بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة الحجر
من الآية (49) إلى (آخر السورة)
فضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري حفظه الله
﴿َنبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)﴾
يعني يا محمد أخبر عبادي وهذا الإنباء يدل على الاهتمام ﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾، ﴿ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ﴾ جمع بين الرغيب والترهيب لما ذكر حالَ المجرمين وذكر حالَ المتقين.
﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ يعني ما زالوا في زمن المُهلة، ما زالوا في زمن الدنيا، والله عزوجل غفورٌ رحيم لمن تاب إليه، وهو شديدُ العقاب لمن أعرض عنه.
وتأمل هنا ماذا قال؟ ﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي﴾ قال ﴿ أَنِّي ﴾ للتوكيد، ثم قال ﴿ أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ وقال في الغفور والرحيم ( بـ أل ) وذكر بعد ذلك ﴿ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ﴾ وهنا تجد أنَّ التأكيدَ فيما يتعلقُ بالمغفرةِ والرحمة أكثر لم؟ لأنه كما ثبت في الحديث الصحيح ( قال الله سبقت رحمتي غضبي ).
﴿وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)﴾
أخبِر كفارَ قريش الذين يقولون نحن نحب إبراهيم ونتبعه ونحن على ملته ﴿وَنَبِّئْهُمْ عنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ﴾ والضيف هنا مفرد لكنه يدل على الجَمْع فيُطلق على الواحد وعلى الإثنين وعلى الأكثر.
﴿ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ﴾ يعني خائفون ﴿ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ﴾ ومر معنا توضيحٌ لذلك في سورةِ هود ﴿ وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا سَلَامًا} فردَّ عليهم السلام: { قَالَ سَلَامٌ ۖ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأَىٰ أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً﴾ ولذا قال ﴿ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ﴾ قال في سورة هود ﴿ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ۚ﴾ هنا صرَّح لهم بأنه وَجِلٌ منهم ﴿ قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ﴾.
﴿ قَالُوا لَا تَوْجَلْ ﴾ يعني لا تخف ﴿ قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ﴾ وقالوا غلام من باب ماذا؟ من باب أنه إذا وُلِد من أنه سيكبر، ووصفه بأنه عليم وهذه هي صفةُ إسحاق كما ذكر عزوجل في سورة هود مبيناً أن المقصود من ذلك إسحاق قال ﴿ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾.
﴿ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ﴾ ﴿ قَالُوا﴾ أي الملائكة ﴿ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ ﴾ أي هذا هو حقٌ وخبرٌ من الله {فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} أي من اليائسين المستبعِدين لرحمة الله. وهنا إن قال قائل ما الفرق بين القنوط واليأس؟
قال عزوجل عن يعقوب ﴿ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ﴾ وقال هنا عن إبراهيم ﴿ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ﴾.
فالفرقُ بين القنوط واليأس: هما إذا ذُكِرَ اليأس دخل القنوط وإذا ذُكِرَ القنوط وحده دخل اليأس، لكن إذا اجتمعا فالمقصودُ من القنوط هو استبعادُ حصول الخير، وأما اليأس: استبعاد زوال الشر فهذا هو الفرقُ بينهما.
﴿ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ﴾ يعني: لا يقنط ﴿ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾ فدل هذا على أن القنوط من رحمة الله ضلال وهنا تأمَّل في سورة هود كان الاستغرابُ من زوجته:
﴿ قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ﴿72﴾ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۖ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ هنا التعجب وقع ممن؟
وقع من إبراهيم قال ﴿ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ}، ﴿قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ﴾ فهو يعلم عليه السلام من أن ما قاله عز وجل حق لكن هنا سؤال تعجب {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ}.
﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ(59)﴾
﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ﴾ لما بشروه بالغلام ماذا قال لهم؟ ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ﴾ دل هذا على ماذا؟ ذل هذا على أن إبراهيم عليه السلام عَلِمَ أنهم لم يأتوا إليه ببشارة الولد وإنما بأمرٍ آخر وهو: هلاك قوم لوط.
﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ ﴾ يعني ما شأنكم ، والخَطْبُ يدل على الأمر العظيم الذي يتخاطبُ الناسُ فيه. ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ﴾ دل هذا على أنَّ من أتى إليه وهم الضيوف أُرسِلوا من قِبَلِ الله وهم الملائكة، والملائكةُ رسل يصطفي منهم عزوجل من يشاء، ولذا قال تعالى: ﴿ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ﴾.
﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ﴾ وهم قومُ لوط، ثم قال ﴿ إِلَّا آلَ لُوطٍ ﴾ يعني من أنهم ليسوا بمجرمين ﴿ إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ ثم لمَّا كان من بين بيتِ لوط كان من بينه امرأتُه التي على دينِ قومِها قال ﴿ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا ۙ﴾ ﴿ قَدَّرْنَا ۙ﴾ قدر الله وقضاءُ الله ﴿ قَدَّرْنَا ۙإِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ﴾ أي من الباقين والهالكين مع قومها.
﴿ فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ ﴾ وهنا كما مر معنا في سورة هود ﴿ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَىٰ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ﴾ وكما قال تعالى في سورة العنكبوت:
﴿ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ ۖ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِين ﴾
فقال هنا: ﴿فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)﴾
بمعنى أنهم لما أخبروا إبراهيم أتوا إلى لوطٍ عليه السلام ﴿ فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ﴾.
﴿ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ﴾ بمعنى أنه يُنكِرهم لأنه لا يعرفهم ولم يعرف أنهم ملائكة ﴿ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ﴾.
﴿ قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ ﴾ أي بما كان فيه يمتري ويشك قومك من نزول العذاب ﴿ وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ﴾ أي بالعذاب الذي هو حق ﴿وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ في ما أخبرناك به من نزول العذاب بهم، ولذا ذكر عزوجل في سورةِ هود وذكر في سورة الذاريات ما جرى بينَه وبين قومه، وبينَّا في سورة هود ذلك الأمر، فقال عزوجل هنا عن هؤلاء ﴿ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾.
﴿ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ﴾ مر تفسيرُها في سورة هود، لكن هنا قال ﴿ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ﴾ هنا قال ﴿ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ﴾ لِتَكُن خلفهم لتتفقد أحوالهم ولتعلم أن ما آمن به إلا أهلُ بيته من غير زوجته، إن كانت البنات اثنتين كما قيل أو كن ثلاثا فإنه لم يؤمن معه إلا القليل وهم أهلُ بيته وليس معهم امرأتُه، ولذا قال عزوجل ﴿ فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾.
﴿ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ﴾ ولذا النبي ﷺ في الغزوات يكونُ في مؤخرة الجيش يتفقد الضعفاء.
﴿ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ﴾ حتى لا يهولَهُ من نزول العذاب بهؤلاء، وحتى لا تميل نفسُه إلى وطنه.
فقال هنا ﴿وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ﴾ أي حيثُ أمركم الله، قال بعض العلماء: الشام، وقيل غير ذلك، المهم أنه لا أعلم دليلاً صحيحاً في تعيين ذلك المكان، كانوا في الأردن في مكانٍ في الأردن وأُمِروا أن يخرجوا منها.
﴿ وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَٰلِكَ الْأَمْرَ﴾ أي قضينا ذلك الأمر وحكمنا به وقدرناه، ما هو ذلك الأمر؟
﴿أَنَّ دَابِرَ هَٰؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ﴾ دابر: يعني آخر هؤلاء، مقطوع: يعني مُستأصل، متى؟ وقت الصباح.
﴿ وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)﴾
﴿ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾يبشر بعضُهم بعضا، وهذا يدل على ماذا؟ يدل على أن تلك الفاحشة وقعت موقِعَها العظيم من قلوبهم حتى إنهم لم يستوحشوا من أن يفعلوها أمامَ الملأ بل يستبشرون { وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ}
﴿ قَالَ إِنَّ هَٰؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ ﴾ ومن حق الضيف أنه يُكرَم ﴿ فَلَا تَفْضَحُونِ ﴾ ثم قال ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ﴾ يعني: أمرهم بتقوى الله لأنها سببٌ للخير والنجاة، وتقوى الله أيضاً تمنع الإنسان من أنه يفعلُ مثل هذا الفعل مع الأضياف ﴿ وَلَا تُخْزُونِ﴾ يعني لا تهينونني بإهانةِ ضيفي.
﴿ قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ يعني أولم ننهك عن استقبال هؤلاء العالمين لأنك تعرف أنك إذا استقبلتهم فسنفعلُ بهم الفاحشة ﴿ قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ ويُحتمل في قوله ﴿ قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ بمعنى ننهَكَ عن أن تمنعنا من الوقوع في العالمين يعني في الرجال.
﴿ قَالَ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ إن كنتم فاعلين فهؤلاء البنات أطهرُ لكم، ولذا قال عزوجل في سورة أخرى: ﴿ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ﴾ ومر معنا هل هؤلاء بناته من صُلبه أو بنات أهل القرية؟ ومرت هذه المسألة في سورة هود.
فقال هنا: {قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71)}
﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ ﴿ لَعَمْرُكَ ﴾ قسَمٌ من الله عزوجل بعمر النبي ﷺ، ولذلك قال بعض السلف: لم يقسم الله عزوجل بحياةِ إنسان إلا حياة محمد ﷺ.
لما قال عزوجل لعمرك هذا يدل على أنه عزوجل يقسم عزوجل بما يشاء من مخلوقاته لكنَّ المخلوق لا يقسم إلا بالله عزوجل.
ولو قال قائل: إن هناك بعض الآثار منها لَعَمري – كلمة لَعَمري وردت بآثار صحيحة عن الصحابة رضي الله عنهم – فكيف يحلفون بهذه الكلمة ( لَعَمري )؟
فالجوابُ عن هذا: من أن كلمة لَعَمري أو لَعَمرُك لا تدل على القسَم إلا إذا كان السياقُ يدل على ذلك، ولذلك ما جرى من هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم مما ورد عنهم لا يدل على أنه قسَم، بدلالة ماذا؟ بدلالة أن القَسَم يكونُ بأحدِ حروف القَسَم – الباء والواو والتاء – لكن إذا دل ما يدل عليه من قرينة أو نوى الإنسان بذلك أن يُقسم بعُمره أو بعُمر غيره فهنا يكون محرماً، وعلى كل حال تجنب ذلك أفضل.
﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ ﴿ لَفِي سَكْرَتِهِمْ﴾ في شهوتهم وفي ضلالهم ﴿ يَعْمَهُونَ﴾ يعني يترددون، دل هذا على أنهم أصبحوا بمثابة السُكارى بهذه الشهوة، ولذلك الشهوة إذا عظُمت بالإنسان فإن حالُه يصبح كحال السكران، فهؤلاء مع خبث تلك الفاحشة إلا وأنهم أصبحوا سُكارى بسببها، ولذلك قال عز وجل: {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ يترددون.
﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ﴾ دل هذا على أن صيحةً أخذتهم، صِيحَ بهم من باب العذاب، ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ﴾ يعني أول الإشراق، وقال في ما مضى:
﴿أَنَّ دَابِرَ هَٰؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ﴾ وكما قال عزوجل في سورة هود ﴿ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ۚ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ﴾ فدل هذا على أنَّ العذاب نزل بهم من الصباح وانتهى بهم إلى وقت دخول الإشراق.
﴿ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا ﴾ ومر معنا توضيحُ ذلك في سورة هود ﴿ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ ﴾ فقال هنا ﴿ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ ﴾ في سورة هود ﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا﴾ قال (عليها) دل هذا على أن القرية أُمطِرَت وكذلك أُمطروا هم.
﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ﴾ يعني من طين ﴿ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ ﴾ أي في ما جرى من عقاب قوم لوط ﴿ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾ يعني أصحاب التوسم والفِراسة وبُعد النظر فإنهم أصحاب عقل ولذلك ثبت قوله ﷺ ” إن من عباد الله من يُعرَفُ بالتوسم ” ولذلك جاء حديث ” اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظرُ بنور الله عزوجل ” لكن هذا الحديث ضعيف، وَلْيُعلم أن الفراسة في معتقد أهل السنة والجماعة والفِراسة هي نور يقذفه الله عزوجل في قلبِ العبد فيهديه الله عزوجل إلى الحق وهذا إنما يكون من فِراسة المؤمن وهي الفِراسة الإيمانية هبة من الله عزوجل وذلك إذا كان العبدُ لله مطيعاً متقياً تاركاً للذنوب.
ولذلك توسعت فيها الصوفية فتركوا ما تركوا من أمر الله عزوجل وتوسعوا في هذا الأمر عن طريقِ ما يسمى بالإلهام أو ما شابه ذلك من أقوالهم فليُتَنبَّه، ولذلك شأنها كشأن الكرامة كما قال السلف قال: لا يغرنَّك الرجل يطير في السماء ويمشي على الماء حتى تراه عند أمر الله وعند نهي الله عزوجل.
﴿ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾ يعني فراسة إيمانية وهذه خاصة بالمؤمن، وهناك فراستان أخريتان وهي فراسةٌ طبية وفراسةٌ خَلقية:
فراسة طبية: بمعنى أن الإنسان يحبس نفسه أياماً عن الطعام والشراب ويكون في خَلوة ويتفرس، هذه ليست محمودةً.
وكذلك الفراسة الخَلقية: هي أن يُستدل مثلاً كما استدلوا بكبر حجم الرأس على سَعة العلم وقوة الحفظ وما شابه ذلك وهذه أيضاً لا تعتبر مدحاً ولا ذماً.
إذا قال عز وجل: ) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ}
﴿ وَإِنَّهَا ﴾ يعني قرى لوط ﴿ لَبِسَبِيلٍ ﴾ لبطريقٍ ﴿ مُقِيمٍ﴾ يعني هي موجودة وثابتة ويمرون عليها وهي مستقرة في ذهابهم ﴿ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾.
﴿ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ ﴿ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً ﴾ أي في شأنِ قومِ لوط وما جرى لهم علامة لمن؟ للمؤمنين، دل هذا على أن المقصودَ من المتوسمين هم أصحاب الفراسة فراسة الإيمان.
﴿وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِين(79)﴾
﴿ وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ ﴾ أصحاب الأيكة بُعثَ إليهم شعيب عليه السلام، وأصحاب الأيكة يعني هم أصحاب الشجر الملتف العظيم، وهل هم غير مدين أو أنهم هم يعني أهل مدين هم نفسهم أصحاب الأيكة أم أنهم يختلفون؟
خلافٌ بين أهل العلم ولذلك بعضُ العلماء قال: إن أصحاب الأيكة هم أهل مدين ولا فرق بينهما.
ولذلك ذكر عزوجل عذاب أصحاب الأيكة كما في سورة الشعراء قال عزوجل عن أصحاب الأيكة ﴿ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ﴾ لكن أصحاب مدين أخذتهم الصيحة وأخذتهم الرجفة، ومن ثَمَّ قال بعض العلماء أخذتهم الرجفة والصيحةُ ثم أتت هذه الظلة فعذبتهم فهم هم.
وهناك قولٌ آخر: من أنهم يختلفون، ولعل قولهم بهذا من أن العذاب اختلف عذاب الظُلة وهناك في ما يتعلق بمدين من أنه أخذتهم الرجفة والصيحة، ويقولون لم يُبعث نبيٌ إلى قبيلتين إلا شعيب عليه السلام.
ولذلك مما يقوي قول هؤلاء من أنه عزوجل لما ذكر في سورة الشعراء من أنه لما قال ﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ ﴾ كل نبي يقول أخوهم، لما أتى إلى أصحاب الأيكة ﴿ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ ﴾ فقالوا إنه ليس منهم من حيثُ النسب، وإن كان أصحاب الأيكة قريبين من قرية مدين.
قال هنا ﴿ وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ ﴾ في ما فعلوه لمَّا كذبوا شعيباً ﴿ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ ﴾ كما قال تعالى ﴿ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾
﴿ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا ﴾ يعني قرى اصحاب الأيكة وقرى قوم لوط ﴿ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ ﴾ إمام يعني طريق، وسُمِّي الطريق بأنه إمام لأنه يُهتدى به في السير ﴿ لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ ﴾ يعني واضح.
﴿وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(84)﴾
﴿ وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ ﴾ ﴿ وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ﴾ وهم قوم صالح، وسُموا بالحجر باعتبار ما كانوا يبنونه من بنيان من حجارة ونحوها.
﴿ وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ ﴾ مع أنه أُرسل إليهم صالح لما كانت دعوة الرسل واحدة جُمعوا هنا كما قال تعالى عن عاد: ﴿ وَعَصَوْا رُسُلَهُ ﴾ وكما قال تعالى عن نوح: ﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ﴾ .
﴿ وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ ﴾، ﴿ وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا﴾ كما جاء من آياتٍ أعطاها الله عزوجل لصالح من الناقة وما سوى ذلك.
﴿وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ بمعنى أنهم أعرضوا عن هذه الآيات ولم يؤمنوا بصالح.
﴿ وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ﴾ يعني حالة كونهم آمنين كما قال تعالى في سورة الأعراف ﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا ۖ﴾ قال هنا في ما يتعلق بنحت الجبال من أنهم في حالة أمن، وقال عزوجل في سورة الشعراء ﴿ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ﴾ بمعنى حاذقين أي أنهم يتقنون هذا البنيان، ولذا كما يُقال عندنا مثلا: هذه سيارة فارهة، أو بيت فاره بمعنى أنه مهتمٌ في صناعته وفي نوعه وفي جودته فلها أصلٌ في اللغة.
﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ ﴾ إذ صِيح بهم، ومر معنا في ما يتعلق في ذلك في سورة الأعراف.
قال عزوجل ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ﴾ أي في وقت الصباح ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ﴾ ومع الصيحة رجفة، كما ذكر عزوجل في سورة الأعراف ﴿ فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ﴾ قال هنا: ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ﴾.
﴿فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ فما أفادهم ما كانوا يكسبونه من ذلكم البنيان ومن ذلكم النحت، وكذلك ما كان يُغني عنهم ما كسبوه من الشرك والأفعال الخبيثة.
﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾(85)
ذكر عزوجل خلق السموات والأرض مما يدل على ماذا؟ مما يدل على أن من خلق هذه السموات والأرض هو الذي يستحق العبودية، ومر معنا كثيراً ما يتعلق بكلمة الحق في ما يتعلق بالسموات والأرض {﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ}
﴿وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ وإن الساعة يا محمد ﷺ لآتية فاصفح الصفح الجميل الذي لا عتاب معه، والصفح هو العفو وذلك كما مر معنا في قوله تعالى ﴿ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾ وكل حالٍ يناسبها ما يناسبها من الصفح أو من القتال وهذا يختلف باختلاف أحوال المسلمين في ما يتعلق بقوتهم وبضعفهم ومر ذلك مفصلاً في سورة البقرة عند قوله تعالى ﴿ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا﴾، قال هنا: { فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ والصفح الجميل هو الذي لا عتابَ فيه.
﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ(87﴾
قال ﴿ إِنَّ رَبَّكَ ﴾ لما ذكر أنه خلق السموات والأرض وما بينهما بيَّن أنه عزوجل خالقٌ لكل شئ وهو عالمٌ بما خلق، قال هنا ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾ قال بعد الخلاق {العليم}، الخلاق الذي هو عزوجل يخلق ما نعلمه وما لا نعلمه كما قال تعالى ﴿ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾، ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾
﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾ وواجبٌ عليهم بما أنهم مخلوقون أن يعبدوا الله عزوجل وهو عالمٌ بهم وبأحوالهم.
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ ﴾ أعطيناك يا محمد ﴿ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ﴾ السبع المثاني هي على الصحيح هي سورة الفاتحة لأنها سبعُ آيات، وسُميت بالمثاني: لأنها تُكرر في كل ركعة وهذه هي التثنية.
ولذلك حتى القرآن هو مثاني كما قال تعالى: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ ﴾ إذ تُثَنَّى فيه القصص والأحكام والترغيب والترهيب من باب أن ينتفع الناس بهذا القرآن.
