التفسير المختصر الشامل (171) تفسير سورة طه من الآية (42) إلى (76)

التفسير المختصر الشامل (171) تفسير سورة طه من الآية (42) إلى (76)

مشاهدات: 553

تفسير سورة طه

من الآية(42) إلى الآية (76)

 الدرس (171)

لفضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلمُ على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد:

فكنا قد توقفنا عند قول الله – عز وجل – لموسى:

 {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي}[طه:42].

 

﴿اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى(44)﴾

{اذهب أنت وأخوك} يعني: هارون، (بآياتي) والآيات هنا هي المعجزات التي أعطاها الله عز وجل لموسى من العصا ونحو ذلك، أما ما يمكن أن يتبادرَ إلى الذهن من أن المقصود “التوراة” فهذا ليس بصحيح، لأن التوراة إنما أُنزِلَت على موسى عليه السلام بعد هلاك فرعون وبعد نجاةِ قوم موسى من البحر.

{وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} يعني: لا تَفتُرا في ذكري ولا تتوانا في ذكري، وهذا يدل على عظيم ذِكر الله عز وجل، وأن المسلم ولا سيما الداعية إلى الله عز وجل فهو بحاجةٍ إلى الإكثار من ذِكر الله عز وجل ، وأيضًا يتضمن ذِكر الله عز وجل: بعثُ موسى عليه السلام وهارون بالرسالة إلى فرعون, فهذا من الذِكر.

 

{ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} أي: تجاوز الحد، إذ ادَّعى الربوبيةَ والألوهية.

 {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}

وهنا بيان أسلوب من أساليب الدعوة وهو اللين والرِفق”, مع أن الله عز وجل علِمَ بحال فرعون أنه لن يؤمن وهو من أطغى الناس مع ذلك أمر الله عز وجل نبيه موسى أن يتخذَ معه الأسلوب اللين, فقال عز وجل هنا: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}

قال: (لعله يتذكر) فيرعوي عن طغيانه (أو يخشى) عقاب الله عز وجل ولذا قال عز وجل كما في سورة النازعات: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى}[النازعات:17-19]. إلى ما ذكره عز وجل عن حال موسى مع فرعون.

 

وقولُه: (لعله يتذكر أو يخشى) أي: رجاء أن يتذكر أو يخشى، فلعل هذا راجعٌ إلى موسى وهارون، وإلا فهو عز وجل عالمٌ بأن فرعون سيموت على الكفر، فالرجاء هنا بناءً على أنه واقعٌ من موسى ومن هارون فيدعوَانِهِ باللين لعله أن يتذكر أو يخشى.

 

 

 

﴿قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى(46)﴾

{أن يفرط)} يعني: أنه يتجاوز في أول وهلةٍ من حين أن نأتيَ إليه فيفرط علينا أو {أن يطغى} يعني: أنه يستمر في طغيانه، وهذا يدل على أن فرعون بلغ في الطغيان مبلغه

 {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (إنني معكما) أي: بمعيته الخاصة، وسبق معنا بيان المعية العامة والمعية الخاصة، والمعيةُ الخاصة مر معنا ما يتعلق بالمعية من حيثُ الوصف، كما في أواخر سورة النحل: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128].

وهنا معيةٌ خاصة من حيث الشخص: (قال لا تخافا إنني معكما) يعني: مع موسى وهارون، فمعيته عز وجل لموسى وهارون معية خاصة تقتضي النُصرة والتأييد والتوفيق والسداد.

{ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} وفي هذا بيان صفتين من صفات الله  عز وجل: السمع والرؤية.

 

﴿فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى﴾(47)

أي: فأرسل معنا بني إسرائيل واترك بني إسرائيل معنا {ولا تعذبهم} أي: أطلقهم مما تعذبهم به، وكذلك يدخل فيه قول من يقول من العلماء: أنه أمره بأن يُرسل قومَه بني إسرائيل حتى يخرجوا من مصر.

