بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة التوبة من الآية (1) إلى الآية (15)
لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
سورة التوبة لم يكن في مقدمتها { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ } و اختلف العلماء في ذلك اختلافا كثيرا ، منهم من قال إن هذه السورة تتعلق بالجهاد و البسملة هي أمان ولا يكون هناك توافق بين هذا و بين هذا فلم تكتب ، و قيل لما جاء من أن عثمان رضي الله عنه لما سئل لماذا تركتم بسم الله في هذه السورة ؟ قال فإن النبي ﷺ إذا نزلت عليهِ الآية قال اجعلوها في السورة التي بها الآية كذا و كذا ، وهو لم يبين ذلك فرأينا أن سورة الأنفال تشابه سورة التوبة و لم يبين لنا ﷺ ذلك فجعلنا التوبة بعد الأنفال و لم نضع { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ } كفاصل بين السورتين ، و بعض العلماء يقول إن هذا الحديث ضعيف و بعضهم يصححهُ و على كل حال هناك أيضًا أقوال أخرى ، لكن من بين هذه الأقوال من أن جبريل عليه السلام لم ينزل بالبسملة فيما يتعلق بسورة التوبة ، فإن ثبت الحديث الذي عن عثمان رضي الله عنه لما سئل رضي الله عنه فبها و إلا تكون البسملة لم ينزل بها جبريل عليه السلام على النبي ﷺ .
{ بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } براءةٌ هذا تبرُؤ من الله عز وجل و من النبي ﷺ و هذه البراءةُ قال هنا { بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي براءة من الله و رسوله واصلةٌ { إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ } و أُضيف العهد لجميع المسلمين باعتبار أن العهد وقع بينهم فقال هنا { إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ } و المقصود من ذلك ، من ؟ المقصود الذين نقضوا العهود و هذا هو الصحيح كما سيأتي بيانهُ لأن من لم ينقض العهد الذي بينه و بين النبي ﷺ فإن عهده باطل، فقال هنا: { بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ } { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ } هذا خطابٌ للمشركين { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} دل هذا على ماذا ؟ على أن من لهُ عهدٌ و قد نقضهُ مع النبي ﷺ فإن كان أربعة أشهر فكذلك ، فإن كان أكثر من أربعة أشهر فيُحط إلى أربعة أشهر ، فإن كان أقل من أربعة أشهر ، فإنه يرفع إلى أربعة أشهر ، في هذه الأشهر الأربعة يسيحُ هؤلاء في الأرض ، أما من لم ينقض عهده مع النبي ﷺ ولو طالت المدة فالصحيح خلافًا لمن قال إن هذا العهد لجميع المشركين ، من نقض و من لم ينقض، لكن الصحيح من أن ماذا ؟ من أن من لم ينقض فإن عهده إلى مدته و لذا في الآية التي بعدها { إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ ۚ } و لذا ثبت أن عليًا رضي الله عنه أرسلهُ النبي ﷺ في السنة التاسعة من الهجرة يُنادي يوم النحر بأنهُ لا يطوف بالبيت عُريان ولا يحج بعد هذا العام مشرك ، و من ضمن أيضًا ما قاله علي رضي الله عنه قال و هذا موضع الشاهد: و من كان لهُ عهدٌ مع النبي ﷺ فعهدهُ إلى مدتهِ ، دل هذا على أن من لم ينقض العهد فإنهُ باقٍ على عهدهِ فقال هنا { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} هذا يدل على الأمان لم يقل فسيروا في الأرض و إنما فسيحوا لأن السياحة مثل ما يسيح الماء يعني انتشار يعني انتشروا حيثُما شئتم في كل مكان فأنتم في أمان في هذه الأربعة الأشهر ، و هذه الأربعة الأشهر تبدأ من اليوم العاشر من يوم النحر من ذي الحجة فتكونُ أربعة أشهر ، وهذا هو الصحيح خلافًا لمن قال إن الأربعة الأشهر، هي الأشهر الحُرم و هي ماذا ؟ ذو القعدة ، ذو الحجة ، و محرم ، و رجب ، لا ليس هذا هو المقصود على الصحيح، لمَ؟ لأن الأشهر الحرم التي ذكرتها و هي ذو القعدة و ذو الحجة و محرم و رجب سيأتي حكمٌ لها في هذه السورة بعد آيات { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ } فدل هذا على أن هذه أربعة أخرى غير الأشهر الحرم { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ۙ } يعني مع هذا الأمن الذي أُمِّنتُم عليه في هذه الأشهر اعلموا أنكم لستم خارجين عن قبضة الله و لستم بفائتينَ الله عز وجل فإنكم في قبضة الله و هو إن شاء عذبكم ولو كنتم في هذه الأشهر الحرم لكن هنا نهيٌ لمن ؟ نهيٌ لأهل الإسلام أن يتعرضوا لهؤلاء الكفار { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ } أي مُذل و مُهين الكافرين، و قال الكافرين حتى يشمل كل كافر ليس هؤلاء فقط بل إن الذُل و الهوان لكل كافر { وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } و أذان أي إعلام {وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ } يوم الحج الأكبر هو اليوم العاشر وهو يوم النحر كما دلت الأحاديث الصحيحة على ذلك قال هنا { وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ } قال هنا إلى الناس بينما في الآية التي قبلها ماذا قال عز وجل ؟ { بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ } في أول الآية { إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ } لأن الحُكمَ يتعلق بماذا ؟ يتعلق بالمشرك الذي نقضَ العهود أما هنا قال { وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ } أي إلى جميع الناس من نقضَ و من لم ينقض حتى يكونَ من لم ينقض على علمٍ بأن عهدهُ باقٍ { وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ } ماذا؟ ما هو { أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ۙ وَرَسُولُهُ ۚ } أي و رسولهُ أيضًا { بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ } و هناك قراءةٌ شاذة ( و رسولهِ) ، قيل: باعتبار المجاورة و قيل: بالقسم لكن كل هذا شاذ و المعنى فيهِ لا يكونُ سليما، و أيضًا وردت قراءة شاذة (و رسولَهُ) بالنصب إذًا { وَرَسُولُهُ } قال هنا { أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ۙ وَرَسُولُهُ ۚ فَإِن تُبْتُمْ } أي مع هذا كلهِ { فَإِن تُبْتُمْ } هذا عرضٌ لهم لأن يتوبوا إلى الله عز وجل فهو خيرٌ لهم { فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا } إن أعرضتُم {أنكم غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ۗ } قال { غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ۗ } أي أنتم لن تفوتوا الله عز وجل { وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } بشر هؤلاء الذين كفروا و غيرهم من الكفار ، بشر هؤلاء و بشر غيرهم من الكفار بأن لهم العذاب الأليم . { وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ } هذا ليس معناه من أن هؤلاء سيسلَمون من العذاب الأليم و إنما العذاب الأليم لكل كافر ، لكن الاستثناء هنا يعودُ إلى ماذا ؟ يعودُ إلى أن من لهُ عهدٌ مع النبي ﷺ و لم ينقض فإنهُ باقٍ على عهدهِ فقال هنا { إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا } أي لم ينقصوكم من هذا العهد أيَّ شيء ، لا قليلًا ولا كثيرا { ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا } أي لم يُعاونوا { وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا } على سبيل الوجوب { فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ ۚ } ولو كان أكثر من أربعةِ أشهر { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } فهذه هي صفات المتقين و هي الوفاء بالعهود حتى ولو كان هذا العهدُ لكافرٍ قد وفى بعهدهِ { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } { فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ} أي إذا خرجت الأشهر الحرم الأربعة ليس المقصود الأشهر الحرم ذو القعدة و ذو الحجة و محرم و رجب ، لا و إنما الأشهر الحرم التي في مقدمة السورة { فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ } هنا لا أمان لهم { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ } و خذوهم الأخذ هنا هو الأسر أي فأسروهم { فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } أي هنا أمرٌ بأن يقتلوا المشركين حيثُما وجدتموهم { وَخُذُوهُمْ } أي بالأسر أي اسِروهم { وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ } أي ضيقوا عليهم الخناق إذا كانت هناك مصلحة بحيث لا يخرجون من أماكنهم { وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ } أي اقعدوا لهم في كل طريق ، و هذا يدل على ماذا ؟ على أن المذكور هنا من القتل و من الأخذ الذي هو الأسر و من الحصر و من الترصد لهم يدل على أن هذه وسائل لإضعاف العدو ، قال هنا { وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ } فذكر التوبة فإن تابوا من ماذا ؟ من الشرك { وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } أي لا سبيل لكم على هؤلاء لأنهم صاروا بعد التوبة صاروا إخوانا لكم كما ذكرَ عز وجل في هذه السورة بعد آياتٍ ستأتي معنا { فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فهو غفورٌ لهم إذا تابوا إليه و أيضًا هو رحيمٌ بهم عز وجل ، و لذا مرَّ معنا في سورة الأنفال { قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ } ( الأنفال : 38 ) فقال هنا { فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ } أي هذا الكافر الذي بيننا و بينهم حرب أي بعد ما انتهت هذه الأشهر لو أن أحدًا من الكفار طلب الأمان للدخولِ إلى بلاد المسلمين لكي يسمع القرآن فإنه و الحالةُ هذه فإنهُ يُؤمَّن حتى يسمع القرآن ، و أيضًا من هذه الآية و من غيرها و مما جاء من آثار من أن الكافر إذا أرد أن يدخل الكافر الحربي إذا أراد أن يدخل إلى بلاد المسلمين ، من أجل أن يبيع تجارة أو ما شابه ذلك ، فإنهُ يُعطى الأمان فقال هنا { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ } أي نوع من أنواع المشركين { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ } أي طلب منك الجوار و الأمن بأن تصونهُ وأن تحفظهُ حتى يسمع كلام الله ، قال { حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } من أجل أن يسمع كلام الله عز وجل فإنه يُؤمَّن، وتأمل هما: حتى يسمع كلام الله دل هذا على ماذا ؟ على أن السماع كافٍ في إقامة الحجة على الناس ، و لذا مرَّ معنا مُفصلًا حول هذه المسألة و أيضًأ نُعيدها من باب التأكيد من أن الدين متى ما بلغ أحدًأ فإن الحُجةَ قامت عليه ، بدليل ماذا ؟ قولهُ عز وجل { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ۚ } ( الأنعام : 19) و الله عز وجل قال كما في سورة الأعراف { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ۖ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ۚ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ۗ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللَّهِ} ماذا قال: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (30) } ( الأعراف : 29 و 30 ) فذمهم على هذا الأمر و ذكر هنا ماذا قال ؟ { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } و النبي ﷺ قال كما عند مسلم ( والذي نفسُ محمدٍ بيده لا يسمع) قال (لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة) أي ممن بلغتهُ الدعوة يهودي و لذلك ذكر بعد الأمة اليهودي و النصراني (يهوديٌّ، ولا نصرانيٌّ، ثم يموتُ ولم يؤمن بالذي أُرْسِلتُ به، إلَّا كان مِن أصحاب النار) و الخوارج بلغهم القرآن و مع سماعهم للقرآن قامت عليهم الحجة مع أنهم فهموا القرآن فهمًا يُخالفُ الشرع و مع ذلك فقد ذمهم النبي ﷺ.
{ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } حتى يسمع كلام الله: لم يقل عبارة كلام الله أو حكاية كلام الله كما تقول تلك الطوائف ، فإنهم لا يؤمنون بأن القرآن كلام الله و إنما يقولون القرآن هو عبارة عن كلام الله أو حكاية عن كلام الله ، و من ثم فإن على المسلم إذا أراد أن يذكر ما يتعلق بالتفسير و إن كان بعضُ العلماء يذكرها لكن ليس هذا مقصوده، و من ثم فإن بعضهم يقول حكى القرآن كذا أو عبرَ القرآن كذا ، الأولى و الأسلم أن يُبتعدَ عن ذلك لكن لو صدرت من شخصٍ عالمٍ وهو من علماء أهل السنة و الجماعة ، فليس المقصود كمقصود هؤلاء الذين هم أصحاب الفِرق المنحرفة فإن كلامَهُ الذي يذكره يُحمل على كلامه الآخر الواضح المُبَيَّن ، إذًا قوله { حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ } يعني إذا سمع كلام الله و هل هناك مدة معينة ؟ الجواب: لا . الآية أطلقت متى ما عرفنا أن هذا الرجل أراد أن يعرف أكثر عن دين الإسلام فإنهُ يُترك إلى أن تقوم حتى نعرف أن الحجةَ قامت عليه ثم بعد ذلك يُخرج و إذا أخرج لا يُخرج و يتمكن أحدٌ من قتلهِ ، لا، بل إنهُ إذا أُمِّن فدخل بلاد المسلمين ثم سمع كلام الله ولم يؤمن لابد أن يُبَلَّغَ مأمَنَهُ، بمعنى أنه يوصل إلى مكانه الذي يأمن فيه فما أعظم هذا الدين الذي يُزعمُ في هذا الزمن من أنهُ دينُ سفكِ دماء أو زهق للأرواح أو ما شابه ذلك ، فانظر قال { حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ } أي هؤلاء الكفار قومٌ لا يعلمون عِظم هذا الدين ، فهذا الحكمُ من أجل ماذا ؟ من أجل أن يسمع كلام الله لأنهم لا يعلمون عظمة الله و من ثم فإنهم إذا سمعوا كلام الله قامت عليهم الحجج حتى لو أنهُ طلب ماذا ؟ لو طلب مثلًا أن يدخل في بلاد الإسلام ليس من أجل أن يسمع كلام الله و إنما من أجل أن القرائن قامت عنده على أن هذا الإسلام هو دين الحق ، لكن هناك ما يُطرح على هذا الدين من شُبهات فاراد أن تُبين لهُ هذه الشُبهات أيًضًا يكون هذا الحكمُ حكمهُ، قال هنا { ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ } { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ } هذا الاستفهام استفهام للاستبعاد و للنهي يعني أنتم لا يكن لكم عهدٌ مع هؤلاء { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ } لمَ ؟ لأنهم ينقضون هذه العهود { إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۖ } أي عند المسجد الحرام أي الحرم المقصود هنا الحرم لأن بعض القبائل لم تنقض العهد الذي بينها و بين النبي ﷺ و كان مكانها حول الحرم، عند المسجد الحرام كما مرَّ معنا { وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } { إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا } فقال هنا { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۖ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ۚ } أي هنا ما شرطية { فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ } على هذا العهد { فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ } هذا يدل على ماذا ؟ على أن من لم ينقض العهد مع النبي ﷺ فإنهُ على عهدهِ { فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } أكد ذلك من أن الوفاء بهذا العهد الذي لم يُنقض بيننا و بين هؤلاء الكفار من أنهُ من صفات المتقين ، قال { فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } و هذه المحبة صفة تليقُ بجلالهِ و بعظمتهِ من غير تحريفٍ ولا تمثيلٍ ولا تكييف { كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ } أي من أنهم يغلبونكم { كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا } أي لا يُراعوا فيكم { لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ۚ } لا يُراعوا فيكم إلَّا ، الإلَّ هنا قيل هو ماذا ؟ قيل القرابة ، و قيل هو الحِلْف الذي هو الجوار، و قيل هو الله، و هذا شامل { لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ۚ } أي ولا ما يكونُ مما يجب أن يوفى من حيثُ الذمة يعني من حيثُ العهد و ما شابه ذلك من الحقوق، يعني أن هؤلاء لا يُراعوا فيكم لا عهدًا ولا رَحِما ولا قرابة ولا حقًا من الحقوق { كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ۚ يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ } إذًا هنا في حال الغلبة إذا غلبوكم { لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً } في حالِ غلبتكم و ضعفهم ماذا قال هنا ؟ يكتمون شيئا قال هنا { يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ } بمجرد الأفواه فقط لكن القلوب { وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ } أن يرضوا عنكم { وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ } فأكثر هؤلاء فسق، و هنا الكفار لا شك أن الجميع فسقة و الفسق هنا هو الفسق الأكبر لكن لماذا قال الأكثر ؟ { وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ } باعتبار ماذا ؟ باعتبار أن أكثرهم فسق من حيث نقض العهد ، { اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ } هذا هو السبب فيما فعلوه من ما ذكر من صفاتٍ ذميمة في الآية السابقة { اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا } أي اشتروا الدنيا و جعلوا دين الله و آيات الله هي الثمن { اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا } و الدنيا كلها عند دين الله هو ثمنٌ قليل، و هذا يدل على ماذا ؟ يدل على أن الكفار حتى من غيرِ أهل الكتاب فإنهم { اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا }، { اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ ۚ } كما أنهم فسقة وهم أصحابُ صدودٍ فيما يتعلقُ بأنفسهم أيضًا صدوا غيرهم { فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ ۚ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } هذا العمل الذي هم عملوه عملُ سوء و ذُمُّوا عليه { إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
{ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ۚ } لماذا كررها ؟ كررها { لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً } لأمرين لأنه ذكر الإلّ و الذمة فيما مضى حال غلبتهم عليكم، أما هنا ففي جميع الأحوال فهم لا يرقبون فيكم إلَّا ولا ذمة، و أيضًا فيما ذكر عز وجل في الآيةِ الأولى الخطابُ موجهٌ لمن ؟ موجهٌ للمسلمين للصحابة رضي الله عنهم أما هنا بيّنَ أن حال هؤلاء الكفار مع أي مؤمن و ليس أنتم فقط ، مع أي مؤمن { لَا يَرْقُبُونَ } أي لا يراعون في أي مؤمنٍ إلَّا ولا ذمة { وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ } المتجاوزن لحدود الله و من هذا التجاوز أنهم بغوا عليكم { وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ }
{ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ } مرت هذه الآيةُ معنا في ما مضى قال هنا { فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } و مقتضى الأخوة في الدين أنهُ يُكف عن هؤلاء { فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ۗ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ } أي نبين الآيات { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } { وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي عندهم علم و يرغبون في الإقبال على الدين لكن هنا لما ذكر فيما مضى ذكر الكفار وصفهم بماذا ؟ وصفهم بأنهم لا يعلمون { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ } قال هنا { وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } دل هذا على أن أهل الإيمان هم أهل العلم لأنهم انتفعوا بآياتِ الله و ليس كأولئك المشركين الذينا اشتروا بأيات الله ثمنًا قليلا كما مرَّ معنا في الآيات السابقات { وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }
{ وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ } وإن نكثوا أي نقضوا أيمانهم من بعد عهدهم { وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ } أي عابوا على دينكم و دل هذا على أن من طعن و عاب الدين فإنهُ كافر { وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ۙ } فلم يقل فقاتلوهم و إنما قال { فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} التصريح من باب ماذا ؟ من باب التحقير لهؤلاء و أيضًا إذا قتلتم فاقتلوا الرؤساء و الصناديد فإن في قتل هؤلاء عبرة لغيرهم { فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ۙ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ } أي لا أيمان لهم بمعنى من أنهم لا أيمان لهم مُحترمة فهم لا يحترمون ماذا ؟ الأيمان خلافًا لمن قال من أن أيمان الكفار ليست بأيمان حقيقية و ليست واقعية فيُقال أثبتها الله عز وجل هنا لمَ ؟ لأنه قال في أول الآية { وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم } دل على أن أيمانهم أيمان ماذا ؟ أيمان من حيثُ الواقع موجودة و إلا لما وصفت بالنكث لكن هؤلاء قال عنهم عز وجل { لَا أَيْمَانَ لَهُمْ } أي لا أيمان لهم محترمة يُوفون بها { إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } أي قاتلوا هؤلاء لعلهم ينتهون ، سبحان الله هذا هذا يؤكد ما قررناه في قوله تعالى { فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } (الأنفال : 57 ) المقصود من التشريد من أجل أن يتذكر هؤلاء و أن يعودوا إلى الدين أيضًا هنا ماذا قال ؟ { لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } أي ينتهون عن الكفر بالله عز وجل و عن نقض العهود ، فدل هذا على أن الإسلام لم يأتِ من أجل أن يعتدي على الناس أو أن يسفك الدماء أو أن يُزهق الأرواح و بينا ذلك مفصلا عند قوله تعالى { فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } و عند قوله تعالى { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ۚ }
ثم قال { أَلَا تُقَاتِلُونَ } هذا حثُ للصحابة و لأهل الإيمان { أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ } أي نقضوا أيمانهم { نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ } هموا بإخراج الرسول من ماذا ؟ من مكة و هموا بإخراج الرسول لكن لم يتمكنوا من ذلك ، فالله عز وجل هو الذي أمرهُ بالخروج فخرج سالما ، و لذا مرَّ معنا في سورة الأنفال { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ } (الأنفال :30) لكن ذكر هنا ماذا ؟ ذكر هنا ما يتعلق بالإخراج و لم يذكر ما يتعلق بالحبس و لم يذكر ما يتعلق بالقتل ، قال بعض العلماء المقصود من ذلك أنه ذكر الإخراج هنا لأنه هو الذي وقع ، أما الحبسُ و أما القتلُ فإنهُ لم يقع، وقيل إنما ذكر الإخراج باعتبار ماذا ؟ باعتبار أنهُ هو الأقل و لم يتمكنوا مما هو أعلى منه من الحبس أو القتل و لعل و العلم عند الله أيضا مما يمكن أن يذكر هنا أن إخراج الإنسان من بلدته يساوي القتل . و لذا مرَّ معنا في سورة البقرة و بينا ذلك كما قال عز وجل { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ } ( البقرة : 84) فإخراج الإنسان من ديارهِ هو نظيرُ ماذا ؟ نظيرُ قتلهِ { وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } يعني هؤلاء هم الذين اعتدوا في أول الأمر ، أي في غزوة بدر من الذي بدأ ؟ بدأ هم ، وهم كفار قريش و أيضًا بدؤوكم في كل قتال فهم الذين أرادوا الاعتداء { وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ } و أيضًا كل هذه الصفات و كل هذه الأمور من باب حثِ أهل الإيمان على قتل هؤلاء {أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ } كيف تخشون هؤلاء مع أنهم ضعفاء، ثم هم أتوا بهذه الصفات الذميمة فيما يتعلقُ بكم و لذا قال { أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } قال { فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } يعني لو حصلت منكم خشية فتذكروا ماذا ؟ تذكروا خشية الله عز وجل و خافوا من الله عز وجل لأن من بيدهِ المقادير و من بيدهِ الأمور هو الله عز وجل لا هؤلاء ، و لذا كما قال تعالى { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ } ( البقرة : 249 ) و كما مرَّ معنا { وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ } ( الأنفال : 19) فقال هنا { أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } و قال {أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ } من باب الحث أيضا لأنه إذا قيل للإنسان أتخشى فلانَ، أتخشى فلانَ، فإنهُ يدعوهُ أنهُ يُقدِمُ عليه ولا يتوانى عن ذلك { فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي إن كنتم مؤمنين فعليكم بما أُمِرتم بهِ في هذه الآيات و أيضًا مما في هذه الآيات الخشية من الله عز وجل فهي سبيلٌ إلى الإيمان بالله .
{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ } كرر هنا القتل ، باعتبار ماذا ؟ باعتبار أن الله عز وجل سيحقق ما أراده عز وجل في هؤلاء من أن قتلهم سيكون بأمره عز وجل لكن جعلكم أسبابا { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } بأيديكم و لذا أنتم أسباب كما مرَّ معنا في سورة الأنفال كما قال عز وجل { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ } ( الأنفال : 7) ذكرنا هناك من أنه أراد ذلك إذ جعلكم أسبابا فقال هنا { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ } انظر { يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } قال هنا بأيديكم و لذا مرَّ معنا في سورة الأنفال { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ } (الأنفال : 17) فقال هنا { يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ } و هذا هو الخزي وهو الهوان، و هذا يُؤكد ما ذكرتهُ دائمًا من أن المسلم يتأمل السورة الأول منها و في ثناياها و في آخرها ، ماذا قال عز وجل في أول السورة { وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ } قال هنا { وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ } فإذا أخزاهم أليس الخزي الواقع بهؤلاء يكونُ نصرًا لأهل الإسلام فالجواب عن هذا أتى بالنصر بعد خزي هؤلاء من باب ماذا ؟ { وَيُخْزِهِمْ } بمعنى أنهم يُصبحون ذا هوان و خزي ولا يترتب من حصول الهوان و الخزي أن تكونوا قد انتصرتم لكن هنا دل هذا على ماذا ؟ أن الله عز وجل يُخزهم و أيضًا { وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } لمَ ؟ لأن هؤلاء المؤمنين استُضعِفوا من قِبَلِ هؤلاء و أُوذوا ، ففي هذا شفاء لصدور ماذا ؟ قلوب أهل الإيمان { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ۗ } الغيظ الذي يكونُ في القلب يُذهِبهُ الله عز وجل، و هنا هل هناك تكرار أو هناك تأكيد لهذا الكلام لأنه قال { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } قال بعض المفسرين قال { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } بمعنى أن هذه هي المرتبة الأقل ثم بعد ذلك يحصل ما هو أعظم { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ۗ } و الذي يظهرُ من أن قولهُ تعالى { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } من أن هذا هو حصول المطلوب وهو الشفاء { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ۗ } هو زوال المكروه فإذا زال الغيظ من القلب زال المكروه و إذا نزل الشفاءُ حصل المطلوب { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ۗ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ } فالله عز وجل يتوب على من يشاء من هؤلاء الكفار ، فمن تاب ، تاب الله عليه إذًا قوله { وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ } يدل هذا على ماذا ؟ على أن من أسبابِ مشروعيةِ الجهاد في سبيل الله أن يتوب من شاء الله أن يتوب عليه قال { وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } فهوعليمٌ بمن يستحق الهداية ، و التوبة حتى يتوب عليه و هو حكيمٌ عز وجل ليضع هدايتهُ و توبتهُ حيثُ شاء من خلقهِ { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .