التفسير المختصر الشامل تفسير سورة النساء من الآية (44) إلى (52) الدرس (60)

التفسير المختصر الشامل تفسير سورة النساء من الآية (44) إلى (52) الدرس (60)

مشاهدات: 453

تفسير سورة النساء ــ الدرس (60)

من الآية (44) إلى (52)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فضيلة الشيخ :  زيد بن مسفر البحري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ }

فكنا قد توقفنا عند قوله تعالى { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ }

 { أَلَمْ } هذا استفهام تعجيب من أجل أن يتعجب النبي عليه الصلاة والسلام من حالهم ، وهؤلاء هم اليهود { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا } أي حظا { نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ } ومن اشترى شيئا فإنما يشتريه عن رغبة فدل هذا على خبث نفوس هؤلاء { يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ } والذي دفع غير مذكور هنا وهو الهدى كما قال تعالى { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى }

فقال تعالى { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ }هناك إرادة منهم مع أنهم أرادوا أن يشتروا الضلالة فهم يريدون أن تكون كذلك بمعنى أنكم تضلوا السبيل ، ومن ثم فإنهم يتحملون أوزارهم وأوزار من أضلوه ولذا قال تعالى { وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ } وقال تعالى { لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ }

إلى غير ذلك من الآيات التي تتعلق بهذا المعنى

{ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ } ولذا قال تعالى كما مر معنا في سورة البقرة { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ }

فقال هنا { وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ } ولذا كما سيأتي معنا هؤلاء وأمثالهم ممن ضل عن الطريق من اليهود أو من غيرهم كالمنافقين { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً }

{ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا }

{ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ } هو أعلم بأعدائكم منكم {ِأَعْدَائِكُمْ} فأنتم يخفى عليكم الشيء الكثير لكن الله مطلع على أعدائكم ومن ثم فإن من اتبع الصراط المستقيم فإن الله وليه ونصيره ، ولذا قال بعدها { وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا } { وَكَفَى بِاللَّهِ } الباء هنا في الفاعل لكفى زائدة للتوكيد

{ وَكَفَى بِاللَّهِ } الأصل لو كان في غير الله وكفى الله

{ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا } أي يتولاكم ويأتي إليكم بالخير

{ وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا } يدفع عنكم الضر فإذا ذكر ما يتعلق بالولاية والنصرة فإن الولاية هي الإيتان بالخير والنصرة دفع الشر ، وأما إذا أطلقت فإن الولاية تتضمن حصول الخير ودفع الشر ، وكذلك النصرة وهنا تأمل كرر كلمة { وَكَفَى } وكرر { بِاللَّهِ } مما يدل على عناية الله بأوليائه { وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا } ثم قال { وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا }

{ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا }

 { مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ }

 { مِنَ الَّذِينَ هَادُوا } سواء قيل هؤلاء متعلق هذه الآية بمن سبق أو أنها منفصلة عن أولئك السابقين بمعنى أنهم فئة أخرى من اليهود ، فالمهم من أن اليهود على شر عظيم ، وهم يريدون الشر لهذا الدين ، ومن ثم فإن على المسلمين في هذا الزمن أن يأخذوا حذرهم من هؤلاء .

{ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } وتحريف الكلم عن مواضعه مما جاء في كتبهم من صفة النبي عليه الصلاة والسلام وما شابه ذلك ، ولذلك مر معنا في قوله تعالى { ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ } في سورة البقرة مر معنا هل هذا التحريف تحريف لفظي أو تحريف معنوي أو تحريف لكليهما ؟

{ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } وكل ذلك من أجل أن تبقى رئاستهم وتبقى لهم حظوظهم الدنيوية ولهم أغراض في ذلك شتى إما بالكتابة كما مر معنا في سورة البقرة { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ }

أو بالقول كما قال تعالى في سورة آل عمران كما مر معنا { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }

فقال هنا { مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } وسبب ذلك قسوة القلب فقال تعالى هنا { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا } أي لقولك يا محمد

 { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } أي عصينا أمرك ، ولذا مر معنا في سورة البقرة الإجمال ، وهذه الآية فيها التفصيل قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

التوضيح والتفصيل لما أجمل هناك هو هنا ، ولذا قال { مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ } هذا من باب تدليس هؤلاء اليهود { وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ } يعني اسمع غير مسمع في ظاهره يعني يعني غير مسمع منا أذى أو مكروه لكنهم يريدون بذلك الدعاء يعني لا سمعت بمعنى أنك تكون أصم لا تسمع ، ويتضمن ذلك ما قاله بعض العلماء من أن قولهم { غَيْرَ مُسْمَعٍ } يعني أننا لن نستجيب لك لأن هذا إذا كان هذا الحال هو الحال لهم فإذن هم لا يستجيبون للنبي عليه الصلاة والسلام { وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا } نهوا عن كلمة راعنا ، ولذا أمر الله أهل الإيمان كما في سورة البقرة أن يقولوا  { انْظُرْنَا } ومر معنا كلمة { رَاعِنَا } من أن شيخ الإسلام كما مر معنا في سورة البقرة من أن لها ثلاثة معاني من أراد أن يعرفها فليرجع إليها مر معنا تفصيل ذلك .

{ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ } يعني تحريفا بألسنتهم فإنهم يعني الصحابة يقولون للنبي عليه الصلاة والسلام راعنا يعني من الرعاية يعني انظرنا وترفق بنا لكنهم يريدون هؤلاء يريدون المعاني الفاسدة التي بها ما يقبحون به أمر النبي عليه الصلاة والسلام ، ويريدون ما به الإساءة إلى النبي عليه الصلاة والسلام

{ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ } تحريفا بألسنتهم ، كما مر معنا في سورة آل عمران { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ } يعني يحرفون

{ لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ } يعني أنهم قالوا هذا القول من باب الطعن في الدين ، كيف يقولون لو كان نبيا حقا لفضحنا ولبين حالنا ، ولأنزل الله بنا العذاب فهم يريدون التشويش على أهل الإسلام من باب الطعن في الدين

ولذا كما قال عز وجل { وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ }

{ لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ } يعني هذا هو الطريق المناسب والصحيح لهؤلاء إن أرادوا الخير في الدنيا والآخرة

{ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا } لقولك { وَأَطَعْنَا } أمرك  { وَاسْمَعْ } يعني اسمع منا سماع قبول واستجابة لأمرك

{ وَانْظُرْنَا } بدل كلمة راعنا

{ وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا } ما الفائدة والثمرة ؟  { لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ } في دينهم وفي دنياهم وفي أخراهم { وَأَقْوَمَ } يعني أصوب ، أصوب في حالهم وأصوب في أقوالهم وفي آرائهم

{ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ } { لَعَنَهُمُ اللَّهُ } أي طردهم من رحمته بسبب كفرهم ، ولذا قال تعالى عن هؤلاء اليهود كما مر معنا في سورة البقرة { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ } ومن ثم قال عز وجل هنا { وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ } ودل هذا على ماذا ؟

على أن الكفر وكذلك الذنوب هي سبب لسخط الله عز وجل ، ولذا قال تعالى كما سيأتي معنا { وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا }

{ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا } وهذه الآية نظير ما ذكرناه في الآية التي في سورة البقرة { فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ } بعض العلماء يقول من أن إيمانهم بما عندهم قليل أو أن من يؤمن منهم قليل أو العدم بمعنى أنهم لا يؤمنون أصلا

فقال عز وجل { وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا }

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا }

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ } هنا مناداة لأهل الكتاب فإن الله أعطاهم الكتاب وواجب عليهم أن يشكروا الله على هذه النعمة فأمرهم أن يؤمنوا بهذا القرآن { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا } وهو القرآن { مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ } من الكتب     { مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } هنا وعيد وتهديد لمن لم يؤمن بهذا القرآن وهذا يدل على ماذا ؟

يدل على خطورة من ترك شرع الله عز وجل ولذا الطمس هنا هل هو طمس حسي أو طمس معنوي ؟

 بعض أهل العلم قال هو طمس معنوي بمعنى أن قلوبهم يطمس عليها فلا يهتدون إلى الخير سبيلا ، وإن كان هذا يمكن أن يدخل لكن القول الآخر هو الأظهر ، لم ؟ لأن صنيع هؤلاء فيما سبق من أفعال شنيعة يدل على أن الضلالة قد استقرت في نفوسهم ، لكن هنا هو طمس حسي واختلف أهل العلم ما هو هذا الطمس ؟ هل تكون وجوههم كأخفاف الإبل بمعنى أنه لا أنف ولا فم لهم أم أن الوجوه تكون إلى الخلف أم أن علامات الوجه من العينين وما شابه ذلك تكون إلى القفا ؟

خلاف وعلى كل حال سواء قيل بهذا أو بهذا أو بهذا لاشك أنه عذاب عظيم

{ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } ولذا لو قيل لم يحصل مثل ذلك في هؤلاء أهل الكتاب وهو هذا الطمس ، ولذا أجاب أهل العلم من أن إيمان بعضهم كعبد الله بن سلام رفع عنهم هذه العقوبة ، وقيل بل هو ثابت وسيحصل مثل هذا الطمس في مستقبل الأيام يعني أن وجوده سيكون قبل يوم القيامة ، وعلى كل حال فالقول الأول له وجهة ، وهذا القول له وجهة أيضا

{ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ } { أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ } ولذا قال الإمام مالك قال إن كعب الأحبار لما سمع بهذه الآية أسرع راجعا وأسلم رحمه الله لما سمع بهذه الآية خيفة من أن يصدق عليه ما ذكر في هذه الآية ، ومعلوم أن كعب الأحبار هو في عهد عمر بن الخطاب فدل هذا على أن الطمس ربما يكون في هذا القول من الإمام مالك عن كعب الأحبار يدل على أنه ربما يكون يعني أنه يكون إلى قيام الساعة فقال عز وجل { أَوْ نَلْعَنَهُمْ } في أول الآية خطاب لهم { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا } خطاب لهم ثم قال هنا { أَوْ نَلْعَنَهُمْ } هنا أتى بصيغة الغيبة وهذا يدل على ماذا ؟

يدل كما يقول أهل البلاغة الالتفات ومما يذكر هنا من فوائد الالتفات هو أن ينتبه السامع والقارئ لكلام الله عز وجل فيكون متدبرا ، لماذا كان بسياق الخطاب ثم بسياق الغيبة فدل هذا على عظم هذا القرآن ، وأن المسلم إذا قرأه يقرؤه بتدبر ، ولذا كما سيأتي معنا في نفس الآية { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا }

{ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ } وأصحاب السبت مر معنا الحديث  عنهم كما في سورة البقرة قال عز وجل { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) }

وسيأتي تفصيل أكثر بإذن الله في سورة الأعراف عند قوله تعالى { وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ }

فقال هنا { أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا }          { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا } أي ما أمر به وقدره وقضاه فإنه يكون مفعولا بمعنى أنه يكون لا محالة ومن ثم فإن هذا دليل لمن قال إنه سيحصل لهم هذا الطمس في مستقبل الأيام إلى قيام الساعة ويكون أيضا فيه توجيه هنا { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا } مشترط بأن لم يؤمن كل هؤلاء فلما آمن بعضهم ارتفع هذا الوعيد ، وعلى كل حال فالأمر جد خطير

{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا }

{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ }

{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } الشرك بالله عز وجل لا يغفر ، وأما ما سوى ذلك من الذنوب فإن العبد تحت مشيئة الله ولو عظمت ذنوبه بما أنه موحد فإن مصيره إلى الجنة إن شاء الله عذبه بقدر ذنوبه ثم المرد إلى الجنة وإن شاء رحمه ابتداء فلم يعذبه وأدخله الجنة ابتداء

ولذا قال تعالى هنا { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } لماذا أتت هذه الآية ؟ أتت هذه الآية من باب التخويف لأولئك الذين كفروا بالله وأي كفر أعظم من أن يحرف كلام الله وأن يكفر برسول الله عليه الصلاة والسلام إلى غير ذلك مما ذكره عز وجل عن أهل الكتاب في الآيات السابقات

فقال هنا { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } وصنيعكم هذا صنيع أهل الشرك { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } يعني من فعل ذلكم الفعل من أهل الكتاب أو من غيرهم ثم تاب إلى الله فإن الله يتوب عليه

{ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } أعظم الافتراء ووصفه بأنه عظيم أعظم الافتراء هو الشرك بالله

ولذا أصحاب الكهف ماذا قالوا { لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا } هذا من الجور والظلم

ولقمان لما ذكر عز وجل عنه فيما يتعلق بالشرك { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } فالشرك افتراء وهو ظلم وهو هلاك قال تعالى { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ }

وهو ضلال بعيد كما قال تعالى في هذه السورة { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا }

 قال هنا { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا }

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا }

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ } هذا أيضا استفهام تعجب يتعجب من حال هؤلاء مع ما هم عليه من الضلال والكفر وتلك الأقوال السيئة والأفعال المشينة يزكون أنفسهم كما ذكر عز وجل عنهم في سورة البقرة   { وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى } وقال تعالى { وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ }

بل قالوا إن ذنوبنا كذنوب الأطفال فإن الأطفال إذا فعلوا الذنوب لا يؤاخذون فنحن وهم سواء فقال تعالى { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ } الإنسان منهي أن يزكي غيره فكيف يزكي نفسه ؟ ولذلك كما في الصحيح  قال عليه الصلاة والسلام لذلك الرجل الذي مدح رجلا قال ( ويحك قطعت عنق صاحبك )

فقال عز وجل { يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ } وأتى بصيغة الفعل المضارع التي تدل على أن هؤلاء باستمرار يزكون أنفسهم مع ما لهم من تلك الأفعال الشنيعة

فنهي الإنسان عموما وهؤلاء على وجه الخصوص أن يزكي نفسه ولذا قال عز وجل { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى }

والإنسان لا يجوز له أن يمدح نفسه إلا في حالة معينة وهي :

فيما لو كان عند قوم لا يرون له قدرا وهو له قدر ، وربما أن مثل صنيعهم هذا أنهم يسيئون إليه فلا بأس بذلك من أن يزكي نفسه ويمدح نفسه من باب أن يدفع شرهم كما حصل من عثمان لما حوصر قال ( ألا تعلمون أنني حفرت بئر رومة ، وأني جهزت جيش العسرة )

مدح نفسه باعتبار أن يرد هؤلاء ويرد شرهم عنه أو إذا كان في موطن به مصلحة لعامة الناس وليس هناك أحد يقوم في هذا المقام ممن اتصف بمثله في هذه الصفات كما ذكر تعالى عن يوسف { قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ }

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ } { بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ } هو الموفق للإنسان حتى ولو كان مطيعا فهو الذي زكاه ولذا قال تعالى { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ }  فمن منّ الله عليه بالطاعة فإنها منة من الله وخير من الله لا من تلقاء نفسه فما ظنك بمن فعل الذنوب وأي ذنب ؟ الذنب الأعظم وهو الكفر بالله ويزكي نفسه

{ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا } نفى عن نفسه عز وجل الظلم لكمال عدله كما قال تعالى{ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } وكما مر معنا مفصلا في نفي الظلم عنه عز وجل في آية الكرسي وأيضا في سورة آل عمران

فقال عز وجل هنا { وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا } يعني لا يظلمون الفتيل إذا أتوا به والفتيل هو الخط الذي يكون في النواة نواة التمر فيها خط هذا فتيل وقيل  هو ما يفتل به الإنسان يديه أو أصبعيه بمعنى انه إذا حركهما يحصل منهما وسخ ذلكم الوسخ هو الفتيل ، لكن المشهور من أن الفتيل هو الخط الذي يكون في النواة بينما القطمير القطمير القشرة البيضاء الشفافة والنقير النقرة التي تكون في ظهر نواة التمر فقال عز وجل { وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا } كما قال تعالى { إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } في نفس هذه السورة

{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } قال هنا { وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا }  لا هؤلاء ولا غيرهم فمن أتى ولو بما قل فإنه يؤجر عليه إن كان خيرا ويعاقب عليه إن كان شرا ، ولذا قال تعالى { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}

{ انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا }

{ انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } { انْظُرْ } نظر تأمل وتعجب لحال هؤلاء  { انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } فمن زكى نفسه فقد افترى على الله الكذب ما لم يكن لتلك الأحوال التي استثنيناها هذا وهو مطيع فكيف إذا كان مذنبا ؟! فإن ذلكم الافتراء يكون أعظم فالافتراء يختلف باختلاف حال الإنسان فقد يكون الإنسان مؤمنا ويزكي نفسه فيكون واقعا في الافتراء لكنه ليس كالافتراء الذي هو لأولئك الذين كفروا بالله وهم أهل الكتاب الذين يزكون أنفسهم ولذا قال تعالى { انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا } كفى بهذا الافتراء وبما قالوه وبما زكوا به أنفسهم { إِثْمًا مُبِينًا } فهو إثم مبين واضح ، لم ؟ لأن الإنسان من حيث أصله ضعيف

ولذا قال تعالى في هذه السورة كما مر معنا { وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } ولذا قال تعالى { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى }

{ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا }

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)}

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } هذه الآية ذكرت لبيان حال صنف آخر من هؤلاء اليهود الصنف الأول  من هم ؟

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ }

الصنف الثاني على قول إن كانت الآية متصلة بالآية السابقة { مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا }

هنا حال لصنف ثالث لهؤلاء وهم من أتى بعد غزوة أحد بعدما حصل ما حصل في غزوة أحد أتى من كبار اليهود إلى مكة من أجل أن يتعاضدوا وأن يتناصروا على النبي عليه الصلاة والسلام

معلوم أن الغزوة التي بعد أحد هي غزوة الخندق ، ومع ذلك ماذا صنعت اليهود من نقض العهود ولذلك قال عز وجل { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا }

ثم قال عن يهود بني قريظة { وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } الآية

فقال عز وجل هنا { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ } { نَصِيبًا } يعني حظا { مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } انظر صيغة الفعل المضارع مما يدل على استمرار هؤلاء على الإيمان بالجبت والطاغوت والإيمان بالطاغوت يدل على الكفر

ولذلك مر معنا في تفسير سورة البقرة { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا }

 لكن هؤلاء ماذا صنعوا ؟ { يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } الجبت والطاغوت اختلف فيها اختلافا كثيرا الجبت هل هو الكاهن هل هو الساحر الطاغوت أيضا هل هو الساحر هل هو الكاهن ؟

فعلى كل حال الذي يظهر لي من أن الجبت باعتبار ما جاء من آثار ونصوص والطاغوت باعتبار ما جاء من نصوص وآثار يدل على أن الجبت إذا أتى وحده فهو ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع وكذلك الطاغوت

ولذلك قال بعض المفسرين قولا هو إلى الصواب أقرب من غيره قال الجبت هو كل ما حرم الله ومن ثم فإذا نظرنا إلى الجبت والطاغوت فإن الجبت والطاغوت إذا انفردا فإنهما بمعنى واحد بمعنى أن الطاغوت يدخل في الجبت والجبت يدخل في الطاغوت ، وإذا اجتمعا افترقا فيكون الجبت هو كل ما حرم الله ، ويكون الطاغوت هو ما تجاوز به العبد حده من متبوع أو معبود أو مطاع فيدخل في الجبت والطاغوت السحرة والكهنة وأمراء السوء وعلماء السوء ويدخل في ذلك الشيطان وأولياء الشيطان

إذن يشمل هؤلاء ومن ذلكك ما نص على بعض رؤوساء اليهود بأسمائهم فإنهم يعتبرون من الطواغيت ، لم ؟ لأنهم علماء سوء

ولذلك قال تعالى { يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } ومع هذا الكفر انظر إلى عظم التطاول على شرع الله عز وجل ، والقول على الله بلا علم بل قول افتراء

{ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا } فإن أبا سفيان وغيره من رؤوساء قريش قالوا أنتم أهل علم فأينا أهدى أنحن أم محمد ؟ نحن نسقي الحجيج ونطعم الحجيج ونقوم على خدمة الحجيج ومحمد أتى بقطع الأرحام وبترك دين الآباء فقالوا أنتم والله أهدى سبيلا من محمد

ولذلك انظر ماذا قال { يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ } وهم الكفار { أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا }

سبحان الله !

ولذلك ماذا قال عز وجل لأن صاحب العلم إذا ضل فإنه يكون على خطر عظيم فما ظنك لو كان ضلاله ليس منحصرا فيه بل إنه يتعدى إلى غيره ففيه شبه كما قال بعض السلف من ضل علماء أهل الإسلام ففيه شبه باليهود ومن ضل من عبادهم ففيه شبه بالنصارى

ولذلك مر معنا في سورة البقرة لليهود قال عز وجل { وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ }  مع أنهم لم يكفروا في أول الأمر يعني لم يكونوا هم أول الناس كفرا فقد كفرت قبلهم قريش ، لم ؟ لأنكم أصحاب شأن ويقتدى بكم ومن يقتدى به فالأمانة عليه أعظم

لكن هؤلاء { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا }

سبحان الله !

لم يقولوا أنتم أهدى لأن هؤلاء بلغ الطغيان في قلوبهم إلى درجة أنهم فضلوا أي كافر على طريقة النبي عليه الصلاة والسلام وأتباعه

{ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ } السبب في شأن هؤلاء لما آمنوا بالجبت والطاغوت وقالوا هذا القول العظيم من أن الله لعنهم ، وسبب لعنة الله عليهم أن قلوبهم قاسية { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ }

ولذا قال { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ } أي طردهم من حرمته عز وجل ومن طرد من رحمة الله فأني يأتي له الخير { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ } من يلعنه الله { فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا } لن ينصر في الدنيا ولا في الآخرة

وإذا لم ينصر فالنصرة هنا تتضمن من أنه لما نفى النصرة من أنه لا خير يأتيهم ولا شر يدفع عنهم للتفريق بين قوله تعالى سبحان الله لما كان أهل الإيمان على خير ماذا قال عز وجل في الآيات السابقات قال { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا }

 لكن هؤلاء لما كفروا ماذا جرى ؟ لعنهم الله قال { وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا } ومن آثار اللعنة ما قاله عز وجل { إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) }

سبحان الله ! { لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا }

{ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا } ومر معنا حتى نذكر الجميع بقوله تعالى { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا } مر معنا من أن الولاية نوعان ولاية عامة وولاية خاصة موضحة مفصلة عند قوله تعالى في أواخر سورة البقرة { أَنْتَ مَوْلَانَا } وولاية الله لعباده المؤمنين تقتضي النصرة والتأييد والتوفيق والتسديد

فقال تعالى هنا { وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا }