بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة التوبة من آية ٥٦ إلى ٧٢
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري حفظه الله
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين أما بعد فكنا قد توقفنا عند قول الله ﷻ ” وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ” هؤلاء هم المنافقون يحلفون بالله عز وجل من أنهم منكم يعني من أهل الإيمان ولكنهم كذبه إنما قالوا هذا القول خوفا منكم ولذا قال بعدها “وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ” أي يخافون “لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً ” أي لو يجد هؤلاء المنافقون ملجاً أي يلتجئون إليه من حصن أو غيره أو مغارات وهو ما يكونُ في الجبل أو ما يكون تحت الأرض ” أَوْ مُدَّخَلاً ” وهو المكان الضيق ” لَّوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ “لذهبوا إليه وهم يجمحون أي يركضون فدلّ هذا على أنهم لا يرغبون فيكم وإنما يخشونكم فإنهم لو وجدوا ملجأً أو مغارات حتى لو رأوا المدخل الضيق الذي يضيق بهم فإنهم يهربون إليه خوفاً منكم “وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ ” أي ومن هؤلاء المنافقين من يلمزك أي من يُعيبك في الصدقات فإنهم عابوا على النبي ﷺ فكان ﷺ يقول (رحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر) “وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ” أي في تقسيمك للصدقات فإن أُعطوا منها رضوا أي رضوا بهذه القسمة “وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ” أي يغضبون ويكرهون هذه القسمة ويقولون هذا القول وهذا يدل على ماذا؟ من أنهم إذا أُعطوا إنما هم يرضون من أجل هذا العطاء وإلا ليس من أجل تصديقك والإيمان بك “فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ” وتأمل هنا فأنهم أن أعطوا منها رضوا دلّ هذا على أن رضاهم في الماضي كان لوقتٍ مُحدد ولحاجة معينه لما أعطيتهم لكن السّخط ملازم لهم ولذا أتى بالفعل المضارع الذي يدل على الاستمرار قال “إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ “أي هؤلاء “وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُواْ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ” بمعنى أن قلوبهم رضيت بما قدره الله ﷻ لهم “وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُواْ مَا آتَاهُمُ” أي ما أعطاهم الله ورسوله “وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ” أي وقالو سيكفينا الله ﷻ وهذا يدلُ على أن كلمة الحسب وهي حسبنا الله يؤتى بها في جلب الخير فمن أراد شيئاً ينتظرهُ أو أرادَ خيراً يطلبهُ من الله عز وجل فلهُ أن يقول: حسبي الله ونعم الوكيل فليست مقصورة على دفع المكروه قول حسبي الله ونعم الوكيل ليست مقصورة على دفع المكروه و إنما هي في جلب المحبوب “وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُواْ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ” ولم يقل حسبنا الله ورسوله مما يدلُ على أن الحسبَ إنما هو لله ﷻ ولذا قال تعالى “أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ “قال “وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ” أي في المستقبل لو وثقوا بالله ﷻ وقالوا هذا القول فإن الرزق سيأتيهم في المستقبل “وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ” والرغبةُ تدلُ على ماذا؟ تدلُ على تعلق القلب بالله ﷻ قال هُنا عن هؤلاء ( إنا إلى الله راغبون) دلّ هذا على أن الرغبةَ لا تكون إلا لله عز وجل ولذا لم يجمع معهُ رسوله ﷺ ولذا قال تعالى” فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ” فالرغبةُ لله ﷻ وحده “إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ” ” إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ|” لما ذكر في ما مضى ما يتعلق بالصدقات وبقسمتها بيّن هُنا ما يتعلق في الزكاة الواجبة ” إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء” وهؤلاء الأصناف الثمانية هم الذين تُصرف إليهم الزكاة ولا يجوز أن يُعطى أحد سوى هؤلاء “إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء ” وهؤلاء الثمانية لا يلزم على القول الصحيح أن توزع الصدقةُ عليهم بل لو أعطى صنفاً واحداً لكفى بدليل ماذا؟ بدليل أن النبي ﷺ قال كما في الصحيحين ( فأعلمهم أن الله قد أفترض عليهم صدقه تؤخذ من أغنياهم وتُرد على فقرائهم) فدلّ هذا على أنها صُرفت إلى صنف واحد وهو الفقير” إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء ” قال هنا للفقراء واللام هنا للتمليك للفقراء والمساكين والفقراء هو الذي كما قال العلماء هو شبيهٌ بمن كُسر فقار ظهرهِ فإنهُ يكونُ عاجزاً وكذلك الشأنُ في الفقير فإنه يكونُ عاجزا ويُصيبهُ ما يُصيبهُ من الهمّ وما يُصيبهُ من هذهِ الأوجاع والآلام “إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ “والمسكين هو من أسكنهُ الفقر حتى صارَ ذليلاً خاضعاً متواضعاً شأنهُ كشأن الفقير ومن ثمّ بعض العلماء قال إن الفقيرَ أعظم حاجة من المسكين وقال بعضهم بل إن المسكين أعظم حاجة فالفقير كما قال ﷻ هنا ذاكراً الفقير في أول الأمر مما يدلُ على أنه أحوج من من؟ من المسكين لأن المساكين كما قال ﷻ في سورة الكهف “أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ” وقال بعضهم بل إن المسكين أعظم حاجة من الفقير لقوله تعالى “أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ” والصحيح أن الفقير هو المسكين لكن إذا اجتمعا بمعنى أنه إذا قيل الفقير دخل المسكين وإذا قيل المسكين دخل الفقير لكن إذا اجتمعا كما هُنا يكون الحال ماذا؟ الفقير هو الذي لا يجد شيئاً من حاجته أو يجد بعض كفايته أما المسكين فهو يجد نصف الكفاية ولكنهُ لا يجد تمام الكفاية” إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا” وهم الذين نصّبهم وليّ الأمر لجمع وجباية الزكاة وليس لهم رواتب أما الوكلاء و هم وكلاء الشخص الغني فإنهم لا يجوز لهم أن يأخذوا شيئاً من الزكاة لأنهم وكلاء “وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ” أي تدفع الزكاة لمن أُريد تأليف قلبه من باب زيادة إيمانهِ أو كفّ شره فدلّ هذا على أنّ المؤلفة ولو كانوا من الكفار من باب دفع شرهم أو من باب تأليفهم إلى الإسلام فيجوز دفع الزكاةِ إليهم وذلك لما كان يفعلهُ ﷺ مع رؤساء الكفر فكان يُعطيهم ويُعطيهم حتى أسلم هؤلاء فقال هُنا “وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ” أي تُصرف الزكاةُ في الرقاب وقال هنا “وَفِي الرِّقَابِ” بينما الأصناف السابقة للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم أتى بلام التمليك مما يدلُ على ماذا؟ مما يدلُ على أنّ هؤلاء يلزم أن يُمّلكوا بأيديهم وأيضاً هؤلاء الأربعة المذكورون لو أنّ الزكاة دُفعت إليهم ثم اغتنى الفقير بإرثٍ أو ما شابه ذلك فإنه لا يلزمهُ أن يرد هذه الزكاة وإن ردها من باب طواعيه فلهُ ذلك لكن من حيث اللزوم لا يلزمهُ لأنهُ لما ملكها ملكها وهو في حالة فقر أما هؤلاء المتبقون “وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ” لا يلزم أن يُملكوا فإنهُ لو أن الإنسانَ مثلاً أعطى الدائنَ مالهُ على فلان ولم يُسلم هذا المال لهذا المدين وإنما سلمهُ لصاحب المال برئت الذمة وأيضاً لو أنَ الإنسان أعتق الرقاب من غير أن يُسلم العبد المال أو المكاتب من غير أن يُسلمهُ المال فإنه يجوز ذلك وفي قوله “وَفِي الرِّقَابِ ” يدلُ على أنَ الفقير لو أُعطي لا من أجل فقرهِ وإنما أُعطي من أجل دينهِ الذي عليه ثم بعد ذلك إذا بالدائن عفا عن هذا الديّن أو عفا عن نصف الديّن فإن هذا الفقير يلزمهُ أن يُعيدَ هذا المال لأنهُ إنما أُعطي هذا المال لسداد دينهِ ولم يُعطى لفقرهِ ولذا لو أنّ هذا الفقير أُعطي من أجل سداد الديّن ثم اغتنا فأصبحَ عندهُ غنى فإنهُ يلزمهُ أن يُعيدَ هذا المال قال ” وَفِي الرِّقَابِ ” أي وفي عتقِ الرقاب بأن تُشترى الرقاب المؤمنة فتُعتق أو أنّ المكاتب وهو العبد الذي كاتبَ سيدهُ على أنه إذا دفع لهُ مبلغٌ من المال من أنهُ يُعتقهُ ففي حال هذه المكاتبة لوأُعطي من أجل أن تُسددَ ما عليهِ من ديون المكاتبة فإنهُ يجوز ذلك وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ ” أي المدينين فمن استدانَ سواء كان هذا الدين