بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس (118) من الفقه الموسع
من شروط صحة الصلاة: النيّة
لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسألة: إذا قلب المنفردُ فَرْضَهَ نفلاً في وقتِه الموسع جاز
صورةُ هذه المسألة:
أن يصلي إنسان وحدَه صلاةَ الظهر بعد ما زالت الشمس، فدخل فيها بنيةِ صلاةِ الظهر، فأراد أن يقلبها نفلا، وأن يجعل الفرضَ بعد ساعةٍ قبلَ خروجِ وقتِ صلاةِ الظهر
فهذا القلبُ جائز
الشرح/ إذا قلبَ -القلبُ هنا- هو تغييرُ النية، فهو انتقالٌ من نية صلاة إلى صلاةٍ أخرى.
فاستُفيد من هذا:
أن المذهبَ يرى من حيثُ الأصل أن قَلْب النية إلى نيةٍ أخرى جائز.
وقلنا: من حيث الأصل؛ لأنهم يُعارِضون بأشياء -ستأتي بإذن الله تعالى-
وقولهم: ” منفرد ” يُخرِجُ اثنين؛ لأن مَن في الصلاة: إما أن يكون منفرداً، أو مأموماً، أو إماماً، فهذا هو حالُ المنفرد.
يا ترى ما حالُ المأموم في هذه المسألة، وهو أن يقلب فرْضَه نفلاً؟
الحكم: لا يجوز، ما صورتُها؟
صورتُها: أن يدخل معنا داخلٌ في صلاة العشاء -لأنه مأموم- خلف مَن؟ خلفَ إمام؛ أو حِيالَ إمام إن كانوا اثنين،
فدخل في الصلاة مؤتماً بالإمام؛ فشاء أن يقلب هذا الفرضَ نفلا؟
الجواب: لا يجوز؛ لأنه بهذا القلب سيدعُ واجباً عليه، ما هو هذا الواجب؟
ج/ هو تَرْكُ صلاةِ الجماعة.
ـــ الحالةُ الثالثة/ حالةُ الإمام، وصورتُها:
أن يصلي الإمام بجماعة؛ وفي أثناء الصلاة أراد أن يقلب صلاتَه إلى نفل، فما الحكم؟
ج/ لا يجوز. لم لا يجوز؟
ج/ لأنه سيترتبُ عليه أن يدع صلاةَ الجماعة؛ وهي واجبةٌ في حقِّه، ولا فرقَ بينه وبين المأموم في هذا الحكم.
يزيدُ المذهب ويقول كتعليلٍ آخَر: لأنه سيترتبُ على ذلك أن يأتمَ مُفْتَرِضٌ بمُتَنَفِّل
ومِثلُ هذا لا يجوزُ عندَهم.
فالمأمومون صلاتُهم فرْض، وهو إذا قَلَبَ نيةَ الفرضِ إلى نيةِ نفل أصبحت الصلاةُ في حقه نفلاً، ويُمنَع أن يأتم مفترضٌ بمتنفل، فيكونُ قد جنى على المأموم
والنبي ﷺ قال -كما مر معنا- قال: ” الإِمَام ضَامِن “
وقال كما عند البخاري: ” يُصَلُّونَ لَكُمْ فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ وَإِنْ أَخْطَأُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ “.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقولهم: ’’ الفرض’’ إذا قَلَبَ منفردٌ فَرْضَه
الفرضُ يُخرِجُ: النفل، فلو قَلَبَ منفردٌ نفلَه إلى نفل، فما الحكم؟ ج/ الحكم: يجوز.
صورتُها: أن يصلي إنسانٌ راتبةَ الظهر البعدية وفي أثناءِ الصلاة أراد أن يقلبها إلى صلاةٍ مُطلقة، ثم يصلي بعد ذلك هذه السنة البعدية، فمِثْلُ هذه الحال: يجوز.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقولُهم: ’’ نفلا ’’ تُخرِجُ هذه الكلمةُ أمرَين:
الأمر الأول: الفرض، وصورتُها:
لو صلى منفردٌ صلاةَ العصر؛ ثم في أثنائها تذكَّرَ أن عليه صلاةَ الظهر؛ فأراد أن يقلبها؟
فالجواب: لا يجوز، وبالتالي: تكونُ صلاةُ العصر باطلة؛ لأنه نوى قَطْعَها، وتكونُ صلاةُ الظهر غيرَ مُنعَقِدَة؛ لأنه لم ينوِها ظهراً عند تكبيرةِ الإحرام.
الأمرُ الثاني الذي تُخرِجُه هذه الكلمة: النفل
لو قَلَبَ منفردٌ فَرْضَه نفلاً مُعَيَّنًا، هنا لم يقولوا إلا نفلاً، ويقصدون بذلك النفلَ المطلق،
وفي مِثلِ هذه الحال: لا تجوزُ هذه الصورة، ما هي هذه الصورة؟
فيما لو قَلَبَ منفردٌ فَرْضَه نفلاً معينا، صورتُها:
لو صلى منفردٌ صلاةَ الفجر؛ وفي أثناء الصلاة تذكّر أنه لم يصلِّ راتبةَ الفجر، فأراد أن يقلبها؟
ج/ الحكمُ: لا يجوز.
وسببُ عدمِ الجواز فيما ذُكِرَ هنا وما ذُكِرَ سابقا:
أنه لا يجوزُ لإنسان دخل في صلاةِ فَرْض أن يقطعها
ففي مِثلِ هذه الحال: لا يجوزُ هذا الفِعل
وتكونُ صلاةُ الفجر باطلة؛ لأنه نوى قَطْعَها، وتكونُ سنة الفجر غيرَ منعقدة؛ لأنه لم ينوها عند تكبيرةِ الإحرام.
وبالتالي نخلُصُ إلى أمور:
ــ لو قَلَبَ المصلي صلاةً معينة إلى صلاةٍ معينة: بطلت الأولى ولم تنعقد الثانية.
أمثلة: المثالُ الأول: مِثالُ فَرْضٍ معين قُلِبَ إلى فرضٍ معين -مر معنا-
مثالُها:
أن يصلي صلاةَ العصر ثم يتذكر بأن عليه صلاةَ الظهر، فيريد أن يقلب هذه الصلاة إلى صلاة الظهر: هنا بطلت صلاةُ العصر ولم تنعقد صلاةُ الظهر.
ـــــــــــــــــــ
مثالُ فرضٍ معين إلى نفلٍ معين -مر معنا- مثالُها:
أن يصلي صلاةَ الفجر ويتذكر أن عليه راتبةَ الفجر، فيريدُ أن يحول هذه النية إلى نيةِ سنةِ الفجر؟ الجواب: بطلت الأولى ولم تنعقد الثانية.
ــــــــــــــــ
مثالٌ ثالث: صلاةُ نفلٍ معين إلى صلاةِ نفلٍ معين
مثالُها: أن يصلي ركعتين للسنة البعدية للظهر، فيتذكر في أثنائها أنه لم يصل سنةَ الفجر فأراد أن يقلبها؟ فالجواب: بطلت الأولى ولم تنعقد الثانية.
لو قال قائل: لماذا عُبِّرَ بهذا التعبير؟ لمَاذا لمْ يقل بطلت الصلاتان؟
لماذا قيل: بطلت الأولى ولم تنعقد الثانية؟
الجواب عن هذا: أن قولنا (بطلت الأولى) لأنه قَطَعَها وأراد أن يَخرُجَ منها فبطلت؛ لأنه حينما دخل فيها دخلَ فيها على نية.
وأما قولنا (لم تنعقد الثانية) لأن الثانية لم يؤتَ بالنية في أول الصلاة، وأولُ الصلاة ماذا؟ ج/ تكبيرة الإحرام.
ولذا: ستأتي معنا عبارة في أركان الصلاة في باب سجود السهو، وهي: [أن مَن تَرَك ركناً مِن أركانِ الصلاة عمداً: بطلت صلاتُه، إلا تكبيرةَ الإحرام إن تَرَكَها نقول: لم تنعقد صلاتُه].
