﷽
[ تفسير سورة إبراهيم ــ عليه السلام ــ ]
من الآية(13) إلى الآية (34)
الدرس (146)
لفضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري – حفظه الله –
الحمد لله رب العالمين وأُصلِّي وأُسلِّمُ على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدّين
أما بعد :
فكُنَّا قد توقفنا عند قول الله عز وجل :
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۖ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} [ابراهيم : 13]
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا }
لمَّا بيَّنت الرُسُل فيما مضى من دلائل على صحة رسالتهم، لكنَّ هؤلاء الكُفَّار طَغوا وهددوا هؤلاء الرُسُل.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}
وهذهِ هي طبيعةُ الكُفَّار يُهدِدونَ بإخراجِ الإنسان من وطنِهِ، أو أنَّهُ يعودُ إلى المِلَّة.
وقد مرَّ معنا ما يتعلقُ بذلكَ: هل هؤلاءِ الأنبياء كانوا فيما مضى قبلَ النُبوَّة هل كانوا على مِلَّتِهم ؟ لقولِهِ : {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} مرَّ ذلكَ مُفصلًا في سورةِ الأعراف : {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} الآية.[الأعراف : 88]
ولِذا كُفَّارُ قُريش اجتمعت من أجل أن تُهدِدَ النبي – ﷺ – كما مرَّ تفسيرُهُ عِندَ قولِهِ -تعالى- : {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال : 30]
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۖ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ}
أوحى اللهُ -عز وجلَّ- إلى هؤلاءِ الرُسُل بأنَّ هؤلاء ظَلَمَة وهلاكُهُم مُحقق {فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ}.
{وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [ابراهيم : 14]
{وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ } بمعنى: أنَّكُم ترِثونَ مساكِنَهُم.
{وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ} أي مِن بعدِ هلاكِهِم.
{ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} أي: ذلِكَ لِمَن خافَ المَقام بينَ يدَي اللهِ -عز وجل- ففعلَ أمرَهُ واجتنبَ نهيه.
{ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} أي: خافَ ما توعدُتُ بِهِ ممن كفَرَ، فذلك الوعيدُ الشديد هو عبرةٌ وعِضة لمن خافَ مقامَ ربِّهِ -عز وجل- وخافَ عذابَهُ.
{وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [ابراهيم : 15]
{وَاسْتَفْتَحُوا} أي: استفحت الُرسُل، واستفتحت هؤلاءِ الكفار بأن يفتحَ الله -عز وجل- وأن يحكُمَ بين الطرفين. {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [ابراهيم : 15]
ولذ مرَّ معنا في تفسيرِ سورة الأنفال:- {إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ ۖ وَإِن تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}
فإنَّ قُريشًا لمَّا استفتحت بأن يأتيَ اللهُ بالعذاب لمن كذَّبَ فعاقبهُمُ اللهُ -عز وجل- فقالَ هُنَا: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} خابَ: أي خسِرَ.
{كُلُّ جَبَّارٍ}: الجبَّار هو الغليظ المُتكبِّر في نفسِهِ.
{كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}: أي معاندٍ للحق الذي أتت به الأنبياء.
{وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}: أي من عاندِ الرسُل.
{مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَىٰ مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ} [ابراهيم : 16]
أي : مِن أمامه جهنَّم، الوراء هُنا بمعنى: الأمام كقولِهِ تعالى : {وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف : 79]
يعني: أمامَهُم، وهذا أظهر مِن قولِ مَن يقول: إنَّ الوراء على معناهُ الحقيقي، بمعنى: أنَّ {مِّن وَرَائِهِ} بعدَ هلاكِه جنَّهم، ولا تعارُضَ بينَ القولين فإنَّ المردَّ لهذا هو جهنَّم سواءٌ كانَ من بعدِ هلاكِهِ، أو كان ما أمَامَهُ.
{مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَىٰ مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ} {وَيُسْقَىٰ} دلَّ هذا على أنَّهُ يُسقى رَغْمَ أنفِه كما قال تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد : 15]
{وَيُسْقَىٰ مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ}: والصديدُ هو: الذي يخرُجُ مِن مُخلَّفاتِ أهلِ النَّار من عرَقِهِم، وفضلاتِهِم.
{وَيُسْقَىٰ مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ} : ووَصفَ هذا الماء بأنَّهُ من صديد.
{يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ۖ وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [ابراهيم : 17]
{وَيُسْقَىٰ مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ} : والتجرُعُ هو: البلع.
{يَتَجَرَّعُهُ} يعني يبتلِعُهُ مع شِدَّة، مرةً بعدَ مرة؛ لأنَّهُ غيرُ مُستساغ.
{يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ} ليسَ مُساغًا وليسَ سهلا.
وقالَ هُنا: {وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ} ولم يقُل: “ولا يُسيغُه” بمعنى: أنَّهُ إذا كانَ لا يقرُبُ أن يُسيغَه، إذًا من باب أولى أنَّهُ لا يُسيغُهُ، وهذا من أعظمِ ما يكونُ مِنَ العذاب.
{مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَىٰ مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ*يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ} يأتيهِ من أسبابِ الموت مِن كُلِ مكان، كما قالَ تعالى : {لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ} الآية [طه : 74] وكما قال تعالى : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا} الآية[فاطر : 36]
بمعنى: أنَّ أسبابَ الموت أمامَهُ لكنه لا يموت {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ} ولذا قالَ بعدَها: {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ۖ وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} أي: شديد مع هذا الشراب، ومع ما يتجرعُه من هذا الشراب فإنَّ وراءهُ عذابًا غليظا.
{مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ۖ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ۖ لَّا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَىٰ شَيْءٍ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} [ابراهيم : 18]
{مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} أي: صفة الذينَ كفروا بربِّهِم.
{أَعْمَالُهُمْ} أي: أنَّ تِلكَ الأعمال التي بها ما يكونُ مِن: برِ والدَي، أو صِلةِ رحم، فإنهم لا يُجزونَ عليها وإنما تذهبُ هباءً منثورا؛ لأنها لم تكُن على التوحيد (كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) لكن من آمنَ فإنَّ الله -عز وجل- يجزيَهِ على ما قلَٔ مِنَ العمل، وهذا يدلُ على فضيلةِ التوحيد.
{مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ۖ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ}
(كَرَمَادٍ) وهو ما تبقَّى مَنَ النار.
{كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} انظُر {اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} بمعنى: أنَّ الإنسانَ لو نفخَ فيهِ فإنَّهُ يذهَبُ، فكيفَ إذا أتت الريح؟ وكيف إذا كانت الريح في يومٍ عاصف شديد؟{أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} مما يدُلُ على أنَّهُ لا يبقى لهم خيرٌ مِنها. قالَ تعالى : {وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} [الفرقان : 23]
{اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ۖ لَّا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَىٰ شَيْءٍ} فإنَّهُم لا ينالونَ خيرًا مِمَّا كسَبوهُ مِن تِلكَ الأعمال، ولو كانت في صورتِها صُورةُ أعمالٍ خيِّرة كبرِّ والدٍ أو صِلةِ رَحِم، ولِذا قال : {لَّا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَىٰ شَيْءٍ} بمعنى: أنَّهُ لو قَل فلا نفعَ لهم من هذهِ الأعمال يومَ القيامة، ولِذا قالَ بعدَها : {ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} الضلالُ البعيد الذي بَعُدَ بصاحِبِه بأن يكفُرَ بربِّهِ -عز وجل- ومِن ثَمَّ فإنَّ أيَّ عمَلٍ يعملُه يكونُ هباءً منثورا، وأيُّ ضلالٍ بعيد أعظم من هذا ؟ وهُنا في هذه الآية قال : {لَّا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَىٰ شَيْءٍ} وفي سورة البقرة قال : {لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا} ولم أرَ فيما أعلم أنَّ هُناكَ من تحدَّثَ عنِ الفرقِ بينهُما، لكنَّ الذي يظهرُ لي -والعِلمُ عندَ الله- أنَّ آيةَ البقرة ذُكِرَ فيها الكافر، وذُكِرَ فيها الذي يُرائي، وذُكِرَ فيها الذي يُبطِلُ صدقاتِهِ بالمَنّ، فهُنَا لمَّا ذكرَ أولئِك ومِن بينِهم لمَّا ذكرَ الكُفَّار قالَ تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} لمَّا جمَعَ مع هؤلاءِ الكُفَّار جمعَ معَهُم من أبطلَ صدقَتَهُ بالمنّ قال : {لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا} فقدَّمَ في سورةِ البقرة {عَلَىٰ شَيْءٍ} باعتبارِ ماذا ؟ بِاعتبار أنَّهُ رُبما أن يُقال إنَّ مَنْ مَنَّ بصدقتِهِ فإنَّهُ يكونُ أيسر من حيثُ ذهاب العمل، أيسر من الكفار، فقدَّمَ كلِمة: “شَيْءٍ” من بابِ التنبيهِ على ذلك، لكن لمَّا كانَ السياقُ هُنا يتحدثُ عنِ الكفارِ فقط: {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ۖ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ۖ لَّا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَىٰ شَيْءٍ} أخَّرَ ما يتعلقُ بـ : {شَيْءٍ} وقدَّمَ: {مِمَّا كَسَبُوا}؛ لأنَّ هؤلاء كسَبوا تلك الأعمال في هذه الدنيا لكنها لا تنفَعُهم فقال : { ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ }.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۚ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [ابراهيم : 19]
{أَلَمْ تَرَ} هُنا دلائِل على ماذا ؟ دلائل على عِظَمِ الله -عزو جل- وأنه هو الذي يستحق العبودية وحدَه.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} ما خلقهما عبثا، وإنما خلقهما لكي يتدبر الإنسان ما فيهما ويعلم أنَّ هذهِ السماوات وهذه الأرض قد أوجدهما الله -عز وجل- وأيضًا ما يتعلقُ بمرور الليل والنهار فإنَّ هذا يدلُ على فناءِ هذه الدنيا، وأنَّ الذي يستحقُ العبوديةَ هو الله الذي جعل ما في هذه السموات وما في هذه الأرض يكون بانتظامٍ دقيق.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۚ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ}
أي: بِأُناسٍ جُدُد {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} إن كفرتم بالله، ولذلك مرَّ معنا مِثلُ ذلك في قولِهِ تعالى : {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ} [الأنعام : 133]
وكما قال تعالى : {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} الآية [النساء : 133]
وكما قال تعالى : {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} [محمد : 38]
{وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [ابراهيم : 20] ما ذلك على الله بقويٍ ولا عسير.
{وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ۚ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ ۖ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} [ابراهيم : 21]
{وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا} أي: ظهروا جميعًا لله -عز وجل- للحساب.
{وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} قال الضعفاء الذين اتبعوا الذين استكبروا {فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ}
{فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ} أي: هل تُفيدوننا وهل تتحملون عنا من عذاب الله من أيِّ شيء {قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ ۖ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ}
{قَالُوا} أي: قال الكُبراء: {لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ} لو هدانا الله ووفقنا للهداية لهديناكم أي: دللناكم على الطريقِ المستقيم، ومن هُنا فإنَّ هذهِ الآيةَ: {لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ} جمعت بين الهدايتين: بين هداية التوفيق وبين هداية الإرشاد.
{لَوْ هَدَانَا اللَّهُ} أي: هداية التوفيق؛ لأنَّ الله -عز وجل- قد هداهم بإرسال الرسل وبإنزال الكتب لكن قولُهُ: {لَهَدَيْنَاكُمْ} لهديناكم يعني: لبيّنَّا لكم طريقَ الحق فاهديتم كما اهتدينا.
{لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ ۖ (سَوَاءٌ عَلَيْنَا)} أي يستوي عندنا.
{سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا} {أَجَزِعْنَا} لمَّا ذكرَ الجزَع وذكرَ الصبر دلَّ هذا على أنَّ الجزع: هو التسخُّط. {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} وبعضُ العلماء ذكرَ بعض الآثار: “من أنَّ أهل النار من أنَّهُم يَجزَعون فإذا رأوا أنَّ الجَزَع لا يُفيد فإنهم يقولون تعالُوا بنا لنصبِر، فلم يُفِدهم ذلك شيئًا” وهذا لا أعلمُ لهُ دليلًا صريحًا في السُنَّة وإنما هُنا بيان لماذا ؟ بيانٌ لقولهم: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا} أي: يستوي عندنا.
{سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} ما لنا من مهرب ولا نجاة.
{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [ابراهيم : 22]
{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ}
{وَقَالَ الشَّيْطَانُ} قال بعضُ المفسرين: لمَّا رأى هؤلاء الكفار من أنَّ المؤمنين أتوا إلى الأنبياء ليستشفعوا بهم لدخول الجنة، هُنا قالوا: لنذهب إلى الشيطان فهوَ الذي أغوانا فردَّ عليهم الشيطانُ بهذا القول.
وهذا لا أعلمُ لهُ دليلًا صريحًا في السُنَّة وإنما -والعلمُ عند الله- ذكرَ الشيطان لِمَ ؟
لأنه لمَّا ذكرَ المستكبرين الذين أضلوا الضعفاء بيَّنَ إمام المستكبرين الذي أضلَّ الجميع بِغوايتِهِ وبتزيينهِ وهو الشيطانُ الأكبر.
{وَقَالَ الشَّيْطَانُ} هُنا تبرأَ الشيطان كما تبرأَ المتبوعون من الأتباع، هُنا تبرأَ الشيطانُ من الجميع وهو رئيسُهم.
{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ} وهذا يدُلُّ على أنَّهُ يَخطُبُ فيهم في نارِ جهنم.