﴿وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ﴾ وهذا عطفٌ عام على خاص لأن سورة َالفاتحة من القرآن العظيم وإنما أُفردت سورة الفاتحة لأهميتها، ولذلك هذه الآيةُ استدل بها بعض العلماء على أن سورةَ الفاتحة سورة مكية وليست مدنية لأن سورة الحجر سورةٌ مكية.
﴿لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ(88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ(89)﴾
﴿لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ﴾ المد هو: النظر بمبالغة، وهو عليه الصلاة والسلام لم ينظر إلى الدنيا بل هو عليه الصلاة والسلام يبيت هو وأهله الليالي المتتابعة وهو جائع، يبيتُ جائعاً عليه الصلاة والسلام.
وفي هذا تنبيهٌ وتحذيرٌ لهذه الأمة من أن تمد عينيها إلى هذه الدنيا.
م تأمل ما أعظم نعمة العلم وما أعظم نعمة القرآن وما أعظم نعمة الدين فإن من أُعطِيَ العلم وأُعطِيَ فَهْم القرآن وفهم هذا الدين فهي أعظم النعم فلا يلتفت إلى الدنيا ولا ينظر إلى زخارفها ولا ينظر إلى ما أًعطيه أهلُها من هذه النعم فعنده نعمة من أعظم النعم.
سبحان الله نسأل الله الثبات إذا ببعضٍ من الناس ممن هو منتسبٌ للعلم الشرعي إذا به تتغير أحوالُه من أجل أغراض الدنيا، فإذا كان الله عزوجل نهى عن أن يمد المسلم الذي أُعطي القرآن أن يمد عينيه إلى أهل الدنيا مع بقاءه على العلم الشرعي وعلى الخير والاستقامة فما ظنك بحال من ضيَّع دينه وتهاون في دينه أو ميَّع دينه من أجل الحصول على غرض من أغراض الدنيا، فنسألُ اللهَ الثبات والتوفيق.
﴿ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ ﴾ أي أصنافاً من الكفار يتمتعون كما قال تعالى في أول السورة ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ فقال عزوجل ﴿لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ﴾ أي في ما فعلوه من التكذيب لك.
ثم انظر إلى ما قاله عزوجل في سورة طه ﴿ ولَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ زهرة والزهرةُ في أول أمرها جميلة لكن سَرعان ما تيبس وتزول، فهذه هي الدنيا ومن أُعطي نعمة العلم وأُعطي نعمة فَهْم القرآن والسنة فهذا خيرٌ عظيم والموفق من وفقه الله، والمُعان من أعانه الله والمخذول من خذله الله، وما توفيقنا إلا بالله.
﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ يعني ألِن جانبك للمؤمنين، وهذا يدل على ماذا؟ يدل على أنَّ أهلَ الإيمان بحاجة إلى أن يكون المؤمن معهم متواضعاً فإنهم بحاجةٍ إلى مثل هذا الأمر مع قلة الناصر لهم ومع قلة المُعين لهم من البشر لأن أكثر الناس ضالٌ كما ذكر عزوجل في آياتٍ كثيرة ﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾
﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ وفي سورة الشعراء ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ .
﴿ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ﴾ قل لهؤلاء واصدع بهذا ﴿ إِنِّي أَنَا﴾
كرر ذلك من باب ماذا؟ من باب التأكيد كما مر معنا في قوله تعالى في هذه السورة ﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ فكما أكد سبحانه بتأكيدات على أنه هو الغفور الرحيم وهذا حقٌ لله، ذكر ما يتعلق بحق النبي ﷺ مؤكداً على ذلك من أنه رسول ﴿ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ﴾ النذير: الذي ينذر قومه ويخوفهم، المبين: الواضح، ومن سبر حاله ﷺ وأقواله وأفعاله علم بأنه رسولٌ من رب العالمين.
﴿كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ(91)﴾
﴿ كَمَا أَنْزَلْنَا ﴾ الكاف بمعنى مثل ﴿ كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِين ﴾ بمعنى أنه كما أُنزل عليك هذا القرآن وأُنزل على قومك أُنزل على الأمم السابقة فقسَّموه وفعلوا به ما فعلوا به من كتمانه.
