التفسير المختصر الشامل سورة الأنعام من الآية ( 152) إلى نهاية السورة الدرس (102)

التفسير المختصر الشامل سورة الأنعام من الآية ( 152) إلى نهاية السورة الدرس (102)

مشاهدات: 530

 بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الأنعام من الآية ( 152) إلى نهاية السورة

الدرس (102)

لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وأُصلي وأُسلم على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيرًا إلى يوم الدين أما بعد…

     فكنا قد توقفنا عند قول الله عز وجل ﴿ وَلا تَقرَبوا مالَ اليَتيمِ إِلّا بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ ﴾ لما ذكر عز وجل تلك الوصايا في الآية السابقة وتلك الوصايا لا يُخالفها إلا من أُصيب بعقله ، ولذا ختمها بقوله : ﴿ لَعَلَّكُم تَعقِلونَ ﴾  وهنا ذكر تتمة تلك الوصايا قال : ﴿ وَلا تَقرَبوا مالَ اليَتيمِ إِلّا بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ حَتّى يَبلُغَ أَشُدَّهُ ﴾  ومعنى أن ذلك أن ولي اليتيم لا يحق له أن يَقْرَبَ مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن أي بالطريقة التي بها الحسنى لهؤلاء اليتامى ومر معنا ذلك مُفصلاً في أول سورة النساء ﴿ِ إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًاوقوله ﴿ حَتّى يَبلُغَ أَشُدَّهُ ﴾ ليس معنى ذلك أنه إذا بلغ الأشد أنه يقرَبَ مال يتيمه بل المقصود من ذلك أنه يحافظ على مال اليتيم حتى إذا بلغ أشده فإنه يسلمه له كما مر معنا في سورة النساء ﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ﴾ الآية ﴿ وَلا تَقرَبوا مالَ اليَتيمِ إِلّا بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ حَتّى يَبلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوفُوا الكَيلَ وَالميزانَ بِالقِسطِ لا نُكَلِّفُ نَفسًا إِلّا وُسعَها ﴾ أُمر الناس بأن يوفوا الكيل والميزان فيما يتعلق بحقهم وبحق غيرهم ولذا قال : ﴿ وَأَوفُوا الكَيلَ وَالميزانَ بِالقِسط ﴾ أي بالعدل ﴿ لا نُكَلِّفُ نَفسًا إِلّا وُسعَها ﴾ أي إلا طاقتها وقدرتها وذلك لأنه ربما فيما يتعلق بالوزن وبالكيل  قد يحصل هناك زيادة أو نقصان من غير قصد فهنا عفا الله عز وجل عن ذلك فقال : ﴿ لا نُكَلِّفُ نَفسًا إِلّا وُسعَهاوذلك بعدما يقوم الإنسان بجهده من هذا العدل  ﴿ وَأَوفُوا الكَيلَ وَالميزانَ بِالقِسطِ لا نُكَلِّفُ نَفسًا إِلّا وُسعَها وَإِذا قُلتُم فَاعدِلوا ﴾ فالواجب على الإنسان إذا قال قولًا سواء كان هذا القول عليه أو له أو كان على والديه أو على أقربائه فإنه يتعين عليه أن يقول الحق ، ولذا مر معنا فيما يتعلق بالشهادة  قوله  تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّـهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ﴾ قال هنا ﴿ وَإِذا قُلتُم فَاعدِلوا وَلَو كانَ ذا قُربى ﴾ أي ولو كان قريبًا لك ﴿ وَلَو كانَ ذا قُربى ﴾ ﴿ وَبِعَهدِ اللَّـهِ أَوفوا ﴾ أمر هنا بالوفاء بعهد الله عز وجل ، فإنه لما ذكر ما يتعلق بالوفاء بين المخلوقين ؛ أمر هنا بالوفاء بعهد الله عز وجل  وقدمه ﴿ وَبِعَهدِ اللَّـهِ  أَوفوا ﴾ قدمه على الأمر ﴿ أَوفوا من باب الاهتمام به وليُعلم أن عهد الله عز وجل يتضمن العهد الذي أمر به عز وجل عباده فيما يتعلق بحقوقه وأيضًا فيما يتعلق بحقوق الآخرين ﴿ وَبِعَهدِ اللَّـهِ أَوفوا ذلِكُم أي ما مضى ﴿ وَصّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَذَكَّرون فهي أوامر واضحة وبينة وبها الخير فما يلزمكم إلا أن تتذكروا وتعملوا ﴿ وَأَنَّ هـذا صِراطي مُستَقيمًا فَاتَّبِعوهُ ﴿ وأن هذا هناك مقدر وهي لام التعليل ( ولأن هذا ) أي ما مضى هو صراط الله عز وجل ﴿ وَأَنَّ هـذا صِراطي مُستَقيمًا وأضاف الصراط إليه باعتبار ماذا؟ باعتبار أنه هو الذي أمر به

 

                                                         -1-

 