{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ} بمعنى أنَّ الأمرَ قُضِي: فأُدخِلَ أهلُ الجنَّة الجنَّة، وأهلُ النَّار النَّار، دلَّ هذا على أنَّ هذا الكلامَ منه وهذه الخُطبَةَ منه إنما هي في نارِ جهنم.
{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} فوعدَكُم وَعدَ الحقِّ بأن أرسلَ الرُسُل، وأنزلَ الكُتُب، وبيَّنَ لكم حالَ المُطِيع وحالَ العاصي.
{إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ}
{وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ} مِن حُجَّة ومِن قُوَّة.
{وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} بمجرد أنني دعوتكم استجبتم لي.
{إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم} ليكُن اللومُ على أنفُسِكُم إذ إنَّكُم فرّطتم في ذلك واتَّبعتموني.
{فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} يعني بمنقذِكُم.
{وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ} أي: بمنقِذِي.
{إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} إني أكفرُ بما أشركتموني في الدنيا مع الله -عز وجل- فأنتم جعلتموني شريكًا مع الله، فأنا أكفرُ بذلك وأتبرأُ من هذا الشرك.
{إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} دلَّ هذا على أنَّ هؤلاء قد ظلموا أنفسَهم.
{وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ۖ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} [ابراهيم : 23] {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا} {وَأُدْخِلَ} دلَّ هذا على ماذا ؟ على أنَّ دخُولَ أهلِ الجنة إنما هو بتوفيقٍ من الله.
{وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} إذًا دخولُهم للجنَّة وخلودُهم في الجنة بإذنِ ربِّهِم، دلَّ هذا على أنَّ دخولَهم بإذن الله وبمشيئةِ الله ولِذا ما مرَّ معنا في سورة هود : {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} يعني كلُّ ذلك بمشيئةِ الله، وبإذنِ الله، ولِذا فإنَّ النبي – ﷺ – قالَ كما ثبتَ عنهُ في الصحيح قال : ” اعْلَمُوا أنَّه لَنْ يُدْخُلَ أحَدٌ مِنكُم الجَنَّةَ بعَمَلِهِ قالوا: ولا أنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: ولا أنا، إلَّا أنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ برَحْمَةٍ منه وفَضْلٍ”.
{وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ۖ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} يُسلَّمُ عليهِم : {سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [يس : 58] من ربِّهِم، وتُسلِّمُ عليهمُ الملائكة : {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ*سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد : 23-24] ويُسلِّمُ بعضُهم على بعض : {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا*إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} [الواقعة : 25-26] ويكونُ لهم أيضًا السلامةُ في هذهِ الجنة من الآفات، ومن البلايا، ومن المصائب.
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [ابراهيم : 24]
هذهِ هيَ كلمةُ التوحيد، هُنا ذكرَ -عز وجل- مثالًا لكلمةِ التوحيد، فالتوحيدُ عظيم.
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً} الكلمةُ الطيبة: هي قولُ “لا إله إلا الله” إذا أتى بها الإنسانُ وأتى بأركانها وبشروطِها وتَرَكَ ما يُناقِضُها.
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} هذهِ الشجرةُ الطيبة على قولِ أكثرِ المفسرين: هي النخلة، قُلتُ: ومما يدلُّ على ذلك كما جاء في الصحيح: “أن النبي – ﷺ- سأل الصحابة عن شَجَرَةٍ، هِيَ مِثْلُ المُؤْمِنِ فَجَعَلَ الصحابةُ يتحدثونَ عن شجرِ البوادي” يعني: البادية، فأخبر عليه الصلاةُ والسلام أنَّها هِيَ : النَّخْلَةُ.
{كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ} {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} تجد أن النخلة أصلُها في الأرض ثابت ومُستَقِر، وقوي.
{أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} فرعُها في العلو، بها الثمار، بها الخيرات، بها كلُّ شيء من النوافع، فجريدُها يُنتفعُ منه، وثِمارُها يُنتفعُ منها، حتى جُذُوعُها، فكلُّ ما فيها منافع ولِذا فإنَّ كلمة التوحيد في القلب إذا عظُمَت كلما عظُمَت فإنها ثابتة في القلب، وإذا ثبتت واستقرت في قلب العبد فإنَّ آثارها تظهرُ على جوارِحِه من حيثُ الأعمالُ الطيبة، والأقوال الطيبة، والأخلاقُ الحسَنَة.