وقولهم: [في الوقت الموسع] يُخرج الوقتَ المُضَيَّق، وصورتُها:
لو أن المنفرد أراد أن يقلب صلاةَ الظهر إلى نفلٍ مُطلَق، ولكن لم يَبقَ إلا مقدارُ ما يركعُ أربعَ ركعاتٍ مِن وقتِ الظهر، فمِثلُ هذه الصورة: لا تجوز، لم؟
ج/ لأنه سيترتبُ على قَلْبِ هذا الفرض أن تُخرجَ الصلاةُ عن وقتها، أو أن يُخرجَ بعضُها، كأن تؤدى ركعتان قبل الوقت؛ وركعتان بعد خروج الوقت،
ولو فعل أَثِمَ ولم تصح هذه النافلة، لم؟
ج/ لأنه أوقع هذه النافلة في وقتٍ مُغتَصَب، وهذا الوقتُ المُغْتَصَب هو لصلاةِ الفرض؛ فيكونُ شأنُه كشأن مَن تطوعَ تطوعاً مطلقاً في أوقاتِ النهي
كما لو تطوع إنسانٌ بعد صلاةِ العصر فإن هذا التطوعَ: لا يصح.
إذاً هذه المسألة تجوزُ في الوقت الموسع بالشروطِ السابقة.
تتمة المسألة: [تتمة الكلام السابق]
[ إذا قلَبَ منفردٌ فَرْضَه نفلاً في وقتِه الموسع جاز]
متى يجوز؟ ج/ بالشروط السابقة.
متى يحرم؟ ج/ إذا اختل شرطٌ من الشروط السابقة.
لو قال قائل: ألا تستحبُّ مِثلُ هذه الصورة؟
نقول: بلى، تستحبُّ فيما لو رأى جماعةً يصلون بعد ما دخلَ في صلاةِ الفرض، فيُستحبُّ له أن يقلب هذه الفريضة إلى نفْلٍ مِن أجلِ أن يدخُلَ مع هذه الجماعة فيحصُلُ له أجْرُ الجماعة.
لكن ماذا يصنع؟
نقول: إن كانت الصلاةُ ثنائية: فالأمرُ فيها واضح، وهو: أنه إذا نواها نفلاً سلّمَ عن نفل.
لكن لو كانت ثلاثية كالمغرب؛ أو كانت رباعية كالظهر أو العصرِ أو العشاء:
فيقال له: لتُصَلِّ ركعتين، وتتشهد ثم تُسَلِّم.
لو قال قائل: لو أنه كان في أول صلاته؛ وخَشِيَ أن تفوته صلاةُ الجماعة مع هؤلاء، لو أتى بركعتين، أو أن تفوته بعضُ الركعات، فماذا يصنع؟
نقوله له: اقطعها ثم لتدخل مع هذه الجماعة.
لو اعتر ض معترضٌ فقال: القاعدةُ في الشرع:
[ أن مَن دخل في فرض موسع حَرُمَ عليه قَطْعُه إلا لضرورة]
مثال على هذه القاعدة:
لو أن إنساناً يصلي صلاةَ الفرض ثم إذا بحريقٍ يشتعلُ في البيت، أو رأى أن أحدَ أبنائه الصغار يوشكُ أن يقع في نار موقدَة، أو أن يقع في حفرة: فيجوزُ له أن يقطعَ الصلاة؛ لأن القاعدة: [أنه لا محرمَ مع ضرورة]
وللقاعدة: [الضرورات تبيحُ المحظورات]
ودليلُها: قوله عز وجل في أكْلِ الميتة {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} ] البقرة -196[ فإن أكْلَ الميتة حرام، ولكن مع الضرورة كأن يخشى الهلاك يجوزُ الأكل.
مثالٌ آخَر: لو أنه دخل في صلاة العشاء، وقال: إن الوقت موسع، أمامي حتى يخرج الوقت ساعتان أو ثلاث ساعات فسأقطعُها؟
الجواب: لا يجوز؛ لأن مَن دَخَلَ في فَرْضٍ موسع حَرُمَ عليه قَطْعُه إلا لضرورة،
وليس هذا مقصوراً في الصلاة؛ بل يتعدى إلى غير الصلاة كالصوم مثلا:
فمَن عليه قضاء مِن رمضان فإن له أن يصومَ هذا القضاء من بعد العيد إلى أن يتبقى من شعبان بعدد الأيام التي عليه، ودليلها: فِعلُ عائشة -كما هو معلوم- قالت : ” كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَ إِلاَّ فِي شَعْبَانَ، وَذَلِكَ لِمَكَانِ رَسُولِ الله ﷺ “
ولقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ] البقرة -184[
وأطلَق
فلو أنه صام في اليوم الثالث مِن شوال، وفي أثناءِ النهار رَغِبَ أن يُفطِرَ بحجة أن وقت الصوم أمامَه موسع، فما الحكم؟ ج/ يحرم
لكن لو كانت هناك ضرورة، كأن يرى غريقاً لا يتمكن من إنقاذه إلا بالفطر، فما الحكم؟
ج/ يجوز.