 بينما أضاف الصراط في سورة الفاتحة ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴿٦صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ أضافه إلى العباد باعتبار أنهم سالكوه لكن هنا قال ﴿ وَأَنَّ هـذا صِراطي مُستَقيمًا أي لا اعوجاج فيه ، ﴿ فَاتَّبِعوهُ هذا هو الواجب عليكم  ﴿ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَلما أمرهم بأن يسيروا على صراطه حذرهم من اتباع السبل التي بها يضل الإنسان، ولذا ثبت من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي ﷺ خط خطًا مستقيمًا وخط خطوطًا عن يمين وعن شمال هذا الصراط فقال : (هذا صراط الله وهذه السبل على كل سبيل منها شيطان يدعوا إليها وقرأ ﴿ وَأَنَّ هـذا صِراطي مُستَقيمًا فَاتَّبِعوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَجمعها باعتبار ماذا؟ باعتبار أن سُبُل وطرق الشر كثيرة ، وبها ينتهي الإنسان إلى الهاوية ﴿ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبيلِهِ فتفرق منصوب بعد فاء السببية لأنه واقع في جواب النهي ﴿ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبيلِهِ وهذا أيضًا فيه تحذير للمسلم أن يتبع أهل الأهواء وأهل البدع لأن من اتبع البدع وأصحابها فإنه يضل عن صراط الله عز وجل ﴿ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبيلِهِ فدل هذا على أن من اتبع سبل الشيطان فإنه يضل عن صراط الله عز وجل ﴿ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبيلِهِ ذلكم أي ما مضى مما ذُكر من هذا الصراط ﴿ ذلِكُم وَصّاكُم مما ذُكِر من أمر هذا الصراط والأمر بالاتباع باتباعه ﴿ ذلِكُم وَصّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَتَّقونَ أي الأخذ بهذا الصراط المستقيم والسير عليه هو سبيلٌ إلى تقوى الله عز وجل ومن ثم ختم الآية بالتقوى، والآية التي قبلها ختمها بالتذكر والآية التي قبلها ختمها بالتعقل ، فدل هذا على أن من عقل تذكر فاتقى الله عز وجل ، ابن مسعود رضي الله عنه كما جاء عنه إن صح لأن به ما به من الخلاف من أنه قال : من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله ﷺ التي عليها خاتمه فليقرأ هذه الآيات ، وذكر هذه الآيات التي مرت معنا ﴿ ثُمَّ آتَينا موسَى الكِتابَ تَمامًا عَلَى الَّذي أَحسَنَ وَتَفصيلًا لِكُلِّ شَيءٍ ذكر هنا ماذا؟ ما يتعلق بكتاب ماذا؟ بكتاب موسى الذي أنزله الله عز وجل عليه وهو التوراة ولعل هذا من باب التذكير لما سبق ﴿ وَما قَدَرُوا اللَّـهَ حَقَّ قَدرِهِ إِذ قالوا ما أَنزَلَ اللَّـهُ عَلى بَشَرٍ مِن شَيءٍ قُل مَن أَنزَلَ الكِتابَ الَّذي جاءَ بِهِ موسى نورًا وَهُدًى لِلنّاسِ الآية ، فدل هذا على ماذا ؟ دل هذا على أن التوراة لها فضل عظيم بعد القرآن وكذلك الشأن في الإنجيل فإنه يكون له فضل ، ولذا إذا تأملت وتدبرت كلام الله وجدت أن التوراة تُذْكَر كثيرًا مع القرآن كما سيأتي معنا بإذن الله عز وجل ، ولذا لما ذكر عز وجل في أول سورة آل عمران كما مر معنا لما ذَكَرَ القرآن قال : ﴿ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ ﴿٣مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ فإنه ذكر ماذا؟ ذكر التوراة والإنجيل ، ثم ذكر هنا فقال : ﴿ ثُمَّ آتَينا موسَى ثم هنا ليست للترتيب الزمني لأن موسى قبل النبي ﷺ وإنما هي ثم للترتيب الإخباري يعني إخبار لا يترتب على ذلك أن موسى عليه السلام أتى بعد النبي ﷺ  وهذا سيمر معنا في مثل قوله عز وجل : ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ﴿١٢فَكُّ رَقَبَةٍ ﴿١٣أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ﴿١٤يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ﴿١٥أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ﴿١٦ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ لا يدل على أن الإيمان يكون بعد هذه الأشياء وإنما هذا من باب الترتيب الذِّكْري كما سيأتي تفصيل له أكثر بإذن الله تعالى ﴿ ثُمَّ آتَينا موسَى الكِتابَ وهو التوراة ﴿ تَمامًا إتماماً لنعمة الله عز وجل .

 

                                                        -2-

 

﴿ تَمامًا عَلَى الَّذي أَحسَنَ أي على من أحسن والصحيح أنه يشمل من أحسن من قومه وكذلك يدخل فيه موسى عليه السلام وذلك لقراءة شاذة ( تمامًا على المحسنين ) تمامًا على المحسنين فهي شاملة لموسى عليه السلام ولغيره ممن أحسن وهذا يدل على ماذا ؟ يدل على أن إنزال القرآن فيه شرف عظيم لمن أُنزل عليهم من أخذوا به ﴿ ثُمَّ آتَينا موسَى الكِتابَ تَمامًا ولذا مر معنا فيما يتعلق بهذه الأمة ﴿ وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿١٥٠كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا الآية ،  وكما مر معنا ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴿ تَمامًا عَلَى الَّذي أَحسَنَ وَتَفصيلًا لِكُلِّ شَيءٍ وهذا يدل أيضاً على ماذا؟ ﴿ تَمامًا عَلَى الَّذي أَحسَن أن من أحسن في عبادته وأحسن في أقواله وأحسن في أعماله يعني أحسن في حق الله عز وجل بأن عبد الله كأنه يراه وهو الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، وكذلك الإحسان إلى الخلق فإن الله عز وجل يمنحه مما يشاء من العلم الشرعي ﴿ تَمامًا عَلَى الَّذي أَحسَنَ وَتَفصيلًا لِكُلِّ شَيءٍ أي هذا الكتاب تفصيلاً لكل شيء ﴿ وَهُدًى ﴿ وَهُدًى أي فيه  الهدى من الضلالة ﴿ وَهُدًى وَرَحمَةً لَعَلَّهُم بِلِقاءِ رَبِّهِم يُؤمِنونَ فهو أيضًا رحمة لهم إذا قاموا به ﴿ وَرَحمَةً لَعَلَّهُم بِلِقاءِ رَبِّهِم يُؤمِنونَ وهذا يؤكد ماذا؟ من أن الكتب المنزلة تدعوا الناس إلى الإيمان باليوم الأخر وأن من سار على ما أتت به هذه الكتب فإنه يزداد إيمانه فيما يتعلق باليوم الأخر، فقال هنا : ﴿ ثمَّ آتَينا موسَى الكِتابَ تَمامًا عَلَى الَّذي أَحسَنَ وَتَفصيلًا لِكُلِّ شَيءٍ وَهُدًى وَرَحمَةً لَعَلَّهُم بِلِقاءِ رَبِّهِم يُؤمِنونَ ومن ثم فإن هذه الآية ذكرت أوصافًا جليلة للتوراة وقد مر معنا تفصيل ذلك فيما يخص التوراة عند قوله تعالى : ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ وبيَّنا معنى الهدى ومعنى النور بتفصيل شامل هناك.

    ﴿ وَهـذا كِتابٌ أَنزَلناهُ لما ذكر التوراة ذكر هذا القرآن ﴿ وَهـذا كِتابٌ وأشار إليه بالقرب وذلك لأنه قريب ميسر ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ومر معنا في أول سورة البقرة ﴿ ذَٰلِكَ الْكِتَابُ أتى باسم الإشارة التي هي للبعد لبعد وعلو مكانته كما قال عز وجل : ﴿ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴿ وَهـذا كِتابٌ أَنزَلناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعوهُ قال: ﴿ وَهـذا كِتابٌ أَنزَلناهُ مُبارَكٌ ومر معنا ما يتعلق بذلك من كلمة مبارك ﴿ وَكَذلِكَ أَنزَلناهُ فيما مر معنا في قوله عز وجل : ﴿ وَهـذا كِتابٌ أَنزَلناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذي بَينَ يَدَيهِ لكن هنا لم يُذكر ما يتعلق بالتصديق لأن كلمة التصديق هناك تدل على ماذا؟ تدل على أنه هذا القرآن صدق الكتب السابقة لأنه ذُكر ما يتعلق بإنكار الكفار لإنزال كتاب ، لكن هنا لما كان الأمر متعلقاً باتباع الصراط المستقيم اقتصر على ماذا والعلم عند الله؟ على الاتباع لأنه قال : ﴿ وَأَنَّ هـذا صِراطي مُستَقيمًا فَاتَّبِعوهُ هنا ماذا قال ؟ قال : ﴿ وَهـذا كِتابٌ أَنزَلناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعوهُ وَاتَّقوا ﴿ فَاتَّبِعوهُ واتباع القرآن يكون بالعمل بأحكامه وبتصديق أخباره كما مر معنا في نفس السورة ﴿ وَتَمَّت كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدقًا وَعَدلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ فقال هنا : ﴿ وَهـذا كِتابٌ أَنزَلناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعوهُ وَاتَّقوا لَعَلَّكُم تُرحَمونَ اتقوا الله عز وجل بفعل أوامره وباجتناب نواهيه وذلك بأن تسيروا على الصراط المستقيم المذكور في الآيات السابقات .

 

                                                         -3-

 

﴿ وَأَنَّ هـذا صِراطي مُستَقيمًا فَاتَّبِعوهُ ﴾. إذًا ما الثمرة  ﴿ لَعَلَّكُم تُرحَمونَ فدل هذا على ماذا؟ دل هذا على أن اتباع القرآن وعلى أن تقوى الله عز وجل هو سبيل إلى رحمة الله عز وجل.

