بسم الله الرحمن الرحيم
التفسير المختصر الشامل
سورة التوبة
من آية 113 إلى نهاية السورة
فضيلة الشيخ زيد البحري حفظه الله
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين نبينا محمد ﷺ وعلى آله وأصحابه وسلَم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين أما بعد
فكنا قد توقفنا عند قول الله عزوجل ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ ﴾ لما ذكر عزوجل في أول السورة من أن المؤمن لا يجوز له أن يحب الكافر ولو كان أباً له ولو كان أخاً، قال تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ ﴾ ذكر هنا ما يتعلق بحالهم بعد الموت فإنه لا يجوز للمسلم أن يستغفر للكافر ولو كان ذلك الكافر قريباً له. قال تعالى ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ﴾ والنفي هنا يراد منه النهي ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ ونُهي عن الاستغفار هنا وقد ذكر عزوجل في هذه السورة ﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ۚ ﴾
﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ من بعد ما تبين واتضح لهم أنهم كفار وأن مصيرهم إلى النار وذلك بموتهم على الكفر، فمن مات على الكفر فإنه لا يجوز أن يُستغفر له إذا كان مشركاً، فمن مات على الكفر فإنه لايجوز له أن يستغفر له المسلم ولو كان قريباً له. قال تعالى بعد ذلك ﴿ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ ﴾ إذاً لا يُتأسى بإبراهيم في مثل هذا الأمر لأن إبراهيم عليه السلام وعد أباه أن يستغفر له قال ﴿ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ﴾ وقال تعالى ﴿ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ﴾ وذلك لأن إبراهيم ترك الاستغفار لأبيه بعد ما تبين إبراهيم أن أباه مات على الكفر فقال هنا ﴿ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ ﴾ أي بموته على الكفر ﴿ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾ فدل هذا على أن من كان عدواً لله عزوجل فإنه يُتَبَرأ منه ولو كان أباً كحال إبراهيم عليه السلام مع أبيه، وهذا يقرر ما ذكرناه سالفاً مما ذكره عزوجل أول السورة ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ ﴾
﴿ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾ فالأواه هوكثيرالتأوه وهوالتعبد لله عزوجل وهو حليمٌ لا يعاجل بالعقوبة وهو صبور في ذلك فدل على أن إبراهيم وُصف بوصفين وصف يتعلق بحق الله كونه أواه ووصف يتعلق بحق المخلوقين، فهو حليمٌ عليهم وهذا ظاهرٌ من حاله عليه السلام لما دعا إبراهيم أباه كما في سورة مريم ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ ﴾ ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ ﴾ أي ما كان الله عزوجل من لطفه ورحمته وحكمته بعد أن هدى قوماً أنه يصفهم بالضلال إذا أخطؤوا من غير ما يكون هناك علم سابق لهم، ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ ﴾ فإذا بيَّن لهم ما يتقون فتعمدوا ذلك فإنهم يكونون ضُلاَّلاً أما قبل ذلك فإن الله عفوٌ غفور، ومن ثم فإن ما وقع من البعض في استغفاره لأقربائه الكفار فإنه لايُلام على ذلك، قال تعالى ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ فهو بكل شيءعليم، فمن علمه عزوجل حاجة الناس إلى العلم وإلى الشرع فبيَّن ذلك عزوجل كما في هذه السورة في قوله ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ فله ملك السماوات والأرض فلو شاء عزوجل أن يعاقب عباده لعاقبهم عزوجل بعدله لكنه رحمهم عزوجل فله ملك السماوات والأرض ومن في الأرض هم هؤلاء البشر، ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾ وهذا يدل على عِظم ربوبيته عزوجل فواجب أن يتعلق العبد بالله عزوجل، فقال عزوجل ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾ إذاً ما الذي بعدها؟ ﴿ وَمَالَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ ﴾ أي من والٍ يحفظكم ﴿ وَلَا نَصِيرٍ﴾ ينصركم إذاً ما عليكم إلا أن تجعلوا الأمر إلى الله عزوجل وأن تتوكلوا عليه.
﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ﴾ قال هنا لقد تاب ودل هذا كما سبق من أن التوبة ذُكرت في هذه السورة ذُكرت مراراً،﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ ﴾ وهنا هل وقع النبي ﷺ في ذنبٍ حتى يتوب منه؟ قال بعض العلماء إنما ذكر النبي ﷺ من باب التشريف ومن باب التخفيف على الأمة وإلا فلم يقع منه ذنب، وهذا شأنه كشأن ما ذكرعزوجل في قسمة الغنائم ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ﴾ كما مر معنا والصحيح أن التوبة هنا ليس المقصود منها أنه ﷺ ذُكر لهذا الغرض الذي ذكره هؤلاء العلماء.، ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ ﴾ وذلك لما أَذن لبعضهم في قوله تعالى في نفس السورة ﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ﴾ ومر معنا تلك المسألة بالتفصيل حول ما يقع من الأنبياء من ذنوبٍ هل يجوز أن تقع عليهم الذنوب الصغائر أم لا؟ عند قوله تعالى في سورة النساء ﴿ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ بيَّنا ذلك مفصلاً.
﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِالَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ﴾ قال هنا في ساعة أي في زمن العسرة وذلك لأن غزوة تبوك وقع فيها ما وقع من الشدة حتى سُمي بجيش العسرة حتى إن عثمان رضي الله عنه قدَّم شيئاً عظيماً في تلك الغزوة لحاجة المسلمين إلى المال، ﴿ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ﴾ أي يضل ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ﴾ ليس معنى هذا الزيغ أنهم يزيغون عن دين الله عزوجل وإنما من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم بالبقاء في المدينة وترك الخروج إلى غزوة تبوك، ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ﴾ سبحان الله ما أعظم لطف الله عزوجل فإن هؤلاء لما كادوا أن يتركوا الخروج إلى تبوك الله عزوجل تولاهم وأعانهم وسددهم وهذا يدل على أن العبد المؤمن التقي إذا همت نفسه بشئ يخالف الله عزوجل وتوكل على الله فإن الله عزوجل يحفظه من الذنوب ولذا قال عزوجل كما مر معنا في سورة آل عمران ﴿ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا ۗ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ قال ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ﴾ كرر التوبة هنا لم؟ لأنه لما ذكر ما يتعلق بالزيغ ذكر هنا من أنه من بعد ما كاد أن يزيغ قلوب فريق منهم فالله عزوجل تاب عليهم ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ والرأفة كما سبق هي أرق من الرحمة كما قال العلماء ﴿ إِنَّهُ بِهِمْ ﴾ وقال بِهِمْ مما يدل على ولايته لهؤلاء ورحمته بهؤلاء ﴿ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ .
﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾ أي تاب الله أيضاً على الثلاثة الذين خلفوا وهم من مر ذكرهم معنا كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع، فإنهم لما تخلفوا الله عزوجل قال ﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾ لم يقل تخلفوا وإنما قال خُلِّفوا بمعنى أن المقصود من هذا الكلام ﴿ خُلِّفُوا﴾ يعني تُرك أمرهم إلى أن يحكم الله فيهم كما مر في الآيات التي مر معنا ﴿ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ﴾ وليس معنى خُلِّفوا أي تَخَلفوا عن الغزو، ﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواحَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ﴾ أي ضاقت عليهم الأرض بما رحبت مع سعتها فإن الناس قد هجروهم بأمر النبي ﷺ فلم يكلمهم أحد حتى الأقارب منهم ولذا مر معنا من أن العبد المؤمن إذا ضاقت به الدنيا الواسعة فإنه يأتي فرج الله هنا في هذه السورة قال – لما ذكر هؤلاء الثلاثة – قال ﴿ ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ﴾ مر معنا في أول السورة في غزوة حنين ﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾ ما الذي بعدها؟ ﴿ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ فقال هنا ﴿ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ ﴾ ضاقت حتى الأنفس ضاقت أنفسهم عليهم مع أن النفس هي قريبة من الإنسان وهي جزء من الإنسان ﴿ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ ﴾ مما يدل على عِظم ما وقع فيه هؤلاء من هذه المحنة، ﴿ وَظَنُّوا﴾ أي أيقنوا بعد ذلك الظن هنا بمعنى اليقين ﴿ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ﴾لا ملجأ من الله يلجؤون إلا إلى الله كما قال ﷺ كما ثبت في صحيح مسلم ” أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك” ماذا قال” وبك منك ” ﴿ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ﴾ ضاقت بهم الأرض وضاقت بهم أنفسهم وهنا إذا انقطعت الأسباب بالإنسان وأصبح في محنة عظيمة وتقطعت به أسباب الدنيا فلم يبق له سبب ينظر إليه ولا يلتفت إليه وفوض أمره إلى الله فإن الفرج سيأتيه، قال هنا ﴿ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ﴾ ﴿ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ ﴿ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ لكن على العبد أن يتقي الله ويفوض الأمر إلى الله وأن يصبر حال المحن وأن لا يسخط فإن هؤلاء الثلاثة صبروا وتعبوا حتى إن كعب بن مالك أتته رسالة من ملك الشام يقول: ” لقد علمنا أن صاحبك قد هجرك فتعال إلينا نواسك ” فقال رضي الله عنه: ” والله إن هذا من البلاء” ثم أخذ الرسالة ووضعها في التنور أحرقها حتى لا تلتفت نفسه إلى مايكون من زخارف الدنيا في الشام، ودُعي إلى أي مكان إلى الشام إلى تلك البقع الطيبة التي بها أشجار وخيرات وما شابه ذلك من متع الدنيا، لكن من فوض أمره إلى الله وصبر واحتسب فإن الفرج سيأتي ولا يستطل الزمن، قال تعالى ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ فمن صبر ابتغاء وجه الله ظفر بخيرات الدنيا والآخرة والموفق من وفقه الله والمُعان من أعانه الله.
﴿ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ﴾ قال ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ﴾ كرر التوبة مرتين مما يدل على أن توبة الله عزوجل على العبد نوعان: توفيقه للعبد أن يتوب، والثاني أن يقبل التوبة منه، إذاً كرمٌ من الله عزوجل وفقهم للتوبة وقبلها منهم، ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ﴾ إذاً هذا هو التعليل ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ إذاً هو التواب الرحيم فما على العبد إلا أن يُقبل على الله عزوجل وأن يتوب إليه فإنه إن تاب إلى الله رحمه الله ومن رحمة الله عزوجل بالعبد إذا أذنب شرع له التوبة وإذا تاب وكان في محنة كحال أولئك الثلاثة فإن الفرج سيأتيه بأمر الله عزوجل.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ لما ذكر حال من تخلف وذكر حال هؤلاء الثلاثة لما صدقوا مع النبي ﷺ نجاهم الله عزوجل بالصدق فأمر جميع المؤمنين بتقوى الله وأن يكونوا مع الصادقين وأن يجعلوا الصدق طريقاً لهم، ولذا ثبت في الصحيح قوله ﷺ ” إن الصدق ليهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يُكتب عند الله صدِّيقا “
قال هنا ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ ﴿ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ ﴾ ﴿ مَا كَانَ ﴾ النفي هنا للنهي أي لا يحق لمؤمنٍ داخل المدينة أو خارجها أن يدع النبي ﷺ يخرج إلى الغزو وإذا به ينكث ويجعل نفسه في رغدٍ من العيش وراحة ونفس النبي ﷺ تتألم، فقال هنا ﴿ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ﴾ كيف يقدِّمون أنفسهم على نفس النبي ﷺ التي هي أعظم النفوس عند الله عزوجل، كيف يُقدمون على ذلك ويتركون الخروج معه ويبقون في الراحة وفي الدعة. ﴿ ذَٰلِكَ ﴾ أي ذلكم النهي الذي نهينا أولئك حتى يخرجوا مع النبي ﷺ لهم بذلك خيرات، ﴿ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ ﴾ بسبب ذلك ﴿ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ ﴾ أي عطش ﴿ وَلَا نَصَبٌ ﴾ أي مشقة وتعب ﴿ وَلَا مَخْمَصَةٌ ﴾ أي مجاعة ﴿ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي في الجهاد في سبيل الله ﴿ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا ﴾ أي موطئ يطأونه بأقدامهم أو بخيولهم أو بجِمالِهم ﴿ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ﴾ مما يدل على أن الموطن الذي به إغاظة الكفار محبوب عند الله، ولذا كما مر معنا في قوله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾ وقال كما في آخر السورة ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ﴾ هنا بيَّن أسباب وطرق إغاظة الكفار، ﴿ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَوَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً ﴾ أي من أسرٍ أو قتلٍ ﴿ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ﴾ تلك المخمصة والمجاعة والتعب والنصب وما يطئون به موطئا وما شابه ذلك مما ذكر يُكتب لهم عملٌ صالحٌ بذلك، قال ﴿ إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ وهذا يدل على كمال عدله سبحانه، فهؤلاء محسنون هؤلاء ممن ذكر عزوجل من أهل الجهاد ممن فعل تلك الأفعال هم محسنون ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾
﴿ وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً ﴾ انظر هنا، فيما مضى ذكر الجوع وذكر الظمأ وذكر التعب وذكر﴿ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَوَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ﴾ ، ذكر في هذه الآية ﴿ وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً ﴾ أي مايقدمونه هم مما يملكونه فيما مضى لا يملكونه إنما هوإما مما يحصل لهم بسبب الجهاد من المجاعة أو أنهم يغيظون العدو، هنا لا، إخراج شئ مما يملكونه حتى لو قل ﴿ وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا ﴾ أي بالسير إلى الكفار ﴿ وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ والجزاء من جنس العمل، أحسنوا العمل فأحسن الله إليهم.
﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ﴾ لما ذكر عزوجل الآية السابقة من أنه لايحق لأحد أن يبقى فيما يتعلق بالجهاد، هنا أراد الجميع أن ينفروا وخصوصاً ما ذكره عزوجل في أول السورة ﴿ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ﴾ فهنا بيَّن عزوجل من أن النبي ﷺ إذا نفرَ فلينفر الجميع، لكن إن بقي ﷺ أو أرسل سرايا فإنه هنا يكون المسلمون على صنفين وعلى طائفتين طائفة تبقى تتعلم العلم الشرعي من النبي ﷺ، وطائفة تذهب إلى العدو وتلك الطائفة التي ذهبت إلى العدو إذا رجعت تتعلم من الطائفة التي مكثت، فقال عزوجل ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ﴾ أي جميعاً ﴿ فَلَوْلَا نَفَرَ﴾ أي هلاَّ نفرَ ﴿ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ ﴾ أي وليحذِّروا قومهم ﴿ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ ﴾ من الجهاد ﴿ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ ما يغضب الله عزوجل، ومن ثم قدَّم أهل الفقه مما يدل على أن هذه الآية ذكرت الجهادين جهاد العلم وجهاد العدو، وقدَّمت جهاد العلم لأنه أعظم وأفضل ولذا قال عزوجل ﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ ﴾ أي بالقرآن ووصفه بأنه كبير﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾ .
﴿ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ﴾ قال ليتفقهوا في الدين، دل هذا على أن الفقه الصحيح والحقيقي والنافع هو الفقه في الدين، أما ما عدا ذلك فإن منه ما هو نافع ومنه ما هو ضار على حسب ما يُعرض على الدين، فإن كان نافعاً فيُقر وإن كان ضاراً فيُنكر لكن الفقه في الدين هو المقصود من ذلك، ولذا قال ﷺ كما في الصحيحين ” من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ” قال في الدين، فقال هنا ﴿ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ ﴾ دل هذا على أن من تعلم العلم الشرعي لا يحبس هذا العلم وإنما ينذر غيره حتى يستفيد المسلمون مما تعلم منه هذا الرجل.
