التفسير المختصر الشامل تفسير سورة الأنعام من الآية (111) إلى (121) الدرس (98)

التفسير المختصر الشامل تفسير سورة الأنعام من الآية (111) إلى (121) الدرس (98)

مشاهدات: 558

 بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الأنعام من الآية ( 111) إلى (121)          

   الدرس (98)

   لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

 

الحمدلله رب العالمين ، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء

 وإمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين ،

أما بعد:

فكنا قد توقفنا عند قول الله عزوجل : (وَلَو أَنَّنا نَزَّلنا إِلَيهِمُ المَلائِكَةَ) الآية

 

فالله عزَّوجلَّ بعد أن ذكر قولهم 🙁 وَأَقسَموا بِاللَّهِ جَهدَ أَيمانِهِم لَئِن جاءَتهُم آيَةٌ لَيُؤمِنُنَّ بِها قُل إِنَّمَا الآياتُ عِندَ اللَّهِ ﴾ ذكر هنا عزوجل من أن هؤلاء لو أتتهم الآيات المتنوعة والمختلفة

 ماآمنوا فهم كذبه ، ولذا قال معممًا : (وَلَو أَنَّنا نَزَّلنا إِلَيهِمُ المَلائِكَةَ) كما طلبوا، كما ذكر عزوجل في أول السورة : (وَقالوا لَولا أُنزِلَ عَلَيهِ مَلَكٌ وَلَو أَنزَلنا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمرُ ثُمَّ لا يُنظَرونَ)

(وَلَو أَنَّنا نَزَّلنا إِلَيهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوتى): أي حسبما طلبوه، لأنهم طلبوا ذلك كما قال  عزوجل عنهم:﴿ ما كانَ حُجَّتَهُم إِلّا أَن قالُوا ائتوا بِآبائِنا إِن كُنتُم صادِقينَ﴾

 

(وَلَو أَنَّنا نَزَّلنا إِلَيهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوتى وَحَشَرنا عَلَيهِم كُلَّ شَيءٍ قُبُلًا )أي:لو حشرنا عليهم كل شئ مما هو آية وكان قُبُلًا؛ لأن معنى قُبُلًا : بمعنى أن هؤلاء يكونون ضُمناء وكفلاء بصدق محمد ، أو بمعنى أنهم إذا أتوا أفواجًا أفواجًا  ، أو حُشِرَ هؤلاء جهارًا علانية ، فإن هذا معنى هذه الكلمة ؛ فكل هذه المعاني تدخل.

 

قال تعالى 🙁 وَلَو أَنَّنا نَزَّلنا إِلَيهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوتى وَحَشَرنا عَلَيهِم كُلَّ شَيءٍ قُبُلًا ما كانوا لِيُؤمِنوا) لم؟ لأن طبيعة هؤلاء ومقصود هؤلاء :  هو الإعراض والعناد ولذا قال :(ما كانوا لِيُؤمِنوا إِلّا أَن يَشاءَ اللَّهُ) فما شاء الله كان ، ومالم يشأ لم يكن ، فإذا أراد الله عزوجل إيمانهم وهدايتهم فإن ذلك حاصلٌ لأنه عزوجل على كل شئ قدير ، ولذا مر معنا في أول السورة (وَلَو شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُم عَلَى الهُدى) ومر معنا قبل آيات﴿وَلَو شاءَ اللَّهُ ما أَشرَكوا ﴾ ولذا قال تعالى:﴿وَقالَ الَّذينَ لا يَرجونَ لِقاءَنا لَولا أُنزِلَ عَلَينَا المَلائِكَةُ أَو نَرى رَبَّنا لَقَدِ استَكبَروا في أَنفُسِهِم وَعَتَوا عُتُوًّا كَبيرًا﴾ دلَّ هذا على أنهم أصحاب عُتُوٍّ وأصحاب استكبار

(ما كانوا لِيُؤمِنوا إِلّا أَن يَشاءَ اللَّهُ) لأن مشيئة الله عزوجل نافذة متى ما أراد شيئًا

 

                                                  -1-

 

(وَلكِنَّ أَكثَرَهُم يَجهَلونَ) أي يجهلون دين الله ، ويجهلون عظمة الله ، ومن ذلك فهم يجهلون من أن

 الآيات لو أتتهم ؛ فإنهم لن يؤمنوا لأن الله عزوجل قد قضى عليهم ذلك ؛ باعتبار مافي قلوبهم من الصدود والإعراض .