 

فقال عز وجل هنا: {قد جئناك بآيةٍ من ربك} وهي المعجزات التي مع موسى، {وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} (والسلام) يعني: السلامة لمن اتبع هدى الله عز وجل،

 ومن ثمَّ فإن قول البعض للبعض: السلام على من اتبع الهدى، يقوله في حق أهل الإسلام فإنه والعلم عند الله حسب علمي لم يرِد هذا السلامُ إلا على الكافر كما هنا، وكما أرسل النبي ﷺ إلى الملوك الكافرة من بينهم هرقل، قال: “وسلامٌ على من اتبع الهدى”. فهذه الجملة لا تقال إلا لأهل الكفر.

 

 

﴿إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ (48)

أي: مما أوحي إليهم، {أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} وهنا جمع بين التكذيب والتولية، مما يدل على أن الكذبَ: فيما يتعلق بعدم تصديق أخبار الله عز وجل.

 والتولي: هو الإعراض عن طاعة الله عز وجل.

 {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} وهذه جملةٌ عامة فتصدق أيضًا على فرعون فإنه كذب بما جاء به موسى، وتولى وأعرض عن شرع الله عز وجل.

 

﴿قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49)﴾

فرعون هنا لما دُمِغَ بالحُجة فإنه غير الأسلوب حتى لا يتأثر قومُه بكلام موسى.

 { فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} وخاطب موسى باعتبار أنه هو الأصل وهارون هو تبعٌ له لأنه وزيرٌ له، وقال بعض العلماء: إنما خاطب موسى لأنه يعرفُ أنه أقل فصاحة من هارون.

 

 

﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾(50)

قال موسى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} يعني: مخلوقَهُ، {ثُمَّ هَدَى} وهنا يشمل أن الله عز وجل أعطى كل مخلوق ما يناسبه من حيث الصورة، من حيث الأعضاء، وأيضًا أعطى كل خلقٍ ما يناسبه من الذكور والإناث، من البشر ومن الحيوانات وما شابه ذلك، وأيضًا أعطى اللهُ عز وجل هؤلاء المخلوقين ما يحتاجون إليه ثم هداهم إلى الانتفاع بهذه الأشياء، وانظر إلى غيرِ حالنا من تلك المخلوقات من الحشرات والحيوانات وما شابه ذلك، كيف أعطاها اللهُ عز وجل ما تحتاج إليه مما ذُكِر ومع ذلك هداها الله ﷻ إلى تلك المنافع.

 

﴿قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)﴾

هنا لما دُمِغَ بالحُجة غير الأسلوب مرةً أخرى، قال: نحن لم نعبد الله عز وجل كما زعم كما حال الأمم السابقة كعاد وثمود فإنهم عبدوا مع الله آلهةً أخرى، ومع ذلك ما حالهم؟ {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} يعني: ما حال القرون الأولى، {قَالَ} يعني: موسى {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} وهو اللوح المحفوظ

(لا يضل رَبِّي) يعني: لا يغيب عنه شيء (ولا ينسى) فهؤلاء الذين سبقوكم من الأمم السابقة حالُهم قد أحاط الله عز وجل بهم علما وسيحاسبهم على أعمالهم، فقال هنا: (في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى) وذلك لكمال علمه وإحاطته عز وجل.

 

﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54)﴾

{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ} هنا بَين له موسى تلك الدلائل التي تدل على عِظَمِ الله وأنه هو الرب الذي يستحق العبودية.

(الذي جعل لكم الأرض مهدا) أي: مُمَهدة كما يُمهد الفراش للمولود، بمعنى: أنها ميسرة، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:15] إلى غير ذلك من هذه الآيات التي تدل على أن الأرضَ ممهدة.

{وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} يعني وسلك لكم في هذه الأرض (سُبلًا) يعني: طُرقًا تنتفعون بها من حيث ذهابكم معها إلى أسفاركم.

