الدرس ( 124 ) صفة الصلاة ( 5 ) ( حكم تسوية الصفوف والتراص وفضل الصف الأول )

الدرس ( 124 ) صفة الصلاة ( 5 ) ( حكم تسوية الصفوف والتراص وفضل الصف الأول )

مشاهدات: 618

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (124) من الفقه الموسع

آداب المشي إلى الصلاة

لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مسألة: ما حكمُ تسويةِ الصفوف؟

فإنه إذا قام المصلون إلى الصلاة يعقب ذلك تسويه الصفوف، فما حكمُ تسويةِ الصفوف؟

(التسوية) ألا يتقدمَ أحدٌ على أحد.

وما هي الطرق التي يحصل بها تسويةُ الصفوف؟

-يأتي بيانُها إن شاء اللهُ تعالى بعد ذِكْرِ حكمِ مسألةِ تسويةِ الصفوف-

 

تسويةُ الصفوف اختلف فيها العلماء على قولين:

القولُ الأول: وهو قولُ الجمهور قالوا: إن تسويةَ الصفوف سُنَّة، ويستدلون على ذلك بما جاء عن النبي ﷺ بقوله: ” فإن تسوية الصفوف من حُسن الصلاة “

وحُسُن الصلاة لا يَلزمُ مِن حُسنها أن يكون هذا الشيءُ واجبا، فإن من حٌسن الصلاة أن يزيد المأمومُ أو أن يزيد المصلي على القدرِ الواجب من الأذكار، وما زاد عن القدر الواجب فهو مستحب.

 

القول الثاني: ويختاره شيخُ الإسلام -رحمه الله- أن تسويةَ الصفوف واجبة، ويستدل على ذلك بما يأتي:

1- قولُ النبي ﷺ كما في الصحيحين لمَّا رأى بعضَ أصحابه قد أبدى صدرَه بعدما أمَرَه وأمَرَ الصحابةَ بالتسوية قال: ” لَتُسَوُّونَ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ “، وفي رواية: ” بَيْنَ قُلُوبِكُمْ “

ولذا بوَّبَ البخاري -رحمه الله- فقال (بابُ إثم مَن لم يُقِمِ الصف) ثم ذَكَر الحديث.

والمخالفةُ هنا هي مخالفةٌ معنوية قلبية وليست حسية؛ لأن الروايات يُفسرُ بعضُها بعضا؛ فإنه قال ﷺ:

” أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ “

فلو لم تَرد إلا هذه الجملة لكان هذا في الاختلاف الحسي أظهر من الاختلاف المعنوي؛ لكن لما أتت الرواية الأخرى: ” أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ “؛ دلَّ على أن الاختلاف هنا اختلاف في وجهات النظر.

 

ووجه الاستلال بهذا الحديث: أن النبي ﷺ توعد مَن تَرَكَ التسويةَ بهذا العقاب، وهذا التوعدُّ لا يحصل على تَرْكِ سُنَّة؛ إنما يحصلُ على تَرْكِ واجب، وهذا هو الصحيح؛ لاسيما أنه وردت رواية: ” فإنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِن تَمامِ الصَّلاةِ ” كما في الصحيحين، ولاسيما أنه أمَرَ بالتسوية؛ كان النبي ﷺ يأمُرُ أصحابَه فيقول: ” سَوُّوا صُفُوفَكُمْ”، والأمْرُ يقتضي الوجوب.

وجاء في رواية عند البخاري: “فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ “

والعجبُ أن الشوكاني -رحمه الله- أنكَر على ابن حزم استدلالَه بلفظ (إقامة الصلاة) على وجوب تسويه الصف، فقال: لا يَلزمُ مِن إقامةِ الصف أن يكونَ واجبا، لأن الروايةَ الاخرى تقول (من تمام الصلاة) وتمامُ الصلاة ليست كلمةً تدلُّ على الوجوب،

مع أنه -رحمه الله- لمَّا رجح رأيَ الجمهور في أن تكبيرةَ الإحرام ركنٌ من أركان الصلاة، استدل بما جاء عند أبي داود: ” لَا تَتِمُّ صَلَاةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يَضَعَ الْوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ، ثم يُكبر ” -وسيأتي بيانُه-

فحَمَل -رحمه الله- لفظَ إقامةِ الصلاة على الإقامة المعروفة؛ وذلك لأن التسويةَ تأتى بعد إقامة الصلاة،

 

إذاً المُرَجَّح: أن تسويةَ الصفوف واجبةٌ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

ولْيُعلَم أن بعض الأئمة إذا أمَرَ المصلين بالاستواء قال: ” استووا يرحمكم الله “

فيقولُ ابنُ قاسم في الحاشية: ” إن جملة (يرحمكم الله) ليست ثابتةً فلا تُورَدُ هنا “.

 

لو قال قائل:

ما الحكمُ فيما لو كانت الصلاة مِن اثنين، أيتقدمُ الإمام شيئاً يسيراً على المأموم؟ أم أنه يكونُ بجواره؟

الجواب: الصواب أنه يكونُ بحذائه، لظاهر حديث ابنِ عباس -رضي الله عنهما- في الصحيحين لمَّا قام مع النبي ﷺ قال: ” فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ “

ويدل له أن عمر رضي الله عنه أُثِر عنه مِثلُ ذلك، وهو:

 أن يكونَ المأموم بجانب وحذاءِ إمامه إذا كانا اثنين.

ـــــــــــــــــــ

مسألة: لو تُرِكت التسوية هل تبطل الصلاة أم لا تبطل؟

الجواب عن هذا: أنها لا تبطل؛ لأنها واجبةٌ للصلاة وليست واجبةً في الصلاة

وفرقٌ بين الوجوب الذي يسبقُ الدخولَ في الصلاة، والوجوب الذي في أثناء الصلاة،

ولذا الإقامةُ خارجَ الصلاة؛ لو تُرِكَت صحت الصلاة مع الإثم.

 

وهذه تزيدنا فائدة مما يدل على أنها واجبة، أو يقوي الوجوب:

ما قاله بعضُ الصحابة:

” كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلَاةِ، وَيَقُولُ: اسْتَوُوا وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفُ قُلُوبُكُمْ “

وكان عمرُ رضي الله عنه قد كلَّفَ رجلاً بأن يسوي الصفوف، فلا يدخُلُ رضي الله عنه في الصلاة حتى يُخبِرَه بأن الصفوفَ قد استوت.

وقد أُثِر هذا عن علي رضي الله عنه فكان يأمُرُ المصلين أن يتقدم أحدُهم أو يتأخر،

فدلَّ هذا على أن الأمر ليس منحصراً في السُنية.

ومما يؤكد الوجوب أيضا: أن صلاة الجماعة واجبة، وإذا نُظر إلى لفظة (الجماعة) يدل على أن الشرع حرَّص وحضَّ على الاجتماع، فإذا اجتمعوا فإنه من غيرِ المناسبِ أن يختلفوا في الصف

فدلَّ على أن الأمر بالتسوية واجبٌ يٌضافٌ إلى مقصود، أو يدل عليه مقصود الشرع من صلاة الجماعة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهناك أمْرٌ زائد على التسوية

هناك مسألة زائدة على التسوية وهي: مسألة التراص

(التَّرَاص) سُنَّة ولم أرَ من قال بالوجوب، وعدم الرؤية وعدم العلم لا يدل على العدم.

ويدل على التراص وعلى الأمر به -لأن الأمر به يدل على الوجوب لا شك- لكن إذا كان الجمهور يرون أن التسويةَ ليست واجبةً فمن باب أولى التراص

فقد جاء في مسند الإمام احمد وسنن أبى داود والنسائي قوله ﷺ:

” رُصُّوا صُفُوفَكُمْ وَقَارِبُوا بَيْنَهَا وَحَاذُوا بِالأَكْتَافِ “، وفي رواية ” وَحَاذُوا بِالْأَعْنَاقِ “

” فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَرَى الشَّيْطَانَ “

وعند النسائي: ” إِنِّي لَأَرَى الشَّيَاطِينَ تَدْخُلُ مِنْ خَلَلِ الصَّفِّ كَأَنَّهَا الْحَذَفُ

(والحَذَفْ) هي غنمٌ سودٌ صغار تكون في اليمن.

وهذا يدل على أن الشيطان يحبُّ الاختلافَ والتفرِقَة.

 

وقال ﷺ كما في صحيح مسلم لمَّا رأى تأخراً من بعض أصحابه:

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَأَى فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا، فَقَالَ لَهُمْ:

 ” تَقَدَّمُوا فَائْتَمُّوا بِي، وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ “، يعنى: مَن خَلْفَكم.

 

وقال ﷺ كما في سنن أبى داود: ” لِينوا بِأيْدِي إخْوانِكُمْ “

حُمِلَ على معنيين أحدهما أظهر من الآخر ولا شك:

الأول: لتكن ليناً يا مَن هو في الصف المتقدم إذا جَذَبَك أخوك لتُزيلَ فِذِّيَّتَه.

الاحتمال الثاني: وهو الأظهر، لتكن لينا إذا أخذ أخوك بيدك لِسَدِّ الفُرجَة.

 

ومن الأدلة ما جاء في سنن أبى داود قال ﷺ: ” مَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللهُ “.

 

وقال ﷺ كما عند أبى داود:

” أَتِمُّوا الصَّفَّ الْمُقَدَّمَ ثُمَّ الَّذِي يَلِيَهُ، فَمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ فَلْيَكُنْ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ “

 

طبعاً هذه المسألة، نأتي بالأحاديث الآمرة بالمُراصَّة وبالتقدم في الصفوف وفي فضل الصف الأول؛ لأنها كلَّها مرتبط بعضها في بعض:

قال ﷺ كما عند أبي داود: ” إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصُّفُوفِ الْأُوَلِ “

وعند النسائي: ” إِنَّ اللهَ، وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصُّفُوفِ الْمُتَقَدِّمَةِ “

وجاء عند ابن ماجه أن النبي ﷺ كان يستغفر للصف الأول ثلاث مرات وللصف الثاني مرة:

عن عِرباض بن سارية: ” أَنَّ رَسُولَ ﷺ كَانَ يَسْتَغْفِرُ لِلصَّفِّ الْمُقَدَّمِ ثَلَاثًا، وَلِلثَّانِي مَرَّةً “

 

وفي رواية النسائي: أن النبي ﷺ يصلي على الصف الأول ثلاث مرات وعلى الصف الثاني يصلي مرة واحدة

عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: كَانَ يُصَلِّي عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ ثَلَاثًا، وَعَلَى الثَّانِي وَاحِدَةً “

 

 

وجاء في صحيح مسلم قوله ﷺ: ” أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟» فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالَ: «يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الْأُوَلَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ “.

 

وقال ﷺ كما في الصحيحين:

” لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاَسْتَهَمُوا “

 

وقال ﷺ: ” مَنْ سَدَّ فُرْجَةً، رفعَهُ اللهُ بها درجةً “

 

قال ﷺ كما عند مسلم: ” لا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللَّهُ “

هنا مطلق: ” لا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللَّهُ “

وجاء عند أبى داود: ” لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ عَنِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ “

 

كيف يؤخرُهم في النار؟

قال بعض العلماء: أن الموحدين العصاة إذا اُدخِلوا النار يكونُ آخِرُ أمْرِهم أن يدخلوا الجنة، فإذا دخلَ مِن هؤلاء العُصاة مَن هو متأخرٌ عن الصف الأول يكونُ هو آخِرُ مَن يخرجُ مِن النار من هؤلاء العصاة.