     ﴿ أَن تَقولوا إِنَّما أُنزِلَ الكِتابُ عَلى طائِفَتَينِ مِن قَبلِنا أي لئلا تقولوا يعني أنزل هذا القرآن حتى لا تقولوا أنتم يا كفار قريش ﴿ أُنزِلَ الكِتاب أي الكتب السابقة على من قبلنا ولم يُنزل علينا شيء فهذا الكتاب العظيم وهو القرآن أُنزل عليكم ﴿ أَن تَقولوا أي لئلا تقولوا ﴿ أَن تَقولوا إِنَّما أُنزِلَ الكِتابُ عَلى طائِفَتَينِ مِن قَبلِنا وهم اليهود والنصارى  وكما مر معنا كما ذكرت لكم من أن ذكر التوراة والإنجيل تُذكر مع القرآن لشرف هذه الكتب. ولذا قال عز وجل: ﴿ إِنَّ اللَّـهَ اشتَرى مِنَ المُؤمِنينَ أَنفُسَهُم وَأَموالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقاتِلونَ في سَبيلِ اللَّـهِ فَيَقتُلونَ وَيُقتَلونَ وَعدًا عَلَيهِ حَقًّا فِي التَّوراةِ وَالإِنجيلِ وَالقُرآنِ فقال هنا: ﴿ أَن تَقولوا أي لئلا تقولوا ﴿ إِنَّما أُنزِلَ الكِتابُ عَلى طائِفَتَينِ مِن قَبلِنا وهم اليهود والنصارى ﴿ وَإِن كُنّا عَن دِراسَتِهِم لَغافِلينَ أي نحن غافلون بمعنى أننا لا نفهم لغة هؤلاء ، فنحن لو قرأنا هذه الكتب فنحن عن دراستهم غافلون ولذا قال : ﴿ أَن تَقولوا أي لئلا تقولوا ﴿ أَن تَقولوا إِنَّما أُنزِلَ الكِتابُ عَلى طائِفَتَينِ مِن قَبلِنا وَإِن كُنّا عَن دِراسَتِهِم لَغافِلينَ بمعنى أننا لا نفهم ما في كتبهم لاختلاف اللغة  وأيضًا كما ذكر عز وجل : ﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ﴿١٩٨فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ أي ما كانوا به مؤمنين باعتبار ماذا؟ باعتبار أنهم يقولون لا نعرف ما فيه لاختلاف اللغة أو أنفه، أي أنفه واستكبارًا ولذا قال تعالى : ﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ الآية. فقال هنا عن هؤلاء : ﴿ وَإِن كُنّا عَن دِراسَتِهِم لَغافِلينَ  

     ﴿ أَو تَقولوا أي لئلا تقولوا أو كراهية أن تقولوا كما قال بعض العلماء ﴿ أَو تَقولوا لَو أَنّا أُنزِلَ عَلَينَا الكِتابُ لَكُنّا أَهدى مِنهُم وفي هذا تزكية من هؤلاء لأنفسهم ولذا ذكر عز وجل عن هؤلاء في آخر الصافات من أنه قال ﷻ عن هؤلاء : ﴿ وَإِن كَانُوا لَيَقُولُونَ ﴿١٦٧لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مِّنَ الْأَوَّلِينَ ﴿١٦٨لَكُنَّا عِبَادَ اللَّـهِ الْمُخْلَصِينَ ﴿١٦٩فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ فدل هذا على أن هؤلاء إنما أرادوا الإعراض والإنكار والطغيان فقال هنا: ﴿ أَو تَقولوا لَو أَنّا أُنزِلَ عَلَينَا الكِتابُ لَكُنّا أَهدى مِنهُم فمع ذلك زكوا أنفسهم ﴿ فَقَد جاءَكُم بَيِّنَةٌ رد عليهم ﴿ فَقَد جاءَكُم بَيِّنَةٌ أي بيان واضح ﴿ بَيِّنَةٌ مِن رَبِّكُموهو هذا القرآن ﴿ فَقَد جاءَكُم بَيِّنَةٌ مِن رَبِّكُم وَهُدًى فيه هدى من الضلالة ﴿ وَرَحمَةٌ ففيه الرحمة لكم في الدنيا وفي الآخرة ﴿ فَمَن أَظلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآياتِ اللَّـهِ دل هذا على أنهم كذبوا بهذا القرآن ﴿ فَمَن أَظلَمُ أي لا أحد أظلم ﴿ فَمَن أَظلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآياتِ اللَّـهِ وَصَدَفَ عَنها يعني أعرض عنها ﴿ سَنَجزِي الَّذينَ يَصدِفونَ أي يًعرضون ﴿ عَن آياتِنا سوءَ العَذابِ بِما كانوا يَصدِفونَ  أي بسبب إعراضهم.

     ﴿ هَل يَنظُرونَ أي ما ينتظر هؤلاء ، وهؤلاء لا ينتظرون هذه الأشياء لو كانوا ينتظرونها لاستعدوا لها لكن جعلهم عز وجل بمنزلة المنتظر لم ؟ لأن هذه الأشياء ستحل بهم لا محالة، فهي واقعة فكأنهم ينتظرونها مع أنهم في الحقيقة لا ينتظرونها، ولذا جُعلوا بمنزلة المنتظر لأن هذه الأشياء ستقع بهم أو سيقع بهم بعضها