 

(وَكَذلِكَ جَعَلنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) هذا فيه تسلية للنبي فكما جعل للأنبياء السابقين ؛ جعل هناك شياطين من الإنس والجن أعداء للرسل فكذلك مايجري لك يامحمد (وَكَذلِكَ جَعَلنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطينَ الإِنسِ وَالجِنِّ) لكن الله عزوجل ناصرٌ أولياءه ولذا قال عزوجل 🙁وَكَذلِكَ جَعَلنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ المُجرِمينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِيًا وَنَصيرًافقال هنا شياطين الإنس والجن ، هنا ذكر ماذا ؟

ذكر أن أعداء الرسل ، وكذلك هم أعداء أتباع الرسل من أنهم شياطين ، وهؤلاء الشياطين نوعان : شيطانٌ إنسي ، وشيطان جني ؛ فالشيطان الجني معروف ، والشيطان الإنسي هو الشيطان من جلدتنا لكن به من الشر ، كما بشيطان الجن من الشر ، ولذا جاء حديث قال عنه ابن كثير رحمه الله : حديث أبي ذر يتقوى بعضها ببعض ، من أن النبي قال لأبي ذر : ( أتعوذت بالله من شياطين الإنس والجن ؟ فقال أبو ذر : أللإنس شياطين ؟ فقال لهم شياطين هم أعظم وأشرّ من شياطين الجن ) فقال هنا : شياطين الإنس والجن ، فدل هذا على أنه كما يكون في الجن شياطين ، كذلك في الإنس فيجب الحذر ، ولذا قال تعالى : ﴿قُل أَعوذُ بِرَبِّ النّاسِ  مَلِكِ النّاسِ  إِلهِ النّاسِ  مِن شَرِّ الوَسواسِ الخَنّاسِ  الَّذي يُوَسوِسُ في صُدورِ النّاسِ  مِنَ الجِنَّةِ وَالنّاسِ

(شَياطينَ الإِنسِ وَالجِنِّ) وقدم الإنس هنا والله أعلم باعتبار أن العداوة ظاهرة وواضحة من شياطين الإنس، الذين عادوا رسول الله   وعادوا رسله عليهم السلام

(شَياطينَ الإِنسِ وَالجِنِّ) مافعلهم ؟ وما طبيعة حالهم؟ (يوحي) والوحي: هو الإعلام بالشئ

بطريق خفي .

(يوحي بَعضُهُم إِلى بَعضٍ زُخرُفَ القَولِ ) أي: مايُزَيَّن وما يُجَمَّل من القول (غُرورًا) أي: من أجل أن يَغُرُّوا به الناس ، فإنهم يقولون القول وهو قول فاسد لكنهم يزينونه من أجل أن يقع الناس في شباك غرورهم .

(شَياطينَ الإِنسِ وَالجِنِّ يوحي بَعضُهُم إِلى بَعضٍ زُخرُفَ القَولِ غُرورًا وَلَو شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلوهُ)

لو شاء الله عزوجل مازخرفت هذه الشياطين هذا القول ، وما أوقعوا الغرور في الناس ، ولكن هنا اقتضت مشيئة الله أن يقع ذلك ولذا قال : ( وَلَو شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلوهُ) فهو ربك عزوجل ومن ثم فإنه حافظك وناصرك ومؤيدك ومربي قلبك ومغذيه بالإيمان وبالخير ، ومن ذلك ما أنزله عزوجل عليك من هذا الوحي ومن هذا القران .

( وَلَو شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلوهُ):فهذا يدل على ماذا؟ يدل على أن القول يعتبر فعلا، لأنهم ماقالوا إلا قولا ومع ذلك قال : ( وَلَو شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلوهُ): فدل هذا على أن القول باللسان يعتبر ويوصف بأنه فعل .