﴿ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ وهذا هو الرأي الذي تدل عليه الآية ويدل عليه سياق الآية، أما قول بعض المفسرين من أن الآية معناها أن طائفة تذهب إلى الجهاد وتنظر إلى ما أوقعه الله عزوجل بالأعداء فيكون هذا علماً ثم إذا رجعت تفقه الطائفة الجالسة وتبين لها أن من عصى الله عزوجل وخالفه فسيكون مآله مآل من أوقع الله بهم العذاب، هنا الآية لا تُسعف هذا القول وخصوصاً أنه ليس كل جهاد يُخرج إليه يحصل انتصار لأهل الإسلام.
فقال عزوجل هنا ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ۚ﴾ قال هنا ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ ﴾ أي يقربون منكم من الكفارالأقرب فالأقرب
﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ﴾ لأن قتال من هو قريب – وهذا هو قتال الطلب وهو الذهاب إلى الجهاد وليس قتال الدفع – لأن قتال الدفع يكون واجباً على الجميع إذا حضر العدو بلاد المسلمين وأحاط بها فيجب على الجميع حتى لاتُستباح المحارم، ولذا مر معنا بيان ذلك في قوله تعالى ﴿ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا ﴾ وقلنا إن البلدان الأخرى إذا لم تستطع أن تدحر العدو على القريب أن يعينها، هنا هذا هو جهاد الطلب أي الخروج إلى الجهاد، ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ﴾ لماذا القريب؟ لأن القريب كما كان يفعله ﷺ قاتل العرب الذين حوله ثم بعد ذلك ذهب في غزوة تبوك إلى الروم، لأن القريب شره عظيم على بلدان المسلمين فيُقاتَل حتى يُدفع شره. فقال هنا ﴿ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ۚ﴾ لم؟ لأن الله عزوجل أمر بذلك لنبيه ﷺ كما في هذه السورة ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾ وقال هنا ﴿ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ﴾ وقال تعالى ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾
﴿ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ۚ﴾ لم؟ حتى يندحروا لأنهم إذا رأوا قوة بأسكم هنا لا يتجرؤون على تعطيل الدين أو الوقوف في طريق الدين، وبينّا أن ما يتعلق بالجهاد من حيث ما يُساء إليه في مثل هذا العصر من أنه دين زهق الأرواح وما شابه ذلك بينّا ذلك عند قوله تعالى ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ﴾ كما في سورة الأنفال، وعند قوله تعالى ﴿ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ وعند قوله تعالى في هذه السورة ﴿ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ﴾ فقال عزوجل هنا ﴿ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ۚوَاعْلَمُوا أَنَ ّاللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ فالواجب أن تتقوا الله في جميع الأحوال ولا سيما في هذا الموطن، لأنكم إذا اتقيتم الله فالله معكم بالمعية الخاصة معية الحفظ والتأييد والنصرة ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَ ّاللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ ﴿ وإذا ما أنزلت سورة﴾ هذه السورة تحدثت عن المنافقين وفي ختامها بيَّن هنا عزوجل حال هؤلاء المنافقين عند نزول السور، قال ﴿ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًا ﴾
﴿ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ﴾ أي من يقول على سبيل الاستهزاء والسخرية ﴿ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًا ﴾ فرد الله عزوجل على هؤلاء المنافقين ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا ﴾ وبيَّنا عند قوله تعالى في سورة الأنفال في أول السورة ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ﴾ بيَّنا هناك هذه المسألة، معتقد أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فقال هنا ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ هم فرحون بذلك لأن زيادة الإيمان من أعظم ما يُفرح به، لذا قال تعالى ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ مما يجمعه أهل الدنيا، ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ﴾ كحال المنافقين ﴿ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ ﴾ لأن الله عزوجل قال في السورة في آيات سابقة ﴿ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ ﴾ قال هنا ﴿ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ ﴾ ولذا ماذا قال تعالى كما مر معنا في سورة البقرة ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ﴾ فدل هذا على أن هؤلاء تأتيهم الآيات فيزدادون كفراً وطغياناً، ولذا ماذا قال تعالى عن أهل الكتاب كما مر معنا في سورة المائدة؟ ﴿ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ﴾ فقال عزوجل هنا ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ أي حال هؤلاء من أنهم بقوا على النفاق حتى ماتوا على الكفر، كما قال عزوجل في نفس السورة ﴿ لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ۗ﴾ وكما مر معنا ﴿ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ .
﴿ أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ﴾ أولا يرى هؤلاء أن الله عزوجل يمتحنهم ويختبرهم بما ينزله عزوجل بقضائه وقدره من الآلام ومن الأمراض وما شابه ذلك من مصائب الدنيا أفلا يرتدع هؤلاء؟ وبعض العلماء قال في قوله تعالى ﴿ أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ﴾ المرتين هنا قال إن المرتين ليس المراد التنصيص على التثنية وإنما التكرار كما قال تعالى ﴿ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ﴾ يعني مرة بعد مرة، وكما مر معنا في قوله تعالى ﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ﴾ مما يدل على توالي المحن على هؤلاء، لكن ما حال هؤلاء؟ هل حال هؤلاء بعد مجيء الضراء وبعد مجيء البأساء هل رجعوا إلى الله؟ هل تابوا إلى الله؟ الجواب قال عزوجل ﴿ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ ثم لايتوبون من هذا النفاق ولا يذَّكَّرون ليس هناك عظة وذكرى، وهذا حال الأمم السابقة التي كفرت وطغت ولذا ماذا قال تعالى كما مر معنا في سورة الأعراف ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ﴾ وكما قال تعالى في سورة الأنعام ﴿وَلَقَدْأَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ﴾ لكن من طبع الله عزوجل على قلبه فلن يجد له ولياً مرشدا، فنسأل الله عزوجل الثبات. ﴿ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾
﴿ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ ﴾ نظر بعضهم إلى بعض إشارة بأعينهم هل هناك من سيلحظ خروجكم إذا خرجتم قبل أن تنزل هذه السورة فتُقرأ على النبي ﷺ، لا يريدون سماع الخير﴿ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ ﴾ نظر هؤلاء المنافقون ﴿ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا ﴾ انصرفوا عن مجلس النبي ﷺ حتى لايسمعوا الخيروخيفة من أن تنزل سورة لتفضحهم، ولذا ماذا قال عزوجل في نفس السورة ﴿ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ فقال عزوجل ﴿هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا﴾ العقوبة ﴿ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ عن الهدى ﴿ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾ بسبب عدم فقههم وإلا فالسور والآيات سبب إلى أن يكون الإنسان فقيهاً فاهماً لكن الموفق من وفقه الله عزوجل، فقال هنا ﴿ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ ﴿ وما ظلمهم الله ﴾ قال تعالى ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ وقال تعالى ﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ وقال تعالى كما مر معنا في سورة الأنفال ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ ﴿ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴾
﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ﴾ قيل الخطاب للعرب هذا فيه منَّة من الله عزوجل على العرب كما قال تعالى ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ ﴾ وهذه نعمة من الله عليهم لو قاموا بها، ولذا ماذا قال عزوجل عن هذا القرآن ﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ﴾ شرف لك ولقومك إذا أخذوا بهذا القرآن، وقال بعض العلماء إن قوله تعالى ﴿ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ﴾ أي لجميع الناس لأنه من جنس الناس، وعلى كل حال لا تعارض بين القولين فهو ﷺ مرسل لجميع الناس وهو من جنس الناس بشر ولكن المنَّة تعظم على العرب، ولذا ماذا قال عزوجل في شأن أهل الإيمان كما مر معنا ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ فقال هنا ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ﴾ ما صفات هذا الرسول؟ ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ﴾ يشق عليه أن تكونوا في عَنَت في مشقة ﴿ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ﴾ حريص عليكم في جلب الخير ودفع الضر لا يريد أن تقعوا في ما يضركم أوأن تتركوا ما فيه منفعتكم ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ﴾ لكن الموفق من وفقه الله، قال ﴿ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ سبحان الله ولذلك مر معنا في قوله عزوجل ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ ﴾ يعني الله ﴿ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ ، قال هنا عن النبي ﷺ فيما يتعلق بأهل الإيمان ﴿ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ ومن هذا نجد أن النبي ﷺ به رأفة ورحمة لهؤلاء المؤمنين، ولذا هذه الآية ﴿ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ الرؤوف والرحيم إسمان من أسمائه عزوجل فهل يجوز للمخلوق أن يتسمى باسمٍ من أسماء الله عزوجل؟ الجواب هناك من الأسماء ما لا يجوز أن يُطلق إلا على الله مثل (الله ، الرحمن ، رب العالمين ، مالك الأملاك ) كما قال النبي ﷺ ” إن أخنع اسم عند الله رجلٌ تسمى بملك الأملاك، لا مالك إلا الله ” كما ثبت عنه ﷺ، أما ما سواها من الأسماء فالقول الصحيح أنه يجوز أن يُتسمى بأسماء الله عزوجل شريطة أن لا يُقصد من ذلك الصفة في هذا الشخص، مثلاً لو أن شخصاً به رحمة فقيل بما أن به رحمة نسميه رحيم أو عنده حكمة وحسن في الفصل في الأحكام نقول هو الحَكم فلا يجوز ذلك لأن النبي ﷺ قال لذلك الرجل الذي سُمي بأبي الحكم قال ” إن الله هو الحَكم وإليه الحُكم ” فغير اسمه لم؟ لأنهم لحظوا فيه صفة الحُكم لكن لو كان مجرد اسم فقط فإنه لا بأس بذلك، ولذلك الحَكم في الصحابة رضي الله عنهم به عدد كبير قد يصل إلى عشرة أو أكثر من ذلك، علي ( إنه علي حكيم ) وعلي من أسماء الله عزوجل وهناك من الصحابة من اسمه علي، لأن المقصود من التسمية مجرد الاسم فقط دون أن تُلحظ الصفة. ﴿ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أعرضوا وانصرفوا ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ﴾ قل يا محمد حسبي الله هو الذي يكفيني لأن التولي به ما يسر به النبي ﷺ أو به ما يُحزن النبي ﷺ يحزنه فقال ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ لأنه كان يتحسر ﴿ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ ﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ فقال هنا ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ﴾ فدل هذا على أن السورة ذُكرفيها ما يتعلق بالحسب في جلب النفع ودفع الضر، في دفع الضرقال هنا ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْافَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ﴾ في جلب النفع ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ﴾ فقال هنا ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ﴾ أي لامعبود بحق إلا الله فهو الذي يكفيني لأنه هو المعبود الذي يستحق العبودية وحده ﴿ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ﴾ وهذا يدل على أن كلمة حسبي الله ونعم الوكيل بها تعظيمٌ لله وبها توحيد، تقوي من توحيد العبد ﴿ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ﴾ فإذا كان الله حسب للعبد فماذا عليه؟ يتوكل على الله، ولذا ماذا قال؟ ﴿ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖعَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ﴾ وقدم عليه من باب الحصر ﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ﴾ لم يقل توكلت عليه قال ﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ﴾ أي لا يُتوكل إلا على الله ﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖوَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ هو رب وخالق العرش العظيم ووُصف بأنه عظيم الذي هو العرش ومر معنا ما يتعلق بالعرش وبصفاته في آية الكرسي ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ﴾ وبيَّنا هناك صفات العرش.
﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖوَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ والعرش هوأعظم المخلوقات وأول المخلوقات خُلقت فإذا كان الله عزوجل هو رب العرش العظيم فكيف أخاف من هؤلاء المخلوقين، بل إنني أتوكل عليك يا الله ولذا ماذا قال تعالى ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ۚ﴾ ووصف العرش هنا بأنه عظيم دل هذا على أن العرش مخلوق ودل هذا على أن المخلوق يجوز أن يُوصف بأنه عظيم ولا حرج في ذلك حتى قول بعض الناس لبعض الملوك سابقاً – وربما يكون موجوداً – مثلاً يقولون الملك المعظم لا إشكال في ذلك لأن المخلوق يجوز أن يُطلق عليه شريطة أن تكون له عظمة من حيث أنه ملك أو أن له ولاية وأيضاً بحيث لا تكون هذه الأوصاف داعية له إلى التكبر وإلى التجبر والتعاظم على دين الله وعلى خلق الله عزوجل. وإلى هنا ينتهي تفسير سورة التوبة.