                                                         -4-

﴿ هَل يَنظُرونَ إِلّا أَن تَأتِيَهُمُ المَلائِكَةُ أي لقبض أرواحهم ولذا فيه التحذير وفيه الوعيد لهؤلاء أن يتنبهوا قبل أن تأتيهم هذه الأشياء أو يأتيهم بعضها ، فحذرهم عز وجل هنا ﴿ هَل يَنظُرونَ أي ما ينتظر هؤلاء ﴿ هَل يَنظُرونَ إِلّا أَن تَأتِيَهُمُ المَلائِكَةُ أي لقبض أرواحهم ﴿ هَل يَنظُرونَ إِلّا أَن تَأتِيَهُمُ المَلائِكَةُ أَو يَأتِيَ رَبُّكَ  ﴿ أَو يَأتِيَ رَبُّكَ إتياناً يليق بجلاله وبعظمته ومر معنا ذلك مفصلاً التفصيل في الإتيان وفي المجيء لله عز وجل كما يليق بجلاله وبعظمته كما في سورة البقرة ﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّـهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ ﴿ أَو يَأتِيَ رَبُّكَ أَو يَأتِيَ بَعضُ آياتِ رَبِّكَ سبحان الله ذَكَرَ الرب هنا باعتبار ماذا؟ والعلم عند الله باعتبار أن هؤلاء يؤمنون بأن الله هو الرب فلازم عليهم أن يعبدوا هذا الرب ولذا قال : ﴿ أَو يَأتِيَ رَبُّكَ أَو يَأتِيَ بَعضُ آياتِ رَبِّكَ   ﴿ بَعضُ آياتِ رَبِّكَ الصحيح أن تفسير هذه الآية هو ما جاء في الصحيح من أنها طلوع الشمس من مغربها فإذا طلعت الشمس من مغربها فإنه حينها لا تُقبل توبة ، كما أنه إذا عاين الإنسان الموت بحضور الملائكة وعاين الموت فإن التوبة لا تُقبل ، ولذا قال ﷺ كما ثبت عنه : (إن الله يقبل توبة العبد مالم يغرغر ) كذلك فيما يتعلق بطلوع الشمس من مغربها فإنها لا تُقبل توبة ، فقال هنا : ﴿ أَو يَأتِيَ بَعضُ آياتِ رَبِّكَ وإذا طلعت الشمس من مغربها فحينها لا تقبل توبة وما ورد من حديث من أن الناس يبقون بعد طلوع الشمس من مغربها مائة وعشرين سنة فإنه لم يثبت عنه ﷺ وما ذكره بعض العلماء من أنه إذا مضى زمن بعد طلوع الشمس من مغربها من أن توبة تقبل فهو قول مخالف للنصوص الشرعية التي ذكرت من أنه بعد طلوع الشمس من مغربها لا تقبل توبة  ولذا جاء في حديث عائشة رضي الله عنها ( إذا طلعت الشمس من مغربها رُفعت الأقلام وحُبِست الحفظة وشهدت الجوارح على أصحابها )  قال ابن حجر رحمه الله : هذا وإن كان موقوفاً على عائشة رضي الله عنها فإن له حكم الرفع ﴿ يَومَ يَأتي بَعضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفسًا إيمانُها لَم تَكُن آمَنَت مِن قَبلُ أَو كَسَبَت في إيمانِها خَيرًا بمعنى إذا طلعت الشمس من مغربها، فإنه لو شاء أحد أن يؤمن فإن الإيمان لا يقبل منه أو إذا أرادت نفسٌ مؤمنة أن تزداد من الخير فإن العمل لا يُقبل منها  ولذا قال : ﴿ يَومَ يَأتي بَعضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفسًا إيمانُها لَم تَكُن آمَنَت مِن قَبلُ أي من قبل طلوع الشمس﴿ أو كَسَبَت في إيمانِها خَيرًا

  ﴿ قُلِ يا محمد لهؤلاء ﴿ انتَظِروا إِنّا مُنتَظِرونَ فنحن منتظرون لما وعدنا الله عز وجل به.

     ﴿ إِنَّ الَّذينَ فَرَّقوا دينَهُم وَكانوا شِيَعًا وهؤلاء هم هؤلاء الكفار الذين فرقوا دينهم فحرموا ما أباح الله وأحلوا ما حرم الله وكفروا بآيات الله ويدخل في ذلك أيضًا ما قاله العلماء من أن أهل البدع وأهل الأهواء يدخلون في ذلك فالأحزاب التي يُقال عنها أحزاب دينية أو أحزاب إسلامية أو أحزاب سلفية كل هذا ليس من شرع الله عز وجل وإنما الواجب على الناس أن يكونوا أمة واحدة باتباع القرآن وباتباع السنة على ما فهمه سلف هذه الأمة ولذا قال في الآيات السابقات : ﴿ وَأَنَّ هـذا صِراطي مُستَقيمًا فَاتَّبِعوهُ ولذا ماذا قال تعالى : ﴿ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ولذا ترى التنازع والاختلاف والشقاق وما شابه ذلك بين هذه الأحزاب حتى لو كان المقصود منها التوصل إلى السياسة أو إلى الحكم فإن ذلك لا يُجَوِّزُ ولا يُسَوِّغُ لهؤلاء أن يفعلوا هذه الأحزاب في شرع الله عز وجل .

