالى ؟ ﴿ وَلَقَد نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدرٍ وَأَنتُم أَذِلَّةٌ ﴾ فقال ﷻ هنا : ﴿ إِذ أَنتُم بِالعُدوَةِ الدُّنيا ﴾ يعني بالجانب الأدنى يعني الأقرب إلى المدينة ﴿ إِذ أَنتُم بِالعُدوَةِ الدُّنيا وَهُم بِالعُدوَةِ ِالقُصوى ﴾ أي في الجانب الذي هو بعيد عن المدينة ﴿ إِذ أَنتُم بِالعُدوَةِ الدُّنيا وَهُم بِالعُدوَةِ ِالقُصوى وَالرَّكبُ أَسفَلَ مِنكُم ﴾ وهي التجارة التي عليها من ؟ أبو سفيان ومن معه كانوا بالساحل ، نجو بقافلتهم فطرقوا ماذا ؟ الساحل قال : ﴿ وَالرَّكبُ أَسفَلَ مِنكُم ﴾ وهذا يدل على ماذا ؟ يدل على أن الركب لما كان أسفل ؛ هنا سيكون عند قريش ، ستكون عندهم حمِيَّة وحرص على أن يُدافعوا عن ماذا ؟
-3-
عن تجارتهم ومع هذه الأسباب الظاهرة التي بها قوة للكفار إلا أن الله ﷻ نصرهم قال هنا : ﴿ وَالرَّكبُ أَسفَلَ مِنكُم وَلَو تَواعَدتُم لَاختَلَفتُم فِي الميعادِ ﴾ ولو تواعدتم أنتم وهم لاختلفتم في الميعاد ، ولكن قدَّر الله ذلك لأمر ﴿ وَلكِن لِيَقضِيَ اللَّهُ أَمرًا كانَ مَفعولًا ﴾ أي قدره ﷻ
وسيكون لامحالة ﴿ لِيَهلِكَ مَن هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ﴾ أي : ليَمُت من مات عن بينة واضحة من أن الله ﷻ نصر أهل الحق ﴿ لِيَهلِكَ مَن هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحيى مَن حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ﴾ وأيضًا يشمل هذه الحياة الحسية والموت الحسي ، أيضًا كما قال بعض العلماء ، يدخل هذا أيضًا ﴿ لِيَهلِكَ مَن هَلَكَ ﴾ أي : ليكفر من كفر ؛ لأن الكفر هلاك ﴿ لِيَهلِكَ مَن هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحيى ﴾ أي : بالإيمان
﴿ مَن حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ﴾ ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَميعٌ عَليمٌ ﴾ فهو سميع ﷻ لأقوالكم وأقوالهم ، وهو عليم بحالكم وبحالهم ، وهو عليم بمن يستحق الهداية فيهديه ، ومن يستحق الضلال فيضله ﷻ بحكمة منه وعدل ﴿ وَلكِن لِيَقضِيَ اللَّهُ أَمرًا كانَ مَفعولًا لِيَهلِكَ مَن هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحيى مَن حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ و إِنَّ اللَّهَ لَسَميعٌ عَليمٌ ﴾
﴿ إِذ يُريكَهُمُ اللَّهُ في مَنامِكَ قَليلًا ﴾ هذا من لطف الله ﷻ إذ أنه أرى النبي ﷺ هؤلاء في المنام ، من أجل أن يكون عونًا له بأمر الله ﷻ على مواجهة الأعداء ﴿إِذ يُريكَهُمُ اللَّهُ في مَنامِكَ قَليلًا وَلَو أَراكَهُم كَثيرًا ﴾ يعني لو أراكهم كثيرًا فأخبرت صحابتك ﴿ وَلَو أَراكَهُم كَثيرًا لَفَشِلتُم ﴾ حصل الفشل والضعف والجبن ﴿ وَلَتَنازَعتُم فِي الأَمرِ ﴾ أي حصل منكم نزاع في أمر قتال هؤلاء
﴿ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ ﴾ أي سلمكم من التنازع ومن الفشل ﴿ إِنَّهُ عَليمٌ بِذاتِ الصُّدورِ ﴾ فهو عليم بحقيقة مايكون في صدوركم وفي صدور غيركم ، ثم قال بعدها : ﴿ وَإِذ يُريكُموهُم إِذِ التَقَيتُم في أَعيُنِكُم قَليلًا ﴾ قال بعض المفسرين : المقصود هنا من العين هي رؤيا المنام وإنهم لم يروهم حِسًّا لكن دلالة الآية السابقة تدل على أنها رؤيا منامية ، وهنا رؤية حسية ﴿وَإِذ يُريكُموهُم إِذِ التَقَيتُم في أَعيُنِكُم قَليلًا وَيُقَلِّلُكُم في أَعيُنِهِم لِيَقضِيَ اللَّهُ أَمرًا كانَ مَفعولًا ﴾ بمعنى أنه يقللكم في أعينهم من أجل أن يُقدِموا عليكم من غير مبالاة بكم ، وأيضًا أنتم تُقدِمون عليهم ، فلما حصل ما حصل واجتمع الفريقان ، هنا ظَهَرَت كثرة من ؟ كثرة الصحابة ، وبيَّنا أقوال العلماء في ذلك عند قوله ﷻ في سورة آل عمران ﴿ قَد كانَ لَكُم آيَةٌ في فِئَتَينِ التَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ في سَبيلِ اللَّهِ وَأُخرى كافِرَةٌ يَرَونَهُم مِثلَيهِم رَأيَ العَينِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصرِهِ مَن يَشاءُ ﴾
فقال هنا : ﴿ لِيَقضِيَ اللَّهُ أَمرًا كانَ مَفعولًا ﴾ كرر : ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا لأن الأول ؛ ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا ؛ من أجل التقاؤكم بهؤلاء ، وهنا ما المقصود من قوله تعالى : ﴿ لِيَقضِيَ اللَّهُ أَمرًا كانَ مَفعولًا ﴾ وذلك نُصْرة ماذا ؟ نُصرتكم وهزيمة هؤلاء ﴿ لِيَقضِيَ اللَّهُ أَمرًا كانَ مَفعولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرجَعُ الأُمورُ ﴾ فالأمور كلها في الدنيا وفي الآخرة ترجع إليه ، إذًا قضية النصر والهزيمة هي من عند الله ﷻ ، أيضًا ﴿ وَإِلَى اللَّهِ تُرجَعُ الأُمورُ ﴾ أيضًا الناس كلهم يعودون إلى الله ﷻ ومن ثم فإن هذا العقاب الذي حصل للكفار في هذه الدنيا ، فإن لهم عقابًا أعظم يوم القيامة .
-4-
﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِذا لَقيتُم فِئَةً ) هنا أَمَر أهل الإيمان حينما يلتقون بالكفار فإنهم يثبتون ؛ ولذا ماذا قال تعالى في أول السورة ؟ ﴿ يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِذا لَقيتُمُ الَّذينَ كَفَروا زَحفًا فَلا تُوَلّوهُمُ الأَدبارَ ﴾ لكن هنا ذَكَر أمرًا ، هناك لما قال ﴿ فَلا تُوَلّوهُمُ الأَدبارَ ﴾ بيَّن حكم مَن يتولى مِن الزحف ، هنا أمرهم بأمور إذا التقوا بهؤلاء الكفار ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِذا لَقيتُم فِئَةً ﴾ أي جماعة و تأمل هنا ؛ قال هناك ﴿ يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِذا لَقيتُمُ الَّذينَ كَفَروا زَحفًا ﴾ أي من حيث العدد الكثير ، هنا لو لقيتم أي فئة ولو كانت قليلة من هؤلاء الكفار فعليكم بهذه الأمور المذكورة في هذه الآية حتى يتم لكم النصر : ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِذا لَقيتُم فِئَةً ﴾ أولًا : ﴿ فَاثبُتوا ﴾ ثانيًا : ﴿ وَاذكُرُوا اللَّهَ كَثيرًا لَعَلَّكُم تُفلِحونَ ﴾ لأن كثرة الذكر تعين على المشاقّ ، وعلى المصاعب ، ثم بيان ثمار هذه الأمور ﴿ لَعَلَّكُم تُفلِحونَ ﴾ وهو حصول المطلوب وزوال المكروه .