فيما يتعلق بنفسه وليُعلم أن الدينَ إنما يُسددُ إذا كان هذا الدين لقضاء الحوائج الضرورية أما ما يفعله بعض الناس من أنه يستدين من أجل الكماليات وما شابه ذلك فإنه لا يُعطى ولذا قال “وَالْغَارِمِينَ “فمن غرمَ وأصبح بذمته مال فإنه يُعطى لسداد دينهِ إذا كان هذا الدينُ لما يتعلق بحق نفسه أومن أجل ما يتعلقُ بإصلاحِ ما يكونُ لغيرهِ مثال ذلك لو أن إنسان أصلح بين قبيلتين وتكلّف من المال من أجل أن يُصلح بينهما فأصبح غريماً فإنهُ يُعطى من الزكاة لسداد هذا الأمر ولذا في صحيح مسلم لما أتى قبيصة قال: يارسول الله إني تحملتُ حمالاً وهو صُلحٌ بين طائفتين فقال ﷺ أقم حتى تأتينا الصدقة مما يدل على أنه يُعطى من الزكاة ” وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ ” أي وفي الجهاد في سبيل الله ﷻ من شراء أسلحة ونحو ذلك وأدخل بعض العلماء الحج فمن كان فقيراً فإنه يُعطى من الزكاة من أجل أن يُحج وهو خلافٌ بين أهل العلم يُرجح شيخ الإسلام جواز ذلك لبعض الآثار الموجودة وبعض العلماء لا يرى أنه يُعطى الفقير من أجل الحج ” وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ” بعض العلماء ذكرَ ما يتعلق بجميع أنواع الخير فإنها من سُبل الخير كبناء المساجد وبناء دور التحفيظ وما شابه ذلك لكن الصحيح من أن هذه لاتدخل لمَ؟ لأنه لو كان المقصود في سبيل الله هو العموم لما كان لذكرما مضى من الأصناف السابقة لما كان لذكرها معنى فدلّ هذا على أن المقصود في سبيل الله هو ما يتعلق بالجهاد في سبيل الله وبعض العلماء أدخل العلم الشرعي وليُعلم أن هذا القول الذي قيل إن العلم الشرعي يدخلُ في ذلك لا بأس به فهو داخلٌ ضمن ذلك لأن العلمَ هو جهادٌ في سبيل الله لكن متى؟ إذا لم يوجد دعمٌ لهذا العلم و كثرت الفتن وكثرت البدع والشبهات ولا يستطيعُ أهلُ السنة أن يدفعوا ذلك إلا بأخذ الزكاة بمعنى أن الحاجةَ مُلحة فإنها ولاشك لاشك أنها داخلةٌ في هذا كأن مثلاً كأن تؤلف الكتب التي يُعرف أنهُ يُستفادُ منها لدفع شُبه الضالين والمنحرفين ولدفع التهم عن الإسلام فإنه داخلٌ في ذلك فالعلمُ الشرعي جهادٌ في سبيل الله ولذا كما سيأتي معنا في قوله تعالى في آخر السورة (وما كان المؤمنون لينفروا كافه فلولا نفر من كل فرقه منهم طائفه ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون)، ” وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ” وهو المسافر الذي احتاج إلى المال “وَابْنِ السَّبِيلِ “إذا احتاج هذا المسافر لهذا المال وليُعلم أنهُ كما ذكر العلماء من أن من كان بحاجةٍ إلى الزواج فإنهُ إن لم يجد فيجوزُ أن يُعطى من الزكاة لكن يُعطى من الزكاة ما يُتمم بهِ هذا الزواج لا من أجل أن يستأجر القصورَ وأن يضع الولائمَ الزائدة وما شابه ذلك لأن ذلك لايجوز لكن لو احتيجَ إلى أن يُدفع لهُ المهر فإنه لابأس بذلك إذا لم يكن قادراً لمَ؟ لأنه إذا أعطينا الإنسان لفقرهِ من أجل مطعمهِ ومشربهِ ليُقيم حياتهُ البدنية الدنيوية فمن باب أولى أن يُعطي من المال من أجل ماذا؟ أن يُحفظَ لهُ دينهُ وأن يغض بصرهُ وأن يُحصّنَ فرجهُ قال هُنا “وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ” أي ما مضى شيء فرضه الله ﷻ فلا يجوزُ لأحدٍ أن يُغيرهُ أو أن يُبدلهُ ” فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ “فهو عليمٌ بمصالحِ عبادهِ وهو حكيمٌ إذ قسّمَ هذه الزكاة على هؤلاء الأصناف ” وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ “،” وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ “أي من هؤلاء المنافقين ولذا تجد أنهُ يقول ومنهم ومنهم ومنهم حتى قال بعض السلف خشي هؤلاء أن لا تُبقي هذه السورة على أحدٍ منهم إلا فضحتهُ ولذا ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمى هذه السورة بالفاضحة لأنها فضحت من؟ هؤلاء المنافقين “وَمِنْهُمُ” أي من المنافقين “وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ” أي أذيتهم للنبي ﷺ متنوعة ومن ذلك قولهم هو أذن أي هو يستمع لكل ما يُقال له وكل ما يُذكرُ لهُ لأنهم لما قالوا قولاً قبيحاً فيما بينهم خافوا على أنفسهم فقال بعضهم محمدٌ أذن إذا أتينا إليه وأخبرناه أننا لم نفعل شيئاً صدّقَ, فقال ﷻ “وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ “وانظروا كيف جعلوا النبي ﷺ بجميع أعضائه كأنه أذن مما يدل على ماذا؟ مما يدلُ على أنهُ يستمعُ لكل شيء وهذا من باب المبالغة لما ذكرهُ هؤلاء فماذا قال ﷻ ؟ “قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ “أي هو ﷺ أذن خير فإنه إذا قيل لهُ القول فإنهُ يميز بين الحق وبين الباطل لكن لكرمهِ صلى الله عليه وآله وسلم فإنهُ إنما يأخذُ بظاهرِ قولكم وإلا فهو يعرفُ الحقَ من الباطل “قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ “وقال خيرٍ لكم باعتبار ماذا؟ باعتبار والعلم عند الله من أن هؤلاء من حيث الظاهرأظهروا الإيمان أو ” أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ “من باب من منَّ الله ﷻ عليهم من بينهم ممن هداهُ الله ﷻ “قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ” لأن بعضهم منَّ الله ﷻ عليه بالهداية كما سياتي معنا في قوله تعالى “إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ”، “قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ “، ” يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ” لما أتى إلى اسم الله ﷻ عدى الإيمان بحرف الجر (الباء) وبالنسبه إلى المؤمنين (باللام) ” يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ” إذا أتى يؤمنوا مُعدً بالباء يدلُ على ماذا؟ على المُخبر به يعني يؤمنُ باللهِ وبما أخبرَ بهِ ” وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ” أي يُصدق المخبرين وهم أهل الإيمان ” وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ” أي يُصدقهم” وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ” أيضاً هو ﷺ رحمه للذين آمنوا منكم ثم قال “وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ” لما ذكر أذيةَ هؤلاء بيّن أن كل من آذى رسول الله ﷺ ” وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم “عذابٌ مؤلم سواء كان هذا المؤذي من المنافقين أو من غيرهم “يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ ” يحلفون بالله لكم ليرضوكم لأنهم إنما يخشون منكم ولذا ماذا قال ﷻ فيما مضى؟ “وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ” أي يخافون منكم ولا يخافون من الله ولذا لما حلفوا حلفوا بالله من أجل أن يُرضوكم لأن همتهم رضا المخلوق و ليس الهمة عند هؤلاء أن يُرضوا الله ورسوله قال تعالى “يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ” ولم يقل أن يرضوهما كما مر معنا من أنهُ حُذف أحدهما استغناء بدلالةِ ضمير الآخر قال هنا ” وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ” لمَ؟ لأن من أرضى الله فقد أرضى رسول الله ﷺ ” وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ” فأهل الإيمان يبحثون عن رضى الله وعن رضى رسول الله ﷺ لكن هؤلاء ليسوا بأهل إيمان فإن كانوا أهل إيمان فليُرضوا الله ويُرضوا رسوله ﷺ ” وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ” ألَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ” استفهام توبيخي وإنكاري، ” ألَمْ يَعْلَمُواْ ” أي هؤلاء المنافقون ألَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ “أي من يكون محادّ للهِ ولرسولهِ كأن يكون في جانب والشرع في جانب بمعنى أنهُ مخالفٌ لدين الله ومخالفٌ لما جاء به الله ولما جاء به رسول الله ﷺ (ألم يعلموا انه من يحادد الله و رسوله فأن له نار جهنم خالداً فيها) وذلك من باب ماذا؟ من باب تحذير هؤلاء ” فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ” الخزي العظيم الحقيقي والذل والهوان أن يكون مصيرُ الإنسان أن يكون مصيرهُ إلى نار جهنم، ” ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ” ( يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة) يحذر هؤلاء المنافقون أن تُنزل سورة على أهل الإيمان فتفضح هؤلاء المنافقين وقال بعض العلماء( يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة)أي تُنزل على هؤلاء المنافقين وعلى كل حال القول الأظهر والأكثر عند العلماء من أن الضمير يعودُ على أهل الإيمان لأنه إذا نزلت السورة على أهل الإيمان فإن هؤلاء سيفتضحون وسيكون الخبر واصل إلى هؤلاء المنافقين يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ ” هذا يدل على ماذا؟ يدل على أنهم في خوف من المخلوقين، يحذرون من المخلوقين” يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ استهزأوا” لأن قلوبهم مرضى “فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ” ، ” قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ” قل لهؤلاء استهزئوا وليس الأمر هنا من باب الإباحة!! لا وإنما الأمر هُنا من باب ماذا؟ من باب الوعيد الشديد، “قُلِ اسْتَهْزِئُوا ” لأنهم يستهزئون بدين الله ” قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ” وهذا يدل على ماذا؟ يدل على أن ما في القلب سيُخرجهُ الله ﷻ ولذا قال ﷻ (ولتعرفنهم في لحن القول) ولذا قال هنا ” قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ” قال بعض المنافقين في بعض أسفار النبي ﷺ ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء يقصدون النبي ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغبَ بطونا يعني يكثرون الأكل ولا أكذب ألسنا ولا أجبنَ عند اللقاء فكان عوف رضي الله عنه سمعَ هؤلاء فأراد أن يخبر النبي ﷺ فإذا بالآية نزلت ولذا لما علمَ بعض هؤلاء المنافقين أتى إلى النبي ﷺ وقال إنما كُنا نخوضُ ونلعب إنما هو الخوض واللعب الذي نقطع به عنا الطريق و مسافة السفر قال ” وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ “أي المنافقون إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ ” استفهام إنكاري لم يبق شيء تخوضون فيه و تلعبون فيه إلا الله ﷻ والاستهزاء بشرعه وبرسولهِ و بآياته ” لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا” فعذركم غير مقبول وهذا يدل على ماذا؟ يدل على أن من الأعذار مالا يُقبل “لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ “هم في الحقيقة ليسوا بمؤمنين لكن لما أظهروا الإيمان فيما هو في الظاهر قال “قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ “وهذا يدل على ماذا؟ يدلُ على أن من استهزأ بالله أو بآيات الله الشرعية القرآن أو بالآيات الكونية من شمس وقمر وما شابه ذلك او أستهزأ بالرسول أو استهزأ بشيء من الشرع فإنهُ يكونُ كافرا “لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ ” كان بعضهم ممن كان موجوداً أنكر ذلك وتاب “إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ” أي بسبب إجرامهم وأي جرمٌ أعظم من الاستهزاء بدين الله و بشرع الله ﷻ فقال هنا “إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ * الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ” لما ذكر ما يتعلق بالمنافقين وكأن البعض قد يظنُ أن النفاق إنما هو محصور في الرجال فقط في الذكور فذكر هنا أن شأن النساء المنافقات كشأن من؟ كشأن الرجال المنافقين ” الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ” بمعنى أنهم قد أصبحوا شيئاً واحداً في هذا النفاق ولذا قال “بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ” لأن هؤلاء كلهم قد انغمسوا في ماذا؟ في النفاق بينما لما ذكر ﷻ ما يتعلق بأهل الإيمان والمؤمنون كما سيأتي “وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ “يدلُ على أن أهل الإيمان كالجسد الواحد وأن الترابط بينهم هو ترابط على الإيمان وليس ترابطاً عن نفاق ولذا و العلم عند الله تغير الاسلوب قال في المنافقين “بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ” وقال في المؤمنين” أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ “،” بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ ” يأمرون بالمنكرِ أي بما ينكرهُ الشرع والعرف” يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ” أي بما عُرف حسنهُ شرعاً وعرفا قال (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) أي أنهم بخلاء وهذا يدل على ماذا؟ يدلُ على أنهم منعوا ماذا؟ منعوا الحقوقَ الدينية والدنيوية فإنهم منعوا المال يقبضون أيديهم ومنعوا الحقوق الدينية لأن أعظم ما ينتفع به الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهؤلاء قلبوا الأمور لو أنهم سكتوا لكان أمراً عظيماً فما ظنكُ إذا كان ما هو أعظم يقلبون الحقائق فيأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف فقال هنا “وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ” نسوا الله أي نسوا الله ﷻ بترك دينهِ فنسيهم الله بتركهم إذ خذلهم ومرّ معنا ما يتعلق بالنسيان هنا في ما يتعلق بنسبتهِ إلى الله ﷻ كما في سورة الأعراف قال ﷻ “فَٱلْيَوْمَ نَنسَىٰهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا وَمَا كَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا يَجْحَدُونَ” وفصلنا هناك هذه المسألة تفصيلاً شافيا فقال هنا ” نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ” والجزاء من جنس العمل كما قال “فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ” وقال تعالى “وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ “فقال هنا “نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ” وصفهم بالفسق وهذا الفسق هو الفسقُ الأكبر الذي هو الكفرُ ” إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ ” سبحان الله لما ذكر ما يتعلق بأحوالهم في الدنيا ذكرَ ما يكونُ لهم في الآخرة فدفعاً للتوهم ربما يُقال أين مصير الكفار؟ هل الكفار أقل منهم شأنا؟ فذكر الكفارُ معهم وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ” أي هي تكفيهم هي حسبهم ومع هذا العذاب الشديد قال “وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ ” أي طردهم الله ﷻ من رحمته “وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيم “عذاب مقيم مستمر خالدين في هذا العذاب أبداً ولذا هذه السورة وهي سورة التوبة لما ذكر ما يتعلق بأهل الإيمان ماذا قال؟ ” يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ “فقال لهؤلاء ولهم عذاب مقيم” كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ “حالُ هؤلاء المنافقين كحال من قبلهم من الأمم السابقة لكنّ الأمم السابقة الكافرة الظالمة تلك هي أعظم من هؤلاء من حيث كثرة الأموال من حيث كثرة الأولاد ومع ذلك لم تُغنِ عنهم شيئاً فما ظنكم بهؤلاء المنافقين ولذا قال ﷻ” كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ “حالكم كحال من قبلكم “كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً “كانوا أشدّ منكم قوة” وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُو” دلّ هذا على ماذا؟ على أنهم يستمتعون بهذه الحياة الدنيا وما فائدة استمتاع يعقبهُ النار قال ” فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ ” أي بنصيبهم ” فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ” أي بنصيبكم ” كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ “كررها من باب التأكيد” وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا” لم يقل كالذين خاضوا بعض العلماء يقول إن النون هنا في الذين حذفت فأصبحت الذي من باب التخفيف كما قال القائل إن الذي حانت بثلج دماؤهم إلى آخر البيت فقالوا هذا من باب التخفيف ولعله يكون أيضا من باب ماذا؟ من باب أنه عائدٌ على الخوض “وَخُضْتُمْ ” كالخوض الذي خاضوا فدلّ هذا على أن هؤلاء حالهم في هذه الدنيا بين خوضٌ وبين استمتاع، الاستمتاع هو اللعب والخوض هو القول الباطل فإنهم ما بين لعب وخوض باطل” وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ “الذين ذُكروا “حَبِطَتْ أعمالهم” أي بطلت أعمالهم” حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ “الذين خسروا دنياهم وخسروا آخرتهم وخسروا أنفسهم ألم يأتِ هؤلاء خبر الذين من قبلهم من الأمم السابقة” أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ” وهم قوم لوط (أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم) بمعنى(أتتهم رسلهم بالبينات) أي بالدلائل الواضحات فكذبوا فكذلك شأنكم إذا كذبتم بالنبي ﷺ فسيكون العذاب لكم قال “أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ” لكمال عدله ” وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ “فهم الذين ظلموا أنفسهم إذ أوقعوها في الكفر وفي النفاق “وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ” لما ذكر صنفَ المنافقين من الذكور والإناث ذكر من؟ ذكر من يُقابلهم وهم أهل الإيمان من الذكور والإناث “وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ” يناصرون بعضهم بعضا فيما يتعلق بدين الله ﷻ كما قال تعالى “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ” وكما قال ﷺ كما ثبت عنه (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر فقال هنا “وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ” ما صفاتهم؟ صفات طيبة نقية خلاف أولئك المنافقين “يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ” هؤلاء صفاتهم ماذا قال؟ “يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ” ومع ما يتعلق بنفع الآخرين النفع المتعلق بالدين ” وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ” فيما يتعلق بأنفسهم” وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ “فإنهم جمعوا بين إقامة الصلاة على وجهها الصحيح وبين إيتاء الزكاة وهي إعطائها للمستحقين كما مرّ في الآيات السابقات” إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ” الآية فقال هنا “وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ” لما ذكر أبرز ما لدى هؤلاء في مقابل ما لهؤلاء المنافقين وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن إقامة الصلاة ومن إيتاء الزكاة بيّن هنا من أنهم في جميع أحوالهم ” وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ” وتأمل أتت هذه الأفعالُ على صيغة الفعل المضارع الذي يُفيد الاستمرار فهم مستمرون على هذه الصفات الطيبات ولذا قال ” أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ” بينما المنافقون والمنافقات كما مرّ ” وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ” هنا لأهل الإيمان ” أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ” فهو العزيز القوي الذي لا يستعصي عليه شيء وهو حكيمٌ ﷻ إذ وفق أهل الإيمان بهذه الصفات الطيبة قال ” إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ” ” وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ “لما ذكر صفات هؤلاء فيما يتعلق بالدنيا من صفات أهل الإيمان بيّن مآلهم في الآخرة ” وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ” ومرّ معنا تفسيرها عند قوله تعالى في سورة البقرة “وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ” فقال هُنا ” وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً ” مساكن وصفها بأنها طيبة بها الطيبُ في كل شيء وفي كل نوع وفي كل حال” وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ” في جنات عدن العدن الإقامة “فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ” ثابته مستقرة ولذا أهل الجنة كما قال تعالى” لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا قال هنا ” وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً “مما يدل على ماذا؟ مما يدل على أنهم لما قدّموا رضا الله على المساكن التي ذكرها ﷻ في أول السورة ” قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ” الآية، ذكر هنا من أن هؤلاء لهم المساكن الطيبة” وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً “لكن أين؟ ” فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ” في ثبوت واستقرار واستمرار ” فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ” رضوان من الله أكبر من ذلك النعيم الذي سبق ولذا ثبت قولهُ ﷺ قال( إن الله عز وجل يُنادي أهل الجنة فيقول هل رضيتم فيقولون يا ربنا ومالنا لا نرضى وقد أدخلتنا الجنة ونجيّتنا من النار فقال أُعطيكم أفضل من ذلك أُحل عليكم رضوانِ فلا أسخطُ عليكم أبداً) فدلّ هذا على أن رضوان الله أعظم من ذلك النعيم “وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ “هذا هو الفوز العظيم الحقيقي.