 

                                                         -5-

 

 ولذا ما مر معنا في نفس هذه السورة : ﴿ قُل هُوَ القادِرُ عَلى أَن يَبعَثَ عَلَيكُم عَذابًا مِن فَوقِكُم أَو مِن تَحتِ أَرجُلِكُم أَو يَلبِسَكُم شِيَعًا وَيُذيقَ بَعضَكُم بَأسَ بَعضٍ سبحان الله لما أتت هذه الأحزاب أذاق الله عز وجل بعضها بأس بعض باعتبار هذا التفرق ﴿ إِنَّ الَّذينَ فَرَّقوا دينَهُم وَكانوا شِيَعًا أي أحزابًا كل حزب له جماعة تناصره ﴿ لَستَ مِنهُم في شَيءٍ ﴿ إِنَّ الَّذينَ فَرَّقوا دينَهُم وَكانوا شِيَعًا لَستَ مِنهُم في شَيءٍ بمعنى أنك يا محمد بريء منهم وهم بُرءاء منك  إذًا فأين ما يكون من قرب وكيف يكون هناك اتباع للنبي ﷺ  وفي هذا الوعيد الشديد لمن أحدث هذه الأحزاب في دين الله عز وجل ، ولذا قال : ﴿ لَستَ مِنهُم في شَيءٍ إِنَّما أَمرُهُم إِلَى اللَّـهِ ﴿ إِنَّما أَمرُهُم إِلَى اللَّـهِ فإنما عليك البلاغ ﴿ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِما كانوا يَفعَلونَ يُخبرهم بكل ما فعلوه ولعله أتى بصيغة الفعل دون صيغة العمل لأن هذه السورة مر فيها معنا ﴿ وَلَو شاءَ اللَّـهُ ما فَعَلوهُ﴿ وَلَو شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلوهُ قال : ﴿ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِما كانوا يَفعَلونَ وهذا الإنباء يتضمن ويترتب عليه ماذا ؟ يترتب عليه الوعيد الشديد لمن أعرض عن الصراط المستقيم وفرَّق دين الله عز وجل

     ﴿ مَن جاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشرُ أَمثالِهابيان لحال من أقبل على هذا الصراط ومن أعرض عن هذا الصراط ممن أقبل عليه فعمل العمل الصالح وممن أدبر عنه فعمل العمل السوء فقال : ﴿ مَن جاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشرُ أَمثالِها﴿ فَلَهُ عَشرُ أَمثالِها وأنثّ عشر باعتبار ماذا ؟ باعتبار الحسنات ، فله عشر أمثالها. وهي تُضَعَّف كما مر معنا في سورة البقرة ﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ومر معنا تضعيف الحسنة إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة عند الآية التي في سورة البقرة ﴿ وَمَن جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجزى إِلّا مِثلَها أي لا يُعاقب إلا بمثل السيئة التي أتى بها ﴿ وَهُم لا يُظلَمونَ ولذا فهم لا يُظلمون ولا يُبخسون فبعض المفسرين قال : ﴿ وَهُم لا يُظلَمونَ الضمير يعود إلى من عمل السيئة ، وبعض المفسرين كما هو الظاهر من أن الضمير يعود للجميع من أن صاحب الحسنة لا يُنقص من حسناته شيء ولذا قال عز وجل : ﴿ وَمَن يَعمَل مِنَ الصّالِحاتِ وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلمًا وَلا هَضمًا

     ﴿ قُل إِنَّني هَداني رَبّي إِلى صِراطٍ مُستَقيمٍ سبحان الله لما ذكر عز وجل افتراق هؤلاء في دين الله، أمر الله عز وجل محمد ﷺ أن يُبن لهم ما هو الصراط الذي سار عليه. ﴿  قُل إِنَّني هَدانيودل هذا على أن الهداية بيد الله عز وجل ، ما من مخلوق اهتدى حتى لو علت منزلته فإنما الهداية من الله عز وجل ﴿ قُل إِنَّني هَداني رَبّيقال ربي من باب التنبيه لهؤلاء من أنهم يؤمنون بالرب لكنهم لم يهتدوا إلى اتباع الصراط المستقيم ، ولأن الربوبية هنا تقتضي ماذا ؟ تقتضي الرحمة والعطف والخير والهداية للنبي ﷺ من ربه ﴿ قُل إِنَّني هَداني رَبّي إِلى صِراطٍ مُستَقيمٍما هو ؟ ﴿ وَأَنَّ هـذا صِراطي مُستَقيمًا فَاتَّبِعوهُكما مر في الآيات السابقات  قال هنا : ﴿ إِلى صِراطٍ مُستَقيمٍ دينًا قِيَمًانُصب ﴿ دينًا قِيَمًا ﴾  باعتبار محل ( هداني إلى صراط مستقيم ) لأنها هداني صراطًا مستقيمًا ، فمحلها النصب ﴿ دينًا قِيَمًا أي مستقيمًا لا اعوجاج فيه .

 

                                                        -6-

 

 ﴿ دينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبراهيمَ حَنيفًاوهو المائل عن الأديان الشركية إلى دين الإسلام ﴿ دينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبراهيمَ حَنيفًا وَما كانَ مِنَ المُشرِكينَ أي ما كان إبراهيم عليه السلام من المشركين وهذا يدل على ماذا ؟ يدل على أن إبراهيم لم يكن الماضي من المشركين ولعل ذكرها هنا والعلم عند الله حتى يتأكد ما ذكرناه هناك مما ذكره عز وجل : ﴿ فَلَمّا جَنَّ عَلَيهِ اللَّيلُ رَأى كَوكَبًا قالَ هـذا رَبّي من أنه ليس شكًا من إبراهيم وإنما هو من باب المناظرة كما مر هناك ﴿ وَما كانَ مِنَ المُشرِكينَ .