ثالثًا : ﴿ وَأَطيعُوا اللَّهَ وَرَسولَهُ ﴾ في جميع الأمور ﴿ وَلا تَنازَعوا ﴾ هذا هو الرابع ﴿ وَلا تَنازَعوا فَتَفشَلوا ﴾ أي إن حصل تنازع واختلاف بينكم ؛ أدى ذلك إلى الفشل وإلى الضعف وإلى الجبن ، قال : ﴿ وَلا تَنازَعوا فَتَفشَلوا وَتَذهَبَ ريحُكُم ﴾ أي قوتكم ويذهب النصر منكم ، ( تذهب ريحكم ) هذا هو الخامس ﴿ وَاصبِروا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصّابِرينَ ﴾ إذًا معيته ﷻ هنا مع الصابرين تقتضي
ماذا ؟ الحفظ والتأييد والنصرة وما شابه ذلك من أنواع ماذا ؟ من أنواع حفظه ﷻ قال هنا : ﴿ وَاصبِروا ﴾ لأن الصبر يُحتاج فيه إلى تأكيد ؛ لأن الإنسان ضعيف ، لكن ذَكَر هنا : ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصّابِرينَ ﴾ من باب تقوية المسلم على الثبات ، وعلى الصبر ، قال : ﴿ وَاصبِروا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصّابِرينَ ﴾
﴿ وَلا تَكونوا كَالَّذينَ خَرَجوا مِن دِيارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النّاسِ ﴾ لما أمرهم بتلك الآداب وبتلك الأمور حال مقابلة الأعداء هنا بين لهم ماذا ؟ ما يحذرون منه وهو مشابهة الكفار ﴿ وَلا تَكونوا كَالَّذينَ خَرَجوا مِن دِيارِهِم ﴾ وهم كفار قريش وعلى رأسهم أبو جهل ، ولذا لما نجت القافلة وأخبرهم أبو سفيان بأن يعودوا ، وأصرَّ عليهم أبو سفيان أن يعودوا ، لكنه رفض قال : لا حتى نأتي بدرًا وتغني لنا القيان ونشرب الخمور حتى يعرف الناس قدرنا ، فتكون لنا مهابة ، ولكن ما الذي جرى ؟ كما قال بعض المفسرين : سُقوا بدل الخمور كؤوس المنايا ، فقال ﷻ ﴿ وَلا تَكونوا كَالَّذينَ خَرَجوا مِن دِيارِهِم بَطَرًا ﴾ أي غرورًا وتكبرًا ﴿ بَطَرًا وَرِئَاءَ النّاسِ ﴾ من أجل مراءاة الناس من أنهم أصحاب قوة ﴿ وَرِئَاءَ النّاسِ وَيَصُدّونَ عَن سَبيلِ اللَّهِ ﴾ هؤلاء بفعلهم يصدون عن سبيل الله ، وأتى بالفعل المضارع لأنه يدل على استمرارهم في صدود الناس عن دين الله ﴿ وَيَصُدّونَ عَن سَبيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعمَلونَ مُحيطٌ ﴾ فهو ﷻ محيط بكل أعمالهم ، ومن ثم فإنه سيعاقبهم الله ﷻ بعدله وهو محيط بهم ، وسينصر أولياءه ﴿ وَاللَّهُ بِما يَعمَلونَ مُحيطٌ ﴾
﴿ وَإِذ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيطانُ أَعمالَهُم ﴾ أي تلك الأعمال التي جرت منهم ، ومن ذلك خروجهم إلى بدر ، هذا من تزيين الشيطان ﴿ وَإِذ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيطانُ أَعمالَهُم وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ ﴾ هذا أيضًا نوع من أنواع تزيينه لهم ﴿ وَإِذ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيطانُ أَعمالَهُم وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ اليَومَ مِنَ النّاسِ ﴾ أي لا أحد يغلبكم اليوم من الناس ؛ لأنهم خافوا من بني كِنانة ، لأنه كان بين بني قريش وبين كنانة ؛ بينهم ما بينهم من الشحناء ، فأتاهم الشيطان على صورة سُراقة بن مالك الكناني وقال : إِنّي جارٌ لَكُم : يعني حافظ لكم و سأنصركم ولن يأتي قومي إليكم
-5-
﴿ لا غالِبَ لَكُمُ اليَومَ مِنَ النّاسِ وَإِنّي جارٌ لَكُم ﴾ و هنا يدل على أن الشيطان أتى حسيًا على صورة سُراقة ، بعض المفسرين قال : إنما هو لم يأتِ وإنما هذا هو وسوسة من الشيطان ، ولذلك الأول هو الأظهر كما رجح ذلك بعض المحققين من أهل التفسير ، قال هنا : ﴿ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ اليَومَ مِنَ النّاسِ وَإِنّي جارٌ لَكُم فَلَمّا تَراءَتِ الفِئَتانِ ﴾ أي التقتا وأصبحت كل طائفة ترى الأخرى ﴿ فَلَمّا تَراءَتِ الفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيهِ ﴾ أي رجع على عقبيه أي على مؤخرة قدميه وهذا يدل على أنه حِسّي لكن من يقول هو وسوسة قال : فإن قوله ﷻ ﴿ نَكَصَ عَلى عَقِبَيهِ ﴾ المراد من ذلك أن وسوسته بطلت واضمحلت ﴿ نَكَصَ عَلى عَقِبَيهِ وَقالَ إِنّي بَريءٌ مِنكُم إِنّي أَرى ما لا تَرَونَ ﴾ لأنه رأى الملائكة ﴿ إِنّي أَرى ما لا تَرَونَ ﴾ ولذا هذا يدل على أن الشيطان أتى حسيًا ، فقال ﷻ هنا عن هذا الشيطان : ﴿ إِنّي بَريءٌ مِنكُم إِنّي أَرى ما لا تَرَونَ ﴾ وأيضًا يؤكد ذلك من أن الشيطان يتولى عن أولياءه ولذا ماذا قال ﷻ ؟ ﴿ كَمَثَلِ الشَّيطانِ إِذ قالَ لِلإِنسانِ اكفُر فَلَمّا كَفَرَ قالَ إِنّي بَريءٌ مِنكَ إِنّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ العالَمينَ ﴾ قال : ﴿ إِنّي أَرى ما لا تَرَونَ إِنّي أَخافُ اللَّهَ ﴾ وكَذَب في ذلك ؛ و كذب من ناحية الخوف الذي يؤدي بالإنسان إلى العمل الذي به يتقرب إلى الله وإنما المقصود هنا : إني أخاف الله : أي إني أخشى عقاب الله ﷻ وعذابه ﴿ إِنّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَديدُ العِقابِ ﴾ يُحتمل أن هذا من جملة قول ما ذكره الشيطان يُخبر أن الله شديد العقاب ، ومحتمل أن هذا استئناف من الله ﷻ مخبرًا من أنه أخبر من أنه شديد العقاب ﴿ وَاللَّهُ شَديدُ العِقابِ ﴾ لمن عصاه .
﴿ إِذ يَقولُ المُنافِقونَ وَالَّذينَ في قُلوبِهِم مَرَضٌ ﴾ المنافقون معروفون وهم : الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر ، أما من في قلبه مرض : هو من أسلم ولكن إيمانه ضعيف ﴿ إِذ يَقولُ المُنافِقونَ وَالَّذينَ في قُلوبِهِم مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ ﴾ أي خدع هؤلاء دينهم ، بمعنى أن المنافقين ومن به مرض يقول : كيف لهؤلاء مع قلة عددهم يُقابلون هذا العدد الكثير ؟ ما أقحموا أنفسهم في هذا الأمر إلا لأنهم مغترون بدينهم .
فقال ﷻ ﴿ وَمَن يَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَكيمٌ ﴾ هذا يدل على ماذا ؟ يدل على أن مِن أعْظَمِ ما يتوكل العبد على ربه ﷻ ؛ أن يتوكل عليه فيما يتعلق بدينه ، فيما يتعلق بنصرة الله ﷻ له من الأعداء – من أعداء الدين – أيضًا يتضمن ماذا ؟ نصرة العلماء الربانيين الذين يُحاربون أهل البدع وأهل الأهواء بالعلم الشرعي فإن النصر لهم إذا توكلوا على الله ﷻ
ولذا قال ﷻ : ﴿ وَمَن يَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَكيمٌ ﴾ فهو الغالب القوي الذي لا يُنال
بسوء ، و هو ناصرٌ أولياءه ، وهو مقوي أولياءه و ممدهم بالقوة ، حكيم : يضع الأمور في مواضعها اللائقة بها ، ومن ذلك أنه ﷻ جعل هؤلاء مع قلة عددهم ، جعلهم هم أهل الكلمة العليا ولهم النصر ﴿ وَمَن يَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَكيمٌ ﴾.
﴿ وَلَو تَرى إِذ يَتَوَفَّى الَّذينَ كَفَرُوا ﴾ وهذه الآية أتت بعد غزوة بدر ، لأنه ﷺ لما قُتل صناديد قريش ورماهم في بئر ماذا ؟ بئر بدر ، فقال ﷻ مبينًا حال هؤلاء الكفار والآية عامة لكل كافر
-6-
ويدخل في ذلك من مات في هذه الغزوة فقال ﷻ : ﴿وَلَو تَرى إِذ يَتَوَفَّى الَّذينَ كَفَرُو المَلائِكَةُ ﴾ أي الملائكة يتوفون هؤلاء بأمر الله ﷻ ﴿ وَلَو تَرى إِذ يَتَوَفَّى الَّذينَ كَفَرُو المَلائِكَةُ يَضرِبونَ وُجوهَهُم وَأَدبارَهُم ﴾ بمعنى أن هؤلاء الملائكة يعاقبون هؤلاء الكفار عند موتهم وهذا شامل لكل كافر ، سواءً مات في حرب أو في غير حرب ﴿ وَلَو تَرى إِذ يَتَوَفَّى الَّذينَ كَفَرُو المَلائِكَةُ يَضرِبونَ وُجوهَهُم وَأَدبارَهُم ﴾ ذكر الوجوه لأنها أشرف الأعضاء ، وذكر الأدبار لأن الإنسان يستاء من أن يُذكر دُبُرَه قولًا ، فكيف إذا ضُرِب ﴿ يَضرِبونَ وُجوهَهُم وَأَدبارَهُم وَذوقوا ﴾ أي ويقولون لهم : ﴿ وَذوقوا عَذابَ الحَريقِ ﴾ العذاب المحرق ، وهنا ( لو ) شرطية ولم يذكر الجواب من أجل تعظيم هذا الأمر ، أي : ﴿ وَلَو تَرى إِذ يَتَوَفَّى الَّذينَ كَفَرُو المَلائِكَةُ ﴾ لرأيت أمرًا عظيمًا ﴿ وَذوقوا عَذابَ الحَريقِ ﴾
﴿ ذلِكَ ﴾ أي ذلك التعذيب ؛ ولذلك مرَّ معنا في سورة الأنعام ، الملائكة يقولون كما قال الله ﷻ ﴿ أَخرِجوا أَنفُسَكُمُ اليَومَ تُجزَونَ عَذابَ الهونِ بِما كُنتُم تَقولونَ عَلَى اللَّهِ غَيرَ الحَقِّ وَكُنتُم عَن آياتِهِ تَستَكبِرونَ ﴾ ﴿ ذلِكَ ﴾ أي هذا التعذيب وهذا الضرب ﴿ ذلِكَ بِما قَدَّمَت أَيديكُم ﴾ أي بسبب ﴿ بِما قَدَّمَت أَيديكُم ﴾ أي لم يكن ظلمًا من الله وإنما هو عدل من الله ولذا ماذا قال بعدها ؟ ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ لَيسَ بِظَلّامٍ لِلعَبيدِ ﴾ لكمال عدله ﷻ ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ لَيسَ بِظَلّامٍ لِلعَبيدِ ﴾
﴿ كَدَأبِ آلِ فِرعَونَ ﴾ أي حال وعادة هؤلاء ، شأنهم كشأن من ؟ كشأن آل فرعون ﴿ كَدَأبِ آلِ فِرعَونَ وَالَّذينَ مِن قَبلِهِم﴾ أي الأمم السابقة حالهم لما كفروا كحال آل فرعون و كحال الأقوام السابقين الذين كذبوا دين الله ﷻ فكان العذاب : حلَّ بهم ، كذلك الشأن في كفار قريش ، فقال هنا ﴿ كَدَأبِ آلِ فِرعَونَ وَالَّذينَ مِن قَبلِهِم كَفَروا بِآياتِ اللَّهِ ﴾ إذًا من كفر بآيات الله فإن هذا العقاب يكون له ﴿ كَفَروا بِآياتِ اللَّه فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنوبِهِم ﴾ أي عاقبهم وأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، فأخذهم الله بسبب ذنوبهم ، ثم أَكَّد ذلك ﴿ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَديدُ العِقابِ ﴾ فهو قوي وقادر على كل ظالم وأكد ذلك بقوله أنه شديد العقاب.
