﷽
[ تفسير سورة الكهف ]
من الآية (60) إلى الآية (82)
الدرس (166)
لفضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري
قوله تعالى :
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا﴾ (60)
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} ذكر هنا القصة الثالثة المتعلقة بموسى عليه السلام إذ إن موسى عليه السلام كما ثبت في الصحيح: ( قام في قومه خطيبًا فسُئل من أعلم أهل الأرض فقال: أنا، والله –عز وجل-عاتبه وقال: إن لي عبدًا بمجمع البحرين فاذهب إليه فانطلقَ موسى عليه السلام ومعه فتاه)، فقال –عز وجل-هنا: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ} يعني لا أزال مقيمًا على السير إلى ذلكم الرجل وهو الخضر.
{حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} وقد اختلف العلماء في هذين البحرين فمنهم من قال: أنه ملتقى البحر الأحمر مع البحر الأبيض المتوسط، وقيل: غير ذلك، ولا يُعلَم دليل فيما يدل على تعيين هذا المكان.
فقال هنا: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} الحقب هو الزمان الطويل إلى ثمانون سنة، وقيل غيرُ ذلك، مما يدل على أن موسى فقد العزم أن يرتحل إلى الخَضر حتى يأخذ منه ما يأخذ منه من العلم مما قدره الله –عز وجل- له، وهذا يدل على أن الإنسان يصحب إن شاء أن يصحب، يصحب غلامه أو خادمه أو رفيقًا له
وأيضًا فيه بيان فضيلة الرحلة إلى طلب العلم، وقد صنع مثل ذلك جابر بن عبد الله أتى إلى ابن أنَيس رضي الله تعالى عنه، [ باب الرحلة في طلب العلم ] كما قال البخاري من أجل أن يسأله في حديث واحد.
﴿فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا﴾(61)
{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا} فهناك في ذلك المكان عند مجمع البحرين جرى ما جرى، كانت هناك عين تسمى بعين الحياة أتى ماء منها إلى هذا الحوت وهو ميت، وقد أخذه موسى عليه السلام من أجل أن يأكله في الطريق هو وفتاه، فأحيا الله –عز وجل-هذا الحوت فدخل في البحر والفتى ينظر إليه حتى أصبح البحر له كأنه كالسرداب، بمعنى: أنه دخل هذا الحوت في هذا البحر كان البحر لهذا الحوت {سَرَبًا} أي مدخلًا يدخل فيه وكان ما فعله هذا الحوت بأمرٍ من الله –عز وجل- عجبًا لموسى ولفتاه لما أخبره بذلك فقال –عز وجل-: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ} يعني الحوت،
{فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ} يعني طريقه {فِي الْبَحْرِ سَرَبًا﴾(، {فَلَمَّا جَاوَزَا} ذلكم المكان وهو مجمع البحرين لأن الله –عز وجل- قال: إن لي عبدًا بمجمع البحرين فلتأت إليه فاحمل معك حوتًا ومتى فقدته (فثَمَّ) يعني فهو هناك.
﴿ فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا﴾ (62)
﴿ فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ} قال موسى لفتاه، { آتِنَا غَدَاءَنَا } أعطنا غداءنا،
{لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا}يعني تعبا، فدل هذا على أن صاحب العبادة وأعظم هذه العبادة هو طلبُ العلم من أنه لا يجد تعبًا ولا مشقة على كونه في طلب العلم أو حال كونه في العبادة، وهذا من بابِ إعانة الله –عز وجل-له، لكن إذا توقف فإنه يجد النصب والتعب الذي مر به لأن النصب والتعب لو مر به في أثناء العبادة وفي طلب العلم ربما توقف، لكن هنا لما وصل إلى المكان وفقد الحوت وجاوز ذلكم المكان أحس موسى عليه السلام بالتعب فقال هنا:
{لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} (62) يعني من هذا السفر بالذات، قال الفتى لموسى:
﴿قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا﴾
{قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} وهذا يدل على أنهما لما افتقدا الحوت كانا عند صخرة.
{قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} (63)
أن أذكر ما جرى منه لك {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} يعني أن أذكره لك قال ناسبًا النسيان إلى الشيطان، مع أن النسيان هو يقع بأمر الله –عز وجل- لكن هذا من باب التأدب مع الله كما ثبت في صحيح مسلم: “الخير كله في يديك، والشر ليس إليك” وكما قال أيوب عليه السلام {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41].
{وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} (63) يعني صار ما صار من أمر الحوت لما دخل في البحر، صار عجبًا يعني أمر يُتعجب منه ما يدل على قدرة الله –عز وجل-يتعجب منه إذ أحياه الله ودخل في البحر.
﴿قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا﴾ (64)
{قَالَ}: يعني موسى { ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} يعني ما كنا نطلب لأننا إذا افتقدناه وجدنا ذلكم الرجل.
{فَارْتَدَّا} يعني رجعا، {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} يعني يَقُصان الأثر ويتتبعان الأثر حتى لا يضلا هذا المكان، فقال هنا: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا}
﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾ (65)
﴿فَوَجَدَا}: يعني وجد موسى وفتاه ذلكم العبد، ومن ثَم اختلف العلماء:
هل هذا العبد وهو الخَضر لأنه لما أتاه موسى عليه السلام فسلَّمَ على الخَضِرِ، فقالَ: وأنَّى بأرضِكَ السَّلامُ
ففقال: أنا موسى
يسمى الخضر وذلك لأنه: جلس على أرض لا نبات بها فاهتزت من تحته خَضِرَة وهذا كله بأمر من الله عز وجل
فاختلف العلماء: هل هو نبي أم أنه غير نبي؟ فأكثر أهل العلم كما قال البغوي –رحمه الله-: أنه ليس بنبي وذلك لأنه قال هنا: {عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا} وقال بعض العلماء: هو نبي، باعتبار ماذا؟ باعتبار أن الله –عز وجل-قال: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} [الكهف:65] والرحمة هي النبوة كما قال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32] فقال: هذه الرحمة هي النبوة ولأن ما صنعه إلا لأنه نبي كما جرى منه ما جرى فيما سيأتي مع السفينة ومع الغلام ومع أهل القرية.
وعلى كل حال حتى لو قيل إنه نبي، فإن موسى عليه السلام أفضل منه
ولا مانع من أن يتعلم الفاضل ممن هو أقلُّ منه في الفضل لا مانع من ذلك
وأما الخضر فالذي عليه أهلُ السنة من أن الخضر ليس بحيٍّ خلافًا لمن قال: أنه ما زال موجودًا!
فأنه لو كان حيًا فكان لازمًا عليه أن يأتيَ إلى النبي – ﷺ -وأن يُناصره وأن يظهر أنه تابعٌ له.
ولذا النبي ﷺ كما ثبت في الصحيح قال: «لا يبقى ممن هو على وجه الأرض هذه الليلة بعد مائة سنة ممن هو على ظهرها»
فقال هنا: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} دل هذا على أن العالم إذا تعلم العلم الشرعي وهو الكتاب والسنة على فَهْمِ سلف هذه الأمة، فإنه يعطيه الله –عز وجل-من الفهوم ويعطيه الله –عز وجل- من الفقه مما يخصه به مما يكون فتحًا له.
ولذا قال: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} دل هذا على أنه بخلاف العلم المكتسب فهو علمٌ زائد، {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} – لأن هذا ذكره العلماء من أن العلم نوعان: مكتسب، وعلمٌ من قِبَلِ اللهِ –عز وجل-
ليس معنى ذلك أن الإنسان يأتي من غير أن يكون له أصول من العلم الشرعي وليس له جهد جهيد في طلب العلم الشرعي ويقول: عندي علم من قِبَلِ االله! فإن مثل هذا تخرص، ولذلك ماذا قال قبلها؟ {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}
﴿قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ (66)
أي مما به رَشَد وفائدة يستفيد منه، ولذا طلب موسى عليه السلام أن يتبع الخَضر من أجل مصلحة الدين، ولذا قال: {هَلْ أَتَّبِعُكَ} وهذا يدل على أن موسى عنده أسلوب به أدب عظيم لأنه عرض عليه قال:
{قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}
﴿قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا(67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾(67-68)
{قَالَ} يعني الخضر {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} لأنك سترى أشياء تخالف العلم الذي لديك.
{وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} أي ما لم تحط به خبرًا يعني علمًا، يعني لم تُحط بما لدي بما يتعلق بهذا العلم الذي لديه.
