التفسير المختصر الشامل (172) تفسير سورة طه من الآية (77) إلى (112)

التفسير المختصر الشامل (172) تفسير سورة طه من الآية (77) إلى (112)

مشاهدات: 513

[ تفسير سورة طه]

من الآية(77) إلى الآية (112) – الدرس (172)

لفضيلة الشيخ: زيد بن مسفر البحري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى(79)﴾

 

﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ} مر معنا بيان ذلك، أن موسى عليه السلام كما في سورة الأعراف وفي سورة يونس أنه بقي بعد ذلك مدة في مصر كما قال عز وجل: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[يونس:87] ثم بعد ذلك أمر الله عز وجل بأن يرتحلَ من مِصرَ {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} يعني: في الليل، وقد ذكر ذلك عز وجل مفصلًا في سورة الشعراء كما سيأتي بإذن الله تعالى.

 

{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ} هنا قال: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ} وفي سورة الشعراء سيأتي مفصلًا كل ما يتعلق بضرب البحر وما يتعلق بما صَنَعَهُ فرعون من اللحاق بهم وما شابه ذلك بإذن الله في سورة الشعراء.

{فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى} ولذلك ضربه بعصاه فكان كل فرق كالطود العظيم: كالجبل العظيم، وصارت الأرض التي في البحر صارت يبِسَة بمعنى:

أنهم يمرون عليها كأنهم يمرون على أرض جافة

{لا تَخَافُ دَرَكًا} يعني لا يدركك فرعون ولا تخشى مما أمامك وهو البحر.

ولذلك قال تعالى في سورة الشعراء {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:61-63].

{فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} لأنه أمر الجنود أن يُحشَروا من كل مكان كما ذكر عز وجل في سورة الشعراء فقال هنا: {فَأَتْبَعَهُمْ فرعون} على وجه الظلم والعدوان كما ذكر عز وجل كما مر معنا في سورة يونس قال: {بَغْيًا وَعَدْوًا} [يونس: 90].

{فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} أي غطاهم ما غطاهم مما غاشهم وهذا للتهويل هنا أبْهِمَ {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ} يعني من البحر، وهذا البحرُ على أظهر ما ذكره المفسرون:

أنه البحر الأحمر.

{فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} وهذا من باب التعظيم والتهويل لهذا الأمر كما قال عز وجل عن السدرة {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى}[النجم:54]

{وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} أضلهم أضل قومه، وما هداهم إلى طريق الحق وما هداهم إلى طريق الجنة، ولذا كما مر معنا في سورة هود قال عز وجل:

{فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود:97-98] وكما قال عز وجل في سورة غافر: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29] لكنه غشَّهُم.

 

﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)﴾

{بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ} وهو: فرعون وقومُه.

{وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ} {جَانِبَ الطُّورِ} يعني: الجبل الأيمن، قال بعضُ المفسرين: لأن الجبل لا يمين له ولا يسار وإنما هو الجبل الأيمن من جهة يمين موسى عليه السلام، وسيأتي تفصيلٌ لهذا أوضح في سورة النمل والقَصص بإذن الله تعالى.

 

لكنَّ الآيةَ هنا قال عز وجل: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ} كيف واعدَهم؟

والله عز وجل وعد موسى {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}[البقرة:51]،

{وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ} لأن موسى بعدما نجاه الله عز وجل، ونجا الله قومه من فرعون وتجاوزوا البحر وعدهم موسى بأن ينزل اللهُ عليهم التوراة، فذهب قوم موسى معه إلى هذا المكان لكنهم كانوا في مكانٍ قُرب ذلك المكان، وذهب موسى عليه السلام إلى ربه كما سيأتي في أواخر السورة قال: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}.

 

 

{وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى}

{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} وقد كان ذلك في التيه كما مر معنا بيان المن والسلوى في سورة البقرة { كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} مما أنزله عليكم من المن والسلوى

{وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ} أي فيجب {عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ} ومن يجب عليه ويَحِل ويقع به غضبي {فَقَدْ هَوَى} أي سقط وتاه في الضلالة وأيضًا سقط في النار، وفي هذا إثبات صفة الغضب لله عز وجل بما يليقُ بجلاله وبعظمته.

{وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} هل طغوا فيه؟ نعم، ولذلك مر معنا في سورة البقرة أن النبي ﷺ قال: ” لولا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام ” لأنهم ادخروا، نهاهم عن الادخار فادخروا، ومر ذلك معنا مفصلا في سورة البقرة.

فقال هنا: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ}: على صيغة مبالغة، كثيرًا ما يغفر عز وجل {إن ربك واسع المغفرة}

{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} لمن تاب توبةً نصوحًا {وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} قال: {ثُمَّ اهْتَدَى}

يعني أنه استمر على التوبة وعلى الهداية.

 

﴿وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)﴾

{وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى} لماذا أتيت مستعجلًا يا موسى؟ لماذا أتيت؟

{قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي}: يعني هم في أثري وهم قريبون مني، ولذلك قال موسى عليه السلام لهارون: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:142] فجعل عليهم هارون

{وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} يعني تقدمت من أجل أن أنال رضاك يا ربي.

{قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} فُتِنَ قومُه من بعد مجيئه {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ}.

 

﴿فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)﴾

رجع هل رجع ومعه التوراة أم لا؟ رجع ومعه التوراة ولذلك في سورة الأعراف:

  {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف:150]

{فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا}: ومر معنا بيان الغضب والأسف أنه يكون شدة الغضب أو الحزن فكلاهما داخلان، يعني: رجع وهو شديد الغضب وأيضًا به الحزن على ما صنعه قومُه

 {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} يعني وعدكم الوعد الحسن الطيب وذلك بأن يعطيَكم التوراة

{أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} يعني الزمن الذي أنا ذهبت فيه؟ والاستفهام هنا للنفي {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} يعني لم يطل عليكم العهد لأن الله عز وجل وعده أربعين ليلة {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}[البقرة:51]، وفي سورة الأعراف:

 {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142]

 يعني: لم يطل عليكم الزمان والعهد.

 

{أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ} صفة الغضب لله عز وجل بما يليق بجلاله وبعظمته، وهذا موجود أيضًا في الكتب السابقة بيان أن لله أسماء وصفات تليق بجلاله وبعظمته، حتى في الكتب السابقة.

فقال هنا: {أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ} أي أن يجب ويقع عليكم {فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} وذلك بأن تأتوا إليَّ لكي يعطيني الله عز وجل التوراة.

{قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} أي بأمرنا وطاقتنا وقوتنا، وهذا يدل على أنهم تعللوا بعلةٍ سخيفة، فكيف يتركون التوحيد واتباع موسى عليه السلام بهذه العلة! أن هذا ليس باختيارهم وليس بأمرهم! فصاحبُ العقيدة لا تزعزعه الأشياء فكيف تغير الحالُ بكم؟!

 {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا}

{أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} من هم؟ نساء آل فرعون، قال بعض المفسرين: أنهم استعارَوا منهم الحلي كأنها – يعني هذه الحلي – جعلوها بمثابة الوزر والإثم عليهم

{أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} وقال بعض المفسرين: – لأنه ليس هناك دليل صريح وصحيح في ذلك- لعله والعلمُ عند الله – القول الآخر أيضًا به وَجاهة:

 أنهم بعدما أغرِقُوا تركوا الحلي وهم آل فرعون بعد هلاكهم وتلك غنيمة، والغنيمة ليست حلالًا للأمم السابقة، ولذلك النبي ﷺ قال كما ثبت عنه في الصحيح:

 ” أعطيت خمس لم يعطهن أحد قبلي: … وأحلت لنا الغنائم”.

 

{وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا} في مكان تلك الحلي {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} ألقى السامري ما بيده كما سيأتي بيانه أنه أخذ حَفنةً من التراب الذي رآها من فرس جبريل عليه السلام وسيأتي بيان من هو الرسول هل هو جبريل أم انه موسى عليه السلام، سيأتي إن شاء الله بعد آيات.

{فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} فماذا صنع؟

﴿فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)﴾

{فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} يعني له صوت، هل هو تحول إلى لحم وعظم؟ أو أنه بقي على حاله لكنه أصبحت به فتحات إذا دخلت الريح أصدر صوتًا؟ مر معنا الحديث عن ذلك في سورة الأعراف.