 

وهذه التي عند أبى داود يصححها الألباني -رحمه الله- ولكنه استدرك وتراجع في مراجعاته، لأن له كتاباً جمع فيه الأحاديث التي تراجع عنها فهو لا يرى زيادة كلمة (النار)

فيكون الحديث موافقاً لما جاء عند مسلم

وهذا إن دل يدل على قصور ابن آدم مهما أوتي من العلم، فمثل هذا العالم النحرير الذي أفنى عمره في طلب علم الحديث والتنقيب عنه يتراجع، يدل على أن ابن آدم مهما بلغ في العلم فإنه في قصور

وبالتالي فهي فائدةٌ لنا إذا قرأنا مثل هذه الأشياء عن هؤلاء العلماء: أن نعرف أنفسنا وأن نعرف قدرها فلا يرى أحد نفسه مهما بلغ، ولا يغرنك ثناء المثنين، ولا وصفُ الواصفين، ولذلك يقول بعض السلف:

 ’’ من اُعجبَ بثناء الناس فقد اغتُر به’’

فما يُرى من بعض طلاب العلم من الصلابة في رأيه الذي قد يخالف الحديث، هذا يدل على جهله!

 لأن من العلم أن تتواضع للعلم، ولذلك يقولُ شيخ الإسلام رحمه الله في قول الله عز وجل:

 {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} ] فاطر -28[، يقول: إن الآية لم تدل على أن كل عالم يخشى الله، إنما تدل على العكس، وهو: أنه لا يخشى الله إلا مَن هم عالم.

 ولذا قد يكون الإنسان عالمٌ بين الناس وهو ممن لا يخشى الله

فإن إبليس كان عالماً ولكنه لم يخشَ الله عز وجل فعاقبه الله عز وجل.

فهي دعوةٌ لنا جميعا: إذا قرأنا لأمثال هؤلاء أن نوقِفَ أنفسنا وأن نعرف حقيقتها، فإذا كان هؤلاء مثل الألباني -رحمه الله- يقف على عشرات الآلاف مِن الأحاديث ويبحثُ فيها وينقب عنها يتراجع، فغيرُه ممن هو أقل منه بمراحل لا تُوصف من باب أولى.

ـــــــــــــــــ

ثم إن في حديث النبي ﷺ: ” لا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللَّهُ ” الوارد عند مسلم قد لا يتعارض مع ما ورد في سنن أبي داود إن قلنا صحة الحديث، كيف؟

وهذا مَحمَلٌ أراه، قد يكونُ زائداً عما ذَكَره بعضُ الشراح تحت هذا الحديث، وهو:

 أن التأخر عن الصف الأول وسيلة من الوسائل التي تفُضي بالإنسان إلى أن يدع الصلاة! وهذا مشاهد، ولذا هذا الحديث يكونُ مربياً للمسلم وداعياً المسلم إلى ألا يتكاسلَ عن العمل الصالح،

 وإنه لمن المؤسف حقاً أن نرى كثيراً -وليس قليلاً- كثيراً من طلاب العلم، ممن يحرص على العلم نراه يتأخر عن الصف الأول! فنراه يصلي في الصف الثاني! أو من المصائب العظمى أن يُرى أنه يقضي الصلاة!

لو جرت مثل هذه الأشياء عَرَضاً فإن هذا قد وقع للنبي ﷺ، أما أن يكون ديدن طالب العلم وهو الرجل الذي يُقتدى به ويُعرف أنه يطلبُ العلم أن يكون ديدنه هكذا!!هذا من الخيبةِ والخسران،

فهو جنى على نفسه بالتقصير وجنى على غيرِه؛ إذ إن غيرَه يقتدي به، لماذا لا يكونُ طالبُ العلم من أول الناس حضوراً إلى الصلاة؟! لماذا لا يكونُ خلفَ الامام؟!

ما معنى قول النبي ﷺ: ” لِيَلني منكم أولوا الأحلام والنُّهَى، ثم الَّذين يلونَهُم، ثم الذين يلونهم “

إذاً هذا يدلُّ على أن طالب العلم إذا كان متأخراً فهو الحقيقة ليس مِن أولي النُّهى، وليس مِن أولي الألباب؛ لم؟ لأن عقلَه لم يدعُه إلى أن يكون مِن المتقدمين إلى الخير!

 

قال سعيد بن المسيب عند وفاته رحمه الله؛ كما أُثِر عنه:

” ما أذن المؤذن من أربعين سنة إلا وأنا في المسجد “

 وبعضُهم: خمسين سنة لم تفته تكبيرةُ الإحرام

فهؤلاء جمعوا بين العلم والعمل

 

 ليس المعنى أن نأخذ علماً وأن نكون مثقفين وأن نأتي إلى المجالس ونذكُر ما نذكر مما أخذناه دون أن يكون لهذا العلم أثر في نفوسنا!

لو سأل الواحد منا نفسه: ما نصيب قراءة القران من وقت أحدنا؟

نحن الآن كطلاب علم -إن كان يصدق علينا هذا الوصف- لكن تنزلاً إن قلنا إنَّا طلاب علم:

 يمكن أن يمر على الإنسان اليوم واليومان والثلاثة ولم يختم له جزءاً، فالقرآن نور وبيان وهداية،

 بل من البلايا أن يقرأ طالبُ العلم ويُخطئ ويلحن لحناً جليا! هذه من المصائب!

ولذلك كان السلف يقولون: من بين العلماء مَن لا يسمح لأحد من الطلاب أن يدخُلَ ضمنَ حلْقةِ دَرسِه إلا وهو حافظٌ للقرآن.

 لا خيرَ فينا إذا لم نجتهد ولم نكن قدوةً للآخَرين!

 إذا كان هذا يُرى مِن طلابِ علم -ونحن نراهم- قد قصروا في هذا الجانب، فإنا لله وإنا إليه راجعون، إذاً: ماذا يُقال لغيرهم مِن باب أولى؟!

لماذا لا يرتب الإنسان وقتَه؟! لماذا لا يتمثل هذه النصوص في واقعه؟!

بحيث يلتزم أن يكون مِن أول الناس حينما يؤذن المؤذن!

 

من المؤسف له أن نرى كثيراً مِن عوام الناس الذين قد لا يحفظ بعضُهم إلا شيئا يسيراً من القرآن؛ أو لا يحفظ شيئاً من القرآن؛ هو خلف الإمام، وأما طلاب العلم نراهم في الأطراف؛ أو نراهم خلف الصفوف!!

فمثل هذا الحديث يصححه بعض العلماء:

” لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ عَنِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ “

قد يصدُقُ عليه هذا الحديث ولو بعد حين -فنسأل الله أن يهدي الجميع-

ــــــــــــــــــــــــــــ

س/ ما حكم الخط الذي يوضع على الأرض في المساجد لتسوية الصفوف؟

الجواب: بالنسبة إلى الخط فإني لم أر من المعاصرين مَن تحدث عنه، لكن بالنسبة إلى الخط فلا شك إنه مما يُعينُ على إقامة الصف فلا أرى فيه بأسا؛ لأنه يُغني عما كان يفعله النبي ﷺ والصحابة مما ذُكِر مِن مَسحِ المناكب، ومِن تعديل الصفوف، وما أعان على المسنون فهو مشروع

لذا استحبَّ العلماء -كما سبق- أن توضع المحاريب في المساجد مع أنها غيرُ موجودة في عصر النبي ﷺ؛ كلُّ ذلك من أجل أن تكون علامةً على معرفة القبلة.

والنبي ﷺ وكذلك الخلفاء الذين قاموا بهذا الأمر؛ لأنهم يدركون حُسنَ نفوس هؤلاء المصلين، لكن في هذا العصر يختلف

وقد حكم النبيُّ ﷺ وبيَّن ذلك فقال: ” لِينوا بِأيْدِي إخْوانِكُمْ “، كأنه ﷺ يشيرُ إلى أن الناس تترفعُ أنفسُهُم حينما يقال له: تقدم أو تأخر أو تراص! -وهذا مشاهد-

ولذا قال: ” لِينوا بِأيْدِي إخْوانِكُمْ “، وصفهم بأنهم إخوان من باب التودد والتلطف.

 

وبالنسبة للخط: فإن القول ببدعيته أْمٌر عسير؛ لأن هذا من باب الوسائل، ومن باب الوسائل في عصر الصحابة أنهم كانوا يأمرون رجلاً أن يسويَ الصفوف، مع أنه لم يوجد في عصر النبي ﷺ هذا الأمر، إنما فَعلَه عمر، فهذا من باب الوسائل لإقامة الصف.