﴿ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ ﴾ ذلك ما جرى من ما جرى لهؤلاء ﴿ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّه لَم يَكُ مُغَيِّرًا نِعمَةً أَنعَمَها عَلى قَومٍ حَتّى يُغَيِّروا ما بِأَنفُسِهِم ﴾ إذا تغيرت النعمة على قوم وبُدِّلت فإنما هذا بسبب نفوسهم ولذا هؤلاء كما قال ﷻ في سورة النحل في شأن من ؟ في شأن كفار قريش ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَريَةً كانَت آمِنَةً مُطمَئِنَّةً يَأتيها رِزقُها رَغَدًا مِن كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَت بِأَنعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الجوعِ وَالخَوفِ بِما كانوا يَصنَعونَ ﴾
إذًا ما يَحِلُّ بالناس من هموم ، من فقر ، من قلة أرزاق ، … وما شابه ذلك من الفتن من جميع أنواعها فإنما هي بسبب أنهم بدلوا شيئًا في دين الله ﷻ وهذا شامل لكل زمن ، فيكون صادقًا على كل أحد ، فلا يختلف أحد عن أحد ، هذه سنة الله ﴿ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّه لَم يَكُ مُغَيِّرًا نِعمَةً أَنعَمَها عَلى قَومٍ حَتّى يُغَيِّروا ما بِأَنفُسِهِم وَأَنَّ اللَّهَ سَميعٌ عَليمٌ ﴾ فهو سميع لأقوالهم وعليم بأحوالهم
-7-
ولذا ماذا قال ﷻ ﴿ لَهُ مُعَقِّباتٌ مِن بَينِ يَدَيهِ وَمِن خَلفِهِ يَحفَظونَهُ مِن أَمرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَومٍ حَتّى يُغَيِّروا ما بِأَنفُسِهِم وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَومٍ سوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُم مِن دونِهِ مِن والٍ ﴾ فمن أراد أن تتغير حاله من الضيق إلى السعة ومن الفقر إلى الغنى ومن الشقاء إلى السعادة ؛ فليُغيِّر ما في قلبه وليعد إلى الله ﷻ وهذا شأن الأفراد وأيضًا شأن المجتمعات وشأن الدول .
﴿ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّه لَم يَكُ مُغَيِّرًا نِعمَةً أَنعَمَها عَلى قَومٍ حَتّى يُغَيِّروا ما بِأَنفُسِهِم وَأَنَّ اللَّهَ سَميعٌ عَليمٌ ﴾
﴿ كَدَأبِ آلِ فِرعَونَ ﴾ أي شأن هؤلاء : كفار قريش كحال وعادة آل فرعون ﴿ كَدَأبِ آلِ فِرعَونَ وَالَّذينَ مِن قَبلِهِم كَذَّبوا بِآياتِ رَبِّهِم فَأَهلَكناهُم بِذُنوبِهِم ﴾ فأهلكناهم بذنوبهم : أي بسبب ذنوبهم ﴿ فَأَهلَكناهُم بِذُنوبِهِم وَأَغرَقنا آلَ فِرعَونَ وَكُلٌّ ﴾ أي من الأمم السابقة التي كذبت ﴿ وَكُلٌّ كانوا ظالِمينَ ﴾ إذًا ﴿ وَما رَبُّكَ بِظَلّامٍ لِلعَبيدِ ﴾ وهنا هذه الآية تكررت مرة أخرى للتأكيد و لوجود بعض ما يكون زائدًا على الآية السابقة – ما أعظم القران – ﴿كَدَأبِ آلِ فِرعَونَ وَالَّذينَ مِن قَبلِهِم كَفَروا بِآياتِ اللَّهِ ﴾ هنا : ﴿ كَذَّبوا بِآياتِ رَبِّهِم ﴾
إذًا هم جمعوا بين الكفر وبين التكذيب ، هناك : ﴿ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنوبِهِم ﴾ هنا : ﴿ فَأَهلَكناهُم بِذُنوبِهِم ﴾ ذلكم الهلاك وذلكم الأخذ ما نوعه بالنسبة لآل فرعون ؟ الغرق ، ﴿ وَأَغرَقنا آلَ فِرعَونَ وَكُلٌّ كانوا ظالِمينَ ﴾
-8-