ولذلك كما قال عزوجل ﴿ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ﴾ وهذا هو الشأن أيضاً مع كفار قريش جعلوا القرآن عضين يعني أجزاءً فحالهم كحال الأمم السابقة، فهؤلاء كفار قريش قالوا مرةً هذا سحر ومرةً هذه كهانة ومرةً هذه شعر، فكما فعل من كان قبلهم كذلك فعلت كفار قريش.
ولذلك قال بعض العلماء: إن قوله القرآن ﴿الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ﴾ القرآن هو المُنَزَّلُ على النبي ﷺ وهو القرآن؛ ويُحتمل حتى يكون على وجه العموم: من أن القرآن هو جميع الكتب السابقة التي قسَّمَها الكفار وجعلوها مفرقة حسْبَ أهوائهم كما مر معنا في قوله تعالى ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ﴾ و لذا ثبت في الحديث الصحيح من أن داود عليه السلام خُففت عليه القراءة فكان يقرأ القرآن قبل أن تُسرَجَ له دابته، فدل هذا على أن هذا القرآن في الحديث المقصود منه الكتاب الذي أنزل على داود، فكذلك شأن أولئك الذين قسَّموا الكتبَ السابقة أنزل الله عليهم العذاب فكذلك فليحذر كفارُ قريش من عذاب الله أن ينزل بهم كما نزل على الأمم السابقة.
﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93)﴾
﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ﴾ أقسم بنفسه عز وجل ﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُون ﴾ أي عن كل عملٍ عمِلُوه، ومن تلك الأعمال التي سيُسألون عنها وهي الشرك بالله عزوجل، وكذلك يُسأل غيرهم عن هذا التوحيد هل قاموا به أم لا؟ وجل ﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُون ﴾، ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ .
﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾(94)
اصدع: اجهر في هذه الدعوة بإظهارها، وهذا يدل على ماذا؟ على أنَّ العالِمَ عليه أن يجهر بالحق ولو أعرض من أعرض فإن العاقبة للمتقين، ولا ينظر هل تبعه أحد أم لم يتبعه، إنما عليه أن ُيبرئَ ذمته، ولذلك لما حزن ﷺ من صدود قومه قال ﴿ فَاصْدَعْ﴾ لكن ﴿ بِمَا تُؤْمَرُ﴾ أي بما أمرت، وهذا يدل على أن صاحبَ الحق لا يكون صاحب حق إلا إذا كانت دعوته على الكتاب والسنة.
﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ﴾ كذلك الشأنُ في الاستقامة كما مر معنا ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ﴾.
﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ أعرض عنهم فإن هؤلاء قد فعلوا ما فعلوا وسينالون عذاب الله.
﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ(96)﴾
﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾ الذين يستهزؤون بك كفيناك هؤلاء فهو في حفظ الله، ولذا وصفهم بقوله ﴿ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ﴾ قال ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ قال فسوف يعلمون من باب التهديد فسوف يعلمون عاقبة صنيعهم، وهذا أصح بحيث تكون الآية ﴿ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ﴾ بيان للمستهزئين.
وقيل: هي مستأنفة ﴿الَّذِينَ﴾ مبتدأ ﴿ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ﴾ الخبر محذوف لهم عذابٌ شديد، لكن الأول هو الأظهرُ والأحسن.
فقال: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}.
﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ(99)﴾
فقال ﴿ فَسَوْفَ يَعْلَمُون وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ﴾ والله عزوجل عالمٌ بأحوال الناس، قال في الآيات السابقات ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾ فهو يعلم بحالك وما يُكِنُهُ صدرك من الضيق لما صنع هؤلاء ما صنعوا من الصدود.
﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾ لكن ما الحل؟ وما التوجيه؟ قال ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ أي نزه الله عز وجل عما لا يليق به.
﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ مما يدل على إثبات الأسماء والصفات التي له عز وجل، ففيها تنزيهُ الله عما لا يليق به وإثبات ما له من الأسماء والصفات.
﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾ أي المصلين ذكر السجود عن الصلاة لأن السجود من أعظم أركان الصلاة، ولذلك كما قال ﷺ كما عند مسلم “أقربُ ما يكون العبد من ربه وهو ساجد”، ومن ثَمَّ فإنه يدل هنا على ماذا؟ على أن من ضاق صدرُه فعليه أن يكثر من ذكر الله.
ولذلك ثبت عند أبي داوود كان ﷺ إذا حزبه أمرٌ فزع إلى الصلاة، دل على أن الخير في طاعة الله ولذا قال عزوجل ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ﴾.
فقال ﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾ وما ذكره بعض العلماء من أنه قال إن هنا سجدة و سجد عندها فإن هذا خلاف ما عليه جماهيرُ الأمة فليس هذا الموطن موطن سجدة لأن السجدة إنما تثبت حسبما جاءت به الأحاديث والآثار الصحيحة.
﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِين وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِين﴾ أُمِر بعبادة الله عز وجل إلى أن يتوفاه الله.
قال ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ واليقين هو الموت، وذلك باعتبار أنه إذا مات الإنسان تبين له وأيقن كل شيء لأنه يرى ذلك عين اليقين فقال: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ ولذلك ثبت في الحديث الصحيح قولُه ﷺ عن ابن مظعون لما مات قال: “أما هذا فقد أتاه اليقين” يعني الموت، إذاً كما قال ﷺ كما عند مسلم وغيره: “إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث “
دل هذا على أن العمل لا ينقطع من العبد إلا إذا مات يستمر على عبادة الله حتى يتوفاه الله عز وجل.
ومن ثَمَّ فإن قوله ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ قال واعبد هل هناك عبادة تقوم من دون علمٍ شرعي؟ الجواب لا، لأن من عبد الله على جهل وقع في البدع والخرافات والشركيات، ومن ثَمَّ فلما أمر بقوله ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ دل هذا على أن الإنسان لا غنى له عن العلم الشرعي حتى يتوفاه الله ولو بلغ مبلغاً من العلم عند الناس.
ولذلك لما قيل للإمام أحمد وقد كَبُرَت سِنُّهُ إلى متى طلب العلم؟ فقال من المحبرة إلى المقبرة.
﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ وهنا فيه ردٌ على الصوفية الذين يقولون -بل إنهم صاروا ملاحدة بهذا القول ممن يفعل هذا الفعل منهم – ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾:
يقولون: عليك أن تعبد الله فإذا حصل لك اليقين في هذه الدنيا وانكشفت لك الحُجُب كما يزعمون بأوهام وما شابه ذلك قالوا سقطت عنا التكاليف، ومن ثَم فإنهم لا يقيمون صلاةً ولا زكاةً ولا حج ولا أي عبادة، ويستبيحون المحرمات من الفواحشِ وما شابه ذلك يقولون لأن الله أمرنا أن نعبده حتى اليقين واليقينُ وقع لنا!
والردُّ على هؤلاء نقول: حال النبي ﷺ حتى الممات ما هي؟ هو المأمور هنا ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ وهو أمرٌ لغيره من أنه ﷺ حتى في أخر حياته كان مُجتهدا في العبادة و ما تركها بل كما قالت عائشة رضي الله عنها كما ثبت في ذلك الحديث الصحيح (تتفطر قدماه) تتشقق من طول القيام، فتقول له: يا رسول الله قد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فيقول: ” أفلا أكون عبداً شكورا “، ومن ثَمَّ فإنه يُرد عليهم بهذا الرد، وردٌ آخر: قولُه عز وجل لما ذكر أهل النار ذكروا من الأسباب: 41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّىٰ أَتَانَا الْيَقِينُ (47) اليقين هنا قطعاً هو: الموت ﴿حَتَّىٰ أَتَانَا الْيَقِينُ﴾، فلو كان كما قلتم فإنه لن يعذبَهم فدل هذا على سوء فَهْمِهِم للقرآن، وإنما هي الأهواءُ والرغباتُ والشهوات عصمنا الله وإياكم من الزلل.
وبهذا ينتهي تفسيرُ سورةِ الحِجْر.