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} فدلَّ هذا على ماذا ؟ على أنَّ التوحيدَ لهُ شأنُهُ العظيم إذا استقرَّ في القلب وَعَظُم فما أعظمَ التوحيد، ولِذا ثبت قوله – ﷺ – : “المُؤمِن مِثْلُ النَّخْلَة” ودلَّ هذا على ماذا ؟ على أنَّ النَّخْلَةَ كما أنَّ كُلَّها منافع، كذلك المؤمن كُلُّهُ منافع، باعتبارِ ماذا ؟ باعتبارِ التوحيد الذي استقرَّ وعَظُمَ، وكُلما عظُمَ التوحيد كُلما عظُمَت ثمارُ هذا التوحيد من الأعمال الطيبة، والأقوال الطيبة، والأخلاق الحسنة.
فقالَ -عز وجل- : {وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} يعني أنَّ فرعها في السماء. {تُؤْتِي أُكُلَهَا} يعني ثمرها.
{تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [ابراهيم : 25]
و{تُؤْتِي أُكُلَهَا} يعني ثمرها. {كُلَّ حِينٍ} أي: كُلَّ زمنٍ حسبَ ما قدَّرهُ الله -عز وجل- ؛ لأنَّ النخلةَ يُستفادُ منها فإنَّ ثمارَها أوَّلُ ما تظهر يُستفادُ منها في الأكل، ثُمَّ إذا كانت رُطَبا يُستفادُ منها في الأكل، ثُمَّ إذا صُرِمَت فإنَّ هذا الصّرَام يوضعُ ويُكنَز، فيأكلُ منه الإنسان في كُلِّ حِينِه، كذلك سبحان الله كلمةُ التوحيد، التوحيدُ إذا كانَ عظيمًا في القلب فإنَّ العبدَ يحرص على الأعمال الطيبة وعلى ما يُرضي اللهَ -عز وجل- فما أعظمَ التوحيد.
{تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} ولِذا تَجِد أنَّ العبدَ كُلَّما عَظُمُ التوحيدُ في قلبِه كُلما رأيتَهُ في كُلِّ شأنٍ من شُؤونِه من أحسنِ النَّاسِ في الأعمالِ الصالحة.
{تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} وكُلُّ ذلك بتوفيقٍ مِنَ الله.
{تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} بإذنِ اللهِ -عز وجل- فالموفق من وفقهُ الله، والمُعان من أعانَهُ الله، ولِذلك ماذا قال بعدها؟
{وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} فذكرَ -عز وجلَّ- أنَّ هذا مَثَل مِن جُملةِ الأمثال التي ضربها -عز وجلَّ- للتذكُّر فقالَ هُنا: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} فأيُّ مَثَلٍ ضربَهُ اللهُ -عز وجل- فأرعي لهُ سمعكَ وقلبَك حتى تنتفِعَ مِنه، ولِذا قالَ بعضُ السَّلَف إذا قرأتُ المَثَلَ في القُرآن فلم أفهَمْهُ عزّيتُ نفسي لأني لم أكُن من العالِمِين، قالَ -عز وجل- : {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت : 43]
فقالَ هُنا : {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
{وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} [ابراهيم : 26]
{وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} وهيَ كلمةُ الكُفر {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ}، قال كثيرٌ من المُفسرين: هيَ شجرةُ الحنظل.
{كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ} بمعنى: مِن أنَّها إذا استُؤصِلت، استُؤصِلت من فوقِ الأرض لأنَّ قعرَها ليسَ ثابتًا وإنَّما هي قريبة من الأرض ولِذلك ماذا قال؟
{اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} مالها مِن ثبات، وكذلِكَ هذا شأنُ أهلِ الكُفُر فإنَّ حالَ هؤلاء مع هذا الكُفرِ باللهِ – عزوجل- حالُ الضَلال وحالُ الاستئصال، وحالُ الخوف، وحالُ الخسارة، وحالُ النهاية كنهايةِ هذهِ الشجرة الخبيثة التي بِمُجرد ما تُجتث إذا بِها تنتهي؛ لأنَّهُ لا قرارَ لها؛ لأنَّ الله -عز وجلَّ- يُبغِضُها ويكرهُها فدلَّ هذا على خُبثِ كلِمةِ الكُفُر وأصحابِ الكُفُر.
{وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ}
{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [ابراهيم : 27]
{بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} : {يُثَبِّتُ اللَّهُ} التثبيتُ مِنَ الله لا حولَ لنا ولا قوةَ إلا بالله.
