بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس (154)
[تفسير سورة النحل] من الآية (78) إلى الآية (92)
لفضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري
الحمد لله رب العالمين وأُصلِّي وأُسلِّمُ على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدّين أما بعد:
}وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78){
هذه من الأدلة على عِظَمِ الله عز وجل، وعلى وجوب أن يُوحد وأن يعبد عز وجل وحده، (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ) وتقديم اسم الله عز وجل مر معنا في الآيات السابقات.
(وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ) تأمل، ذكر عزوجل ما يتعلق بالبطون، وما يتعلق باللبن في بهيمة الأنعام، وذكر ما يتعلق بالعسل في بطون النحل، وذكر هنا ما يتعلق من بطون الآدميات.
(لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا ْ) دل ذلك على ماذا؟ على أنكم خرجتم من هذه الدنيا، وقد خلقكم من عدم، كما مر معنا في الآيات السابقات (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) فبين هنا حال بني آدم، فكيف يكفرون ويشركون مع الله عز وجل، وهم من العدم وأخرجهم من بطون أمهاتهم، وذكر عزوجل (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاث)ٍ دل هذا على عظم الله عز وجل فكيف يتخذ العبد مع الله إلهاً وهو مخلوقٌ من العدم وحاله حال ضعف :
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} الآية.
فقال هنا (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُم لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا) دل هذا على ماذا؟ على أن من أعطي العلم فإنه هبةٌ ومنحة من الله عزوجل، لا بحوله ولا بقوته، فإن الله عزوجل يسر له ذلك وأعانه على ذلك، وإلا فلو وُكّل الإنسان إلى نفسه فإنه يكون إلى ضعف وخور وكسل، لكن الموفق من وفقه الله، والمُعان من أعانه الله، والمخذول من خذله الله.
)وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُم لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا) قال (شيئاً) يعني ولا شيئا.
(وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وجعل عز وجل لكم أدوات التعلم: السمع، والبصر، والأفئدة: القلوب التي تعقلون بها، مما يدل على ماذا ؟
على أن نعم الله عز وجل عليكم عظيمة.
(وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ) وهي أيضاً نعمة من حيث الحواس، كما أنها مصادر التلقي للعلم، كذلك هي نعمة، ولذا مر معنا تفسير قوله تعالى في سورة الأنعام: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِه)
وقال هنا: (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ) وقدم السمع هنا باعتبار ماذا؟ باعتبار أن أول ما يتلقى ابن آدم بعد خروجه من بطن أمه من حواسه السمع، فإنه إذا خرج يكون مغلق العينين، ثم بعد ذلك تنفتح عيناه، ثم بعد ذلك يعقل ما يقال له، فسبحان الله العظيم الخلاق العليم القدير، فقال هنا:
(وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَة) من أجل ماذا؟ ( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
فهذه من أعظم النعم فكما أنعم عليكم عز وجل بما مر من النعم التي ذكرها مما تأكلون وتشربون، منّ عليكم أيضا بهذه الحواس؛ ولذا قال تعالى مبينا أن كثيراً من الناس لم يشكر:
{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۖ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} (الملك:23)
} أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون (79)َ{
(أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ) دلائل على عظمة الله عز وجل، تلكم الطير تطير في جو السماء، وقال هنا مضيفا الجو إلى السماء باعتبار التأكيد على أنها في العلو (فِي جَوِّ السَّمَاءِ) فهي يمسكها عز وجل فلا تسقط حال قبض أجنحتها، وحال بسط أجنحتها؛ فإن الله سبحانه عزوجل سخر لها ما تكون طائرة وواقفة في الجو إذا قبضت أجنحتها أو بسطتها.
( أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ) يعني مذللات (مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ( آيات وعلامات ودلائل تدل على أن الذي يستحق الإيمان والتوحيد هو الله عزوجل لكن المعتبر قليل، ولذلك نصَّ على أهل الإيمان (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)، ولذا نرى الطيور تكون مجموعةً وإذا ببعضها يقلب نفسها ظهراً لبطن في الجو، من أمسكها؟ من سخر لها ذلك؟ الله عز وجل
(إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)
}وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ ۙ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ(80){
(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا) وهذه أيضاً دلائل على عظمة الله ونعمة من الله، فقال (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا) وتنبَّه هنا قال فيما يتعلق بالزوجات، قال عزوجل:
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم:21]
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} [النحل:80]
فكما أنَّ الزوجةَ سكن، كذلك المسكن سَكَن، يسكُنُ فيه الإنسانُ في بيتِه ويأوي إليه حتى يرتاح، فهو سكنٌ له وراحةٌ قلبيَّة، ومِن ثَمَّ فإنَّ الإنسانَ إذا كان يخرجُ من بيتِهِ ولا يُريدُ الرجوعَ إليه فإنَّهُ يُفَتِّشَ عن حالِهِ وعن حالِ بيتِه؛ فالبيتُ إنما يكونُ سكنا، لأنَّ اللهَ عز وجل جعلَهُ مِنَّة، دل هذا على ماذا؟ على أنَّ من سَكَنَتْ نفسُهُ في بيتِهِ فقد وُفِّقَ إلى هذا الأمر.
قال تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا) من الإبل والغنم وما شابه ذلك.
(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ): تستخفونها بمعنى أنكم تحملونها وهي خفيفة.
(تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ) الظعن هنا يفسره ما بعدَهُ: الإقامة، وضد الإقامة الترحال، فقال هنا: ( يَوْمَ ظَعْنِكُمْ) يعني يوم ارتحالكم وسيركم، (وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ): وذلك مما يكون من الخيام وما شابه ذلك.
(يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ) كيف ألهمكم الله عز وجل هذا الأمر؟ وكيف سخر لكم هذه الأنعام حتى أخذتم منها ما أخذتم؟ فجعلتم هذه لكم، فكما ذكر عزوجل من أنَّ لهم بيوتاً في حال البلد، كذلك لهم بيوت حال سكناهم في البلد، وهذا نوع آخر من البيوت في البلد وهي الخيام، وكذلك حال الترحال.
(وَمِنْ أَصْوَافِهَا) يعني هذه الأنعام، (وَمِنْ أَصْوَافِهَا) وهي الغنم، (وَأَوْبَارِهَا) وهي الإبل، (وَأَشْعَارِهَا) وهي الماعز.
(أَثَاثًا) مما يكون في البيت من الأثاث، وقيل: هو المال؛ وعلى كل حال {أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ} فجعل لكم من ذلك أثاثاً تستفيدون من جلودها فيما يتعلق بأثاث البيت، ولربما أن هذا الذي تصنعونه تبيعونه فتحصلون على المال فيكون موافقاً للقول الآخر.
(وَمَتَاعًا) يعني: تستمتعون مما يكون في البيت من أوانٍ وما شابه ذلك مما أخذتموه من هذه الأشياء، كمثل القِرَبِ وما شابه ذلك.
قال: (وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ) متاع إلى زمن معين، وذلك الزمن يصدق على تَلَفِها بحيث تنتهي، وكذلك بحيث تنتهي آجالُكم من هذه الدنيا قال: (أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ)
(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم) وهذه نعمة من الله عز وجل، نعم تتوالى ذكرها عز وجل في هذه السورة،
فقال عز وجل هنا، لما ذكر (أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ) :
}وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُون (81)َ{
(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَالًا) أي كل شيء مخلوق له ظل، فإنكم تستترون تحته من حرارة الشمس كالجبال وما شابه ذلك.
(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا) وهي المغارات وما شابه ذلك، أي تستترون بها من الأعداء وتستترون بها من الحر والبرد وما شابه ذلك.
(وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ) الثياب كالقُمصان ونحوها، (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) ولماذا لم يذكر البرد؟ قال بعض العلماء: لأنَّ هذا يدل على هذا، يعني سرابيل تقيكم الحر والبرد، وقيل: إنما اقتصر على الحر باعتبار أنهم في الحجاز والحرارة عندهم أكثر في الشهور، فهم يحتاجون إلى ملابس تقيهم الحر، لكن شيخ الإسلام رحمه الله قال:
إنما ذكر الحر هنا؛ لأنه ذكر البرد في أول السورة (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ) دفء تستدفئون بها في الشتاء.