ولذا قال شيخ الإسلام -رحمه الله- لا يجوزُ للزوج أن يُرغِمَ زوجتَه؛ أو أن يُفسِدَ صومَها القضاء في وقتِه الموسع.
لو قال قائل: أليس لهذه القاعدة تقييدٌ آخَر؟
فيقال: إن هذه القاعدة لها قيدٌ ثانٍ، ما هو هذا القيد الثاني؟
ج/ من دخل في فرض موسع حَرُمَ عليه قَطْعُه إلا لضرورة أو لمصلحةٍ كبرى تعودُ على هذا الفرض. ما صورتها؟
هي -ما ذكرنا- فإن دخوله في صلاة الظهر ويخشى من ذلك أن لو جعلها نفلاً أن تفوته تلك الصلاةُ مع هؤلاء الجماعة؟ قلنا له: يقطعُها
لم؟ مع أنه ليست هناك ضرورة؟
ج/ من أجل مصلحةٍ كبرى تعودُ على فِعلِ هذا الفرض.
لو قال قائل: ما الدليل؟ الدليلُ على قَطْعِه للضرورة مر معنا
لكن ما الدليل على قطعه لهذه المصلحة؟
ج/ الدليل ما جاء في الصحيحين: من أمر النبي ﷺ للصحابة ممن لم يسق الهدي من المفردين والقارنين أن يجعلوها عمرة؛ وبذلك يتخلصون من نسك الإفراد ونسك القِران.
لو قال قائل: لو كان هذا المصلي منفرداً، لو كان في الركعة الثالثة من الرباعية؛ فماذا يصنع؟
فالجواب عن هذا: يقال: -كما سيأتي معنا إن شاء الله- على رأي مَن يقول:
إن له أن يتطوع بما شاء مِن حين ما يدخُلُ في الصلاة، له أن يصلي ما شاء من الركعات، بلغت هذه الركعات عشرين ركعة أو إحدى وعشرين أو أقل أو أكثر فلا إشكال هنا، فإنه يجلس ويتشهد ويسلم.
وعلى رأي من يقول: بأن النافلة في النهار يجب أن تكون مثنى مثنى؛ فإنه بين أمرين:
ـــ إما أن يجلسَ ويجعلَها ركعتين
ــ وإما أن يقطعَها.
لكن بالنسبة على رأي من يقول في مثل هذا المثال:
وهو أنه فرغ من الثالثة وأراد أن يقوم الى الرابعة، فيترتب على قولهم: أنه يقطعُها.
مَن شاء أن يتنفل بعدد مبهم من الركعات فله ذلك، يصلي ما شاء متى ما رأى أن نفسَه قد مَلّت: يجلس ويتشهد ويسلم.
لو قال قائل: لو شاء أن يُكمل صلاتَه مع هؤلاء، هو أراد ألا يقطعها؛ قال: أريد أن أدخلَ مع هؤلاء؟ فمِثلُ هذه الحال سينتقل مِن منفرد إلى مأموم، أله ذلك؟
الجواب يحتاجُ إلى تفصيل:
ـــ إن كانت هذه الجماعةُ بعيدةً عنه: فلا يجوزُ له فِعلُ هذا؛ لأنه سيترتبُ على ذلك عَمَلٌ كثير يُبطِلُ الصلاة.
ــ وأما إذا كانت الجماعةُ قريبةً منه؛ وسيخطو إليها خطواتٍ يسيرة لا تؤثرُ في صحة الصلاة، فهذا مختلفٌ فيه:
القول الأول: وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد أن صلاتَه لا تصح؛ وذلك لأنه لمَّا انتقل مِن الإفراد إلى الائتمام تبعضت النية، فهذا يشبه في تبعيض النية، يشبه مَن انتقل من صلاةٍ معينة إلى صلاة معينة.
القول الثاني: يصح له هذا الفِعل، وهذا هو الصواب، والدليل: أنه جاءت صورةٌ تُشابه هذه الصورة- جاء في الصحيحين: ” من دخول ابن عباس -رضي الله عنهما- مع النبي ﷺ في صلاة الليل، لما وقف عن يساره ثم أخذه وجعله عن يمينه “؛ فيكونُ النبي ﷺ انتقل مِن نيةِ الانفراد إلى نية الإمامة.