{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} أمَّا غيرُهُم فإنَّهُم يَضِلُّون، ومِن ذلكَ أنَّهم في هذهِ الدُّنيا يكونونَ في ماذا ؟ يكونونَ في قرار: في راحة، وفي تثبيت، إذا أتت الشُبُهات فإنَّهُ بفضلٍ مِن الله ثُمَّ بِهذا التوحيد إذا بِهم يدفعون هذه الشُبُهات، وإذا بِهم يصرِفونَ عنهم الشهوات، إذًا {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} دلَّ هذا على ماذا ؟
دلَّ على أنَّ التوحيدَ نجاةٌ في الدنيا وقال : {وَفِي الْآخِرَةِ} يعني: في القبر كما فسَّرَ ذلك النبي – ﷺ – في الحديثِ الصحيح، وذلك لأنَّ ما يكونُ بعدَ الموت يكونُ مِنَ اليومِ الآخِر، فاليومُ الآخِر: هو ما كانَ بعد الموت إلى قيامِ الساعة وما يكونُ بعدها، ولذلك ثبتَ قولُه ﷺ: “القبرُ أوَّلُ منزِلٍ من منازِلِ الآخِرة”.
{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} يعني في القبر حينما يأتي الملَكَان فيسألانِهِ من ربُّك ؟ ما دينُك ؟ من نبيُّك ؟ أسئلةُ التوحيد، فيُجيبُ، فهذا تثبيتُهُ.
وأمَّا الكافرُ والمُنافق فإنَّهُ يقولُ: هاه هاه لا أدري! فدلَّ هذا على أنَّهُ لا ثباتَ لهُ في القبر، ولا ثباتَ لهُ في هذهِ الدُّنيا فهو وقلبُهُ يستقبِل الشُبُهات، والشهوات {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} [النور : 40]
فقالَ هُنا: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} ومِن ثَمَّ فإنَّ هذا هو أصحُ قولٍ في تفسيرِ هذهِ الآية، خلافًا لِمن قال: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} يعني: في قيامِ الساعة.
لكِنَّ تفسيرَ النبيِّ – ﷺ – هو المُتعينُ في هذا، ولذلك قال بعدها : {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} من َظَلمَ نفسَهُ بِهذا الكُفُر فإنَّ الله -عز وجل- يُضِلُهُ لكمالِ عدلِهِ فلم يظلِمْهُ إنَّما هذا الظالمُ ظلمَ نفسَه.
{وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} فلا يستطيع أن يثبُتَ عِندَ سُؤالِ المَلَكَين، ولا يستطيع أن يثبُتَ في حياتهِ الدُّنيوية.
{وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} وكُلُّ ذلِكَ بأمرِ الله، ولِذا قال : {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}
{مَا يَشَاءُ} فإنَّهُ يفعلُه، {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} فلا رادَّ لأمرِه، ولا مُعقِّبَ لِحُكمِه.
فقالَ هُنا : {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} فكُلُّ شيءٍ بأمرِهِ -عز وجل-.
قالَ : {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} وأتى بصيغةِ الفعلِ المُضارِع في: {يَشَاءُ} وفي: {يَفْعَلُ} مما يدُلُّ على أنَّهُ -عز وجل- فعَّالٌ لِما يُريد، ومِن ثَمَّ فإنَّهُ كما أخبرَ عن نفسِه {يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} إذًا علينا نحنُ العبيد أن نلتجئَ إلى الله في كُلِّ حين أن يُثبِّتَنَا، وأن يرزُقَنَا العِلْمَ النافِعَ، والعَمَلَ الصالِح، وأن يُثبِّتَنَا على التوحيد حتَّى نلقاه.
{۞ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [ابراهيم : 28]
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ} هُنا استفهام للتعجُّب مِن حالِ كُفَّارِ قُريش.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا}
{بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا} ونِعَمُ اللهِ عليهِم عظيمة، وأعظم هذهِ النِّعَم هو مَجيءُ محمَّدٍ – ﷺ- ، نِعمَةُ الدِّينِ أتتهُم فبدَّلُوها وغيرُوها.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} أنزلوا قومَهُم دارَ البوار، دارَ الهلاك وذلك لأنَّهُم كانوا أسبابًا في قومِهِم؛ لأنَّ الكُبراء أضلُّوهُم ولِذا كما مرَّ معنا في الآياتِ السابِقات: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} فدلَّ هذا على ماذا؟ دلَّ هذا على أنَّ هؤلاء كانوا سببًا في إحلالِ وفي إسكانِ قومِهِم دارَ البوار، وهذا يدُلُّ على خُطورةِ دُعاةِ الشرِّ والسُّوء.
فقالَ -عز وجل- : {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} ما هيَ دارُ البوَار والهلاك والخسارة ؟ {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا ۖ وَبِئْسَ الْقَرَارُ} وهي هُنا بَدَل {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا ۖ وَبِئْسَ الْقَرَارُ}[ابراهيم : 29]
{يَصْلَوْنَهَا}: يُقاسُونَ حرَّها، {وَبِئْسَ الْقَرَارُ} : ذمٌ لها.