فقال هنا: (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ) أي تقيكم من بأسكم، يعني من الحرب وذلك كالدروع وما شابه ذلك، فهذه نعمٌ عظيمة.
(كَذَٰلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) كذلك يعني مثلما أتم تلك النعم السابقة عليكم، يتم عليكم نعماً أخرى لعلكم تُسلمون (كَذَٰلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) دلائل واضحة فيما مضى، من تأمل فيها وتدبر أسلم لله عزوجل وانقاد وخضع لله عزوجل.
} فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِين (82)ُ{
(فَإِن تَوَلَّوْا) يا محمد أعرض هؤلاء (فَإِن تَوَلَّوْا) بعض تلك الدلائل العظيمة التي مر ذكرها في هذه السورة (فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) فإنما: أداة حصر تدل على أنه فقط مبلغ أمين، يعني بلغت ما وجب عليك.
} يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83){
هؤلاء (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا) يعرفون نعمة الله، تلك النعم يعرفونها، لكنهم ينكرونها في قلوبهم، كما مر معنا في قوله عز وجل {قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ}، فكذلك الشأن فيما يتعلق بنعم الله كفروا بها واستكبروا عنها، فقال عز وجل هنا (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا) قال: ثم ينكرونها، وهذا يدل على قبح فعلهم، لأن من أنكر نعمة الله عزوجل من غير معرفة فإنه قبيح به، فكيف إذا عرف ذلك وجحدها.
قال: (وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ) بعضُ العلماء قال: إنما الكثرة هنا يراد منها الكل: (وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ)، بمعنى أن الكل قد كفر بالله عز وجل، ويمكن أن تُحمل على المحمل الآخر من أن هناك من يعرف نعمة الله عز وجل، لكنه ما بيّنها ولا وضحها طغياناً وعناداً وتكبراً، وإن كان القول الأول هو الأظهر.
}وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ(84){
(وَيَوْمَ نَبْعَثُ) اذكر يا محمد لهؤلاء (وَيَوْمَ نَبْعَثُ) في يوم القيامة حتى يتبين لهؤلاء مغبة أعمالهم وكفرهم.
(وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا) مِن كُلِّ أُمَّةٍ: يعني من كل أمة بعث إليهم النبي وهو الشهيد، الشهيد هنا هو النبي.
(وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا) يشهد على قومه كما قال عزوجل في سورة النساء ومر تفسيرها:
(فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا) كل نبي يشهد على أمته.
فقال عز وجل (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) لا يؤذن لهم للاعتذار، ولا للجواب ولذا قال عز وجل: (وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ)، (ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) يعني لا يُتركون من أجل أن يرضوا الله عز وجل، فإنهم كُبتوا هنا وحقروا من أنه لا يُسمع لهم اعتذار، وأيضاً لا يُترك لهم أن يُرضوا الله عز وجل (ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ).
}وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ(85) {
(وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ ) إذا رأوا عذاب الله عزوجل يوم القيامة هم ظلمة ظلموا أنفسهم، وما ظلمهم الله ( وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ) لا يخفف عنهم من هذا العذاب، {وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ} ولا يمهلون لا يُعطَون زمناً للمهلة حتى يصلحوا ما أفسدوه، ولذلك قال عزوجل عن هؤلاء: لما قالوا من أجل أن يُخفِف عنهم قالوا للملائكة: (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ) ( قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۚ قَالُوا فَادْعُوا ۗ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَال ).
} وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِن دُونِكَ ۖ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُون(86)َ{
)وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ) شركائهم الذين جعلوهم في الدنيا أنداداً ونظراء لله، (قَالُوا رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِن دُونِكَ) يظنون أنهم بهذا القول من أن العذاب يخفف عنهم بحيث يتحمله هؤلاء، لكن كما قال تعالى: كما في سورة الأعراف (قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ)
( وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِن دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ) يعني الشركاء قالوا لهؤلاء الذين أشركوا (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ) فالشركاء وهم المعبودون من دون الله يتبرؤون من هؤلاء، (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ( وقوله فألقوا مما يدل على أنهم أجابوا إجابة سريعة، فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ( ما هو القول؟ (إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ)
}وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ ۖ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ(87){
(وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) الكل ألقى إلى الله السلم وهو: الاستسلام والخضوع له عز وجل، فألقوا إلى الله يومئذ السلم، (وَضَلَّ عَنْهُم) وغاب عنهم ما كانوا يفترون، والافتراء يعني أشد الكذب، وأشد الكذب ما كانوا يفترونه في هذه الدنيا، من جَعْلِ هؤلاء شركاء مع الله (وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ)
} الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ(88){
(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ) بين هنا من أن هناك صنفاُ من الكفار كفروا ولم يحصروا الكفر على أنفسهم، إنما صدوا غيرهم عن هذا الدين.