(وَلَو شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلوهُ فَذَرهُم)أي : فاتركهم (فَذَرهُم وَما يَفتَرونَ) أي: من هذه الافتراءات من الأكاذيب والأباطيل وتزيين القول، وهذا من باب الوعيد والتهديد لهم (فَذَرهُم وَما يَفتَرونَ).

﴿وَلِتَصغى ) أي : ولتميل  ( وَلِتَصغى إِلَيهِ أَفئِدَةُ) أي : قلوب

 

                                                    -2-

 

 

 (الَّذينَ لا يُؤمِنونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرضَوهُ ) أي : وليطمئنوا إلى هذا القول وليرغبوا فيه

(وَلِيَقتَرِفوا ما هُم مُقتَرِفونَأي : وليفعلوا على ضوئه ، وعلى غراره ، فعل وعمل الشر ، ومن ثمَّ ، لو نظرنا إلى هذه الآية والآية التي قبلها ، تدل على ماذا ؟ تدل على خطورة الاستماع إلى أهل البدع ، وإلى أهل الأهواء ، سواء كان هؤلاء ممن يتكلم بالقران ، أو يتكلم بالسنة ، لكنه ليس على طريق صحيح ، وإنما هوصاحب هوى ، أو صاحب بدعة ، فلا يطمئن العبد المسلم لأن يستمع إلى هؤلاء ، فإنه لو ملَّحوا قولهم بالقول المجمل لكنه فاسد ، فإنهم مافعلوه إلا من أجل أن يغرُّوا هذا الإنسان، ومن ثم إذا غرَّهُ مالذي يحصل إلى قلبه لما يسمع ذلك بأُذُنِه ؟ ﴿وَلِتَصغى ) انظر ولتصغى؛ مما يدل

 على أن مايقولونه يكون مُجمَّلًا ، ولذا ماذا قال تعالى كما مر معنا ؟ ﴿وَمِنَ النّاسِ مَن يُعجِبُكَ قَولُهُ فِي الحَياةِ الدُّنيا وَيُشهِدُ اللَّهَ عَلى ما في قَلبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصامِومن ثم فإن السمع إذا سمع هذا الأمر فإنه يصغي إليه ومن ثم قال : (وَلِيَرضَوهُ) بمعنى أن هذا الشئ يصبح مرضيًا ومقبولًا عندهم ثم قال بعدها (وَلِيَقتَرِفوا ما هُم مُقتَرِفونَ) فيترتب على ذلك السماع ، وعلى ذلك الإصغاء وعلى ذلك الرضى ؛ يترتب عليه أن الشبهة وأن الفساد يقع في الفؤاد، ومن ثم يرضى به القلب ، ومن ثم يعمل الإنسان العمل السيئ والعمل الذي يخاف دين الله ،ولذا بعض السلف لما أتاه رجل من أهل الأهواء فقال : اسمع مني كلمة ، قال : لا ، ولا نصف كلمة ، وبعض السلف لما قال له بعض أهل الأهواء : أريد أن اقرأ عليك آية ، قال : لا ، قال : إنما هي آية ، قال : لا ، إني أخشى أن يقع في بلبي مايقع ، من هذا الرجل .

فانظر كيف حرص السلف رحمهم الله على أن يتركوا أهل البدع ، وأن يجنبوا أسماعهم وجوارحهم وقلوبهم مجالسهم وأقوالهم (وَلِيَقتَرِفوا ما هُم مُقتَرِفونَ) .

(أَفَغَيرَ اللَّهِ أَبتَغي حَكَمًا ) هنا استفهام إنكاري، ينكر على هؤلاء فإنهم قالوا : ليكن بيننا وبينك حَكَمٌ يامحمد، فيقول (أَفَغَيرَ اللَّهِ أَبتَغي حَكَمًا ) فهنا هؤلاء قالوا : لو أتيت لنا بحَكَمٍ يحْكُمُ بيننا وبينك يا محمد فقال النبي من باب الاستفهام الإنكاري (أَفَغَيرَ اللَّهِ أَبتَغي حَكَمًا ) وقدَّم اسم الله من باب تعظيم الله عزوجل(أَفَغَيرَ اللَّهِ أَبتَغي حَكَمًا وَهُوَ الَّذي أَنزَلَ إِلَيكُمُ الكِتابَ مُفَصَّلًا)أنزل هذا القران مفصلًا ، ومرَّ في هذه السورة (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ)(نُصَرِّفُ الآياتِ)(وَلِنُبَيِّنَهُ)إذًا فهذا القران واضح ، وفيه حكم الله عزوجل لكنكم قوم لا تريدون الهدى ، وإنما تريدون بهذا القول ؛ تريدون العناد والشقاق ولذا قال : (أَفَغَيرَ اللَّهِ أَبتَغي حَكَمًا وَهُوَ الَّذي أَنزَلَ إِلَيكُمُ الكِتابَ مُفَصَّلًا) فدل هذا على أن من أراد الحكم الفصل فإنما هو في كتاب الله عزوجل

(وَهُوَ الَّذي أَنزَلَ إِلَيكُمُ الكِتابَ مُفَصَّلًا) وهي جملة حاليَّة؛ حالة كونه عزوجل أنزل هذا القران مفصلًا (وَالَّذينَ آتَيناهُمُ الكِتابَ يَعلَمونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِن رَبِّكَ بِالحَقِّ)أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى ؛ يعرفون حسب ما جاء في كتبهم أن هذا القران منزَّل من عند الله عزوجل على محمد ولذا مرَّ معنا في أوائل السورة ﴿الَّذينَ آتَيناهُمُ الكِتابَ يَعرِفونَهُ كَما يَعرِفونَ أَبناءَهُمُ    فقال هنا ( وَالَّذينَ آتَيناهُمُ الكِتابَ يَعلَمونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِن رَبِّكَ بِالحَقِّ)من ربك لا من غيره ؛ فدل على أن هذا القران مُنزَّل غير مخلوق ، وهو من قول الله عزوجل( فَلا تَكونَنَّ مِنَ المُمتَرينَ) أي فلا تكونن من الشاكِّين ، ومن ذلك ؛ فلا تكونن من الممترين مما ذكر عزوجل من أن أهل

 

 

                                                     -3-

 الكتاب يعلمون أنه مُنَزَّل من ربك بالحق ، ومن ثم فإنه لم يكن من الممترين أي : الشكاكين ، فلم يحصل منه شك ولا ارتياب وإنما إذا كان الخطاب موجهًا  إلى النبي   –وحاشاه أن يكون شاكًّاإذًا فغيره من باب أولى ، وسبحان الله هنا  لما قال ذاكرًا للكتاب أنه منزل من الله عزوجل قال : ( فَلا تَكونَنَّ مِنَ المُمتَرينَ) يدل هذا على ماذا؟ على أن من عرف الحق فعليه أن يلزمه ولا يلتفت لا بسمعه ولا بقلبه إلى مايقوله أهل الباطل ، لم ؟ لأنه على الحق ، ولأن الله قال : ( فَلا تَكونَنَّ مِنَ المُمتَرينَ) .

 

﴿وَتَمَّت كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدقًا وَعَدلًا) هذا القران الذي سبق ذكره في الآيات السابقات : هو كلام الله عزوجل ، ولذا قال :﴿وَتَمَّت كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدقًا وَعَدلًا)أي : صدقًا في أخباره ، عدلًا في أحكامه ، فهذا القران إن أتى بالأخبار ؛ فهي أخبار صدق،  وإن أتى بالأحكام ؛  فهي أحكام عدل ومن ثم فيه رد عليهم لما قال عزوجل عن هؤلاء : (أَفَغَيرَ اللَّهِ أَبتَغي حَكَمًا)

﴿وَتَمَّت كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدقًا وَعَدلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) لا أحدَ يستطيع أن يبدل كلمات الله ، وكلمات الله تشمل : الكلمات الكونية ، والكلمات الشرعية ، فلا مبدل لهذا القران ولا مبدل لحكم الله مما قضاه وقدره  (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّميعُ العَليمُالسميع لكل قول ، العليم بكل شئ ، ومن ثم فإنه عزوجل يسمع ما يقوله هؤلاء ، وهو عالم وعليم بحالك وبحالهم ، ومن ثم فإنه عزوجل ناصرك ، ومن ثم فإن فيه الوعيد الشديد لهؤلاء ، والله يسمع أقوالهم ، ويعلم أحوالهم فقال هنا: (وَهُوَ السَّميعُ العَليمُ﴾.

 

﴿وَإِن تُطِع أَكثَرَ مَن فِي الأَرضِ يُضِلّوكَ عَن سَبيلِ اللَّهِ) إذًا لمَّا قالوا : لتأتِ لنا بِحَكَم يحكم بيننا وبينك، بيَّن عزوجل للنبي أن هؤلاء ضُلَّال ، ومن ثم فلتعلم يامحمد ، أن أكثر الناس ضُلَّال  قال ﴿وَإِن تُطِع أَكثَرَ مَن فِي الأَرضِ يُضِلّوكَ عَن سَبيلِ اللَّهِ)إذًا أُثبُت على الحق الذي أنت عليه ولو كنت وحدك ، ولو كان معك قِلَّة ولا تنظر إلى هؤلاء إذا كَثُرت أعدادهم ، لم ؟ لأنهم ليسوا على الحق ومن ثم فإن على المسلم ، على الداعية ، وعلى العالم ، عليه ألا ينظر إلى قِلَّة الأتباع الذين معه ، فإنه إن كان على الحق فإن الكثرة تكون زَبَدًا ولو طال الزمن ، ولذا قال:﴿وَإِن تُطِع أَكثَرَ مَن فِي الأَرضِ يُضِلّوكَ عَن سَبيلِ اللَّهِ) لم ؟ لأنهم أصحاب ضلال وأباطيل ( إِن يَتَّبِعونَ إِلَّا الظَّنَّ) أي : ما يتَّبِعون إلا الظنون الواهية  ﴿ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغني مِنَ الحَقِّ شَيئًا

لكن أنت معك ماذا ؟ معك الحق ، لكن هؤلاء معهم الباطل  فإذا كان معك الحق فاثبت على هذا الدين ، وهؤلا معهم ماذا؟ معهم الظن ، فإنهم ولو كَثُرُوا فإن الظن لا يغني من الحق شيئًا ، فقال هنا (إِن يَتَّبِعونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِن هُم إِلّا يَخرُصونَأي : ماهم إلا يخرصون ، أي : يكذبون وهذا مأخوذ من خَرْصِ النخيل ، لأن من يخْرُص النخيل إنما يكون عن طريق التخمين فهؤلاء ليس عندهم إلا الكذب ، وليس عندهم إلا التخمين ، وليس عندهم إلا التدليس (وَإِن هُم إِلّا يَخرُصونَ

 

(﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبيلِهِ) لما ذكر ضلال أكثر من في الأرض بين هنا عزوجل  أنه عالم بمن ضل عن سبيله فسيجازيه على ضلاله ،  إذًا قال ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ)و أكد ذلك

 

 

 

                                                     -4-

 بالضمير: هو( إِنَّ رَبَّكَ هُوَأَعلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبيلِهِ) يعني على الطريق المستقبم (وَهُوَ أَعلَمُ بِالمُهتَدينَ)أي : ممن اهتدى وبقي على هداه ولذا أتى بما يتعلق بأهل الضلال بصيغة الفعل المضارع( مَن يَضِلُّ) مما يدل على أن ضلالهم مستمر ، لكن قال هنا (وَهُوَ أَعلَمُ بِالمُهتَدينَ)وأنت يا محمد من المهتدين ، وهذا الهدى جعله عزوجل في قلبك وفي حياتك فأنت من المهتدين ، فلا تلتفت إلى هؤلاء .