     ﴿ قُل إِنَّ صَلاتي  قل يا محمد لهؤلاء وهذا يصدع فيه النبي ﷺ ببيان الطريق الذي سار عليه وهو الصراط المستقيم ، ويُبين ماذا ؟ بُبين هذا الصراط  ﴿ قُل إِنَّ صَلاتي وَنُسُكي  ﴿ قُل إِنَّ صَلاتي أي جميع صلواتي ﴿ وَنُسُكي قيل ذبحي وقيل ديني وقيل عبادتي والصحيح أنه شامل  ﴿ قُل إِنَّ صَلاتي وَنُسُكيإن قيل نسكي أي الدين دل هذا على أنه من باب عطف العام على الخاص لأن الصلاة من الدين ، وإن كان المقصود الذبح ومر معنا من أن النسك يُطلق عليه الذبح كما في قوله عز وجل في سورة البقرة : ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّـهِ إلى أن قال : ﴿ أَوْ نُسُكٍقال : ﴿ أَوْ نُسُكٍفقال هنا : ﴿ قُل إِنَّ صَلاتي وَنُسُكي ومن ثم فإن شيخ الإسلام رحمه الله يقول : إن أعظم العبادات البدنية هي الصلاة وأعظم العبادات المالية الذبح  ولذا جمع بينهما كما جمع بينهما في قوله تعالى : ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴿١﴾ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾  ﴿ قُل إِنَّ صَلاتي وَنُسُكي وَمَحيايَ وَمَماتي محياي ومماتي ، محياي أي هو يُحييني وهو يُميتني ، وأيضًا محياي أي ما أحيا به على العمل الصالح وأموت عليه من العمل الصالح وأيضًا ما يكون بعد موتي من جزاء الله عز وجل لي على عملي. وهذا القول يشمل كل ما قاله المفسرون حول هذه الآية. وهذا يدل على ماذا ؟ يدل على أن قوله : ﴿ قُل إِنَّ صَلاتي وَنُسُكي وَمَحيايَ وَمَماتي لِلَّـهِأي خالصًا لله عز وجل دل هذا على أن التوحيد صدع به النبي ﷺ وبين أن التوحيد هو طريقه وأنه يكون في حياته وبعد مماته ، فدل على أنه لا غنى عن التوحيد لا في الحياة ولا بعد الممات ﴿ وَمَحيايَ وَمَماتي لِلَّـهِ رَبِّ العالَمينَقال لله لأنه هو المعبود مع المحبة والتعظيم ، فتلك العبادات السابقة لا يجوز لكم أن تصرفوها لغير الله وفي هذا النكير على أولئك المشركين ، ولذا قال : ﴿ لِلَّـهِ يعني لله ما الذي بعدها ﴿ رَبِّ العالَمينَمما يُقرر هؤلاء ويُلزم هؤلاء من أنهم كما أقروا بأنه رب العالمين ، فيلزمكم أن تعبدوا الله وأن تجعلوا هذه الصلاة وهذا النسك وهذا المحيا وهذا الممات لله عز وجل ولذا قال : ﴿ لِلَّـهِ رَبِّ العالَمينَ ثم أكد ذلك بقوله : ﴿ لا شَريكَ لَهُنفي لعموم الشريك سواء عظم هذا الشريك أو لم يعظم ، علت مرتبته أو دنت  ﴿ لا شَريكَ لَهُ وَبِذلِكَ أي ما تقدم ذكره من تلك العبادات ﴿ وَبِذلِكَ أُمِرتُ يعني أمرني الله عز وجل بذلك ﴿ وَبِذلِكَ أُمِرتُ أمرني الله عز وجل بذلك ﴿ وَبِذلِكَ أُمِرتُ وَأَنا أَوَّلُ المُسلِمينَفهو أول المسلمين زمنًا باعتبار أمته فهو أول من أسلم لله عز وجل  وأيضًا هو أول من أسلم باعتبار الأمم السابقة من حيث من حيث قَدْرُ وعِظَمُ هذا الإسلام  ﴿ وَأَنا أَوَّلُ المُسلِمينَأي أعظم الناس إسلامًا لله عز وجل في جميع الملل ولذا هو عليه الصلاة والسلام كما قال عيسى عليه السلام في حديث الشفاعة الطويل كما ثبت قال : (اذهبوا إلى محمد فإنه عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ) ﴿ وَبِذلِكَ أُمِرتُ وَأَنا أَوَّلُ المُسلِمينَ  

 