(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَاب) زدناهم عذاباً بسبب ماذا؟ بسبب أنهم صدوا غيرهم، كما قال عز وجل في هذه السورة: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۙ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ) وكما قال تعالى: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ) وقال هنا: (زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ) والإفساد هنا الشرك والصد عن سبيل الله عز وجل، وهذا يدل على ماذا؟ يدل على ان هناك عذابا يفوق عذاب الكفر، وذلك بما صنعه هؤلاء من الصد عن سبيل الله عز وجل.
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ(89){
(وَيَوْمَ نَبْعَثُ) اذكر يا محمد وكرره مرة أخرى من باب التنبيه لهؤلاء قبل أن يأتهم الموت، (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا) وهو النبي، نبيهم، (شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ) من أنفسهم بمعنى أنه خالطهم وعرف أحوالهم وهم عرفوا أحواله، لكنهم كذبوا هؤلاء الأنبياء ووصفوهم بالسحرة وما شابه ذلك، وهؤلاء الأنبياء عرفوا قومهم فقال عز وجل: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ) وجئنا بك يا محمد شهيداً على هؤلاء، قال بعض المفسرين: على هؤلاء يعني على أمته،
وقال بعض المفسرين: أنه r يشهد على الأمم كلها يوم القيامة وذلك لفضله صلوات ربي وسلامه عليه.
(وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ) يعني القرآن، (تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ) لم يقل بياناً وإنما قال تبياناً لأن كل شيء أراد الإنسان أن يعرف حاله فهو في هذا القرآن، ولذا مر معنا في هذه السورة قوله تعالى: (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) وقال تعالى في نفس السورة كما مر: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)
لكن لو قال قائل: كيف يكون القرآن تبياناً لكل شيء، فأين عدد ركعات الصلاة؟ وما شابه ذلك؟ فكيف يكون تبياناً لكل شيء؟
فالجواب عن هذا: القرآن تبيان لكل شي؛ لأن القرآن أمر بأن تؤخذ الأحكام من السنة، فقال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) وهذا هو:
المصدر الثاني من مصادر التشريع.
والقرآن أمر بأن يؤخذ بإجماع الأمة قال عز وجل: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ)،
وقال تعالى : (فإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) دل هذا على أنهم إذا لم يتنازعوا فإجماعهم حجة (فإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) وهذا هو المصدر الثالث،
والمصدر الرابع من مصادر التشريع: القياس، فالقرآن أمر بالقياس المنضبط، وليس القياس الفاسد المُعارض للنص كما فعل إبليس.
فقال عز وجل: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) فهذا دليل على القياس؛ إذا فالقرآن تبيان لكل شيء، (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ) فلا حجة لهؤلاء فيما صنعوه.
(تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى) فيه الهدى، فيه العلم النافع، فيه الهدى الذي يتقي الإنسان من ظلمات الشبهات والشهوات وما شابه ذلك.
(وَهُدًى وَرَحْمَةً) فهو رحمة كما مر في قوله تعالى مفصلاً: (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
وقال هنا بعدما ذكر الرحمة قال (وَبُشْرَىٰ) دل هذا على ماذا؟ على أن القرآن فيه البِشارة للمؤمن بالحياة الطيبة، وقد ذكر عز وجل ذلك في هذه السورة فقال:
(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) هذا في الدنيا؛ عند الموت، قال تعالى في نفس هذه السورة قال: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) ولما ذكر ما يتعلق بذلك، ذكر ما يتعلق بأجر الآخرة، دل ذلك على أنه بشرى فقال هنا: (وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ) في الآية التي مرت معنا (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ۙ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ذكر فيما مضى الإيمان وذكر هنا الإسلام، فدل هذا على أن الإسلام متى ما ذُكر وحده فيدخل فيه الإيمان، والإيمان إذا ذكر وحده فيدخل فيه الإسلام.
}إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون(90)َ{
لما ذكر عز وجل تلك الدلائل وبين ووضح هنا أتى بآية، تلك الآية كما قال العلماء هي أجمع آية فيما يتعلق بالمأمورات، وأجمع آية فيما يتعلق بالمنهيات (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) يأمر بالعدل في الأقوال، وفي الأعمال، والعدل مع الناس، والعدل في كل شيء.
ومن أعظم هذا العدل: هو التوحيد، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) ذكر الإحسان بعد ذلك لم؟ لأن الإحسان هو الإتقان، فإنه لما أمر بالعدل أمر بأن يُتقن هذا العدل، والعدل هو: شامل لكل ما أمر الله عز وجل به، ومن ثَم فإن الإحسان يشمل الإتقان فيما يتعلق بالعبادة، كما قال r عن الاحسان: ( أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وكذلك الإحسان إلى المخلوقين، فإنه لما أمر بالعدل أمر بالإحسان.
ثم بعد ذلك لما ذكر الاحسان قال: (وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ) بأن يعطى القريب حقه، لكن لماذا أُفرِد مع أن حق القريب داخل فيما مضى؟ وذلك لأن الناس يغفُلون عن ذلك فنص عليه من باب الاهتمام، فهذه أجمع آية في المأمورات وفي المنهيات/
وأما المنهيات ففي هذه الآية: (وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ) وهو كل ما استُفحِشَ وكان قبيحاً من الأقوال والأفعال والاعتقادات، وأعظم ذلك هو الشرك بالله عز وجل.
والمنكر: هذا يشمل كل ذنب يقع فيه الانسان، سواء كان فاحشاً أو غير فاحش.
ثم قال: (والْبَغْيِ) والبغي هو التطاول على الآخرين، لم خص البغي مع أنه داخل فيما مضى؟ لما ذكر ما يتعلق بالمأمورات في حق أولئك الصنف من المخلوقين، وهم أولوا القربى، بين هنا أن الاعتداء على حقوق الناس في أي شيء مما يتعلق بحقوقهم، فإنه منهي عنه بل أُكد عليه، (وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ)
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون{ [النحل:90]
{يَعِظُكُمْ}: دل هذا على أن ما ذُكِرَ في الآية هو الوعظ، فكل الدين وعظ، خلافاً لمن يحصرُهُ فيما يتعلق بذكر الجنة، أو بذكر النار، أو بذكر الموت!
بل إنَّ التوحيدَ وعظ، لأنه من ضِمنِ ما ذُكِرَ من العدل هو: التوحيد يعظكم به؛
ماذا قال قوم هود عليه السلام؟ { قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ}
لأنه وعظهم بالتوحيد، وقال عزوجل فيما يتعلق بالأحكام في كفارة الظِّهار:
{ ذَٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} فالدينُ كلُّهُ وَعظ ، ومن لم يعظْهُ توحيدُ اللهِ عز وجل والكلامُ في التوحيد، فإنه قد خابَ وخَسِر، فما يُظَن من أنَّ حضورَ الدروس المتعلقة بالتوحيد، أو ما شابه ذلك من علومِ الشريعة من فقهٍ ونحوِ ذلك من أنه لا يُغَذِّي القلب، فَلْيُفَتِّشْ عن قلبه ففي قلبِهِ خَلَل.
ولذلك قال هنا (يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) قال لعلكم تذكرون لم يذكر هنا التفكر لم؟ لأنه ذكر هنا التذكر، لأن الأمور واضحة والدين واضح، فما عليكم إلا أن تتذكروا فتعملوا، فهو لا يحتاج إلى إمعان نظر كالتفكر، فقال هنا (يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
{ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ۚ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُون(91}
(وَأَوْفُوا) أمر من الله عز وجل بأن يوفوا بعهد الله عز وجل، (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ) ويدخل في ذلك ما تعاهد الناس عليه في الحقوق بينهم، فهذا مما أمر الله عز وجل به الوفاء، وعهد الله: هو ما أمر به في هذا الدين، فالدين كله عهد الله يجب على الإنسان أن يقوم به وكذلك ما يقع بين المخلوقين من حقوق، هذا من الدين ومن عهد الله فيجب الوفاء به.
(وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) وذلك من أنهم إذا قالوا شيئاً أكدوه بالأيمان، فمن أكد شيئاً ووعد بشيء، أو اتفق مع شخص على شيء، فواجبٌ عليه أن لا ينقضه، فكيف إذا أكده بيمين، فقال هنا (وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ)، والنقض: هو النكث (وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا).
(وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا) لأنهم أكدوها بماذا؟ أكدوها بالحلف، وأيضاً كما قال بعض العلماء: بعضهم يؤكدها بأنه يقرر صاحبه مرة بعد المرة على انه يبقى على هذا العهد.
(وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا) أي رقيباً وحفيظاً وشاهداً عليكم وذلك بأنكم حلفتم به عزوجل، فلتعظموا هذه اليمين، ولذلك قال: (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) فهو يعلم ما تفعلون وما تكنه صدوركم وما تقوله ألسنتكم وما تفعله جوارحكم، فمن نقض العهد فإن الله عز وجل يعلم بحاله ولذا قال: (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)، ولم يذكر جزاءً لأن قوله: (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) يجعل العبد يُقيم بهذا الأمر فيخاف من أن يخالفه فينال عقاب الله عزوجل.
}وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ ۚ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(92) {
(وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا) قالوا إن هناك امرأة حمقاء بمكة كانت تغزل الغزل، فإذا غزلته وتعبت فيه نقضته مرة أخرى، وعلى كل حال سواء قيل بهذا فإنه عام، قال مُنبهاً على تحذير من أن يصنع الإنسان كصنيع هذه المرأة الحمقاء الخرقاء، فقال عز وجل:
(وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ) نكثت (غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ) من بعد ما اجتهدت في ماذا؟ في غزل هذا الشي (مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا) قال أنكاثاً بمعنى أنها نقضته شيئاً فشيئاُ حتى تبعثر وتفرق، وكذلك لا يجوز لكم أن تنقضوا هذه العهود التي بينكم كما صنعت هذه المرأة الحمقاء، وفي هذا توبيخ لهم.
(وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ) الدَّخَل: هو الفساد والخديعة (تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ) أي: على تلك العهود التي تُعاهدون الناس عليها بأيمان مغلظة (تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ) تجعلون هذه الأيمان والحلف بالله لأن من حُلف له بالله اطمأنَّ، فاطمأنَّ الناسُ إليكم، لكنكم تجعلونها وسيلة إلى نقض العهود.
(تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا) أي فساداً وخديعة (أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ) أي من أجل أن أمة تكون أربى يعني: أعظم وأكثر من أمة أخرى، فإذا رأيتم أن تلك الأمة التي عاهدتموها من أنه وُجِدَ غيرُها ممن هو أكثرُ منها، نقضتم عهد الأولى وعاهدتم الثانية، فقال عز وجل: ( إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ) يعني يختبركم الله عز وجل به، ما هو؟ إما يكون راجعاً إلى قوله (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا) نهاكم عن ذلك من أجل الاختبار،
أو: من أنه عز وجل أوجد أمة ( أربى ) يعني: أزيد من الأولى فهذا ابتلاءٌ لكم، هل تصبرون على تلك العهود السابقة؟ أم أنكم تنقضونها، وتعاهدون غيرها؟
وهذا يدل على ماذا؟ على من كان بينه وبين أناس، سواء كان بين شخص أو بين قبيلتين، أو بين دولتين هناك معاهدة ونقضَها من أجل أنه وجد غيره من إنسان أو قبيلة أو دولة هي أنفع له وما شابه ذلك ينقضها من دون أن يُخبِرَ الطرفَ الآخر، فإنه داخل في هذا الذم، ولذا قال عز وجل إنما يبلوكم الله به (إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) تتضح الأمور فيوضحها اللهُ عزوجل يوم القيامة فيما اختلفتم فيه من أمور العقائد والأعمال وما شابه ذلك، (وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) ويدخلُ في ذلك ما يتعلق بالعهود والأيمان.