 

 ﴿فَكُلوا مِمّا ذُكِرَ اسمُ اللَّهِ عَلَيهِ إِن كُنتُم بِآياتِهِ مُؤمِنينَأمر هنا بماذا ؟ بالأكل مما ذُكِر اسم الله عزوجل عليه ، لم ؟ لأنه عزوجل لما ذكر ضلال هؤلاء فيما مضى ؛ مما أنكروه من الآيات هنا فيما يتعلق بهؤلاء ، لهم أحكام فيما يتعلق بالمأكولات وبالمطعومات فقال هنا ﴿فَكُلوا) أمْرُ إباحة ﴿فَكُلوا مِمّا ذُكِرَ اسمُ اللَّهِ) لكن قد يكون أمْرَ إيجاب إذا كان فيه مخالفة ومعارضة لهؤلاء الكفار ﴿فَكُلوا مِمّا ذُكِرَ اسمُ اللَّهِ عَلَيهِ ) أي مما ذُكِر اسم الله عليه ولم يُذْكر أحد معه ، إنما التسمية تكون لله عزوجل على الذبيحة  ﴿فَكُلوا مِمّا ذُكِرَ اسمُ اللَّهِ عَلَيهِ إِن كُنتُم بِآياتِهِ مُؤمِنينَفأهل الإيمان يأكلون مما ذكر اسم الله عليه ، لكن من ليس بمؤمن كحال هؤلاء الكفار فإن لهم أحكامًا متنوعة ، سيذكرها عزوجل في الايات الآتيات ، تدل على أن هؤلاء اختلقوا من أنفسهم أحكامًا على هذه البهائم وعلى هذه الحيوانات ، فقال هنا : ﴿فَكُلوا مِمّا ذُكِرَ اسمُ اللَّهِ عَلَيهِ إِن كُنتُم بِآياتِهِ مُؤمِنينَ ثم ماذا قال ؟

﴿وَما لَكُم أَلّا تَأكُلوا مِمّا ذُكِرَ اسمُ اللَّهِ عَلَيهِ وَقَد فَصَّلَ لَكُم ما حَرَّمَ عَلَيكُم إِلّا مَا اضطُرِرتُم إِلَيهِ ) بمعنى : لماذا لا تأكلون من هذه الأشياء؟  فهي مباحة لكم ، والمُحرَّم فصَّلَه لكم فدل هذا على أن الأصل في الأشياء ، وأن الأصل في هذه المطعومات من الحيوانات : الإباحة ، إلا ما دل الدليل على تحريمه ولذا قال هنا ﴿وَما لَكُم أَلّا تَأكُلوا مِمّا ذُكِرَ اسمُ اللَّهِ عَلَيهِ وَقَد فَصَّلَ لَكُم ما حَرَّمَ عَلَيكُم) أي بيَّن المحرم كما قال تعالى : ﴿حُرِّمَت عَلَيكُمُ المَيتَةُ وَالدَّمُ وَلَحمُ الخِنزيرِ …﴾ الآية

 إلى غير ذلك من الآيات (إِلّا مَا اضطُرِرتُم إِلَيهِ)أي هذا المحرم الذي فُصِّل لكم ؛ عليكم أن تجتنبوه ، إلا إن كنتم في حال الضرورة لأنه في حال الضرورة لاجناح عليكم أن تأكلوا من هذا المحرم مما ينقذكم من الهلاك ؛ بمعنى يسد جوعتكم ، دون أن تكون منكم رغبة في طلب هذا المحرم  (وَقَد فَصَّلَ لَكُم ما حَرَّمَ عَلَيكُم إِلّا مَا اضطُرِرتُم إِلَيهِ ) قال :( إِلّا مَا اضطُرِرتُم إِلَيهِ ) (وَإِنَّ كَثيرًا لَيُضِلّونَ بِأَهوائِهِم)يعني : انتبهوا من أن هناك أناسًا وهم كُثُر ؛ يُضِلُّون عن سبيل الله عزوجل بحسب أهوائهم ،  وذلك فيما يتعلق بكل شئ ؛ هذا شامل ، لكن من ذلك : مايتعلق بهذه الحيوانات وهذه المطعومات كما سيأتي في بيان ذلك في الآيات الآتية بإذن الله تعالى .

قال :(وَإِنَّ كَثيرًا لَيُضِلّونَ بِأَهوائِهِم)يُضِلُّون : فهم ضُلَّال  وأيضًا يُضِلُّون غيرهم يصرفون غيرهم عن الطريق الصحيح(وَإِنَّ كَثيرًا لَيُضِلّونَ بِأَهوائِهِم)مُجرد الهوى ولذا قال ( بِغَيرِ عِلمٍ ) يعني: لا حجة ولا علم عندهم وذلك لأن اتباع الهوى إنما هو في أصله ومن حيث هو ؛ يكون في الشر ولذا قال :  (وَإِنَّ كَثيرًالَيُضِلّونَ بِأَهوائِهِم بِغَيرِ عِلمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعلَمُ بِالمُعتَدينَفهو عزوجل عالم ، وعلمه محيط بمن ؟ بالمعتدين والمتجاوزين لحدود الله ولأحكام الله ، وهذا شامل ؛ أيُّ مُعتَدٍ فالله أعلم به ومن ثم فإنه يُجازيه على هذا الاعتداء .

 

﴿وَذَروا ظاهِرَ الإِثمِ وَباطِنَهُ) أيواتركوا ظاهر الإثم وباطنه ، ماهو ظاهر الإثم وماهو باطنه ؟فيها أقوال متعددة ، حتى أن أكثر المفسرين قالوا : إن الظاهر لهذا الإثم ؛ إنما هو الزنا

 

 

                                                    -5-

 علانية ، والخفي هو الزنا سرًا ، لكن الصحيح من أن هذا شامل لكل إثمٍٍ ظَهَرَ للناس أو استُتِرَ به عن الناس (وَذَروا) أي : اتركوا (ظاهِرَ الإِثمِ وَباطِنَهُ) يعني هذا يقتضي أن الإثم كله يُترك ماظهر منه وما خفي﴿وَذَروا ظاهِرَ الإِثمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذينَ يَكسِبونَ الإِثمَ) سواءً كان ظاهرًا أو باطنًا( إِنَّ الَّذينَ يَكسِبونَ الإِثمَ سَيُجزَونَ بِما كانوا يَقتَرِفونَأي سيجزون بسبب ما يقترفونه ويعملونه من هذا الإثم ،  ولذا قال : ( إِنَّ الَّذينَ يَكسِبونَ الإِثمَ) قال هنا يكسبون الإثم : دل على أن لهم إرادة وأن لهم اختيارًا ومن ثم فإنهم يُعاقبون على ذلك ، ومعلوم أنه لا مشيئة لأحد إلا بعد مشيئة الله عزوجل .

﴿وَلا تَأكُلوا مِمّا لَم يُذكَرِ اسمُ اللَّهِ عَلَيهِ وَإِنَّهُ لَفِسقٌ) صرَّح هنا بتحريم الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه قال : ﴿وَلا تَأكُلوا مِمّا لَم يُذكَرِ اسمُ اللَّهِ عَلَيهِ وَإِنَّهُ لَفِسقٌ) إذًا لو ذُكِر اسمٌ مع اسم الله : فإنه لا يجوز ، وإذا ذُكرَاسم وحده ولم يُذكر اسم الله : أيضًا لايجوز ، إذا تُركت التسمية لا اسم الله ولا اسم غيره : أيضًا لا يجوز ﴿وَلا تَأكُلوا مِمّا لَم يُذكَرِ اسمُ اللَّهِ عَلَيهِ وَإِنَّهُ لَفِسقٌ) فذل هذا على أن الذي يؤكل فقط هو الذي ذُكر اسم الله وحده فقط عليه لا أن يكون معه غيره، ولذلك اختلف العلماء ، فيما لو أن الإنسان ترك التسمية على الذبيحة ؛ أيجوز أن تؤكل أم لا ؟