 

وبالتالي: فإن على الأئمة واجباً وهو ألا يدخلوا في الصلاة حتى يروا أن الناسَ قد سووا صفوفَهم، فقد جاء في سنن أبى داود من حديث النعمان أن النبي ﷺ ” كان يأمر بتسوية الصفوف فلا يكبر للصلاة حتى تسوى”

ولذا جاء عند النسائي وبوب عليه النسائي فقال [باب قول: استووا، ثلاثَ مرات]

فهذا مِن السنة، أن يقول الإمام ثلاث مرات (استووا، استووا، استووا)

وكذلك من السنة أن يقول ثلاث مرات: ” أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ “

 

وأما قول (صلوا صلاةَ مودِّع) فإنا لم أرَها ثابتةً في هذا الموِطن

هي جاءت في مسند الإمام احمد قوله ﷺ: ” إِذَا قُمْتَ فِي صَلَاتِكَ فَصَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ، وَلَا تَكَلَّمْ بِكَلَامٍ تَعْتَذِرُ مِنْهُ غَدًا، وَاجْمَعِ الْإِيَاسَ مِمَّا فِي يَدِ النَّاسِ “

 

لكن أتقال في هذا الموطن أن يقوَلها الإمام؟

لا أعلم أن هناك نصاً يدل على هذا، إنما هو أمْرٌ منه ﷺ للمصلي إذا دخل في الصلاة سواءً كانت صلاة نفل أو فرض؛ أن يدخلها على أنها صلاة مودع قد لا يَحيى بعدها.

 

والأحاديثُ هنا آمِرةٌ بالتراصِّ في الصف

 

مسألة تتعلق بتسوية الصفوف والتراصِّ فيها: أهناك حديثٌ وردَ فيه الأمْرُ بالمُزاحمَةِ أثناءَ المُصافَّة؟

الجواب: قال الألباني رحمه الله كما في السلسلة الضعيفة ذاكر حديثاً نُسِبَ إلى النبي ﷺ:

 ” تزاحموا تراحموا ” وقال رحمه الله: لا أصل له، وإنما هو مشهورٌ على ألسنة بعض الأئمة، وليس هناك حديثٌ يدل على المُزاحَمَة إلا ما جاء عند الطبراني من حديثٍ لفظُه: ” تماسوا تراحموا “

ففسر البعضُ المماسة بالمزاحمة،

 ومع وجود هذا الحديث فإن هذا الحديث لا يصح كما قال رحمه الله ومِن ثَم:

 فإن المزاحمة لم تأت بها السنةُ في المُصافَّة؛ وإنما وردَ التراص.

 

ولعل مقصود الشرع في المراصة دون المزاحمة:

حتى يتمكن المأمومُ من الإتيان بالواجبات والأركان وحضور القلب أكثرَ مما لو كانت هناك مزاحمة، فلو حصلت مزاحمة كما هو واقع في بعض الأحيان، تحصل مزاحمة ومِن ثَم لا يتمكنُ الإنسان من الإتيان بالسنن الواردة، بل قد لا يخشعُ في صلاته! إذاً الثابتُ: التراص.

ثم لو عُثِرَ على حديث فيه الأمْرُ بالمزاحمة؛ فإنه لا يُقصَدُ بهذه المزاحَمَة أن تكون مزاحمةً تُخِلُّ بالخشوعِ في الصلاة؛ لأن المقصودَ الأعظمَ في الصلاة هو الخشوع.

ـــــــــــــــــــــــــــ

مسألةٌ أخرى: ما ورد من حديث: ” إن الله لا ينظر إلى الصف الأعوج ” هو حديثٌ لا أصلَ له.