                                                   -7-

     قل يا محمد لهؤلاء ﴿ قُل أَغَيرَ اللَّـهِ أَبغي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيءٍإذًا دل هذا على أنه كما هو الرب إذًا أيضاً هو المعبود ، ولذا قال هنا : ﴿ قُل أَغَيرَ اللَّـهِومر معنا هنا الإنكار لأن الاستفهام هنا استفهام إنكاري ﴿ قُل أَغَيرَ اللَّـهِ أَبغي رَبًّاومر معنا في هذه السورة ﴿ أَفَغَيرَ اللَّـهِ أَبتَغي حَكَمًا ومر معنا ﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّـهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فقال هنا ﴿ قُل أَغَيرَ اللَّـهِ أَبغي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيءٍفكل شيء فالله ربه فهو الذي يتولاه وهو الذي يرزقه وهو الذي يتولى شؤونه فهو المربي عباده بالنعم العظيمة الظاهرة والباطنة ﴿ قُل أَغَيرَ اللَّـهِ أَبغي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيءٍ وَلا تَكسِبُ كُلُّ نَفسٍ إِلّا عَلَيهاكل نفس حسْب ما كسبت من خير أو من شر فإنها يوم القيامة تُحاسب إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر ﴿ وَلا تَكسِبُ كُلُّ نَفسٍ إِلّا عَلَيها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزرَ أُخرىأي لا تتحمل نفس وزر غيرها، وإنما كل إنسان يتحمل وزره  ولذا قال تعالى: ﴿ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبى ﴿ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزرَ أُخرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُم مَرجِعُكُم فَيُنَبِّئُكُم بِما كُنتُم فيهِ تَختَلِفونَ فمرجعكم ومردكم إلى الله عز وجل وسيحاسب كل إنسان حسْب عمله لأنهم اختلفوا في هذه الدنيا ما بين مؤمن وكافر وما بين صاحب سنة وصاحب بدعة وما شابه ذلك ولذا قال عز وجل : ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ﴿٣٠﴾ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ فقال هنا : ﴿ ثُمَّ إِلى رَبِّكُم مَرجِعُكُم فَيُنَبِّئُكُم بِما كُنتُم فيهِ تَختَلِفونَ

     ﴿ وَهُوَ الَّذي جَعَلَكُم خَلائِفَ الأَرضِ أي يخلف بعضكم بعضاً. ولذا أنتم يا كفار قريش خلفتم الأمم السابقة فكل أمة تخلف الأمة الأخرى  وقال في ثنايا السورة : ﴿ إِن يَشَأ يُذهِبكُم وَيَستَخلِف مِن بَعدِكُم ما يَشاءُ هنا بين فقال : ﴿ وَهُوَ الَّذي جَعَلَكُم خَلائِفَ الأَرضِ وَرَفَعَ بَعضَكُم فَوقَ بَعضٍ دَرَجاتٍ رفع بعضكم فوق بعض درجات ، جعل منكم الغني والفقير، جعل منكم من هو مختلف من حيث الجمال من غير الجمال ، من حيث المناصب من غير المناصب ، اختلاف متنوع ولذا قال : ﴿ وَرَفَعَ بَعضَكُم فَوقَ بَعضٍ دَرَجاتٍ لِيَبلُوَكُم في ما آتاكُم ليختبركم فيما آتاكم فمن أتته نعمة فهو اختبار من الله هل يشكر أم يكفر، من لم تأته نعمة وكان أقل من غيره فهنا يأتي الاختبار هل يصبر أو أنه لا يصبر ولذا لعل ختام هذه السورة فيما يتعلق بهذه الآية من باب التذكير بقول أولئك :  ﴿ أَهـؤُلاءِ مَنَّ اللَّـهُ عَلَيهِم مِن بَينِنافقال عز وجل: ﴿ أَلَيسَ اللَّـهُ بِأَعلَمَ بِالشّاكِرينَ فقال هنا : ﴿ لِيَبلُوَكُم في ما آتاكُم إِنَّ رَبَّكَ سَريعُ العِقابِ ففيه التحذير من ماذا ؟ التحذير من البقاء على مخالفة هذا الصراط المستقيم  ﴿ إِنَّ رَبَّكَ سَريعُ العِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفورٌ رَحيمٌ أي لمن أطاعه  ، سبحان الله والعلم عند الله يظهر لي فيما يظهر لي من أن السورة ختمت بقوله : ﴿ إِنَّ رَبَّكَ سَريعُ العِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفورٌ رَحيمٌ من باب ماذا ؟ من أنه لما ذكر في هذه السورة أصناف وأحوال الناس والتذكير بالمخالفين لشرع الله ومن هو على الطريق المستقيم ومن هو على غير ذلك مما ذُكر في هذه السورة ، بين هنا ماذا؟ من باب الإجمال والتنبيه والتحذير والتذكير ﴿ إِنَّ رَبَّكَ سَريعُ العِقابِلمن عصاه وخالف أمره مما جاء في هذه السورة ومما جاء في غيرها ، وهو غفور رحيم لمن أطاعه مما ذكره عز وجل في هذه السورة أو في غيرها ، ومن ثم والعلم عند الله أيضًا من باب ماذا؟ لما قال عز وجل سبحان الله: ﴿  وَرَبُّكَ الغَنِيُّ ذُو الرَّحمَةِ قال ذو الرحمة. وقال : ﴿ فَإِن كَذَّبوكَ فَقُل رَبُّكُم ذو رَحمَةٍ واسِعَةٍ هنا قال : ﴿ إِنَّ رَبَّكَ سَريعُ العِقابِ ولم يؤكده باللام ، لكن لما أتى إلى قوله :

 

                                                  -8-

﴿ وَإِنَّهُ لَغَفورٌ رَحيمٌأكده باللام وأكد المغفرة أيضًا باسمه الرحيم من باب ماذا ؟ من باب الحث لهؤلاء أن يعودا إلى الله عز وجل  فما أعظم هذا القرآن سبحان الله كيف ختمت هذه السورة بكلمتين أو بجملتين ﴿ إِنَّ رَبَّكَ سَريعُ العِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفورٌ رَحيمٌ  

وبهذا بحمد الله تم الإنتهاء من تفسير سورة الأنعام.

 

 

      

    

 

                                              -9-