الدرس ( 36 ) باب الوضوء(7) صفة الوضوء ( 6 ) الترتيب والمولاة وحكم تنشيف الأعضاء والشك بعد العبادة

الدرس ( 36 ) باب الوضوء(7) صفة الوضوء ( 6 ) الترتيب والمولاة وحكم تنشيف الأعضاء والشك بعد العبادة

مشاهدات: 464

الدرس ( 36 )

من الفقه الموسع

لفضيلة الشيخ زيد بن مسفر البحري

مسألة : تباح معونته في الوضوء وتنشيف أعضائه

الشرح/ هذه المسألة لها شِقّان:

“الشق الأول/ إعانة المتوضأ وقيس عليها التيمم والغُسل: أن إعانةَ المتوضأ مُباحة، ودليلُ الإباحة ما جاء في صحيح مسلم أن المُغيرةَ بنَ شُعبةَ رضي الله عنه صبَّ على النبي ﷺ،

ولما جاء عند مسلم قالت عائشةُ رضي الله عنها: ” كُنَّا نُعِدُّ لَهُ سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ “

وإنما اقتصر على الإباحة دون أن يكون الحكمُ للسنية: لأن الأصلَ في العبادات أن يقومَ بها العابد، وذلك لأن في قيامه بها زيادةَ أجر، ولأن النبي ﷺ لم تستمر عادتُه على ذلك،

ولا يقل أحدٌ أن قولَ عائشة رضي الله عنها: ” كُنَّا نُعِدُّ لَهُ سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ ” يدلُّ على الاستمرار:

 وذلك لأن الاستدلالَ بحديث عائشة في الاعانةِ على الوضوء ليس له ظاهِرٌ قويّ، فَفَرقٌ بين تهيئةِ الشيء وبين الإعانةِ على الشيء؛

ثم إن صنيعَها رضي الله عنها من بابِ تقديمِ الخدمةِ للزوج، ولذا قال الفقهاء: [تُباح معونته]

 وأما ما اشترَطَه البعض مِن كونه يكونُ عن يساره: فلا دليلَ عليه، والأمْرُ مبنيٌّ على السَّعَة.

 

 الشق الثاني: يُباح تنشيفُ أعضائه، والدليلُ على ذلك: أن ميمونةَ رضي الله عنها أتت بالمنديل للنبي ﷺ “فلم يُرِدْه” -وقد نُطِقَ بهذا – لو قال قائل: لمَ لا يكون النطق (يَرُدَّهُ)؟

فالجواب: أنه ورد عند البخاري التصريح برَدِّهِ.

ولذا قالت: ” فجعل ينفُضُ الماءَ بيديه ” ومن ثم قال بعض العلماء: إن التنشيف مباح.

 وقد طرأ على هذا الحديث احتمال وهو: أن النبي ﷺ ما رده إلا لعلة كانت بالمنديل [وإذا طرأ الاحتمالُ القوي على الدليل بطل به الاستدلال] حتى لا يقولَ أحدٌ إنه لا يُباح تنشيف أعضائه، وذلك لأن إتيانَها له بالمنديل يدل دلالةً محتملة على أنه كان ﷺ ينشِّفَ أعضاءه،

 إذ لو لم تكن من عادته أن ينشف أعضاءه لنهاها،

 بل جاء عند الترمذي ولو صح لكانت سنة ” كانت له خِرقةٌ يتنشف بها ” ولكنه ضعيف

وقد عده ابن القيم رحمه الله في المنار المنيف من الأحاديث الموضوعة، مع ان البعض يحسنه كالألباني وعلى كل حال / فالحديثُ الوارد في البخاري وهو حديث ( ميمونة ) يدل على الجواز، وذلك لأن هذا الماء أثرٌ من آثارِ العبادة، وقد جاء في حديث أن النبي ﷺ قال: “إن الله يحبُّ أثرَين” ذكَرَ: “أثرا من عبادة الله عز وجل”

 إذاً من فعل فلا حرج ومن ترك فلا حرج.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

مسألة: الترتيب من فروض الوضوء وكذا الموالاة إلا ان جف العضو باشتغاله بأمر يتعلق بالوضوء بازالة وسخ في وجهه مثلا. فلا يضر

الشرح

هذه المسألة ذكَرَت فرضَين من فروض الوضوء وسبقت أربعةُ فروض

( الوجه ومنه المضمضة والاستنشاق – وغسل اليدين – ومسح الرأس – وغسل القدمين)

 فالفرض الخامس الذي هو ( الترتيب )

والدليل قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6]

فوجهُ الاستدلال من الآية: أن اللهَ عز وجل أدْخَلَ الممسوحَ بين المغسولات، وهذا خروجٌ عن مقتضى البلاغة ومعلومٌ أن القرآن أبلَغُ الكلام، فلما أُدْخِلَ هذا الممسوح دل على أنه ليس هناك موجِبٌ إلا وجوب الترتيب.

 وقد بين النبي ﷺ ذلك بفعله فسنته المستمرة ﷺ ( الترتيب )

 ثم أن الترتيب تقديمٌ لما قَدّمَه اللهُ عز وجل: فغسل الوجه ثم غسل اليدين ثم مسح الرأس ثم غسل القدمين، بهذا الترتيب نُقَدِّمُ ما قدمه الله عز وجل، وقد قال النبي ﷺ كما عند “أبْدَأُ بما بَدَأَ اللَّهُ به”

 

ولذا من توضأ غيرَ مُرَتِّب: فوضوؤه لا يصح،

لكن اختلف العلماءُ فيمن ترك الترتيب بعذرِ الجهلِ والنسيان:

قال بعض العلماء: لا يلزمه أن يعيد

وقال بعض العلماء: يلزمه أن يعيد

وبالنظرِ إلى ما ذُكِر مع النظر في النصوص العامة، نجد أن الجهل يختلف عن النسيان:

 فالنسيان: أقل من الجهل ولذا عذر النبي ﷺ أناسا تركوا فروضا بسبب الجهل،

ومن ثم فإن كان ناسيا فيلزمه أن يُعيد، أما قول الله تعالى {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}

فالجواب: أنه لا يأثم لتركِه للترتيب بالنسيان، لكن عليه أن يعيد وذلك لأنه لو تعمَّدَ لإثِم.

 

وأما الجهل: فيختلف باختلاف الأحوال، فمن هو في المدن وبين العلماء لا يُعذَرُ بِجَهلِه: لأن مثل هذا لا يُجهَل ولا يَسَعُ الإنسان أن يجهلَه، لأنه يتعلقُ بأعظم ركن من أركان الإسلام بعد الشهادتين، فدلّ على تفريطِه؛ أما من كان ناشئا في بادية أو منطقة نائية عن العلم: فهو معذورٌ بجهله، وذلك كقصة الرجل المسيءِ في صلاته، فلم يأمُرْه النبي ﷺ -بتركه للطمأنينة – لم يأمره أن يعيدَ الصلوات الماضية إنما أمَرَه بالصلاةِ الحاضرة لما لم يخرُج وقتُها.

وقيل بهذا التفصيل: لأن المأمورَ يختلفُ عن اجتناب المحظور، وذلك لو أنه صلى صلاةً من غيرِ وضوء ناسيا أو جاهلا لما صحّت صلاتُه، بينما لو صلى وعليه نجاسةٌ فلم يعلم بها إلا بعد الصلاة: فصلاتُه على الصحيح صحيحة، وهذه المسألة تأتينا في بابها إن شاء الله تعالى، وذلك لأن النبي ﷺ فرَّق بين المأمورِ والمنهي عنه؛ ووجهُ التفريق يأتي في حينِه بإذنه عز وجل.

 ومِن ثَم: على قولِنا بأن الترتيبَ واجب:

 لو انغَمَسَ في ماء ثم خَرَجَ مُرَتِّبًا أعضاءَ الوضوء: أجزأ،

 وإذا لم يُرَتِّب: فلا يُجزئ؛

وكذا لو أنه توضأ أربعَ مرات مُنَكِّسًا وقَرُبَ الزمن بين كلِّ وضوءٍ وآخَر: فإن وضوءه يصِح، وصورتُها:

أن يقوم إنسانٌ فيتوضأ مرةً، يغسِلُ أولَ ما يغسل قدميه، ثم يمسَحُ رأسَه، ثم يغسِلُ يدَيه، ثم يغسِل وجهَه ثم يتمضمض؛ ثم يعود الثانية بنفس الطريقة، ثم الثالثة بنفس الطريقة، ثم الرابعة بنفس الطريقة:

 فإن وضوءَه يصح إن قَرُبَ الزمن، لأنه إن طال الزمن بين كلِّ وضوءٍ وآخَر: فاتت الموالاة، والموالاةُ فرض كما سيأتي.