{وَبِئْسَ الْقَرَارُ} المُستقَرّ الذي لا خُروجَ لهم منها.
{وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّوا عَن سَبِيلِهِ ۗ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [ابراهيم : 30]
{وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّوا عَن سَبِيلِهِ} هذا مِن تبديلِ نعمةِ الله إذ كفروا بالله، وجعلوا للهِ أندادا، ولِذلِكَ مرَّ معنا: قولُهُ -عز وجل- {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۗ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ}الآية[الرعد : 33] وكما قال -تعالى- : {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} الآية [الرعد : 16] فقالَ هُنا : {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} أي: نُظراء.
{وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّوا عَن سَبِيلِهِ} ليكُونُوا أسبابًا في إضلالِ النَّاسِ عن طريقِ الحق، ولِذا قال -عز وجل- في أول السورة : {وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ*الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا}.
{وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} أي: نُظراء وأمثالا.
{وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّوا عَن سَبِيلِهِ ۗ قُلْ تَمَتَّعُوا} في هذه الدُّنيا حسْبَما تتمتعون {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} فإنَّ من كانَ مصيرُهُ إلى النَّار فإنَّهُ لن يتذكَّرَ أيَّ مُتعَة وأيَّ نعيم، ولِذلِكَ في صحيحِ مُسْلِم قال ﷺ: “يُؤْتَى بأَنْعَمِ أهْلِ الدُّنْيا مِن أهْلِ النَّارِ يَومَ القِيامَةِ، فيُصْبَغُ في النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقالُ: يا ابْنَ آدَمَ هلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هلْ مَرَّ بكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فيَقولُ: لا، واللَّهِ يا رَبِّ”
ولِذلِك قال -تعالى- في آيةٍ أُخرى : {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا ۖ إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر : 8]
{قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ}.
{قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ} [ابراهيم : 31]
{قُل لِّعِبَادِيَ} يا مُحمَّد قُل لِعبادِي، وأضافَهُم إليه من بابِ التشريف من بابِ أن يحُثَّهُم على الأعمالِ الطيبة {قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنفِقُوا}
{يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} على وجهها المطلوب.
{وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} وأتى بصيغة الفعل المضارع مما يدل على أنَّهُم مُطالبونَ بالاستمرارِ على إقامةِ الصلاة، وعلى الاستمرارِ على النفقة.
{وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} وهذا من رزقِ الله، وذكرَ البعض هُنا: {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}[النور : 33]
{وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً} يعني: ظُهورًا {سِرًّا} يعني: في الخفاء {وَعَلَانِيَةً} ومرَّ معنا ذلِكَ في تفسيرِ سورةِ الرعد وبيّنَّا سبب تقديم السِرّ على العلانية كما قالَ -عز وجل- عن شأنِ أهلِ الإيمان: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً} [الرعد : 22]
فقالَ هُنا: {وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ} نكَّرَهُ وهو: يومُ القيامة، لتعظِيمِه {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ} أي: لا فِداءَ{فِيهِ وَلَا خِلَالٌ}.
{لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ} أي: ولا مَحبَّة، ولا خُلَّة ولا زَمالَة.
{مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ} فلا ينفعُ الخِلُّ خليلَهُ، قالَ -تعالى- كما مرَّ ذلك في تفسير سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} [البقرة : 254]
ولِذا قالَ -عز وجل-: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف : 67]
{مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ} وجمعَ الخِلال بمعنى: أنَّ أيَّ خُلَّة لن تنفع ولو كانت ما كانت.
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ} [ابراهيم : 32]
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} ثُمَّ ذكرَ الدلائِل على عِظَمِ اللهِ -عز وجل-، وعلى أنَّ هذهِ الدلائِل تستوجبُ مِن هؤلاء أن يعبُدوهُ وحدَهُ فقالَ -عز وجل- : {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} ولم يقُل بِالحق؛ لأنَّ الآيةَ السابقةَ مرَّت معنا مؤكِّدةً على ذلك: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ}[ابراهيم : 19] فقالَ هُنا:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} لكي يتأمَّلَ فيها الإنسان ويتمعَّنَ فيها.
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ}
{وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ} أي: من السَّحاب {مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ} ومرَّ معنا تفسيرُ ذلك في أولِ سورةِ البقرة.
فقالَ هُنا: {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ} قال هُنا: {رِزْقًا لَّكُمْ} وهذا مِن دلائِلِ عِظَمِ الله -عز وجل-
{رِزْقًا لَّكُمْ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ} {وَسَخَّرَ} يعني: ذلَّلْ، {لَكُمُ الْفُلْكَ} يعني: السُّفُن.
{لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} فهي تجري بأمرِ اللهِ -عز وجل-، ولو شاء اللهُ لأغرقها ولِذا قالَ -عز وجل-: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ*إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهْرِهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ*أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} [الشورى :32-33-34 ]
فقالَ هُنا: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} سبحان الله!تِلكَ السُّفُن العظيمة كيفَ تجري في البحر فإنَّها لم تغرق في العُمق، كيفَ جرت ؟ كُلُّ ذلك بتدبيرِ اللهِ -عز وجل- فإنَّ الرِّياحَ التي خلقها -عز وجل- هي سببٌ من أسبابِ ذلك، وإلا فلو اجتمعَ أهلُ الدُّنيا بأسرِهم على أن يُسيِّروا هذهِ السُّفُن لَمَا سارت، فسُبحان الله العليم الخلَّاق.
فقالَ هُنا: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ} و{الْفُلْكَ} هُنا جَمْع، ومرَّ معنا بيانُ الفُلْك متى تكونُ جَمعا، ومتى لا تكونُ كذلك.
وهُنا قال: {الْفُلْكَ} وقُلنا للجمع؛ لأنَّهُ قال: {لِتَجْرِيَ} دلَّ على الجمع.
{وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ} ذلَّلَ لكُمُ الأنهار لتنتفعوا منها بِشُربِ مائها، وبِسقيي دوابِّكُم، ومن أجلِ الزِّراعة، وما شابهَ ذلكَ من وجوهِ المنافع.
{وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [ابراهيم : 33]
{وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} أي: مُستمِرَّين بانتظام كما قالَ -تعالى- : {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس : 40] وكما قالَ -تعالى- : {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء : 33] كُلُّ ذلك يسيرُ بانتظام.
قالِ هُنا: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} يعني: مُستمِرَّين كُلٌّ مِنهُم يأتي في حِينِه، فدلَّ هذا على أنَّ جريان الشَّمس والقمر، والتسخير لهُما بانتظام يدُلُّ على أنَّ مُدبِّرَهُما هو اللهُ -عز وجل- وحدَه.
{وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} ذلَّلَ لكُمُ الليلَ والنهار، الليل: لتنتفعوا به من حيثُ الاستقرار، من حيثُ النوم، من حيثُ الراحة، وكذلكَ من حيثُ السَّفَر إذا أردتم أن تُسافِروا بالليل كما قال ﷺ كما ثبتَ عند أبي داوود: ” عليْكم بالدُّلجةِ فإنَّ الأرضَ تُطوى باللَّيلِ”.
وكذلك سخَّر لكم النهار: ذلَّلَـهُ وجعلَهُ لكم وقتًا لِلمعاش، ووقتًا لتبادُل المنافع فيما بينكم.
{وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [ابراهيم : 34]
{وَآتَاكُم} أي: وأعطاكم {مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} من كل ما سألتموه، مما سألتموه بلسانِ القول، أو بلسانِ الحال، يعني: مما سألتموه بقولكم: يا ربنا ارزُقنا كذا أو كذا، أو بلسان الحال بمعنى: أنَّ ما تحتاجونَ إليه قبلَ أن تسألوا فقد يسَّرَهُ اللهُ -عز وجل- لكم وأعطاكم إيَّاه.
قال: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} مما تحتاجونَ إليه.
{وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} وقالَ: {نِعْمَتَ اللَّهِ} وهي هُنا ليست إفرادا بل للجمع؛ لأنَّ نعمة مُفرد أُضِيفت إلى المعرِفة: {اللَّهِ} فتكونُ للعموم؛ ولذلك قال: {وَإِن تَعُدُّوا} ثُمَّ قال: {لَا تُحْصُوهَا} إذًا لا أحد يستطيع أن يُحصِيَ نِعَمَ اللهِ -عز وجل-.
{وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}
{لَظَلُومٌ} فيما يتعلقُ بدينِ اللهِ -عز وجل-، و{كَفَّارٌ} كفرَ بِدِينِ الله، وظلومٌ لِنفسِهِ إذ كفرَ باللهِ -عز وجل-.{إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} وهذا يدُلُّ على ماذا؟
يدُلُّ على أنَّ هؤلاء أتتهُم نِعْمَةُ اللهِ -عز وجل- فكفروا بِها، وهذا يُذكِرُنا بما مرَّ مِن آيات: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [ابراهيم : 28] هُنا قال: {إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} .