فقال هنا: {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} وهو المطر {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} هنا الضمير هنا أتى بصيغة نون التعظيم مما يدل على عِظم هذا الأمر، إذ أخرج اللهُ عز وجل هذه الثمرات من هذه الأرض:

 {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا} يعني: أصنافًا بسبب هذا المطر { مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} أي: متنوعة،

وهذا يدل على عِظم الله عز وجل.

 

{كُلُوا وَارْعَوْا} (كلوا) يعني: من هذه الثمار {وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} وهي البهائم التي تحتاجون إليها

 {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} وقدمهم في الذِكر وذلك للاهتمام بهم.

{ إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي: ما ذُكِر من نزول المطر وما ذُكر في تلك الآية:

 {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى} أي: لأصحاب العقول النيرة، لأن صاحب العقل النير ينهاهُ عقله عن الوقوع فيما يخالف ُالله عز وجل.

 

﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾(55)

{مِنْهَا} أي: من هذه الأرض {خَلَقْنَاكُمْ} وهو أصلكم وهو آدم عليه السلام خُلق من تراب

 { وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} وذلك بعد الموت

{ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} يعني: مرةً أخرى، وذلك حين تبعثون من قبوركم.

 

﴿وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى(57)﴾

{وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا} أرى فرعون الآيات عن طريقِ موسى الآيات والمعجزات التي تدل على صدقِ موسى، لكنه لم يستجبْ ولم يستفد منها

 {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا} فما الذي جرى؟ {فَكَذَّبَ وَأَبَى} جمع هنا بين التكذيب في أخبار الله {وأبى} وهو الإعراض عن طاعة الله عز وجل، ولذا مر معنا في الآية السابقة:

 {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:48].

 

{قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى} وهذا يدل على أن فرعون أراد أن يستجيش العاطفة في قلوب أتباعه لأن الطاغية إذا أراد أن يُنفر من أهل الحق فإنه يقول: إنما أتى هذا من أجل أن يسلبكم هذه الأرض، وأن يأخذ ما لكم من الخير فيها، فقال عز وجل عن فرعون:

 {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى} ولقد مر معنا مثل ذلك في سورة الأعراف، وذكر الله عز وجل ذلك مفصلا {قال أجئتنا لتخرجنا} ولذلك في الآية الأخرى:

{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} [يونس:78].

 

﴿فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى(59)﴾

{فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ} ولذلك جمع السحرة من مدائن مصر، كما ذكر عز وجل ذلك في سورة الأعراف: {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُه} قال: {موعدًا} إما من حيث الزمان كما قال بعض العلماء، أو من حيث المكان، ويصدق هذان القولان على ما ذُكِرَ هنا فإنه وعدَهم في زمنٍ وفي مكان.

{ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} يعني: يكون هذا المكان مستويًا في وسط المدينة بحيث يستطيع الجميع أن يصلَ إليه دون عناء ودون مشقة {مكانًا سوى}.

 

{قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} إذًا هنا أمرهم موسى عليه السلام بأن يجمعوا جموعهم في {يَوْمُ الزِّينَةِ} ، إذ يجتمعون فيه وذلك يكون عيدًا لهم، لهم هذا العيد، واختلف العلماء في تعيينه، المهم أنه عيد يجتمعون فيه، يجتمع فيه أهل البوادي وأهل المدن والمدائن.

{وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} ذكر الوقت الذي هو الضحى، من باب أن يكون الأمر مشتهرًا بين الناس حتى يظهرَ الحقُّ عند الجميع في هذا اليوم، ويكون ذلك في النهار وليس في آخره وليس في الليل.

 

﴿فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى﴾(60)

{فَجَمَعَ كَيْدَهُ} يعني من السحرة.

{َ ثُمَّ أَتَى} أتى بما جمعه من هؤلاء السحرة، وبما ظنه من أن له السلطة والقوة.

 

﴿قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62)﴾

{قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ} هنا نصح موسى السحرة قال: {وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} والافتراء: هو أشد الكذب.