وهذه صورةٌ فَرَضِيّة يذكُرُها الفقهاء، وذِكْرُهُم لها لا يدلُّ على الجواز وإنما يدل على الصحةِ فقط،

 ولذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: يكفي في هذا الوضوء أنه وضوءٌ مُنَكَّس،

 والفقهاء يذكرون صُوَرًا افتراضية ربما لا تقع في مائةِ سنة إلا مرةً واحدة، وربما قد لا تقع، وذلك من باب تمرينِ ذهْنِ طالب العلم على تفريعات المسائل.

 

 

 

الشق الثاني: وهو الفرض السادس من فروض الوضوء الذي هو الموالاة

والموالاة ضبطت بضابطين أحدهما أضبط من الآخر أو أدق من الآخر

 قيل: هي مضبوطة بالعرف ، فما عده الناس في عرفهم موالاة فهو موالاة

وقال بعض العلماء: أن لا يؤخرَ غسل عضو حتى ينشف الآخر بزمن معتدل

وهذا الثاني أضبط لأن العرف غير منضبط فيه هذه الموالاة وذلك لتفاوت الناس

لكن القول بأن الموالاة: أنه لا يؤخر غسل عضو حتى لا ينشف الآخر بزمن معتدل: أدق وأضبط

 

مثالُ ذلك: أن يغسِلَ وجهَه ثم يغسِلَ يدَيه قبل أن ينشَفَ ماءُ الوجه، أما إذا غَسَلَ يدَيه وكان ماءُ الوجه قد نشَف وجَفّ: فيلزمُه أن يُعيدَ الوضوء لِتَرْكِه للموالاة، لكن يُشترط في هذا شرطان:

الشرط الأول: أن يكونَ هذا الجفاف في زمنٍ معتدل، وذلك لأن الجوَّ قد يكونُ حارا فيه هواء فيكون جفافُ العضو أسرع، فإذا كان كذلك فلا تنقطع الموالاة لأن هذا الجفاف ليس في زمن معتدل؛

 وكذلك العكس: لو كان في جو بارد فتأخّرَ في غسل يده ولم يَجِفَّ ماءُ الوجه: فتنقطِعُ الموالاة، لم؟

لأن عدمَ جفافِ الماء نظيرَ برودةِ الجو، فيكون الحكم منوطاً بالزمن المعتدل؛

 ولا يُربَط هذا بالجو الخارجي فحسب: بل يُربَطُ حتى بالجو الداخلي، كتأثير أجهزة التقنية الحارة والباردة تأخُذُ هذا الحكم، فهذا هو الشرط الأول: أن يكون في زمن معتدل.

 

الشرط الثاني: ألا يكونَ هذا الجفاف بسبب اشتغاله بوسَخٍ في أعضاءِ الوضوء، فمثلا: لو أنه غَسَل وجهه وفي وجهه وسخ فاشتغل بهذا الوسخ فجفَّ الوجه، وبعد جفافه غَسَلَ اليد: فوضوؤه صحيح، لم؟

لأنه اشتغل بأمر يتعلقُ بمصلحة الوضوء،

وعلى العكسِ من ذلك:

لو اشتغل في أمْرٍ لا يتعلقُ بمصلحة أعضاء الوضوء ثم جفَّ العضو: فإن وضوءَه لا يصح،

 وذلك كما لو غَسَل وجهَه وجَعَل يغسِلُ وَسَخًا في ساقه، فجفافُ العضو يُبطِلُ الوضوء.

 وكذلك: لو انقطَعَ الماءُ فذَهَبَ لطلَبِه فينقَطِعُ الوُضوء.