وأجاب المذهبُ عن هذا الحديث: بأن النبي ﷺ قد نوى الإمامةَ قبل أن يدخل في الصلاة
لِمَا غلبَ على ظنه من دخول ابن عباس -رضي الله عنهما- معه.
والجواب عن هذا:
أن الأصل عدمُ الظن، ولم يأت في الدليل ما يعضُدُ هذا، بل إن دخولَ ابنِ عباس -رضي الله عنهما- مع النبي ﷺ بعيد؛ لأنه -رضي الله عنه- مازال صغيراً فكيف يؤخذ بغلبة الظن ويُترك اليقين؟!
ثم إن العجب أن يذهب المَذهبُ إلى هذا المَذهَب، لم؟
لأن النية هنا تعارضت، فدخولُ النبي ﷺ على نية إفراد أم الى نية إمامة؟
وكيف يسوغُ لهم قولُ مِثلِ هذا وهم يرون أن الإمام إذا كان معه شخصٌ آخَر فَتَرَكَه هذا الشخص لعذر أو لغيره -عليه على قولهم- أن ينوي الانفراد، وهنا كيف ينوي النبي ﷺ -على قولهم- الإمامة ولم يدخل معه ابنُ عباس -رضي الله عنهما- بَعْد؟!
ولو سلّمنا بهذا، أليس هناك دليل آخر؟
ج/ هناك دليلٌ آخَر وهو ما جاء في صحيح مسلم كم حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه:
” جِئْتُ حتَّى قُمْتُ عن يَسَارِ رَسولِ اللهِ ﷺ، فأخَذَ بيَدِي فأدَارَنِي حتَّى أَقَامَنِي عن يَمِينِهِ. ثُمَّ جَاءَ جَبَّارُ بنُ صَخْرٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ جَاءَ فَقَامَ عن يَسَارِ رَسولِ اللهِ ﷺ، فأخَذَ رَسولُ اللهِ ﷺ بيَدَيْنَا جَمِيعًا، فَدَفَعَنَا حتَّى أَقَامَنَا خَلْفَهُ “
أي: أن جابر بن عبد الله وجبّار ابن صخر اقتديا بالنبي ﷺ في سفر، فوقف أحدهما عن يمينه والآخَرُ عن يساره، فقام ﷺ فدفَعَهما.
موضعُ الشاهد:
أن النبي ﷺ صلى ثم دخلا معه، فلو كان في بداية الصلاة لأوقفهما مِن الأصل خَلْفَه،
لكن جاء أحدُهما فوقف عن يمينه والآخَر عن يساره ثم دفعهما ﷺ؛ فأقامهما خلفه،
ثم إن مِثلَ هذا ليس تغييراً لذاتِ الصلاة، وإنما هو تغييرٌ لصفةٍ مِن صفاتها.
وعلى هذا القول المُرِجّح، يُقال:
إن كان في أول الصلاة فدخل معهم فلا إشكال؛ لأنه سيُسَلِّمُ معهم
وإن كان قد صلى ركعةً أو ركعتين، فماذا يصنع؟
ج/ يدخلُ معهم وإذا أتمَّ صلاتَه سواءً كانت ثُنائية أو ثلاثية أو رباعية؛ يجبُ عليه أن يجلس.
فلو كانت صلاةَ الفجر:
وقد صلى ركعة؛ فإن الإمام إذا قام إلى الركعة الثانية له؛ يجبُ على المأموم أن يجلس.
ولو كان في صلاةٍ ثلاثية:
فقام الإمام إلى ثالثته؛ وكان هذا المنفرد قد سبقهم بركعة، فعليه أن يجلس.
وإذا كانت رباعية:
فإذا قام الإمامُ إلى رابعته فيجبُ عليه أن يجلس.
ولو قال قائل: في حالة الجلوس ماذا يصنع؟
نقول: هو بين أمرين، أحدُهما أفضلُ مِن الآخَر:
الحالةُ الأولى: له أن يُكمِلَ تشهدَه ويسلم، ويكونُ قد انفرد عن إمامه.
الحالةُ الثانية: -وهي الأَوْلَى- أن يتشهدَ وينتظرَ الإمام حتى يُسلمَ معه.
ولو قال قائل: نسلمُ لكم في هذا القول المرجح فيما لو كانت صلاةُ المنفرد مثلَ صلاةِ إمامِه، فابتدأوا بعد ابتدائه في هذه الصلاة، وذلك حتى لا يحصلَ اختلافٌ ومفارقةٌ مِن المأموم لإمامه، لما في الصحيحين:
” إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ “
ومثلُ هذه الصورة لا يحصلُ اختلاف
لكن لا نسلم لكم: فيما ذكرتموه فيما لو كان هذا المنفرد صلى ركعةً أو ركعتين
فإنه سيضطر لا محالةَ إلى أن يُفارِقَ إمامَه، وهذا يُخالفُ قولَ النبي ﷺ: ” إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ “، فما الجواب؟
الجواب/ أن مفارقةَ المأموم إمامَه إلى حالةِ الانفراد تُجَوِّزونَها لعذر، وهذا مِن العذر،
والمسألةُ فيها خلاف،
ما صورةُ هذه المسألة التي فيها خلاف واعتُرِضَ بها على ما رجحناه؟
ج/ هذه المسألة هي قولُهم: ’’ إن انفرد مؤتمٌ بلا عذرٍ بطلت صلاتُه ’’
وأنتم جوّزتُم ذلك بعذر، وهذا من العذر.
لو قال قائل: نريد الخلافَ في هذه المسألة، عرفنا الجواب فنريدُ الخلاف
وما هو الراجح؟
ج/ الخلافُ في هذه المسألة كالتالي:
القولُ الأول: أن للمأموم أن ينفرد عن إمامه مِن غير عذر.
القول الثاني: وهو المشهورُ من المذهب، أن له أن ينفرد عن إمامه لعذر،
وهذا هو ما رجّحه بعضُ المُحَققين؛ وذلك لأن القول الأول ليس عليه دليل، بل يترتبُ عليه أن يدع واجباً، ما هو هذا الواجب؟
ج/ هو ترْكُ صلاةِ الجماعة. ومِن ثَم:
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ’’ في النفس شيء من هذا القول ’’
لكن يقول: لو قلنا به فيجب أن يُقيد فيما لو أتى بركعة، فإذا أتى بركعة أو أكثر فله أن ينصرفَ ولو مِن غيرِ عذر
والصواب: أنه ليس له ذلك؛ لأن الأصلَ وجوبُ متابعة الإمام، وليس هناك دليلٌ على ما ذَكَرَه أصحابُ هذا القول.
لو قال قائل: ما دليل أصحاب القول الثاني؟
دليلُهم ما جاء في الصحيحين: ” أن معاذاً كان يصلي مع النبي ﷺ ثم يذهب إلى قومه فيصلي بهم، فدخل معه رجل وهذا الرجل اسمه حرام -كفائدة- فقرأ -رضي الله عنه- سورة البقرة فقام هذا الرجل فانصرف إلى ناحيةٍ من المسجد فصلى “
ولكن يُعتَرَضُ على هذا الحديث:
أن ابنَ حجر رحمه الله قال كما في الفتح: ” يُحتمل أن هذا الرجلَ قَطَعَ الصلاة، ويُحتمل أنه قَطَع الاقتداء “
وإذا كان الاحتمالُ الثاني هو المُرَجَّح: فيُدفَعُ اعتراضُهُم؛ وذلك لأن قَطْعَ الاقتداء ليس قطعاً للصلاة، وإنما هو خروجٌ عن الإمام لعذر.
وإن كان المرجح هو الاحتمال الأول: فلا يكونُ دليلاً على هذه المسألة.
قال الألباني رحمه الله كما في الإرواء: الاحتمال الأول هو الراجح، وهو أنه قطَعَ الصلاة ” وقال: ظاهرُ الحديث يدلُّ على ذلك، وهو أنه انصرف إلى ناحيةٍ من المسجد، وهذا يتطلبُ عملاً كثيرا.
ويُجاب عن قوله رحمه الله: من أن ناحيةَ المسجد يمكن أن تكونَ قريبةً مِن هذا الرجل.