﴿قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا﴾ (69)
{قَالَ} يعني موسى {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ} علق الأمر بمشيئة الله لأنه واجب على العبد أن يفوض أمره إلى الله -عز وجل- ولذا مر معنا في هذه السورة {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}[23-24]،
{وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} بمعنى أنني سأكون في طَوْعِكَ
﴿قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا﴾ (70)
يعني ما فعلته مهما كان هذا الشيء فلا تسألنِ عنه حتى أخبرك بنفسي.
﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا﴾ (71)
{ فَانطَلَقَا} يعني انطلق موسى مع الخَضر، ولم يُذكر الفتى، قال بعض العلماء: هو رجع ولا دليل على ما ذكروه ولعله لم يُذكَر لأنه تابع لموسى عليه السلام.
{ حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ} وذلك كما جاء في الحديث أتى أهلُ السفينة فرأوا الخضر فعرفوه فأركبوه في السفينة من غير أجرة {خَرَقَهَا} خرق السفينة {قَالَ أَخَرَقْتَهَا} قال موسى له منكرًا له، ولذلك ماذا قال له قبل ذلك في آيات؟ {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} (68) قال له موسى {قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} يعني أمرًا فظيعًا من الأمور الفظيعة كيف تصنع هذا الصنيع وقد أركبونا من غير أجرة!
﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ (72)
ذكَّرَهُ بما سبق منه من أنه لن يستطيع أن يصبر معه {قَالَ} يعني موسى
﴿قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا﴾ (73) هذه من باب النسيان.
{وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} يعني لا تشدد علي في هذا الأمر بسبب هذا النسيان وهذا يدل على أن الصاحب مع صاحبه لا يكلفه كُلْفَةً تشق به.
﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا﴾ (74)
أخذه كما جاءت بذلك الأحاديث وأخذ رأسَه من بدنه فقتله الخضر، ولذا جاء في الحديث هذا الغلام الذي قتله الخضر طُبِع يوم أن طُبِع كافرًا، وقد وجهنا ذلك وكيف يكون طبع وهو كافر؟ مع أن كل مولود يولد على الفطرة مر معنا ذلك مفصلًا لقوله تعالى في سورة الأعراف: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29].
{فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ} منكرًا عليه، {نَفْسًا زَكِيَّةً} يعني طيبة لم تبلغ الحلُم زكية يعني طيبة لم تبلغ الحلم، {بِغَيْرِ نَفْسٍ} يعني ما أقدمت على قتل نفس حتى تقتلها.
{قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا}
يعني أعظم الأمور المُنكَرة وهنا صرح فقال نكرًا، الأولى قال: { إِمْرًا} فدل هذا على أن قتل النفس أعظم مما صنعه الخَضر من خرق السفينة.
﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ (75)
{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} زاد {لَكَ} يعني أنت لا لغيرك من باب التأكيد.
﴿قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا﴾ (76)
{قَالَ} يعني موسى {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} فدل هذا على أن الصحبة قد تكون زمنًا يسيرًا.
{قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} يعني قد كفيت في هذا الأمر ولا تُلامُ عليه، ومن ثم فإن الخضر أنكر على موسى عليه السلام هذا الأمر.
﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾[77]
﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا}: والمقصود من ذلك الضيافة، وليس المقصود من أن موسى -لأن مقامَه مقام رفيع- من أنه سأل، وإنما هذه ضيافةٌ واجبةٌ على هؤلاء.
{ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} دل ذلك على أن الاستطعام هو الضيافة.
{فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ} هذا ما تمسك به من قال بالمجاز في القرآن فكيف يريد الجدار؟ فالجواب عن هذا: من أن إرادة الجدار ليست مستحيلة ولا مستبعدة فله إرادة ولذا مر معنا من أن قوله –عز وجل-: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}[الإسراء: 24] وفي قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}[الإسراء: 44]
فتلك الجمادات لها إرادات لا يعلمها إلا الله -عز وجل-ولذا كان النبي ﷺ يسلم عليه الحجر، ويسبح الحصى في يديه، حتى إن الإرادة تكون في اللغة بمعنى الميل.
{فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ} يعني هو على وجه السقوط فأقامه بمعنى أنه أقامه وأصلحه أو أنه أعاد البناء له من جديد.
{ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} { قَالَ} : قال له موسى، {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} بمعنى أن هؤلاء قوم لم يضيفون وكانوا بخلاء، فكيف تصنع بجدارهم هذا الصنيع؟
﴿قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ (78)
{قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ} يعني بتفسير وبخبر.
{مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} أتى بالتاء، بعض العلماء قال: تستطع وتسطع هما بمعنى واحد، لكن والعلم عند الله من أنه قال: {تَسْتَطِعْ} هنا لأنه الأمر شديد على موسى فلم يعرف حتى الآن ما سبب ما جرى؟ لكن لما أخبره ذكر {تسطع} بدون التاء.
﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا﴾ (79)
﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ}: ومن ثَم كما مر معنا في سورة التوبة قال بعض العلماء:
أن المساكين هم أقل حاجة من الفقراء لأن هؤلاء لهم سفينة، وعلى كل حال مر معنا:
أن الفقير هو المسكين والمسكين هو الفقير، لكن إذا اجتمعا في نص واحد؟ فالفقير أشد حاجة من المسكين، فالفقير هو: الذي لا يجد حاجته أو يجد بعضها، أما المسكين: فيجد النصف فأكثر لكن لم تكتمل كفايتُه.
{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} ودل هذا على أن ركوب البحار لا بأس به، وما جاء من أحاديث من نهيه ﷺ عن ركوب البحر فإنها أحاديث ضعيفة، وقد ركب الصحابة البحر، والنبي ﷺ أخبر أن من أمته من يركب البحر غزاةً، ولعل تلك الأحاديث على افتراض ثبوتها النهي عن ركوب البحر إذا كان هائجًا حتى لا يوقِعَ الإنسان نفسه في التهلكة.
{يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} بمعنى أنهم يعملون بها إما لحمل الأثقال، أو حمل الناس، أو ما شابه ذلك، {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} نسب العيب إلى نفسه.
{وَكَانَ وَرَاءَهُمْ} أي أمامهم خلافًا لمن قال: أن هناك من هو من خلفهم يتعقبهم، الأشهر والأكثر من أن قوله: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ} يعني أمامهم {مَلِكٌ} يعني ملك ظالم {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} يعني يغصبها منهم.
قال: {كُلَّ سَفِينَةٍ} يفهم من السياق أنه يأخذ أي سفينة صالحة أو غير صالحة، لكن لما خرقها الخضر دل هذا على أن الملك ما كان يأخذ إلا السفينة الصالحة، فخرقها الخضر من أجل أن يُعيبها حتى لا يأخذها ذلكم الملك الظالم، ومن ثمَ:
فإنه إذا كان مثلُ هذا الأمر فإن الإنسان مثلا لو أنقذ متاعًا أو مال غيره وذلك الإنقاذ لا يتم إلا بأن يتخلص من بعضه، فإنه يجوز لأن بقاء معظم الشيء أفضل من ذهابه كله كما صنع الخضر هنا.
﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾ (80)
{وَأَمَّا الْغُلامُ}الذي قتلتُه، {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا} بمعنى أنه يُلزمهما ويَحثهما على الكفر {طُغْيَانًا وَكُفْرًا} من باب أنه يحملهما على الكفر وعلى الطغيان، ومن ثَم أخبر النبي ﷺ من أن هذا الغلام يوم أن طُبِع، طُبِعَ كافرًا.
فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} (81)
{ زَكَاةً} يعني من حيث الطهارة، {وَأَقْرَبَ رُحْمًا} بمعنى أنه يرحمُهُما.
﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ (82)
{وَأَمَّا الْجِدَارُ} الذي أقامه {فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ} لأنه لو سقط وتحته كنز مدفون لهما هنا سيكون عُرضَة للسرقة.
{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ} العلة لم؟ {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} فدل هذا على ما قاله العلماء من أن الأبناء من أن الذرية تُحفظ بإذن الله –عز وجل-من الشرور بصلاح أبَويهما.
{فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} حيث البلوغ والقوة، {وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} ما فعلته رحمة من الله –عز وجل- لهذين الغلامين.
{رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ} أي خبر وتفسير، {مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} لم يقل تستطع لأن الأمر هان على موسى فحذفت التاء هنا.
وللحديث تتمة إن شاء الله وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.