 

 وحديثٌ آخَر حَكَمَ عليه الألبانيُّ رحمه الله بالوضع:

” مَنْ تَرَكَ الصَّفَّ الْأَوَّلَ مَخَافَةَ أَنْ يُؤْذِيَ أَحَدًا، أَضْعَفَ اللَّهُ لَهُ أَجْرَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ “

 

وما جاء مِن حديٍث في بعض السنن وهو حديث أنس رضي الله عنه:

 “أن النبي ﷺ كانت له عصا يأخذ هذه العصا بيمينه فيلتفت إلى من عن يمينه في الصف ويقول استووا واعتدلوا ثم يأخذ بها بيده اليسرى ويلتفت إلى عمن يساره ويقول استووا واعتدلوا”

 هذا أيضا حديث ضعيف.

 

أما لفظة (استقيموا) قال الشيخ ابنُ عثيمين -رحمه الله- في أحد كتبه:

 لم نعثُر على لفظٍ يأمُرُ فيه النبيُّ ﷺ باستقامة الصف، أو بلفظ (استقيموا) إنما الواردُ (أقيموا) -كما مر معنا- أنه يقول (أقيموا، ثلاث مرات)

وقد تابعتُ البحثَ عن هذه اللفظة فلم أجد هذا اللفظة ولم أعثر عليها بهذا اللفظ (استقيموا)

 

لو قال قائل: لو أن الإمام يأتي بلفظ غير هذه الألفاظ لكن يحصل به المطلوب؟

ينبه إليه ويُشار إلى أن السنة لم تأت بمثل هذا اللفظ، فلو أنه غايَرَ بين هذه الألفاظ بين الفينة والأخرى مما ثبت في السنة فهو حسن، ولو أتى في بعضِ الأحيان بمثل هذه الألفاظ دون أن تكون سنةً راتبة فلا بأس بذلك؛ لأن المقصودَ هو تسويةُ الصف؛ ولذا أتى النبي ﷺ بحديث عام قال: ” عِبَادَ الله، لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ الله بَيْنَ وُجُوهِكُمْ ” فالمقصودُ الأول هو تسويةُ الصف.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

مسألة/ قال بعض الفقهاء في فضل الصف الأول:

إن الصف الأول يحظى بأجر مَن صلى خلفَه ولو كثُرَت الصفوف من غيرِ أن ينقص من أجورهم شيئاً، فمن كان في الصف الأول فإنه يأخذ أجرَ مَن خلفه ولو كثرت الصفوف.

 وهذا لا دليلَ عليه، اللهم إلا أنه قد يُستأنس لقولهم بما ثبت عنه ﷺ:

” تَقَدَّمُوا فَائْتَمُّوا بِي، وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ “

ففيه إثباتٌ بأن الصف الأول بمنزلة الإمام، هذا إذا سلمنا بأن هذا مما يُستأنس به لقولهم؛ إذا سلمنا به يحتاج إلى أن نثبت هذا الأجر الذي يظفر به أصحابُ الصف الأول،

 ويمكن أن يسعفهم -لو صح الحديث- أن الإمام له أجر من صلى خلفه،

ولكنه مر معنا أنه حديث ضعيف، وإنما الواردُ في حق المؤذن، أن مَن سَمِعَ المؤذن فصلى خلفَه جماعةٌ يأخذ أجرهم -ومر معنا في الأذان-

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

مسألة/ [قال بعض الفقهاء: مَن تقدم على إمامه إلى الكعبة في غير جهته صحت بلا خلاف، وكان بمنزلة من صلى بجانب الإمام]

هذه المسألة تحصُلُ في المسجد الحرام، فإن الإمامَ قد يكون مثلاً أمام الباب، ولكنه غيرُ قريبٍ مِن الكعبة، مَن في الجهة المقابلة قد يكون متقدماً عليه إلى الكعبة، فهذه الصلاة صحيحة بلا خلاف.

لكن المشكلَ هو:

إثباتُ أن أجر هذا المصلي كأجرِ مَن صلى بجوار الإمام؛ أو مَن هو عن يمين الإمام!

ولكن لا أعلمُ دليلاً على هذا، فإن الأصلَ أن يبقى الدليلُ على ما هو عليه وهو:

أنهم في الصفوف الأُوَل ويظفرون بثواب وأجر مَن صلى في الصف الأول.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