فنعود إذاً إلى الاحتمال الثاني، وهو: أنه قَطَعَ الاقتداء
ولكن الراجح: أنه قَطَعَ الصلاة، لما جاء عند مسلم: ” فانحرف الرجلُ فسلم ثم صلى وحده”
قال الألباني رحمه الله كما في الإرواء:
’’ فلا يكونُ هذا الدليلُ في مَحَلِّه لمن استدل به على جوازِ قَطْعِ الاقتداءِ لعذر “
قلتُ: الصوابُ أنه دليل؛ لأن هذا الرجلَ إذا جاز له أن يقطع الصلاة فمن بابِ أولى أن يجوز له أن يقطعَ الاقتداء؛ لأن جامعَ الأمرين هو ” العذر “،
ولا شك أن قطْعَ الاقتداء أهونُ مِن قَطْعِ الصلاة.
ولو قال قائل: ما هو هذا العذر الذي خوَّل هذا الرجل أن يقطع الصلاة؟
ج/ العذرُ هو: تطويلُ الصلاة على القدر المشروع،
فإذا زادَ الإمامُ زيادةً على السنةِ المشروعة؛ فللمأموم أن يقطعَ صلاتَه.
ومن الأعذار: لو دخل في الصلاة فتذكّرَ أن رِفقتَه سَترحَلُ وتدعُه، سينشغِلُ قلبُه لو بَقِيَ مع الإمام؛ فيجوزُ في مِثلِ هذه الحال أن يقطعَ التأسي.
مثالٌ آخَر: لو أن الإمام أخَلَّ بالقدرِ الواجب، فأصبح المأمومُ لا يتمكن من الإتيانِ بالواجبات، فإن هذا مِن أعظمِ الأعذار التي يجوزُ للمأموم أن يقطعَ الاقتداء بإمامه.
مثال آخر: من صلى المغرب خلفَ مَن يصلي العشاء فإن الإمام إذا قام إلى الرابعة فيلزم -ليس من باب الجواز- وإنما يلزمُ هذا المأموم أن يبقى ولا يتابع إمامَه؛ لأنه لو تابعه زاد رابعةً على صلاة المغرب، وبالتالي تبطُل صلاتُه.
ثم إذا جَلَس هو مُخَيَّر: بين أن ينتظر إلى أن يأتي الإمام ويسلم معه، وبين أن يكمل تشهدَه ثم يسلم.
ــــــــــــــ
لو قال قائل: هل من الأعذار أن يقتدي مسافرٌ بمقيم، فيقطع التأسيَ بهذا الإمام من أجل أن يقصُرَ الصلاة؟ أم ليس عذرا؟
أمثلة لهذه الصورة:
ـ أن يأتي مسافر فيصلي صلاة العشاء خلفَ من يصلي صلاة العشاء وهو مقيم، فأراد إذا قام الإمام الى الثالثة أن يبقى مِن أجل أن تتم له ركعتان، أيجوزُ له هذا؟
مثال آخر:
– لو أنه جاء ليصلي صلاةَ العشاء خلف هذا الإمام المقيم وهو يصلي صلاة العشاء؛ فقد فاتت ركعتان على هذا المسافر؛ أيجوزُ له أن يسلم معه فتُحسَب له ركعتان أم لا؟
الجواب لا يجوزُ له مِثلُ هذا، والدليل ما جاء في المسند:
أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل: ” ما بالُ المسافر يُصلِّي ركعتين إذا انفردَ، وأربعاً إذا ائتمَّ بمقيم؟ فقال: ” تلك السُّنَّة “
وأيضا ما جاء عند مسلم: أنه سئل ابن عباس رضي الله عنهما: ” كَيْفَ أُصَلِّي إِذَا كُنْتُ بِمَكَّةَ، إِذَا لَمْ أُصَلِّ مَعَ الْإِمَامِ؟ فَقَالَ: رَكْعَتَيْنِ سُنَّةَ أَبِي الْقَاسِمِ صلى اللهُ عليه وسَلّم “.
ولأن النبي ﷺ قال كما في الصحيحين: ” إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ “
ولما جاء في الصحيحين قوله ﷺ: ” فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا “
مثال آخر: لو صلى هذا المسافر صلاة العشاء خلفَ مَن يصلي صلاة المغرب
أيكون هذا عذراً، بحيث إذا قام الإمام إلى الثالثة في صلاة المغرب أن يبقى هذا المأموم حتى تكتملَ له ركعتان ثم يسلم؟ أم ليس له ذلك؟
الجواب: ليس له ذلك؛ لأن الأحاديث عامة من بينها: ” فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا “
مضموماً مع ما أثِرَ عن ابنِ عباس -رضي الله عنهما- في الحديث السابق.