 

{ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ } انظر إلى فساد هؤلاء، اعتدوا على حق الله بالشرك، واعتدوا على حق النبوة نبوة موسى عليه السلام لأنهم نسبوه إلى النسيان من أنه نسيَ فذهب يبحث عن معبوده وعن ربه، وهذا ربُّهُ؛ وهذا هو الأظهر خلافًا لمن قال: {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} الضمير يعود للسامري بمعنى أنه ترك عبادة عز وجل.

 

{أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا}

{أَفَلا يَرَوْنَ} يعني هؤلاء ألا يتمعنوا {أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا} يعني لا يكلمهم، يعني لو كلموه لن يكلمَهم {وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} ولذلك في سورة الأعراف ماذا قال عز وجل؟

 {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ}[الأعراف:148].

 

﴿وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91)﴾

{وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ} عليه السلام ناصحًا لهم فهو لم يكن بينهم ولم يكن ساكتًا عن الشرك بل نصحهم {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ} أي من قبل أن يصنعوا هذا الصنيع وهو الشرك بالله

 { يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ} هذا فتنة وابتلاء {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ} وكرر ذلك ذكر الرب والرحمن

 {فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} هنا نصحهم بأن يعبدوا الله الذي هو الرحمن فإن تابوا فيرحمُهُم، وأمرهم أن يتبعوه لأنه نبي وأمرهم أن يطيعوه في ماذا؟ في ترك الشرك وفي فعل التوحيد.

{قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى}: يعني لن نزال باقين على عبادته حتى يأتي موسى عليه السلام، وهذا يدل على أن عبادة هذا العجل استقرت في قلوبهم كما قال تعالى في سورة البقرة {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة:93] يعني: حب عبادة العجل.

 

﴿قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي(94)﴾

لما رجع موسى خاطب أخاه هارون {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} لما قلت لك اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين.

{ قَالَ يَبْنَؤُمَّ} خاطبه بأنه ابن أمه وهل هو شقيق أم أنه غير شقيق؟ مر معنا ذلك بيانه في سورة الأعراف {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي}

في سورة الأعراف ذكر فقط الرأس {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} ذكر هنا اللحية:

 {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} وهذا يدل على أن سنة الأنبياء إعفاء اللحى.

 

{إِنِّي خَشِيتُ} يعني لو اتبعتك {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} يعني لو أتيتُ إليك فتبعني بعضهم سيكون الفِرقة، ولو قاتلتُ هؤلاء ممن كان معي لحصل الافتراق، ولذلك قال {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} ما قوله؟

 {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:142]

 من ثَمَّ فإن هذه الآيات إذا جمعت مع ما في سورة الأعراف، مع ما في سورة طه، تبين هنا أن بقاء هارون ليس بقاء قد رضيَ فيه بالشرك كما يقوله بعضهم في مثل هذا الزمن، يقول إن هارون بقي مع هؤلاء ولا جناح فيما لو اجتمع أهل السنة مع أهل البدعة فلا جناح في ذلك استدلالًا بمثل هذه الآية!

 

أخذ بلحية وبرأس أخيه اختلف العلماء ما سبب ذلك؟

 بعضهم قال: من باب التأنيب لهارون عليه السلام، وقال بعضهم: إن هذا من باب التلطف.

 المهم هو أخذ بلحيته وبرأسه وعاتبه وأنبه فأجابه هارون عليه السلام بهذا الجواب.

 

 

﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا(97)﴾

{قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} قال موسى للسامري {فَمَا خَطْبُكَ} ما شأنك؟ والخطب إنما يكون في الأمر الجلل يعني ما خطبك ما شأنك هذا أمرٌ جلل.

{قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} يعني رأيت شيء لم يرَهُ غيره {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} الذي هو جبريل {فَنَبَذْتُهَا} أي طرحتُ تلك الَقبضة على تلك الحلي

 {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} يعني زينت لي نفسي هذا الأمر.