 

 وهذه الموالاة اختلف العلماء في فرضِيتها فقال بعض العلماء: إن الموالاة سنة ويستدلون على ذلك بأدلة

اولا : ان الآية لم تذكر الموالاة

ثانيا : ما جاء عند مسلم ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا وفي قدمه مثل الظفر لم يصبه الماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أحسِن وضوءك ) ولم يأمره بأن يعيد الوضوء؛ وهذا اختيار شيخ الإسلام رحمه الله

 

القول الثاني : أن الموالاة فرض ، ويستدلون على  ذلك بأدلة :

أولا : أن فِعلَ النبي صلى الله عليه وسلم الراتب يدل على الاهتمام بالموالاة

والآيةُ لما لم تذكر الموالاة لا يدل عدم وجوبها، فإن أعضاء الوضوء ذُكرت في الآية لكن النبي صلى الله عليه وسلم وضح بفعله متى يكون وقتُ غسل كل عضو

ثانيا : جاء في المسند بسند صحيح ( ان النبي رأى رجلا وفي قدمه مثل الدرهم لم يصبه الماء فأمره النبي باعادة الوضوء والصلاة ) وهذا هو الراجح

والمرجحون لهذا الرأي أمامهم حديثان متعارضان في ظاهرهما:

فما عند مسلم / امر بالاحسان ، وما في المسند / امر باعادة الوضوء والصلاة ،

 وقال بعض العلماء : تُحمل رواية مسلم على ما عند أحمد فيكون الاحسان اعادة الوضوء ،

وقال بعض العلماء : انه لا تعارض بينهما فما عند مسلم يحمل على أن المدة لم تطل فما لم تطل لم تفت الموالاة ، وما في المسند يُحمل على اطالة المدة،

 وقرينةُ قوة هذا الجمع واضحة لأنه أمر في حديث مسلم أمر باحسان الوضوء فقط ،أما ما في المسند فأمر باعادة الوضوء والصلاة معا فدل على تفاوت المدة في الحديثين .

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 [مسألة: لا يُلتَفَتُ إلى الشكوك بعد العبادة ولا في أثنائها إذا كثرت]

الشرح: القواعدُ الشرعية تقرر ما يأتي:

[اليقينُ لا يزولُ إلا بيقين] [اليقينُ لا يزولُ بالشك] [الأصلُ بقاءُ ما كان على ما كان]

ومن ثَم: فإن من شك في النيةِ وهو في ثنايا الوضوء: فيجبُ عليه أن يُعيد،

وكذلك لو شك في غَسْلِ عضو: فيلزمُه أن يُعيدَ غَسْلَ هذا العضوِ المشكوكِ فيه، وذلك لما ذُكِرَ مِن هذه القواعد الشرعية.

 ولكن إذا كَثُرَت هذه الشكوك: فلا يلتفت إليها، فلا يُعِد وضوءَه ولا غَسْلَ عضوٍ من أعضائه، لأن هذه الشكوكَ إذا كثرت أصبحت وسواسا، والوسواس يُطرَح، وقد سبق التعليق على هذه الوساوس في الدرس الماضي- فلا معنى لإعادته،

 لكن ما نريده هنا: [أن الشك إذا طرأ على العبادة فله أثر ما لم تكثُر هذه الشكوك فتُطرَح ولا يُعتَدُّ بها]

وأما إذا كانت هذه الشكوك أو هذا الشك بعد أي عبادة:

 فلا يُلتَفَتُ إلى هذه الشكوك، لم؟ للقواعد السابقة، لأنه فرَغَ من هذه العبادات بيقين فلا يزول هذا اليقين بشكٍّ طارئ، ولأن الشيطان حريصٌ على إدخال الوساوس والشكوك على ابن آدم حتى يُفسِدَ عليه عبادتَه

 وهذه قاعدةٌ هامة في جميع العبادات؛ فلو أن إنساناً صلى وبعد فراغه من الصلاة شك!

 قُلتُ: “شك” أما إذا “تيقن فاليقين هو المعتمد” إنما حصل معه شك:

 هل صلى الظهر -مثلا- ثلاثا أم أربعا؟ فلا يلتفت لهذا الشك

أما إذا تيقن: فالحكمُ معلوم وهو أن صلاته لم تكتمل.

 ومثلُه الغُسْل: لو فرغ من الغسل وشك: هل غسل إبطَه أم لم يغسله؟ فغُسْلُه صحيح.

لو رمى الجمرات ثم بعد رميها شك: هل رمى ستا أم سبعا؟ فلْيُطرَح الشك.

لو فرغ من الطواف وشك هل طاف ستة أشواط أم سبعة؟ فلا يُلتَفَتُ إلى هذا الشك،

وعلى هذا فقس.