الدليل ُالآخَر قوله ﷺ ” إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ “، وهذا شامل.
والأصلُ: عدمُ قَطْع التأسي بالإمام إلا لعذر
وهل الإتيان بالقصر عذرٌ يُستباحُ معه تَرْكُ هذا الواجب؟!
الجواب: لا، إلا على احتمال فيمن يقول: بأن القصرَ واجبٌ -كما سيأتي معنا إن شاء الله-
قد يُحتملُ هذا، مع أن حديثَ ابن عباس -رضي الله عنهما- فاصلٌ في المسألة.
الدليلُ الثالث “أن الصحابة -رضي الله عنهم- لما أتمّ بهم عثمان في مِنى تابعوه، وكانت السنة المعهودة أن تُقصَرَ الصلاة في مِنى- ولو كان مِثلُ هذا الأمر جائزاً لجَلَسوا
بدليل أن ابن مسعود استرجع قال: “إنا لله وإنا إليه راجعون “
وهذا هو رأيُ الشيخ ابن عثيمين رحمه الله قديماً
وقرأتُ له: أنه يُجوِّزُ -يُجيزُ- في مِثلِ هذه المسألة مخالفاً لقوله الأول، يُجَوِّزُ أن ينصرفَ المأموم عن إمامه ويجلسَ للتشهد ويسلم -ولم يذكر دليلاً -رحمه الله- فيما اطلعت عليه
ولكن الأدلة تشهد بما قلنا، والله أعلم
ومِثلُ هذه لا تُقاس على مسألة: ما إذا صلى المغرب خلف مَن يصلي العشاء أربعاً،
فإننا جوّزْنَا له ذلك؛ لأن هذا عذر؛ لأنه لو قام لبطلت صلاتُه
-والمسألة إن شاء الله سيأتي لها توضيح في باب القصر
وهذا رأيه -رحمه الله- في المثال الأخير-
أما بالنسبة للأمثلة الأخرى: فهو يرى لو أن المسافرَ أتى – وهو يريدُ صلاة العشاء – أتى إلى الإمام وهو في التشهد الأخير مِن صلاة العشاء الرباعية في حق الإمام، فهو يرى إذا سلم الإمام أن يأتيَ هذا المأموم بأربع ركعات.
ولو قال قائل: هب أن هذا المصلي لصلاة المغرب ليس مسافراً إنما هو مقيم، أتى هذا المسافر إلى مسجدٍ والإمام من المقيمين، أيجوزُ له مِثلُ هذا؟
الجواب لا يجوزُ له.
لو قال قائل: لو كان هذا الرجل المسافر سيصلي صلاةَ العشاء خلفَ مسافر يصلي صلاة المغرب، أيجوزُ له؟
الجواب: لا، هما سواء، سواءٌ كان هذا الإمام مقيماً أو مسافراً؛ لأن صلاةَ المغرب صلاةُ إتمام لا صلاة قَصْر.
إذاً خلاصة القول في مسألة: صلاة المسافر للعشاء خلف من يصلي صلاة المغرب:
أنه لا يجوزُ أن يُخالفَه مِن أجل أن يأتيَ بسنة القصر
لأنه لا يُترَكُ الواجب نظيرَ الإتيان بِسُنّة! اللهم إلا إذا حاجّنا مَن يقول بوجوب القصر،
عِلماً بأن المذهب -ليس المشهور- وإنما المذهب يرى:
أن الانتقال من الانفراد إلى الإمامة -كما سبق- لا يصح.
لكن هذا هو المذهب، لا يرون صحة انتقال المنفرد إلى الإمامة لا في فرضٍ ولا في نفل.
أما المشهورُ عنهم: فإنهم يرون جوازَ انتقال المنفرد إلى إمامة في النفل دون الفرض
ويستدلون على جوازه في النفل دون الفرض: بحديث ابن عباس رضي الله عنهما.
ولكن الصواب: صحةُ ذلك في النفل والفرض.
أما في النفل: فلحديث ابن عباس-رضي الله عنهما.
وأما في الفرض: فلأنه ما ثبت في النفل ثبتَ في الفرض إلا بدليل،
ودليلُ هذه القاعدة ما مر معنا:
أن النبي ﷺ كان يصلي النافلةَ على راحلته في السفر غيرَ أنه لا يفعلُ ذلك في الفريضة.