 {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ} يعني: فيستأصلكم، {بِعَذَابٍ} ومن ثَمَّ فإن موسى عليه السلام هددهم بالعقاب الذي يستأصلهم ثم ختم الآية:

 {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} خاب وخسر كل من افترى، وليس هذا محصورًا فقط في هؤلاء السحرة كلا، بل كل من افترى فهو خائب.

{فَتَنَازَعُوا} يعني: السحرة {أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} يعني: لما سمعوا هذا القولَ من موسى قالوا ما هذا القول بقول ساحر، ولذلك صار عندهم نوعٌ من الارتياب عند بعضهم دون البعض الآخر

 {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} يعني: تناجَوا فيما بينهم.

وهذا يدل على أن بعضَهم قد تأثر بكلام موسى عليه السلام، لكن هناك من هؤلاءِ السحرة كأنهم قالوا لأولئك: إنما هو ساحر، ولذلك قال بعدها لما قال هنا: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى}:

 

﴿ قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى﴾ (63)

بمعنى: أن موسى وهارون – كما زعموا – إنما أتى من أجل أن يُخرجهم من الأرض وهما أتيا من أجل أن يذهبا بطريقتهم المُثلى، وهي: العبادة التي كانوا عليها من سحرٍ وما يتعلق بذلك،

وأيضًا المكانة فهم يقولون: إنما أتى موسى بهذا السحر من أجل أن يُخرجنا من الأرض، ومن أجل أن يُذهب العقيدةَ التي كنا عليها وما نكونُ عليه من هذا السحر وما لنا من المكانة بسبب هذه الطريقة المثلى، وهذا يدل على أنه قد زُين لهم سوءُ أعمالهم:

 {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر:8]. فجعلوا طريقتهم طريقة مُثلى وحُسنى.

 

 

﴿فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى﴾ (64)

{فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ} يعني: من هذا السحر {ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} يعني: اجتمعوا وكونوا متحدين على صف واحد، وهذا يدل على يدل على أنهم اتفقوا وتماسكوا وترابطوا فيما بينهم وتعاونوا على الإثم والعدوان، وذلك لأن اجتماع الصف يدل على القوة، ولذلك قال عز وجل:

 {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4].

 

فقال الله عز وجل عن هؤلاء: {ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} يعني: من ظفِرَ بالفوز هنا فإنه قد أصابَه الفلاح، لأن المكانةَ والمال والقرب من فرعون سيكونُ له لأن فرعون وعدهم بأن يعطيَهُم الأجر، وأن يقربهم كما مر معنا بيانُ ذلك في سورة الأعراف وفي سورة يونس.

 

﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)﴾

قال لهم هنا: {قَالَ بَلْ أَلْقُوا} وقد مر معنا السبب في ذلك كما بيناه في سورة الأعراف من أجل أنهم يُظهِرون كل ما لديهم من الباطل فيأتي الحق فيدمغ هذا الباطل،

 ولذلك قال عز وجل عن هؤلاء كما مر معنا في سورة الأعراف، أنهم كما قال تعالى:

 {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} [الأعراف:116].

 

{فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}

وذلك لأنهم وضعوا مواد الزئبق وما شابه ذلك، ولذلك مر معنا ما يتعلق بالسحر: هل له تأثير أم أنه ليس له تأثير؟ مر معنا في سورة الأعراف.

{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} موسى عليه السلام لما رأى ذلك {فأوجس} يعني: أحس في نفسه خيفة وهو: الخوف الطبيعي، ويشمل هذا الخوف أنه خشي على دين الله عز وجل من أن يُلبَّس على الناس فيظنون أن ما عليه هؤلاء هو الحق.

{قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} فأنت لك المكانة العليا والنصر لك

 {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ} {تلقف} فعل مضارع وقع جوابًا للأمر، (وألقِ ما في يمينك):

 دل هذا على أن العصا كانت بيمينه، ولذا مر في أول السورة:

 {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ}[طه:17-18].

فدل هذا على أن موسى عليه السلام كان يحمل العصا بيمينه.

 

{وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} أي: تبتلع كل ما صنعوا.

 {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} لماذا أُعربت بالضم هنا (كيدُ ساحر)؟ لأنها خبر إنَّ، لأن قوله: (إنما):

 (إن) و(ما) موصولة [إن الذي صنعوا كيدُ ساحر].

{إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} ولم يقل: ولم يفلحوا، وإنما هنا عمم أي ساحر فإنه لا يكونُ له الفلاح {ولا يفلح الساحر حيث أتى} سواءً كان في عصر موسى، أو في أي عصرٍ من العصور.

 

﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى(71)﴾

{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا} سبحان الله لما ألقى موسى عصاه وابتلعت سحرَهم، تلك العصا التي صارت حية وابتلعت سحرَهم وكل ما أتوا به من السحر {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا}

وتأمل في أول الآيات: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ} ففرقٌ بين الإلقاء في السابق لأنه كان من أجل إحقاق الباطل، وهنا: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا} الإلقاء هنا: إلقاء تشريف وتكريم للخضوع لله عز وجل إذ اعترفوا بأن موسى كان على الحق.

 ففرقٌ سبحان الله كيف غيَّر اللهُ الحال في مكانٍ واحد وفي زمان واحد فهدى الله قلوبَهم من السحر إلى الخير والحق.

 

{قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} وقُدم هارون على موسى من أجل الفواصل.

{قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ} في سورة الأعراف: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ} [الأعراف:123] وهنا {آمَنْتُمْ لَهُ} وقد مر معنا في سورة التوبة: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:61]

 فدل هذا على أن فرعون أنكر عليهم في الآيتين لما أتى بكلمة {به} و {له} أنكر عليهم أن يُصدقوا موسى وأن يصدقوا خبرَه.

{قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} وقال هذا الكلام من باب التمويه على الآخرين، ولذلك في سورة الأعراف:

 {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف:123]. وقد قال هذا القول وهو كاذب لأنه لم يسبق لموسى أن التقى بهؤلاء السحرة.

 

{فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ} يعني: من جهة ومن جهة أخرى، اليد من جهة اليمين، والقدم من جهة اليسار؛ وقيل غيرُ ذلك، المهم: ليستا من جهةٍ واحدة، لم؟

 لأنه لو كان القطع من جهة واحدة لأصبحت الجهة الأخرى صحيحة، لكنه أراد أن يكون كلا الجانبين قد أُصيب بعيبٍ

 {ولأصلبنكم في جذوع النخل} دل هذا على أنه أراد أن يقتلهم وأن يوقع بهم الصلب.

{ في جذوع النخل} قال بعض المفسرين: (في) هنا بمعنى: على، بمعنى (ولأصلبنكم على جذوع النخل)

 {ولأصلبنكم في جذوع النخل} باعتبار أن الحروف ينوب بعضها عن بعض،

 وكما قررنا مسبقًا أن القول الصحيح: أن الحروف لا ينوب بعضها عن بعض وإنما يبقى الحرف على ما هو عليه ويُضمَّن الفعل فعلًا آخر فتكثُر المعاني.

إذا/ {ولأصلبنكم في جذوع النخل} يدل هذا على أن مجيء كلمة (في) مما يدل على أنه أراد أن يوثقهم وِثاقًا عظيمًا في جذوع النخل كأنهم من أصل النخل، وهذا يدل على خبثه وعلى طغيانه.

 

 

 

{وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} من هو أشد عذابًا وأبقى للعذاب أنا أم إله موسى؟

 

 

﴿قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)﴾

{قَالُوا} يعني السحرة {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا} يعني: لن نقدمك على تلك البينات التي جاءتنا، ولن نقدمك على الله الذي فطرنا، ولذلك عبدوا الله لأنه هو الذي فطر، وهذا يدل على أن من آمن بتوحيد الربوبية فيلزمُه أن يعبد اللهَ عز وجل.