بعض أهل العلم قال : يجوز أن تؤكل ولو تركها عمدًا ، وقيل : إنما يجوز ذلك إذا تركها نسيانًا أو جهلًا لقوله تعالى : ( رَبَّنا لا تُؤاخِذنا إِن نَسينا أَو أَخطَأنا وهناك قول ثالث يرجحه شيخ الإسلام رحمه الله : أن الذبيحة إذا لم يذكر اسم الله عليها ، سواء كان عمدًا ، أو عن خطأٍ أوعن نسيان ،  أو عن جهل : فإنها لاتجوز ، أما الآية ( رَبَّنا لا تُؤاخِذنا إِن نَسينا أَو أَخطَأنا فالإثم يُرفع عنه فقط لأنه لم يُسَمِ اسم الله عليها ، لأن من ترك التسمية عمدًا فإنه يأثم على ترك التسمية ، ويأثم إذا أَكَلَ ، ولذا لو قال قائل ، ربما في مثل هذه الحال ، تكون الذبيحة عظيمة ، أو تكون الذبائح عظيمة ،فيقال : إنه إذا قيل له لا تأكل من هذه الذبيحة ،  هنا سيكون في المستقبل حريصًا على أن يستحضر هذه التسمية ، إذًا هذا هو مُجْمل ما قاله المفسرون حول التسمية،قال هنا : ﴿وَلا تَأكُلوا مِمّا لَم يُذكَرِ اسمُ اللَّهِ عَلَيهِ وَإِنَّهُ لَفِسقٌ)أي : الأكل من هذه التي لم يذكر اسم الله عليها ؛ هي ( فِسقٌ) : خروجٌ عن طاعة الله عزوجل، ولذا قال هنا :(وَإِنَّهُ لَفِسقٌ وَإِنَّ الشَّياطينَ لَيوحونَ إِلى أَولِيائِهِم لِيُجادِلوكُم) انظر ! سبحان الله ! (وَإِنَّ الشَّياطينَ) شياطين من ؟ شياطين الجن ، ليوحون إلى أوليائهم من  شياطين الإنس ، بماذا؟( وَإِنَّ الشَّياطينَ لَيوحونَ إِلى أَولِيائِهِم لِيُجادِلوكُم) يأتي شياطين الإنس إلى الصحابة رضي الله عنهم ، فيقولون لهم كما ثبت في ذلك الحديث فيقولون : كيف تأكلون مما قتلتم ولاتأكلون مما قتله الله؟

إذًا هذه البهيمة التي ماتت من قتلها ؟ يقولون : من قتلها ؟

قتلها وأماتها ؟ هو الله ، فيقولون : كيف تتورعون عما قتله الله ، وتأكلون مما ذبحتم أنتم وقتلتم ؟  سبحان الله ! قال :( وَإِنَّ الشَّياطينَ لَيوحونَ إِلى أَولِيائِهِم لِيُجادِلوكُم) هذه مجادلة ؛ يريدون منكم أن تقعوا في الباطل  ولذا قال :( وَإِن أَطَعتُموهُم إِنَّكُم لَمُشرِكونَلو أطعتموهم في ماذا ؟ في إباحة هذا الأمر المحرم ، أو في تحريم الحلال فإنكم إذًا تكونون مشركين ، هذا شرك الطاعة ؛كما قال تعالى : ﴿اتَّخَذوا أَحبارَهُم وَرُهبانَهُم أَربابًا مِن دونِ اللَّهِ) قال عدي بن حاتمكما ثبت –  قال يا رسول الله : إنا لم نعبدهم فقال : أليسوا إذا أحلوا ما حرم الله تحلونه ؟ وإذا حرموا ما أحل الله تحرمونه؟ قال : بلى ، قال : فتلك عبادتهم ، ومن ثم فإن في هذا دليلًا على أن من أطاع أحدًا في تحليل الحرام أو تحريم الحلال فإنه يكون بذلك أشرك مع الله عزوجل ( وَإِن أَطَعتُموهُم إِنَّكُم لَمُشرِكونَ

 

 

                                                     -6-