وهذا كما قال كثير من المفسرين حسب الروايات التي ذكروها عن المفسرين القدامى:

أن جبريل لما أتى، أتى على فرس من أجل أن يذهب موسى لأخذ التوراة، رأى السامري بأن هذه الفرس ما تضع رجلَها على شيء إلا أصبح خَضِرا، يعني أصبح حيًا، فأخذ حفنة من هذا التراب فقذفه في هذه الحلي فأخرج لهم عجلا جسدًا له خوار.

وقال بعض المفسرين وأظنه الرازي قال: أن الرسول المقصود هنا هو موسى عليه السلام، بمعنى أنه أخذ السامري أثرًا من آثار دينِ موسى عليه السلام فتبين أن للسامري عدم صلاح دين موسى، فنبذ دين موسى، وعلل الرازي بعلل كثيرة منها: أن الرسول لا يطلق على جبريل، لكن ردَّ عليه الألوسي رحمه الله فقال: إن هذا جاءت به الآثار وكلمة الرسول تطلق على جبريل:

 {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ}[التكوير:19-20].

 

 فالشاهد من هذا أكثر المفسرين على ما ذكرناه: أنه رأى أثر الفرس الذي أتي به جبريل عليه السلام.

 

قال موسى له: {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ} يعني حُرِّمَ عليه أن يختلط بالناس وألا يمس أحدًا وألا يمسه أحد، وهذا عقوبة له لأنه أراد بفعله ذلك في العجل أن يجمع الناس عليه، فعاقبه الله عز وجل من جنس سوء عمله، فكان الناس يفترقون عنه؛

 حتى قال بعض المفسرين: أنه لا يمس أحدًا إلا أصيب الماس والمسوس بالحمى.

والذي يُعتمد هنا القول الأول، لكن الحمى وما أدراك ما الحمى يمكن يحصل هذا وليس ببعيد.

 

{وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ} يعني هذا الموعد وهو لقاء رب العالمين لن تتخلف عنه فستنال العقوبة من الله هذه عقوبة في الدنيا لا مساس، لكن في الآخرة {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ}.

 

{وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} ولازمتَهُ {لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} يعني نذروه وننثره فِي الْيَمِّ: يعني في البحر، نَسْفًا، وهذا كما سبق فيه دليل لمن قال من أن المقصود هنا من العجل أنه تحول إلى لحم ودم لم؟

 لأنه لو كان ذهبا لكان السياق بالذوبان وليس بالحرق.

 وقال هنا: {ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} وهذا الفعل من موسى عليه السلام يدل على أن الواجبَ على أهل الإسلام أن يحطموا معالمَ الشرك وأن يدمروها، ولذلك النبي ﷺ أرسل من أرسل إلى هدم الأصنام.

 

﴿إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾(98)

ثم بعد ذلك مما جرى من عبودية هذا العجل {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ} من؟ { اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أي لا معبود بحقه إلا هو {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} فعلمُهُ وَسِعَ كل شيء وليس كهذا العجل وما شابهه مما يُعبَدُ من دون الله عز وجل.

 

﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101)﴾

{كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ} يعني مثل ما قصصنا عليك مما سبق من قصة موسى {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ} يعني في هذا القرآن {مِنْ أَنْبَاءِ} يعني من بعض أخبار وليس الكل ولذلك ماذا قال:

{وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ}[النساء:164].

 

{ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} وهو القرآن والذكر العظيم الذي من أخذ به يتذكر وأيضًا له الشرف والرفعة {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ} يعني عن هذا الذكر وهو القرآن {فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} يعني الإثم وقد مر معنا في قوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النحل:25] هل يحملون الوزر حقيقة أم أنه صورة تمثيل؟ مر معنا في سورة النحل.

{وِزْرًا خَالِدِينَ فِيهِ} يعني في هذا الوِزر الذي يسبب النار {وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} ما هو الذي ذُمَّ، والحمل له سوء؟ هو الوزر.

 

﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)﴾

{يَوْمَ} يعني اذكر {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} حينما ينفخ إسرافيل في الصور النفخة الثانية لقيام الناس لرب العالمين.

 { وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} من أن عيونهم زرقاء من شدة ما يرونه من الهول، وقيل: عُطاش، ويؤيد هذا القول الثاني ما مر معنا في سورة مريم:

 {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا}[مريم:86] لكن الذي يظهر أنه يُجمع لهم مع سواد الوجه {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}[آل عمران: 106] أن أعينهم تزرَق من سوء ما يرونه من العذاب.

 

{يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ} يعني يتسارون الحديث فيما بينهم.

 {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} يعني ما لبثتم في الدنيا أو في القبور إلا عشر ليال.

{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} فلا يخفى عليه عز وجل شيء

{إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} يعني أمثل هؤلاء من حيث التحديد لهذا من يقول إنه هو يوم، وليس معنى ذلك الثناء على هؤلاء لأنهم مجرمون فليس ثناءً عليهم

{إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} أمثلهم يعني من حيث تحديد قلة لبثهم في الدنيا وفي القبور، وقد مر معنا من أن هؤلاء اختلفوا، بعضهم يقول: لبثنا ساعة كما في سورة يونس بينا ذلك، وبعضهم قال: لبثنا عشرًا كما هنا وبينا ذلك في سورة يونس.

 

﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)﴾

 

﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105} ويسألونك عن هذه الجبال قيل أن السؤال صادر من الكفار باعتبار أنهم يقولون أن هذه الجبال ما حالُها يوم القيامة يا محمد؟

وبعضهم قال: هي للعموم، وبعضهم قال: السؤال قد يكون واردا من أهل الإيمان؛ وعلى كل حال: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا}: من النسف وهو طيران الشيء ولذلك قال تعالى:

 {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ}[النمل:88]،

 {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}[الحاقة:14].

فتُنسَف ثم بعد ذلك تصبح هباءً منبثًا {فَيَذَرُهَا} أي فيتركها {قَاعًا} وهي الأرض المستوية {صَفْصَفًا} يعني ملساء يعني ليس بها نبات ولا شيء الأرض {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا} يعني انخفاضًا

{وَلا أَمْتًا} يعني ولا ارتفاعًا فهي متساوية ملساء.

 

{يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ} حينما يدعوهم إلى الحشر {لا عِوَجَ لَهُ} يعني لا أحد ينصرف بل الكل يأتي إليه {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر:6-8].

 

{وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} الأصوات تكون خاشعة للرحمن، وذكر اسم الرحمن هنا والعلمُ عند الله من باب بيان كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة: ” إن رحمتي سبقت غضبي ” فرحمةُ الله عز وجل عظيمة وواسعة ولذلك ماذا قال تعالى؟ {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان:26]

 {فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} قيل: همس بالأفواه بالشفاه، وقيل: همس بوطء الأقدام، ولا تعارضَ بينهما ولكن كيف نجمع بينها وبين قوله تعالى في أواخر سورة النبأ:

 {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ:37-38]  يعني هذا في وقت يحصل منهم الهمس يكون هذا في موقف من مواقف يوم القيامة دون مواقف أخرى.

 

﴿يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)﴾

{يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} أي رضِيَ بأن يشفع، وهذه تدل على شرطَي الشفاعة: إذن الله للشافع ورضاه عن المشفوع له.

 

{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} فقد أحاط عز وجل بكل ما عملوه في الدنيا وفي الآخرة، في الدنيا من حيث الزمان ومن حيث المكان ومن حيث الأعمال ويعلم ما يكون لهم في يوم القيامة.

{وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} عز وجل ولذلك قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85].

 

﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا﴾ (111)

{وَعَنَتِ} يعني خضعت {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ} خضعت، قيل: هذا للكفار، وقال بعض المفسرين: بل للجميع كل خاضع.

 {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ} وذكر الوجوه هنا لأنها أشرف شيء في الإنسان.

 {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} ومر معنا ما يتعلق باسمه عز وجل الحي والقيوم في سورة البقرة

 {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} يعني خَسِرَ من حمل ظلمًا، ولذلك في أول الآيات:

 {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا}.

 

﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا﴾ (112)

{فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} فلا يُظلَم فيُعذب فوق عمله، ولا يخاف هضمًا من أن تهضم منه الحسنات.

 

 وللحديث تتمة إن شاء الله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.