 

{قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا} ولذلك قال بعض المفسرين في قوله تعالى هنا: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} ثم تقف – وأقسموا {وَالَّذِي فَطَرَنَا} هنا قَسم يعني أقسموا بالذي فطرهم.

 

{فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} يعني فاقضِ ما تشاء مما قلته مما يكون من قولك من تهديد وتعذيب فإنما كما قال تعالى لما قالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} يعني: إن تمكنتَ منا فإنما تقضي فقط الحياة الدنيا فيما يتعلق بالحياة الدنيا ونحن صائرون إلى الله عز وجل سواءٌ بقتلك لنا أو بسببٍ آخر، ولذلك في سورة الأعراف:

 {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف:126]

وفي سورةٍ أخرى: {قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} [الشعراء:50].

فدل هذا على أنهم وكلوا أمرَهم إلى الله عز وجل.

 

{إِنَّا آمَنَّا}: وقد مر معنا هل هؤلاء نفذ فيهم فرعون وعيدَه فقتلهم أم لا؟ قولان لأهل العلم:

وقد مر معنا أن الذي يظهر أنه لم يتسلط عليهم لقوله عز وجل عن موسى:

 {بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص:35] فالذي يظهر أنه لم يتمكن منهم والعلمُ عند الله، ولذلك بعض المفسرين قالوا: إنهم قد قُتلوا، ولذلك قالوا: كانوا في أول النهار سَحرة فكانوا في آخر النهار شهداء بررة، وعلى كل حال سواء قيل بهذا أو بهذا لكن الذي يظهر ما قررناه هنا.

 

{إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} سبحان الله هنا توسلوا بإيمانهم بالله عز وجل أن يُكفرَ عنهم الخطايا وإكراه فرعون لهم على السحر، ومر معنا التوسل والحديث عنه وعن أنواعه في سورة آل عمران.

{وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} وذِكْرُ السحر هنا أليس من الخطايا؟ بلى، لكن لماذا صُرِّحَ بذلك؟ صُرح بذلك من أجل بيان تبرئهم من هذا السحر ولخطورة السحر، وهنا لما قالوا:

{وما أكرهتنا عليه من السحر} دل هذا على أنه لما وعظهم موسى في الآيات السابقات أن بعضهم تأثر لما قال: {وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} قالوا هنا: {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}

{خيرٌ} من حيثُ الثواب، من ثوابك، {وأبقى}أي: ثوابه باقي، فنحن آمنا به فهو عز وجل خيرٌ ثوابُه من ثوابك، وثوابه باقٍ بخلاف ثوابِك الذي وعدتنا به سابقًا.

 

﴿إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى﴾ (74)

{إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} قال بعض العلماء: هنا الكلام من الله عز وجل {إنه من يأتِ ربه}

وقال بعض العلماء: يُحتَمَل أن هذا الكلام تتمة لكلام السحرة أنهم أيضًا ذكروا هذا القول

 {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا}[طه:74]

 يعني: لا يموت فيستريح من العذاب ولا يحيى حياةً طيبة، كما ذكر عز وجل:

 {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر:36]

وكما قال تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل:17-18]. وكما قال عز وجل: {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى:12-13].

 

 

﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)﴾

{فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} الدرجات والمنازل الرفيعة العالية في الآخرة، ولذلك النبي ﷺ كما ثبت في الصحيح قال: (إن في الجنة مئة درجة).

{جَنَّاتُ عَدْنٍ} هنا وضح تلك الدرجات {جَنَّاتُ عَدْنٍ} جنات إقامة وبقاء فيها واستقرار

جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)﴾

تلك الجِنان جزاء وثواب من تطهَّر ليس لهؤلاء فقط السحرة بل هذا شامل لكل من تزكَّى.

ولذلك قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:10].